في السنوات الأخيرة ، تداخلت الخطوط الفاصلة بين الجهل وسوء النية ، بين التحليل السياسي والصراع الطائفي المستتر ، بين سوء التقدير وقلة الخبرة بخريطة التيارات الدينية في العالم العربي تحديدا ، وكانت قضية الوهابية والإرهاب إحدى أبرز تجليات هذا الخلل ، حيث تنتشر الكتابات التي تعتبر أن الوهابية هي بوابة الإرهاب ، وأن التراث العلمي الديني للدعوة الوهابية هو الحاضنة الفكرية للإرهاب ، وقد كان الحديث عن الإرهاب والتراث الصانع له سابقا ينحصر في اتهام تراث الأستاذين الراحلين : أبو الأعلى المودودي وسيد قطب ، رحمهما الله ، ولكن يبدو أن هذه المرحلة تم تجاوزها ، لعدم الحاجة إليها في الصراع الحالي ذي الوجه الطائفي ، وبدا التركيز أكثر على حكاية "الوهابية" ، ووصل الحال بترداد الخطاب الدعائي الديماجوجي الذي تستخدمه إيران في صراعها ضد المملكة العربية السعودية ، لتركز دعايتها على الربط بين الوهابية وفكر داعش الإرهابي . تفكيك المسألة بسيط للغاية ، ولا يحتاج إلى كثير غوص في تاريخ الحركات المتطرفة وروافدها الفكرية ، فيكفي أن تتأمل في الحالة السلفية العربية ، والتي تعتمد في أدبياتها كثيرا على ميراث مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلاميذه ، لتجد أن أشد التيارات خصومة مع داعش وجماعات التكفير هم هؤلاء "الوهابيون" في حين ترى أن بعض السلفيين أيضا من تلاميذ نفس المدرسة يؤيدون تنظيم داعش ، وعندما تجد عدوين عقائديين ضد بعضها البعض يكون من السخافة أن تفترض أن رافدهما الفكري هو سبب التطرف أو سبب اتخاذ الموقف الذي اختلفا فيه ، فلا يمكن أن تفترض ـ بمحض العقل ـ أن يكون تراث ابن عبد الوهاب هو المؤسس لفكر داعش وهو المؤسس لفكر خصوم داعش ، ويكون من البديهي ، ومن احترام العقل والمنطق ، أن تعترف بأن مؤثرات أخرى هي التي تصنع التطرف أو التشدد أو الإرهاب ، وليس مجرد الفكر والتراث العلمي الديني . في مصر ـ على سبيل المثال ـ هناك حزب النور ، وهو أحد الأحزاب المؤيدة للنظام السياسي الحالي الذي يقوده السيسي ، ويتخذ الحزب موقفا شديد العداء من تنظيم داعش ، ويعقد الندوات والمؤتمرات وينشر المقالات والكتب التي تحذر من هذا التنظيم الإرهابي ، في حين أن حزب النور يقوم أساسا وبشكل شبه كامل على الدعوة الوهابية ، وميراث تلاميذ مدرسة الشيخ ابن عبد الوهاب وجذورها عند ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله ، فكيف يمكن لعاقل أن يعتبر أن تلك الدعوة ـ دعوة ابن عبد الوهاب ـ التي تخوض حربها الصريحة ضد داعش ، هي التي تصنع فكر داعش والإرهاب ، وفي ليبيا ، كمثال أكثر غرابة ، ستجد أن تيارا واسعا من أنصار الدعوة الوهابية يقاتلون في صفوف الجنرال خليفة حفتر ضد تنظيم داعش ، وحتى ضد بقية التيارات الإسلامية السلفية المتصارعة معه ، فكيف تتهم الفكر الذي حرك هؤلاء الذين يقاتلون داعش بأنه فكر مؤسس للدواعش . وبشكل عام ، في أي دولة أو مجتمع إنساني ، ببلاد العرب أو الشرق أو الغرب ، ستجد الفضاء السلفي واسعا في تنوعه ، وكلهم من الذين تربوا على تراث الشيخ ابن عبد الوهاب ، وستجد اجتهادات متنوعة ، قليل منها ينزع إلى العنف والإرهاب ، وطيف أوسع بكثير ينزع إلى نشر العلم الشرعي والالتزام بهدي النبي والتعريف بأخلاقه والتعايش مع الآخر المخالف ودعم روح التسامح الديني ويفكك فكر التطرف ، ونحو ذلك . الإرهاب معادلة كيميائية ، تتشكل من مكونات متعددة ، فكرية وواقعية وسياسية ودينية ونفسية وإنسانية ، هذا المزيج عندما يوضع تحت ضغط معين ، وحرارة المظالم المريرة المترعة بالدم الحرام ، يمكن أن يؤدي إلى الإرهاب ، ليس بسبب فكر فقط ، أو دين فقط ، أو سياسة فقط أو حتى صراع فقط ، وإنما هو المزيج كله يختلط ويتفاعل في أجواء محددة فتصنع الإرهاب ، ووقتها لن يجد الإرهابيون عناءا في صناعة مستند أخلاقي أو ديني أو سياسي ، من أي نص أو كتاب أو مقولة ، هكذا كان الإرهاب اليساري وهكذا كان الإرهاب العنصري والفاشي وهكذا كان الإرهاب الديني أيضا . almesryoongamal@gmail.com twitter: @GamalSultan1
اقرأ المقال الاصلى فى المصريون
اقرأ المقال الاصلى فى المصريون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق