السبت، 4 أبريل 2015

دكتور / محمد المهدى
استشارى الطب النفسى

" فى هذا الوقت الذى يضطرب فيه الفكر فى مصر ويضطرم بحثا عن شخصيتها ودورها الإنسانى والحضارى ... فإننا فى حاجة إلى فهم كامل لوجهنا ووجهتنا , لكياننا ومكانتنا , لإمكانياتنا وملكاتنا ... وأيضا لنقائصنا ونقائضنا , بلا تحرج ولا تحيز أو هروب " ( جمال حمدان)
 منهجية الدراسة :
للإحاطة بسمات الشخصية المصرية والوصول إلى مفاتيحها كان ثمة احتياج إلى منهجية شاملة ومحكمة للوصول إلى رؤية علمية بعيدة – قدر الإمكان – عن التحيزات العاطفية
( الإيجابية أو السلبية ) خاصة فى موضوع يمس الذات الشخصية والوطنية , ويخضع للكثير من وجهات النظر المتباينة والممثلة لزوايا الرؤية أو اتجاهات المصالح أونبضات المشاعر . وقد كانت الرؤى المطروحة نتاجا للعناصر التالية فى البحث والدراسة :
1 –الدراسات العلمية السابقة والحالية التى تعرضت للشخصية المصرية وما حدث فيها من تحولات
2-ملاحظات وآراء المفكرين والعلماء
3–الملاحظة المشاركة للباحث لكونه مواطنا مصريا يعيش الحياة اليومية المصرية ويرصد بعين المتخصص فى العلوم النفسية السمات النفسية للمصريين . وقد ساعد على تحقيق هذا الهدف بشكل أدق كون الباحث قد عايش مجتمعات وشخصيات مختلفة إبان إقامته خارج مصر لمدة تصل إلى تسع سنوات يضاف إليها فترات إضافية أخرى متقطعة , وقد أعطاه هذا فرصة للمقارنة والرؤية من خارج , إضافة إلى رؤيته من الداخل , وهاتان الزاويتان للرؤية جعلا الفوارق تتضح وتغلب على ضياع المعالم الناتج عن الألفة والتعود لمن يعيش طول الوقت فى المجتمع ولم يغادره إلى غيره . والباحث بوصفه ملاحظا مشاركا لديه فرصة القراءة عن قرب من خلال عمله كطبيب نفسى ( يرى الوجه الخفى للناس من خلف الدفاعات المعلنة والأقنعة الساترة والخادعة ) وعضو هيئة تدريس فى الجامعة ( مما يعطيه فرصة للرؤية العامة والدراسة المنهجية الموضوعية بأقل قدر ممكن من التحيز ) .
4 –الرؤية الحالية للشخصية المصرية تشكل أولوية بمعنى أننا فى هذه الدراسة  نهتم أكثر بما هو كائن وليس بما كان , ولو تكلمنا عن شئ فى الماضى فإنما يكون بهدف شرح أو تفسير سمة قائمة وبيان جذورها وتطورها دون الغرق فى سراديب الماضى
5 –الأمثال الشعبية والأقوال الدارجة على ألسنة رجل الشارع تمثل رصيدا معرفيا هاما نستطيع أن نتوصل من خلاله إلى فلسفة حياة البسطاء من الناس وعامتهم , لذلك تم رصدها وتحليلها فى مواضعها لتأكيد الصورة وإيضاحها   
السمات التقليدية للشخصية المصرية :
تميزت الشخصية المصرية على مر عصور طويلة بسمات كانت أقرب إلى الثبات ولذلك يعتبرها العلماء سمات أصيلة وذلك لتمييزها عن سمات فرعية أو ثانوية قابلة للتحريك مع الظروف الطارئة . فالمصرى تميز بكونه : ذكيا , متدينا , طيبا , فنانا , ساخرا , عاشقا للإستقرار ( عزه عزت , 2000 , التحولات فى الشخصية المصرية , كتاب الهلال ). وكان هذا يشكل الخريطة الأساسية للشخصية المصرية فى وعى المصريين ووعى غيرهم , وقد أدى إلى الثبات النسبى لهذه السمات ارتباطها بعوامل جغرافية ومناخية مستقرة نسبيا .
وقد حدثت تحولات نوعية فى بعض السمات وتحولات نسبية فى سمات أخرى , فمثلا استخدم البعض ذكاءه فى الفهلوة , وتعددت صور التدين بعضها أصيل وبعضها غير ذلك , وقلت درجة الطيبة وحل محلها بعض الميول العنيفة أو العدوانية الظاهرة أوالخفية  , وتأثر الجانب الفنى فى الشخصية تحت ضغط التلوث والعشوائيات , وزادت حدة السخرية وأصبحت لاذعة قاسية أكثر من ذى قبل وأحيانا متحدية فجة جارحة , أما عشق المصرى للإستقرار فقد اهتز كثيرا بعدما أصبحت البيئة المصرية طاردة نحو الخارج بحيث أصبح حلم كثير من الشباب السفر إلى أى مكان لتحقيق أهدافه بعد أن أصبح متعذرا تحقيق الآمال والأحلام على أرض الوطن .ستطيع أن نرصد عددا من العوامل الرئيسة التى أدت إلى تلك التغيرات فى السمات الأصلية للشخصية المصرية ومنها :
1-   ثورة يوليو وما صاحبها من تغييرات جذرية ( بعضها ايجابى وهو ما يتصل بالتحرر الوطنى وطردالمستعمر , وأكثرها سلبى وهو ما يتصل بالحكم الإستبدادى البوليسى ) أدت إلى تغيرات فى البناء السياسى والإجتماعى والإقتصادى , وهزت البنية القيمية حيث أشاعت قيما استبدادية قهرية , وأرست قواعد الإعتمادية على النظام ,  والسلبية ,  والفهلوة , وادعاءات البطولة الزائفة , والسير وراء الزعيم بأعين مغمضة وأصوات هاتفة وقلوب مليئة بالحماس الجارف بلا دليل . باختصار أحدثت الثورة ورجالها تناقضات هائلة فى البنية النفسية للشخصية المصرية تحتاج لبحث منفصل لبيان مداها .
2- نكسة يونيو 1967 , وقد كانت قمة التعبير عن خداع الذات والتسليم لزعامات كاريزمية بعيدة عن التخطيط السليم والموضوعية . حدث بعدها صدمة وتغيرات جذرية أخرى فى الشخصية المصرية حيث راحت تبحث عن هوية دينية بعد فشل الهوية القومية الإشتراكية التى نادى بها زعماء الثورة ومنظروها , ومن هنا بدأت التيارات الدينية المعتدلة والمتطرفة فى مصر وامتدت إلى العالم العربى والإسلامى تحت وطأة المواجهة البوليسية القاسية لتلك التيارات
3-معاهدة السلام مع إسرائيل وما تبعها من تغيرات سريعة ومفاجئة لكثير من المفاهيم حول إسرائيل كعدو أساسى والإرتماء بعد ذلك فى الحضن الأمريكى وماتبعه من تغيرات ثقافية واجتماعية بناءا على التفاعل مع ثقافات غريبة تستقبلها الشخصية المصرية بمشاعر متناقضة وبشكل أسرع من طريقتها وطبيعتها فى استيعاب وهضم وتمصير الثقافات الأخرى .
