شيماء فؤا د نشر في محيط يوم 20 - 04 - 2017
صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية العدد الرابع والعشرين من سلسلة "أوراق" بعنوان "اللغة ومستقبل الهوية: التعليم نموذجًا"، من تأليف الدكتور ضياء الدين زاهر؛ أستاذ التخطيط التربوي والدراسات المستقبلية بجامعة عين شمس.
والدراسة عبارة عن مقاربة استشرافية لجدلية العلاقة بين الهوية ولغة التعليم، وهي تنير الطريق أمام متخذي القرارات التعليمية، لتكون قراراتهم في مسارها الصحيح، لتحقيق الأهداف التي ترنو إليها من بناء أجيال من الشباب الأكثر انتماء، والأكثر إيمانًا وثقة في أنفسهم، وفي لغتهم. وليكونوا بناة نهضة أمتهم وحراس ثقافتها.
وتسعى الدراسة إلى بلورة رؤية مستقبلية تستهدف رسم مسارات للحفاظ على اللغة العربية، تدريسًا وبحثًا، بما يكفل تكريس الهوية العربية وتجديدها. ويتم استجلاء هذا من خلال تفحص دقيق لماهية الهوية وأنواعها ومحدداتها وأساليب تشكلها وعوامل هذا التشكل، ويتوازى مع ذلك تفهم موضوعي لمسارات اللغة العربية والعوامل المؤثرة فيها ومصادر التشوه اللغوي، ثم تبيان مصادر الخلل في أساليب تعلمها. ويترافق مع هذا كله تحليل موازٍ للطبيعة الجدلية بين الهوية واللغة وعلاقات التأثير بينهما. الأمر الذي يقتضي بالضرورة معالجات نظرية وإمبريقية واستشرافية لكافة مناطات التركيز السابقة.
وقد وضع الباحث عدد من الافتراضات في مقاربته لموضوع البحث؛ وهي افتراض أن الهوية عملية دينامية متغيرة بفعل ضغط التحولات والمستجدات الحضارية والمجتمعية، وافتراض أن اللغة العربية ليست مادة مستقلة أو موضوعًا فرديًّا في مناهج التعليم، وافتراض مسئولية كلِّ معلم عن تعليم اللغة الوطنية عن طريق غير مباشر. كما تم دراسة اتجاهات عينة البحث تجاه المسائل والقضايا الآتية: التحديات التي تواجه اللغة العربية الفصحى الآن وفي المستقبل في علاقتها بالهوية، طبيعة التشوهات اللغوية وأسبابها، دور المدرسة في تحديد مكانة اللغة الفصحى الآن وعلاقتها في المستقبل بالهوية، الموقف من التدريس باللغات الأجنبية والبحث بها وتداعياتها على الهوية، الموقف من معلم اللغة العربية وبرامج إعداده، التعريب والترجمة وتداعياتها على اللغة والهوية، وتداعيات وسائل الإعلام على اللغة الفصحى والهوية.
وعرض الدكتور ضياء الدين زاهر إشكاليات لغة التعليم وتداعياتها على الهوية، ولعل في مقدمة هذه الإشكاليات عدم وجود سياسة لغوية، فبالرغم كلِّ الجهود المبذولة في مجالات تطوير اللغة العربية، فنتائج هذه الجهود ما زالت مبعثرة ومحدودة، لعدم ارتباطها بسياسة لغوية تسعى إلى التمكين للغة العربية، وتربطها بالسياسات التنموية القاصدة إلى تلبية الاحتياجات الاجتماعية والثقافية للفرد والمجتمع، وذلك باعتبار أن السياسة اللغوية دالة للمستويات الثقافية والعلمية لمجتمعهم.