4-  الإنفتاح الإقتصادى المنفلت , وما تبعه من تنامى القيم الإستهلاكية , والرغبة فى الثراء السريع دون جهد حقيقى , وشيوع قيم الخفة والفهلوة وانتهاز الفرص .
5-السفر إلى بلاد الخليج وغيرها من الدول العربية , وما تبع ذلك من تغير الأنماط الإستهلاكية والثقافية والدينية تبعا للنموذج الخليجى , مما أدى إلى تعتعة استقرار النماذج القائمة والمستقرة منذ قرون لصالح النموذج السلفى من ناحية أو النموذج المستغرب من ناحية أخرى .
6-  العولمة وما أدت إليه من فتح السماوات للقنوات الفضائية والإنترنت , وفتح الأسواق لكل ماهو جديد , وفتح شهية المتلقى للمزيد من الجديد والغريب والمثير .
7-قانون الطوارئ الذى امتد العمل به لمدة 25 سنة ( وما زال حتى كتابة هذه السطور عام 2005 م , 1425 ه – ولا يدرى أحد متى يتوقف العمل به ) , بحيث أدى إلى شيوع حالة من القهر والخوف , وانعدام الثقة بين السلطة والشعب , وأطلق يد السلطة الأمنية فى كل صغيرة وكبيرة فى حياة الناس ( تعيينات الوظائف على كل المستويات , والترقيات , واختيار الوظائف القيادية , والإنتخابات , والبعثات , وكل شئ ) , وأطفأ النبض الحقيقى على المستويات السياسية والفكرية والدينية والإجتماعية , وأتاح الفرصة لتغلغل الفساد المحتمى بالسلطة ووصول عناصر تفتقر إلى الكفاءة والضمير إلى مراكز عليا تحت سقف الطاعة والولاء , فى نفس الوقت الذى ابتعدت فيه ( أو استبعدت ) العناصر الموهوبة والمتميزة عن مراكز التأثير والتوجيه , أما بقية الناس فقد تحولوا إلى أغلبية صامتة تسعى إلى أن تحصل على لقمة عيشها وعيش أبنائها , ولكى تتقى سطوة السلطة المطلقة تحت مظلة قانون الطوارئ لجأت إلى تعلم مهارات الفهلوة والتحايل والكذب والإلتواء والتخفى والتنازل عن أشياء كان يعتز بها المصريون مثل الكرامة والضمير والصدق والشهامة , واستبدل كل هذا بحالة من الخنوع والخداع والنفاق والتحايل ومد اليد تسولا أو رشوة أو سرقة .
ورغم التحولات الحادثة فى السمات الست للشخصية المصرية إلا أن الشخصية المصرية تعتبر نسبيا أكثر ثباتا خاصة فى مواجهة تغيرات العولمة , حيث نجد أن مجتمعات عربية أخرى قد ذابت تماما أو تكاد فى النظام العالمى الجديد بكل سلبياته وإيجابياته , وربما يعود ذلك الثبات النسبى للشخصية المصرية إلى تراكم سماتها فى طبقات حضارية عبر عصور طويلة وتأكد هذه السمات مع الزمن رغم التغيرات الطارئة , كما أن المصرى لديه ميل قوى للإبقاء على الأوضاع القائمة يعود لتأثره بالطبيعة الجغرافية والمناخية التى يعيشها كما سنذكر ذلك لاحقا .    
 الطبيعة والشخصية المصرية :
للطبيعة أثر كبير على الشخصية لدرجة أن علماء النفس والإجتماع استطاعوا أن يضعوا صفات مميزة لسكان المناطق الريفية تميزهم عن سكان سواحل البحار , وتميز هؤلاء وهؤلاء عن سكان الجبال والصحارى .
يقول جوستاف لوبون فى كتابه " الحضارة المصرية القديمة "  : " إذا كان المصرى قد شعر بالسأم من سهوله الوضاءة المشرقة , فإنه قد جهل الآلام المفزعة والتى تنشأ على شواطئ البحار الموحشة , وفى خلال الشفق الأحمر تحت السماء المتقلبة الغادرة ".
فإذا نظرنا إلى الطبيعة المصرية وجدنا النيل يتمايل فى هدوء بين جنبات الوادى السهل المنبسط , ووجدنا سجادة من الخضرة الجميلة والمريحة منبسطة على ضفتيه تدعو للراحة والإسترخاء , وخرير المياه فى القنوات والترع , وأنين السواقى وهى تروى عطش الأرض , ووفرة الغذاء الناتج عن الأرض الخصبة المعطاءة , والسماء الصافية معظم فصول السنة , والشمس المشرقة على مدار العام , والمناخ المعتدل صيفا وشتاءا والذى يخلو من التقلبات الحادة والعنيفة والمهددة . هذه هى الطبيعة التقليدية التى عاش فيها المصرى على ضفتى النيل وتركت بصماتها على شخصيته فى صورة ميل إلى الوداعة والطمأنينة والهدوء وطول البال والدعابة والمرح والتفاؤل والوسطية وحب الحياة . هذه السمات لاندركها بوضوح إلا إذا قارناها بسمات من يعيشون فى بيئات مهددة مليئة بالعواصف والنوّات على سواحل البحار والمحيطات الهائجة , أو من يعيشون فى بيئة صحراوية أو جبلية شديدة القسوة والفقر والجفاف , أو من يعيشون فى غابات مليئة بالحيوانات المفترسة يتوقعون الخطر فى كل لحظة , أو من يعيشون فى القطبين تحت العواصف الثلجية ويلبسون ثيابا ثقيلة تحد من حركتهم وتلقائيتهم وتخنقهم تحت ثقلها .
وإذا كانت الطبيعة السمحة البسيطة المعطاءة قد أعطت صفاتا إيجابية فإن لها أيضا جانبا سلبيا ,  حيث منحت المصرى شعورا زائدا بالطمأنينة والسكينة وصل به فى بعض الأحيان إلى حالة من الكسل والتواكل والسلبية والتسليم للأمر الواقع والميل إلى الإستقرار الذى يصل أحيانا إلى حالة من الجمود . فالشخصية المصرية مثل الطبيعة المصرية لاتتغير بسهولة ولا تتغير بسرعة , بل تميل إلى الإستقرار والوداعة والمهادنة وتثبيت الوضع القائم كلما أمكن والتصادق معه وقبوله . وهذه الصفات قد خدمت إلى حد كبير كل من حكموا مصر على مدار التاريخ حيث كان ميل المصرى للوداعة والطمأنينة والإستقرار يفوق ميله للثورة والتغيير , وربما يكمن هذا العامل وراء الحالة المزمنة من الحكم الإستبدادى على مدار التاريخ المصرى , فقد كان الحاكم يبدأ بسيطا متواضعا ثم بطول المدة واستقرار الأوضاع تتمدد ذاته على أرض الوادى الخصيب وسط أناس طيبين مسالمين وادعين , وشيئا فشيئا تتوحش هذه الذات الحاكمة وتحكم قبضتها على رقاب الشعب , والحاكم يعرف دائما أن الشعب المصرى لا يميل إلى  الثورة خاصة فى أشكالها العنيفة . فخلو الطبيعة المصرية – نسبيا - من الزلازل والبراكين  والنوّات والأعاصير الجارفة يقابله ميل شعبى لاستمرار الإستقرار واستقرار الإستمرار , وهذا شعار يرفعه كل حاكم استبد بحكم مصر واستغل هذه الرغبة الدفينة لدى المصريين فى الإستقرار والوداعة وراحة البال . وذكر ابن خلدون فى مقدمته : " أن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح ,  والخفة ,  والغفلة عن العواقب " . وربما يفسر هذا كون المصريين كانوا يحكمون بواسطة حكام أجانب معظم مراحل تاريخهم , وكانوا يقبلون ذلك سماحة أو طيبة أو غفلة أو تهاونا أو رغبة فى الراحة والإستقرار . وحين كانت تشتد بهم الخطوب نتيجة عسف الحاكم الأجنبى المستبد والمستغل كانوا يستعينون بالنكات اللاذعة والسخرية لتخفيف إحساسهم بالمرارة مما يعانون , وكان سلاح السخرية يؤجل الثورة وربما يجهضها لأنه يعمل على تنفيث الغضب الكامن
والمصرى يتحرك ويثور فى حالات قليلة ومحددة وهى
: 1- حين تنتهك قدسية عقيدته الدينية المتراكمة عبر عصور طويلة .
 2- حين تجرح كرامته الوطنية بشكل مهين .
 3 – حين تهدد لقمة عيشه بشكل خطر .
والطغاة والمستبدون كانوا يعرفون حدود هذه الأشياء فيحفظون له الحد الأدنى منها حتى يضمنوا استمرار ولائه , أو يحاولون خداعه حتى لا يصل إلى حالة الشعور بالمهانة أو العوز المحرض على الثورة .
ولا شك أنه قد حدثت تغيرات شملت الطبيعة المصرية وامتد تأثيرها إلى الشخصية المصرية , فقد أدى الزحام الشديد فى المدن والقرى إلى الإحساس بالضيق والإختناق والحرارة الزائدة خاصة فى الصيف , إضافة إلى ارتفاع معدلات التلوث السمعى والبصرى , كل ذلك أدى إلى تنامى حالة من العصبية وسرعة الإستثارة والعدوان لدى المصريين بشكل لم يكن معهودا من قبل . وعرف المصريون الزلازل فى السنوات الأخيرة فاهتز الإحساس بالإستقرار بعض الشئ . ولم تعد خيرات الأرض تكفى المصرى أو تطمئنه لذلك لم يعد مطمئنا كما كان واضطر للسفر إلى شرق الأرض وغربها باحثا عن لقمة العيش له ولأسرته , ثم عاد بعد سنوات وهو يحمل أفكارا وتوجهات تنتمى إلى بيئات وثقافات أخرى , وضعف لديه الإنتماء بدرجات متفاوتة عن ذى قبل لأن البيئة المصرية لم تعد معطاءة كما كانت ولم تعد مستقرة كعهده بها ولم تعد وديعة مطمئنة كما عرفها . وقد أدى هذا إلى بعض التغيرات نذكر منها : 1- توجهات دينية استقطابية لا تعترف بالآخر المختلف وتميل إلى تكفيره أو استبعاده .2 – جماعات تميل إلى التعامل بعنف مع السلطة والمجتمع ,  ولكن هذه الجماعات لا تشكل حتى الآن تيارا عاما , حيث بقى عموم الناس متأثرين بالطبيعة القديمة للشخصية المصرية نوعا ما , وإن كان هذا قابل للتغير فى السنوات القليلة القادمة فى حالة استمرار الضغوط السياسية والإجتماعية والإقتصادية القائمة. 3- رغبة فى الهجرة إلى أى مكان فى الأرض بعيدا عن الأحوال المعيشية الصعبة التى تخلو من الأمل والحلم خاصة للشباب . 4 – حالة عامة من الإحباط والقلق والضيق , ولكنها لا تتشكل – حتى الآن -  فى صورة فعل يهدف إلى التغيير.4- شراهة استهلاكية لدى الجميع – رغم الفقر – وخاصة الفئات التى أثرت ثراءا طفيليا سريعا .
 إذن فقد تغيرت الطبيعة فى بعض جوانبها وتغيرت تبعا لذلك الشخصية المصرية فى بعض سماتها .  
 تعددية أم تناقض :
حين شرعت فى الكتابة عن الشخصية المصرية شعرت بحيرة شديدة حيث وجدتنى أمام كم هائل من الصفات والجوانب المتعددة والمتناقضة فى نفس الوقت بحيث تجعل الصورة أشبه بمناطقنا العشوائية المنتشرة فى طول البلاد وعرضها ففيها الفقر المدقع والغنى الفاحش , وفيها الظلم وفيها العدل , وفيها القسوة فى أشد صورها( تعذيب حتى الموت ) وفيها الرحمة فى أجمل صورها ( جمعيات خيرية وتكافل اجتماعى ) وفيها العلم والعلماء ( أربعة جوائز نوبل فى بلد صغير نسبيا وفى فترة زمنية قصيرة ) وفيها الجهل المطبق على غالبية سكانها , وفيها الإستبداد السياسى وفيها فى ذات الوقت صحفا مستقلة وحزبية تتحدث بكامل الحرية وأحيانا تتجاوز كل الخطوط الحمراء , وفيها الأزهر والحسين والسيدة نفيسة والكاتدرائية المرقسية والجماعات الإسلامية والمسيحية , وفيها شارع الهرم واستديوهات إنتاج الفيديوكليب , فيها الطيبة والقسوة , فيها الشهامة والنذالة , فيها السماحة والتعصب , فيها الفن الجميل والقبح الفاحش , فيها ...... وفيها , وفيها ......
 *****
وربما يقول قائل : وما الغرابة فى ذلك أليست مصر مثل كل المجتمعات البشرية , والبشر فيهم كل هذا ؟ ..... وهذا تساؤل مشروع ومنطقى ولكن فى الشخصية المصرية وفى الحياة المصرية عموما تجد هذه التعددية وهذه المتناقضات صارخة إلى الدرجة التى جعلت عالما مثل موريس هيندوس ( Maurice Hindus 1949) يردد أن مصر أرض المتناقضات ( Land of paradox )   ربما – كما يقول جمال حمدان – تحت تأثير التباين الشديد بين الفروق الإجتماعية الصارخة من ناحية , أو من ناحية أخرى بين خلود الآثار القديمة وتفاهة المسكن القروى , أو بين الوادى والصحراء  حيث يتجاوران جنبا إلى جنب , ولكن كما تتجاور الحياة والموت  .

ولذلك سوف نجد أنفسنا أمام سمات قد تبدو متباعدة أحيانا ومتناقضة أحيانا أخرى , وهذا يستدعى منا الكثير من الصبر وسعة الصدر والإحتمال لما سنعرضه عن هذه الشخصية المثيرة للإعجاب فى لقطات والمثيرة للغضب والإستهجان فى لقطات أخرى .

وقد وضع الدكتور ميلاد حنا كتابه  " الأعمدة السبعة للشخصية المصرية " ليوضح فيه روافد تعددية وثراء وأحيانا تناقض سمات هذه الشخصية .
ووضع أيضا جمال حمدان فصلا فى كتابه شخصية مصر تحدث فيه عن تعدد الأبعاد والجوانب ( شخصية مصر , كتاب الهلال , عدد 509 , 1993 ) وخلص إلى أن الأمة المصرية أمة متعددة الجوانب , متعددة الأبعاد والآفاق , مما يثرى الشخصية الإقليمية والتاريخية ... فلها بعد آسيوى وبعد إفريقى وبعد نيلى وبعد متوسطى , وكل بعد من هذه الأبعاد يترك بصمته على الشخصية المصرية بشكل أو بآخر .
الشخصية المصرية بين التكيف والتشوه :
سألنى يوما أحد أصدقائى الأجانب : كيف يعيش المصريون بمرتباتهم الهزيلة وكيف يدبرون حياتهم ونصفهم تحت خط الفقر دون أن يثوروا أو تنتشر بينهم الجريمة ؟ !!!......
وكان ردى وقتها أن المصريين لديهم قدرة هائلة على التكيف مع الظروف , ويبدو أن هذه القدرة اكتسبوها من تاريخهم الطويل فى التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات , وتغير الظروف والأحوال التى يعيشون تحت وطأتها , فلديهم مرونة كبيرة فى التعامل , ولديهم قدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه أيا كان هذا الأمر , ولديهم صبر طويل على الظروف الضاغطة والقاصمة , ولديهم أمل فى رحيل من يظلمهم بشكل قدرى لا دخل لهم فيه ( اصبر على جارك السو , يا يرحل يا تجيله داهية تاخده ) , فهم يراهنون دائما على الزمن يحل لهم المشكلات , أو تتحلل معه ( المشكلات وعزائمهم ) .

وعلى الرغم من بريق هذه القدرة العالية على التكيف فى الظاهر إلا أن عين الباحث الموضوعى يرى أنها ربما تكون عيبا كبيرا فى كثير من الأحوال , فالمصرى كثيرا ما يقبل الأمر الواقع ويغير فى نفسه وفى شخصيته وفى ظروف معيشته لكى يلائم هذا الواقع , وبالتالى لا يفكر كثيرا أو جديا فى تغيير الواقع بل يميل غالبا للإستسلام له والتسليم به إلى درجة الخضوع المذل , ولهذا عرف عن المصريين ميلهم للإستقرار وعدم التغيير , وخوفهم من الجديد , وابتعادهم عن المغامرة أو المخاطرة , ورضاهم بما هو كائن , وصبرهم السلبى على ظروف تستحق المواجهة أو التغيير أو الثورة . ويبدو أن هذه السمات مرتبطة بالطبيعة الزراعية التى ترى أن دورها فى الإنتاج الزراعى محدود ببذر البذرة وانتظار نموها دون تدخلات جذرية فى هذا النمو سوى الرعاية والإنتظار , وهذا يختلف عن المجتمع الصناعى الذى يشعر فيه الفرد ( والمجتمع ) بقدرته الكبيرة على التغيير والتوجيه والنمو .

وقد أدت محاولات التكيف المتكررة أو المستمرة مع ظروف ضاغطة وسيئة فى فترات متعاقبة إلى حدوث تشوهات فى سمات الشخصية لم ينج منها إلا قليل من الناس كانوا على وعى بهذا الأمر , أو قرروا الإمتناع عن التكيف المشوه مع ظروف مشوهة . وهذه القلة من الناس تعانى ظروفا صعبة حين تتعامل مع مجتمع وافق غالبيته على قبول الأمر الواقع – دون محاولة صادقة أو جادة لتغييره – وهذا الأمر يضع تلك الأقلية فى حالة غربة واغتراب وصعوبات حياتية كثيرة . وإذا أخذنا مثلا لذلك موضوع الرشوة , فقد انتشرت بشكل وبائى فى المجتمع المصرى حتى أصبحت من القواعد الأساسية للتعامل مع موظفى الحكومة , ويقابلها البقشيش أو الإكرامية أو الدخان فى القطاع الخاص , فإذا وجدنا شخصا شريفا يرفض هذا الأمر من منطلق أخلاقى , فإننا يمكن أن نتوقع كم الصعوبات التى سيواجهها فى حياته اليومية مع أناس تعودوا لدرجة الإدمان على الرشوة بكافة صورها . وقس على هذا الأمر كثير من الأمور . ومع هذا فقد بقى فى المصريين نماذج مشرفة فى كل مجال وفى كل مكان يقاومون هذا الإنحراف العام ويعطون الأمل بإمكانية تصحيحه يوما ما فى ظروف تصل فيه هذه النماذج إلى مراكز التأثير ( كيف ؟ ..... لا ندرى ؟ ...... حيث الرموز والقوى الداعمة والراعية للفساد أو الساكتة عنه والمتساهلة فيه مازالت متشبسة بمواقعها ) .

 *****
والشعب المصرى ليس شعبا ثوريا , لذلك تمر سنوات طويلة على أى ظروف غير مواتية يعيشها , وغالبا يتحرك بعوامل خارجية نحو التغيير تضغط عليه فلا يجد مناصا من الحركة , أما لو ترك لذاته فهو يميل إلى استقرار الأوضاع إلى درجة الجمود أحيانا طمعا فى الأمن وبقاء لقمة العيش حتى ولو كان أمنا ذليلا أو لقمة مرة .
ولكى يتمكن المصرى من مواصلة التكيف وتحمل ثقل الأمر الواقع ( الذى لا يسعى جديا لتغييره ) فإنه يستخدم النكتة والقفشة والسخرية سلاحا يواجه به من فرض عليه هذه الظروف , وهذه الوسائل تقوم بتفريغ طاقة الغضب , إن كان ثمة غضب , وتؤدى بالتالى إلى استقرار الأمور , أو بالأحرى إلى بقاء الوضع على ماهو عليه , رغم قسوته وضغطه وتشوهه . ولهذا نجد الحكام , أو على الأقل بعضهم , لا يضيقون بما يصدره الشعب من نكات سياسية تمسهم , لأنهم يعرفون أن فى ذلك تفريغ لطاقة الغضب الشعبى , وتأجيل لأى محاولة للتغيير .

مفتاح الشخصية المصرية : " الفهلوه "
منذ سنوات عديدة وبالتحديد فى عام 1983 كنت أؤدى امتحان الجزء الأول من الماجستير فى الطب النفسى وتعرضت فى كلامى لتصنيف للشعوب المختلفة يعطى كل شعب سماتا مشتركة وأحيانا نمطا شخصيا عاما , ولكننى وجدت الممتحن (وهوأستاذ مصرى كبير و شهير فى الطب النفسى ) تظهر عليه علامات القلق والرفض  , وحذرنى وقتها من الوقوع فى خطأ التعميم على  الشعوب حيث أن كل فرد فى أى مجتمع له سماته الخاصة ونمط شخصيته , وأن هناك تفاوتات هائلة داخل كل مجتمع فيما يخص السمات والأنماط الشخصية , ولقد احترمت رؤيته واستجبت لتحذيره لعدة سنوات , ولكن مع التعامل مع مجتمعات متعددة وجنسيات مختلفة بشكل أكثر عمقا عاودنى هذا الخاطر مرة أخرى واكتشفت أن هناك الكثيرون يتفقون على أن للشعوب أنماطا وسمات مشتركة تميزها بشكل عام على الرغم من الإختلافات الفردية الكثيرة لأفرادها , وأن عوامل الجغرافية والتاريخ والسياسة والإقتصاد والدين , كل ذلك يشكل الشخصية العامة لمجتمع بعينه , وقد كتب عالمنا العظيم جمال حمدان عن " شخصية مصر " وكأن مصر نفسها ( وليس فقط المصريين ) كيان معنوى له سمات مميزة تفرقها عن أقطار أخرى لابد وأن لها هى الأخرى سماتها المختلفة .
وإذا كان هناك من علماء الإجتماع من ينكر وجود نمط سائد للشخصية فى مجتمع ما أو فى عصر ما إلا أن عالما مثل الدكتور حامد عمار قدم دراسة مستفيضة رجع فيها إلى العصور القديمة والمجتمعات البدائية وما كتب عنها من دراسات تؤيد أن كل مجتمع يسود فيه نمط معين للشخصية يغلب على أفراده ويظهر على السطح ويحظى بالفرض  والأسبقية , وقد ضرب أمثلة لذلك من المجتمعات القديمة والحديثة نكتفى منها بذكر نماذج لمجتمعات حديثة لعلها تكون أقرب للر ؤية من غيرها , فإذا أخذنا المجتمع الإنجليزى وجدنا أن المثل الأعلى للشخصية الإنجليزيةهو نمط " الجنتلمان " , ومن أهم سمات هذا النمط : ضبط النفس وعدم المبالغة أو الإسراف فى التعبير , والتحفظ الشديد فى السلوك أو إظهار المشاعر , والتمسك بالشكليات , والميل إلى التلميح أكثر من التصريح , والحرص على أن تكون هناك مسافة بين الفرد والآخرين , والإحتفاظ بخط الرجعة فى كل علاقة أو صداقة , والتوفيق بين الآراء , والحرص على إظهار الإستعداد للخسارة والتنازل فى الوقت الذى يكون قد حسب حساباته جيدا وتأكد أنه الرابح , ويحرص ال" جنتلمان " أيضا على مراعاة القانون والتقاليد الإجتماعية . أما النمط الأمريكى فهو – على العكس – يمجد الرجل العادى , ويرى أن المساواة تسبق الحرية , وهو متفائل دائما ويرى أن الغد سيكون أفضل من اليوم , ولديه نزعة إلى الظهور , والنفوذ , والقوة , والعنف , والسيطرة , ويسعى دائما إلى النجاح , ويقبل التحدى والمنافسة والصراع , ويعتمد على جهده الفردى ليشق طريقه . والشخصية الأمريكية - كما هو معروف - لا تميل إلى التعمق فى التفكير والتحليل , وتفضل الطابع العملى , والسلوك والسعى إلى كل ما يحقق منفعة , وهذا هو جوهر الفلسفة " البراجماتية " التى تمثل جوهر الشخصية الأمريكية
( عن كتاب المصريون فى المرآة , رجب البنا , مكتبة الأسرة 2000 ) .

 *****
إذن نستطيع القول – بدرجة معقولة من الصحة – أن مفتاح الشخصية الإنجليزية هو ال
" جنتلمان " فى حين أن مفتاح الشخصية الأمريكية هو " البراجماتى " , وهذه المفاتيح هى بمثابة الشفرة التى من خلالها نستطيع قراءة الكثير من أفكار وسلوكيات كل شخصية , وهى أيضا فلسفة حياة تكونت عبر ظروف جغرافية وتاريخية عميقة , فالشخصية الإنجليزية – على سبيل المثال – قد تأثرت بأخلاق طبقة الفرسان والنبلاء فى العصور الوسطى وتاثرت بطريقة حكم الملكة إليزابيث الأولى التى كانت تنتهج طريقة فى الحكم لاتتسامح فيها مع أى خطأ وتعلى من قيمة أخلاق طبقة النبلاء , وتأثرت أيضا بعصور الإستعمار وما يلزمها من حرص وحذر وتحفظ ودقة فى التعامل مع الآخر, أما الشخصية الأمريكية فقد تشكلت من مجموعة من المغامرين والمهاجرين وأحيانا المنبوذين من مجتمعاتهم التقليدية , وهؤلاء جميعا يجمعهم حلم التفوق والثروة والنجاح والنفوذ والسيطرة , وهم فى سبيل ذلك مستعدون للتضحية بأى قيمة , خاصة أن القيم فى نظرهم تنتمى إلى أخلاقيات المجتمعات التقليدية التى هجروها أو نبذتهم هى , وكأن بينهم وبين القيم التقليدية عداء خفى , وبهذا تصبح المنفعة عندهم هى الدين الأساسى وهى القيمة العليا التى تتشكل حولها كل تفصيلات السلوك وكل سمات الشخصية , ويشجعهم على ذلك ما حققته هذه الفلسفة البراجماتية من تفوق تكنولوجى ومن ثروة طائلة ومن نفوذ عالمى بصرف النظر ( نظرهم هم ) عن أى اعتبارات دينية أو أخلاقية أو قانونية .

إذن فمن المشروع أن نحاول اكتشاف مفتاح ( أومفاتيح) للشخصية المصرية يسهل علينا قراءتها وفهمها والتنبؤ بردود أفعالها , وطريقة التعامل معها وأخيرا – وهو الأهم – إصلاحها إن كان ثمة ضرورة ونية لذلك .
ومسألة مفتاح الشخصية قد استخدمها العقاد بنجاح فى عبقرياته لكى يوضح بها محور الشخصية الأساسى الذى تدور حوله ,أو تنبثق منه بقية عناصر الشخصية وتوجهاتها .
  
 *****
وقد رأى المستشرق الفرنسى " جاك باركن " أن الفهلوة هى السلوك المميز للشخصية المصرية , وهو يرى " أن هذا السلوك مكن مصر من ألا تضيع أبدا لكنه جعلها تخسر كثيرا "
( حماده حسين , روزاليوسف 30/3/2001 -3798 ) . ويصدق دكتور حامد عمار عميد التربويين المصريين على مقولة المستشرق الفر نسى محاولا قطع شوط طويل فى المسافة الشائكة بين كون الفهلوة سلوكا أنقذ مصر على طول تاريخها من الضياع , والخسارة التى ما زالت مصر تتكبدها بسبب الفهلوة , ووصل دكتور عمار فى رحلته إلى عمق رأى فيه أن الفهلوة قد توحشت وأصيبت بالسعار .
يقول دكتور عمار : " عصور طويلة مرت لكل عصر منها سماته المميزة , وخصائصه الفريدة وألوانه الخاصة فى تلوين ملامح الفهلوة دون المساس بالأصل ... والحقيقة أنه لم يكن هناك متسع من الوقت والجهد لأن يتغير الأساس ... إذا كانت الفهلوة الوسيلة المثالية لبناء جسد يتجاوز به المصرى المسافة الفاصلة بين قدرته اللامتناهية على الطاعة والقبول بأقل القليل .. وبين إحساسه بالبرودة والغربة تجاه السلطة فهو مثلا يخاف منها ويطيعها .. رهبته منها تمحو قدرته على الفعل والمشاركة .. يخادعها .. يتنكر لها .. ينتقدها سواء فى نكتة أو " قعدة فرفشة" , وغالبا ما يصل نقده إلى حد السخرية اللاذعة والتجريح . وطبقا لذلك فقد كونت خفة الظل والحداقة والشطارة والقدرة على المراوغة كوكتيل سعادة أعطى المصرى القدرة الفائقة على طى سنوات طويلة سكنها السواد والحزن .. ربما يكون هذا هو الجانب المشرق للفهلوة الذى قصده المستشرق الفرنسى " .
أما الخسائر كما يقول حامد عمار فتبدو فى أن المصرى البسيط لم يشارك فى بناء بلده المشاركة الحقيقية وإنما ترك المهمة لفئة واحدة اختارت نوع الحضارة والعمران وبلورة القيم والأعراف , وهذا لا شك خلق نوعا من الإذعان والإستسلام مخلوطا بالمخادعة والتملق المبالغ فيه , إضافة لشئ أخطر هو أن نهمه الشديد للكلام قد فجّر طاقات لسانه " عمّال على بطّال " بينما أصيبت رغبته فى الفعل وبذل الجهد والعرق بالشلل شبه التام " . " تنزل من بيتك فى الصباح فتسمع هذا الشخص ويبدو من صوته وعباراته أنه يبيع الهواء فى زجاجة .. ولديه قدرات خاصة تمكنه من لف الفيل فى منديل .. وسحق عظام من يقف فى وجهه .. بينما هو لا يعرف ماذا يبيع .. أو من أين سيأتى بالفيل إذا كان فى جيبه منديل .. ويخاف من العتمة .. تقول فى نفسك أنه فهلوى .. وهذا حقيقى لأنه يعتمد على إحداث أكبر قدر من الضجيج والتشويش وجذب الإنتباه بتضخيم الذات لتفادى مواجهة الواقع بمشاكله المعقدة وخيوطه المتشابكة التى يتطلب حل عقدها الإجتهاد والجهد والفعل" .

وشخصية الفهلوى تراها وأنت تركن سيارتك بجانب أى رصيف أو تخرج بها فتفاجأ بأن الأرض انشقت وخرج منها شخص يقف وراءك أو أمامك ليقول لك " تعالى .. تعالى " ويتصرف وكأنه ينظم حركة دخولك أو خروجك , وفى الحقيقة هو يعوق حركة السيارة بوقوفه المستفز أمامها أو خلفها . وترى الفهلوى يقابلك فى الشارع أو فى أى مصلحة حكومية فيبادرك بالسلام ( وكأنك تعرفه من زمن ) ويقول لك بشكل سمج وثقيل " كل سنه وانت طيب يابيه " , أو يقول لك وأنت عائد من المطار " حمدالله على السلامه يابيه " , ومن كثرة ما ترددت هذه الكلمات فى مثل هذه الظروف وبهذه الكيفية من هؤلاء الأشخاص أصبحت ذات مدلول سلبى يجعلك تكره سماعها .

 *****
والفهلوى المصرى تراه عند شبابيك تجديد رخص السيارات فى إدارات المرور يعرض خدماته عليك , وكثيرا ما يفرض نفسه عليك بتقديم مشورة لم تطلبها , والتلويح لك بقدرته على إنهاء الأوراق بسهولة وسرعة , وحمايتك من كل أنواع الروتين والبيروقراطية , وترى أخاه الفهلوى الآخر يعمل ساعيا أو عامل بوفيه فى أى مصلحة حكومية يقابلك فى مدخل المصلحة ويرى الحيرة والإرتباك على وجهك فيصطادك ويعرض عليك تخليص أو تسهيل المهمة . والنظام البيروقراطى , والتعقيدات المكتبية وشيوع الرشوة والوساطة , كل ذلك أدى إلى تنامى دور الفهلوى حتى أصبح من مكونات المنظومة الإجتماعية المصرية المعاصرة .

ولا تتوقف الفهلوة عند هذه المستويات الدنيا بل تتسلل إلى المراكز الوظيفية العليا حين يتلاعب رؤساء مجالس إدارات الشركات بالأرقام ويحولون خسائرهم إلى مكاسب ويوهمون الآخرين وربما أنفسهم بتحقيق إنجازات عظيمة , ويتصورون أن للكلام تأثير يساوى الفعل فيضعون هذا محل ذاك , وحين تتكشف الأمور ويحدث الإنهيار يلجأون للتبرير والتهرب من المسئولية والبحث عن كبش فداء من صغار الموظفين .

والفهلوى تراه فى مسئول كبير فى وزارة الصحة يؤكد أننا فى مصر قضينا تماما على شلل الأطفال ولم تسجل فى مصر حالة واحدة منذ عدة سنوات , ثم تكتشف أن هناك عدد ليس بالقليل من الحالات مسجلة بالإسم والعنوان لدى المنظمات العالمية المهتمة بالصحة والطفولة.

والفهلوة تراها فى طبل وزمر حول قدرة مصر على تنظيم أكبر مونديال للكرة العالمية وأن مصر فيها قوة جذب لا تقاوم للسائح الأجنبى ثم يتمخض الأمر عن صفر كبير تلقيه الهيئات الدولية فى وجه الفهلوى المصرى .

والفهلوى تراه يتحدث عن إمكانات مصر السياحية التى لا تبارى من وجود 40% من آثار العالم فى مصر , ومن شمس ساطعة إلى جو معتدل , ويعلن أن  عدد السائحين قد وصل رقما قياسيا وهو 6 مليون سائح , ولكنك للأسف تكتشف فيما بعد أن فرنسا وأسبانيا يزور كل منها حوالى 40 مليون سائح سنويا على الرغم من افتقارهما لهذا الكم الهائل من الآثار الذى نمتلكه.

والفهلوى يعلن أن الإرهاب انتهى فى مصر إلى غير رجعة وأن الأمور أصبحت كلها تحت السيطرة , وأنه تم القبض على فلول الإرهابيين ثم تفاجأ بعدها بأيام بحدث إ رهابى مروع تتلوه حوادث أكثر ترويعا .

 *****
وتظهر الفهلوة واللف والدوران بشكل صريح وفج فى فترة الإنتخابات حيث تجد الإعلانات المليئة بالأكاذيب والنفاق والوعود البراقة , وإعلانات التأييد والمبايعة التى يشارك فيها الأجنة وهم بعد فى بطون أمهاتهم ويشارك فيها الأموات الذين أفضوا إلى ربهم , وكأن سلوك الفهلوة لدى الشخصية المصرية سلوكا أبديا يسبق الميلاد ويستمر حتى بعد الوفاة . وتخلو الدعايات الإنتخابية عندنا من البرامج الموضوعية التفصيلية الجادة , وتلجأ بديلا عن ذلك إلى شعارات عاطفية أو دينية أو تاريخية يتم من خلالها خداع الناخب , ولو لم تنجح هذه الوسائل فالتزوير ومنع الناخبين من الوصول إلى اللجان الإنتخابية وسيلة سهلة لتحقيق المطلوب .

وتصل الفهلوة إلى بعض الدعاة والأدعياء حيث يميلون إما إلى تملق السلطة ( بالفتاوى الميسرة والمبررة للإستبداد والفساد ) أو تملق الجماهير ( بالروشنة الدعوية والمظهر النجومى وفتاوى التيك أواى وتسطيح الدين بما يتناسب مع ذوق مشاهد الفضائيات الذى لايحتمل ذوقه إلا نوع من التدين الخفيف الممزوج بالمتبلات والمسبوق بالسلطات والمخللات).