أما الإشكالية الثانية فتتمثل في تفشي الثنائية اللغوية كمعول هدم للهوية، وقد كان من تداعيات ظاهرة الولوع باللغات الأجنبية هذه أن أصبحت اللغة العربية منبوذة بين النخب الاجتماعية التي تعلم أبناءها لغة أجنبية أو لغتين منذ نعومة أظافرهم، ولا تلتفت إلى ضرورة إتقانهم العربية، الأمر الذي ينعكس سلبًا على مستقبل إسهاماتهم العلمية، كما يجعلهم عاجزين عن التعبير الواضح عن أفكارهم بالعربية أو بغيرها، مما أسهم في ظهور ظاهرة المثقف (أو المختص) الأبكم الذي يعجز عن التعبير عن أفكاره بلغته القومية.
وتتمثل باقي الإشكاليات في تمكين العاميات وإقصاء الفصحى، والتدني في مستوى وكفاءة المعلمين، كما أن التلاميذ أنفسهم تغيرت قيمهم، وقيم آبائهم؛ بحيث أصبحت اللغة العربية لا تمثل قيمة اجتماعية أو اقتصادية أو مستقبلية بالنسبة لهم، وأصبح أقصى جهودهم أن يحفظوا بعض آيات القرآن ليؤدوا بها الصلاة المكتوبة.
ويعرض الباحث في الفصل الرابع نتائج الدراسة الميدانية. وبسؤال أفراد العينة عن موقفهم من ارتباط الهوية العربية باستخدام اللغة العربية الفصحى، أقر 59 فردًا بنسبة 86.8٪ من إجمالي العينة بوجود علاقة قوية، في حين إن 9 أفراد بنسبة 13.2٪ أقروا أن هناك علاقة «إلى حد ما» بين المتغيرين، في حين لم يرفض أحد وجود هذه العلاقة. وهذا يدل على شبه إجماع على ارتباط الهوية بشكل أساسي باستخدام الفصحى.
وعن مفهوم الهوية، وجد البحث أن 35 فردًا بنسبة 51.5٪ أجابوا بأن الهوية مفهوم ثابت، في حين إن 33 فردًا بنسبة 48.5٪ أجابوا بأن الهوية مفهوم متغير. أي أن العينة قد انقسمت إلى نصفين تقريبًا، فالبعض يؤمن بكون الهوية مفهومًا جامدًا ومطلقًا وأنه لا يتغير مهما كانت المستجدات والاختراقات المتنوعة، في حين إن النصف الآخر يؤمن بدينامية هذا المفهوم وقابليته للتكيف.
ودلت النتائج على أن 54 فردًا بنسبة 79.4٪ أجابوا بأن العربية تحولت نحو الأفضل، و10 أفراد بنسبة 14.7٪ أجابوا أنها تحولت إلى حدٍّ ما إلى الأحسن، في حين رأى 5.9٪ أنها تحولت نحو الأسوأ. وهذا يعني أن غالبية أفراد العينة تعتقد أن أحوال اللغة العربية تتجه نحو الأفضل.
وعندما سئل أفراد العينة: هل ترى أن الازدواجية في منظومة التعليم تمثل إشكالية حقيقية في نشر اللغة الفصحى؟ رأى 47.1٪ أن هذا التأثير فعلي، كما انضم إليهم 41.2٪ وقالوا إن هذا يحدث لحدٍّ ما. وهذه الاستجابات منطقية؛ حيث إن الفرص المتاحة أمام تعليم الفصحى في المدارس الأجنبية ومدارس اللغات والمدارس التجريبية وبعض المدارس الخاصة تكاد تكون منعدمة نظرًا لقلة الساعات التدريسية المخصصة لمقرر اللغة العربية الفصحى، هذا إلى جانب ضعف ممارسة الطالب لها داخل المدرسة؛ مما يدعوه إلى التعالي عليها. ناهيك عن موقف المعلم نفسه من عدم الحماس للغة.
بسؤال النخبة المصرية عن موقفها من المشكلات والتحديات المجتمعية الآنية والمستقبلية التي تواجه وستواجه اللغة العربية، وتحديد وزنها النسبي وفقًا لمقياس يحدد خطورة وأهمية هذا التحدي بالنسبة للغة العربية، كانت الاستجابات بأن التحديات الأكثر أهمية هي: إخراج اللغة من معظم مؤسسات التعليم العام والجامعي كلغة تدريس للمعارف العلمية، إدخال كلمات أجنبية كثيرة في اللغة العربية من خلال كتابتها بالأحرف العربية دون تعريب لها، انتشار تراكيب وصيغ وأساليب لا تمت بصلة إلى اللغة الفصحى ولا العامية مما يشكل لغة هجينة.