والإعلام فى أى بلد يفترض أنه كاشف للحقيقة وموقظ للوعى ومحرض على التغيير نحو الأفضل والأجمل والأصلح , ولكن سلوك الفهلوة حين غزا الإعلام شوه هذه الصورة حين سوق لخطاب إعلامى مزدوج ومزيف , يروج للأكاذيب , ويمدح ويهلل لكل صاحب سلطة ويمجد فيه وربما يقدسه , ويلمع أنصاف الموهوبين ويفرضهم على الناس , ويصنع نجوما وقيادات من ورق ويسوقها للجماهير المخدوعة بالبريق الإعلامى والإلحاح المتكرر , وبهذا يصبح الإعلام أداة ترويج وتدعيم لوباء الفهلوة , بل إنه يعطى لسلوك الفهلوة شرعية واحتراما على أنه سلوك مقبول وأنه ينم عن ذكاء وحسن تصرف , وتقدير للأمور , ومراعاة للظروف . والإعلام المزيف يعطى للناس دروسا عملية ومهارات فى لبس الأقنعة والتزييف , وتصبح الأصوات الصادقة والأصيلة والأمينة نشازا فى هذا الوجه أو يصبح صوتها خافتا ضعيفا وسط جوقة التهليل والتزييف .

وفى عالم المال والإقتصاد يظهر الفهلوى فى صورة مستثمر  يقترض أموال البنوك أو يجمع أموال الناس تحت أى شعار , ويعطى ضمانات وهمية ويؤسس شركات ورقية , وينشر ميزانيات خادعة , وفى لحظة الموا جهة أو الإنكشاف يهرب إلى الخارج وقد سبقته الأموال عبر البنوك لكى ينعم بها هناك , ومن هنا تقلصت وضعفت قيم العمل الجاد الدؤب , وحل محلها قيم الكسب السريع بدون جهد وفى أقصر وقت ممكن وبأى وسيلة , وشعار هؤلاء " خذ الفلوس واجرى " , وهناك من يمكنهم من أخذ الفلوس ثم يمكنهم بعد ذلك من الجرى طالما هو سيأخذ عمولته ويكون فى الخلفية بعيدا عن المحاسبة .

وتصل الفهلوة إلى ذروتها حين تصل لمسئولين كبار يدغدغون المشاعر الوطنية والقومية بشعارات الريادة والسبق الحضارى ( أننا أبناء حضارة خمسة أو سبعة آلاف سنة وأننا رواد العالم العربى والإسلامى وأن العالم يتعلم منا ومن قادتنا الحكمة ) , ويغطون التخلف والجمود على كل المستويات بأرقام خادعة تعكس إنجازات وهمية , ويبررون الهزائم والنكسات والإنكسارات ويحولونها إلى انتصارات تاريخية تستوجب أجازات رسمية للإحتفال بها , وتمتلئ الخطب والتصريحات بالمغالطات والمبالغات والتهويلات , ويكتفى بالكلام والشعارات الرنانة بعيدا عن التخطيط العلمى والعمل الدؤب والفعل الجاد والإنجاز النوعى المتراكم .

فنحن بلد له دستور مكتوب ومع هذا تسير الحياة فى واد والدستور فى واد آخر , فالدستور اشتراكى والحياة اليومية الوالقعية والرسمية ر أسمالية , ولدينا أشكال ديموقراطية ( انتخابات نيابية ورئاسية ) ولكن الواقع ليس ديموقراطيا بالمرة ,  وإنما يكتفى بإطلاق صراخ وصياح وسباب فى صحف معارضة أو مستقلة دون أن يكون لذلك صدى , كأنما يكتفى بالكلام والصراخ بديلا للفعل والتغيير.

 *****
وحين ينتشر الإرهاب فى العالم ويكتشف الآخرون أن غياب الديموقراطية وانتشار الفساد فى مصر والعالم العربى وراء هذه الظاهرة المهددة للعالم كله , وحين تشتد المطالبة بإصلاحات سياسية , تظهر الفهلوة المصرية فى الإلتفاف والمراوغة والتحايل , وعمل بعض التغييرات الشكلية , وإطلاق التصريحات اللفظية , وعقد بعض الندوات والمؤتمرات بهدف امتصاص الضغط الخارجى , وإبقاء الحال ( المائل ) على ما هو عليه .

والفهلوى يهتم بالشكل دون المضمون ويهتم بالكلام بديلا عن الفعل , ويمارس حالة من الإذدواجية تمكنه أن يقول مالايفعل ويفعل مالا يقول , ويمارس حالة من الخداع لغيره  تنقلب بعد فترة إلى الخداع لنفسه , وبالتالى تغيب الحقيقة عن الجميع وتغيب البصيرة اللازمة للتغيير , إذا افترضنا وجود نية للتغيير , وهذا أخطر مافى سلوك الفهلوة من الناحية النفسية والإجتماعية .

وهكذا نجد أن الفهلوة لم تصبح سلوكا فرديا لدى البائعين الجائلين أو منادى السيارات على الأر صفة أو المسهلاتيه أو المشهلاتيه من السعاة وعمال البوفيه فى المصالح الحكومية , وإنما أصبح سلوكا عاما لم ينج منه أحد على أى مستوى مهما علا أو نزل , وأصبح وباءا عاما لم تخل منه طبقة من الطبقات .

والفهلوى فى التوصيف النفسى هو شخص لديه سمات  سيكوباتية , وليس بالضرورة أن يكون سيكوباتيا بالمعنى الإصطلاحى المعروف , وهذا يعطيه قدرة على الخداع والمناورة , فهو كثيرا ما يبدو خفيف الظل , خفيف الحركة , يغرى بالقدرة على تخليص الأمور الصعبة والمعقدة , ويغرى بالرغبة فى المساعدة فى حل المشكلات العويصة , فكل عقدة عند الفهلوى لها ألف حل , وكل شخص عنده وله مفتاح وثمن , والفهلوى لايحل المشكلات بالطرق المعهودة من العمل والمثابرة والتفكير والتخطيط وإنما يتخطى كل ذلك ويتجاوزه ويلجأ إلى الطرق الخلفية والخفية والسريعة بصرف النظر عن مشروعيتها . والفهلوى بهذه السمات السيكوباتية يميل لأن يبدو مهذبا , وهناك تعبير " السيكوباتى المهذب " والذى تراه فى مستويات وظيفية أو قيادية أو سياسية عالية يتحدث بهدوء وأدب , ويعطيك شكل الأشياء دون جوهرها لأنه يعرف حرص الناس على الشكل فهو لا يصدمهم بانتزاع الشكل , فيحافظ على الظاهر قانونيا أو أخلاقيا مع الإحتفاظ بحقه فى العبث بالجوهر أو انتزاعه تماما بما يحقق مصلحته . والمحافظة على الشكل تحمى الفهلوى من المساء لة والإنتقاد وتجعله قادرا على المناورة والدفاع عن نفسه إذا حاول أحد كشفه أو محاسبته , وهذا مما يرسخ لسلوك الفهلوة ويحبط كل محاولات الإصلاح الجادة , حيث تصطدم كل هذه المحاولات بأن كل شئ تمام على مستوى الشكل , ولا تستطيع أن تثبت غياب المضمون أوتشوهه لأن الفهلوى ( أو السيكوباتى المهذب ) لديه القدرة عل المناورة والجدال , تلك القدرة التى ربما يفتقدها دعاة الإصلاح بحكم طبيعتهم المستقيمة والبريئة .

وتتبدى سمات الفهلوة فى الشخصية المصرية من خلال بعض الألفاظ الدارجة على ألسنة الناس مثل : " إحنا اللى دهنا الهوا دوكو " .... " إحنا اللى خرمنا التعريفه " .... " إحنا اللى علمنا النمل يمشى طوابير " ... " نعمل من الفسيخ شربات " ... " بنفهمها وهى طايره " .... " حلنجى " ..... " بتاع التلات ورقات " ..... " حاوى " ..... " ألعبان " ..... " زى الزيبق" .

وعلى المستوى الفنى يكفى أن تتابع بعض المسلسلات المصرية لتكتشف أنها فى معظمها مليئة بوسائل اللف والدوران والإلتواء , وادعاء القدرة بلا قدرة , والإحتيال , والخداع , والمبالغات , والسخرية , واذدواجية الخطاب , باختصار تجد نفسك أمام سمات الفهلوة المصرية فى قالب فنى . وفنون الكوميديا تفوقت على سائر الفنون فى إبراز سمات المصرى الفهلوى فى قالب ساخر ظريف به الكثير من المبالغات والمفارقات التى تبرز السمات الفهلوية , وأكثر من نجح فى تقديم هذه الشخصية على المستوى الكوميدى هو الفنان عادل إمام حيث يمتلك ملامح وجه المصرى الغلبان ويمتلك أيضا تركيبة جسده المنهك المطحون ولكنه فى نفس الوقت يحاول التكيف مع الظروف من حوله بالسخرية أو ادعاءات البطولة الخارقة , أو التنكيت على من يقهره , أو الحيلة الذكية اللطيفة للخروج من المآزق , أو استخدام توريات لفظية تحمل معان مزدوجة أو متعددة . وربما يكون هذا هو سر تفوق عادل الإمام الرهيب حيث أنه قد هضم الشخصية المصرية تماما وأعاد إخراجها بوسائل توصيل لفظية وغير لفظية غاية فى البراعة لذلك تصل إلى الناس بسرعة البرق وتضحكهم على أنفسهم التى يرونها فى مرآته الصافية التى التقطت كل تناقضات الشخصية المصرية فى قوتها وضعفها , ولذلك لقبه المصريون بالزعيم بما يعنى أنه زعيما للكوميديا أو زعيما للفهلوة فى فنه أو زعيما للشخصية المصرية . ويليه فى هذه المقدرة على إبراز شخصية الفهلوى الفنان أحمد آدم , فهو قصير القامة و ضعيف البنية , ولكنه يحاول التعايش مع الظروف التى تقهره بتبنى روح المرح والسخرية , وادعاء الكرامة والغلبة والقدرة اللامتناهية على التاثير فى الأحداث ولكنه فى النهاية يكتشف أنه معرض طول حياته للبهدلة فيسخر من كل هذه المواقف حتى يظل واقفا على قدميه الصغيرين .

وبعد هذا الإستعراض لصور ومظاهر الفهلوة فى الشخصية المصرية وفى الحياة المصرية , نود الإشارة لدراسة مبكرة للدكتور حامد عمار عن أحوال المجتمع المصرى والشخصية المصرية ضمنها كتابا بعنوان : " فى بناء البشر : دراسات فى التغير الحضارى والفكر التربوى " صدر فى عام 1964 م  , وفى هذه الدراسة القيمة حاول الدكتور عمار أن يحدد سمات مميزة لشخصية المصرى الفهلوى نذكر منها بإيجاز :

1- التكيف السريع والقدرة على التلون مع الموقف ونقيضه , والإدراك فى لمح البرق وفيما يشبه الإلهام بما هو مطلوب فى هذه اللحظة فيستجيب على الفور , وهو قادر على أن يعيش فى أى ظروف ويتعامل مع أى شخصية, ويتباهى بأنه يستطيع أن يلاعب " الجن الأحمر " ويعايش " ملائكة السماء والأرض " فى نفس اللحظة دون أن يجد فى ذلك غضاضة , ودون أن يتطلب ذلك منه جهدا كبيرا . ولذلك استطاع هذا النمط أن يتقبل ويساير كل تغيير , ويتعامل مع كل جديد دون ارتباك أو حيرة , ومظاهر الحياة تدل على هذه القدرة الفائقة , وإن كانت هذه المرونة والقدرة على التكيف السريع تتميز بأمرين : الأول : المرونة والقدرة على هضم وتمثيل كل جديد , والثانى : المسايرة وإخفاء المشاعر الحقيقية  . وهذه النزعة هى التى أعطت للمصريين القدرة على التعايش مع حكام وولاة بلغوا غاية فى الظلم والإستبداد , ووجد المصرى أنه إذا لم يذعن فسوف يتعرض للعقاب والنقمة , ولن يجنى شيئا , فأصبح التكيف السطحى فى مثل هذه المواقف من ضرورات البقاء فى ظروف متغيرة لا ضابط لها ولا مقدر لعواقبها . ومع الزمن فإن هذا التكيف السريع الذى كان أسلوب الحماية والوقاية الذى كفل للمصريين البقاء مع التقلبات السريعة المتلاحقة , تحول إلى وصولية وانتهازية , ثم تركز فى نمط الفهلوة .
2 – النكتة المواتية : فحين تحاصر المصرى الهموم والأزمات , وتثقل عليه , وتنقلب أمامه الأمور تقلبا لم يشارك فيه , فإنه يشارك فى الأحداث بالتعليق الساخر عليها , ويطلق النكتة بعد النكتة , فيضحك , ويخفف بذلك من التوتر العصبى الذى كان يمكن أن يدفعه إلى الغضب , ويستريح بما تحققه له السخرية بالذين انفردوا بالعمل من ترضية , وتصرفه عن الواقع إلى عالم من الخيال والمرح , وهذا ما جعل أحمد أمين يقول فى كتابه الشهير " قاموس العادات والتقاليد المصرية " : إن النكتة كانت سلاحا مصريا يلجأ إليها المصرى " تعويضا عما أصاب الشعب من كبت سياسى واجتماعى , وتنفيسا له من الضائقات التى تنغصه , مما يجعل الحياة أمرا محتملا . والنكتة عند المصريين تختلف عن النكتة عند غيرهم من الشعوب , فهى أولا إحدى السمات المميزة للشخصية المصرية , فهو يستمتع بتأليف النكتة والإستماع إليها حتى لو تكرر سماعه لها , وأهم الوظائف التى قامت بها النكتة المصرية هى التغطية على الموضوع , وأخذه على المحمل الهين , والإنصراف عنه انصرافا يعفى من التفكير فيه تفكيرا جديا , وكأن " فرقعة "النكتة تكفى لإنهاء المشكلة , أو هى فى حد ذاتها حل لها ( راجع النكت السياسية فى فترات الحكم الإستبدادى وما أكثرها فى حياة المصريين وستكتشف أن النكتة كانت تصرف طاقة الغضب اللازمة للتغيير وبذلك يظل الأمر على ماهو عليه )  
3 – المبالغة فى تأكيد الذات والإلحاح على إظهار قدرة فائقة : وهناك فرق بين الثقة بالنفس الناتجة عن الطمأنينة الداخلية والإدراك الواعى للقدرات والظروف من ناحية والموقف الخارجى من ناحية أخرى , وبين تأكيد الذات الناجم عن فقدان الطمأنينة , وعدم الرغبة , وعدم القدرة أيضا , على تقدير المواقف تقديرا موضوعيا , وإحساس داخلى بعدم الكفاءة , وشعور بالنقص أمام المواقف يحاول إخفاءه بالتهكم على