أما بالنسبة للأسباب المستقبلية التي يتوقع أن تتصدر قائمة الأسباب المتصلة بدور المدرسة والتي ستظل تؤدي إلى تراجع مكانة اللغة الفصحى خلال عشر السنوات القادمة، هي: عدم قدرة المعلمين (حتى معلمي اللغة العربية) على استعمال اللغة العربية في التدريس، عدم تركيز المعلم على تدريب المتعلم على ممارسة الفصحى في حياته اليومية، التركيز على دراسة قواعد اللغة دون استعمالها داخل الفصل، عدم الاهتمام بالأداءات الكتابية للمتعلم، وضعف مستوى إعداد المعلم في مصادر الإعداد ومعاهده.
ويعرض الباحث في الفصل الخامس سيناريوهات لتأسيس هوية فاعلة، ويقول: "يحسن بنا إذا كنا بصدد رسم ملامح الصورة المستقبلية للهوية في علاقتها بلغة التعليم في مصر خاصة، أن نعيد النظر فيما قدمنا في هذا الشأن، وأن نسعى نحو إعادة تجميع ما تناثر من نتائج سبق عرضها، والتحرك فورًا نحو رؤية مجاوزة تمهد السبيل لفهم أعمق وأشمل لإشكالية علاقة الهوية بمنظومة اللغة عمومًا ولغة التعليم بخاصة والتخطيط لطبيعة هذه العلاقة ورسم توجهات مستقبلها".
والسيناريو الأول هو "مستقبل الأمس" وهو سيناريو يقوم على بقاء الحال على ما هو عليه، أي الاستمرارية المرتكزة على اتجاهات السياسات التنموية، في العشر سنوات الأخيرة، واعتبار السائد منها شكلاً ومضمونًا واتجاهًا، هو منطق الأزمة والتراجع؛ حيث ستتعمق الانكشافات العميقة في هوية المتعلم وتتكرس تشوهات هيكلية في ثقافته ويتراجع انتماؤه، ومن ثم نكون قد ضيعنا فرصتنا في تطوير نظمنا المجتمعية والتعليمية واللغوية وقوضنا أسس هويتنا في مواجهة تحديات عاصفة لا نعلم عنها شيئًا.
والثاني هو السيناريو الإصلاحي، ويرتكز على احتمال حدوث تطوير نسبي سياسي واجتماعي وتعليمي وثقافي لتطوير المؤسسات المجتمعية لبناء حائط صد ضد الاختراقات الخارجية الثقافية منها والسياسية والاقتصادية، كما يفترض أن لغة التعليم وأدواته تلعب دور فعال في عمليات الإصلاح والتوجه المأمول نحو التقدم. أي يتحول التعليم ولغته من مشكلة تخلف إلى وسيلة لحل مشكلة التخلف.
والثالث هو السيناريو النهضوي، وهو يمثل السيناريو الأمل؛ حيث يمثل طوق النجاة للغة العربية، وسبيلها نحو إعادة تكريس الهوية المتجددة للمتعلم وإعادة هويته. وينطلق هذا السيناريو من توقعات واستشرافات مستقبلية، متفائلة جدًّا أعلن عنها الكاتب الإسباني إميلو جوزي سيلاد الحائز جائزة نوبل في الآداب عام 1989، في تقديراته الاستشرافية حول «مصير اللغات الإنسانية» بقوله: "إنه نتيجة لثورة الاتصالات سوف تنسحب أغلب اللغات من التعامل الدولي وتتقلص محليًّا، ولن يبقى من اللغات البشرية إلا أربع لغات قادرة على الوجود العالمي والتداول الإنساني، وهي: الإنجليزية، والإسبانية، والعربية، والصينية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق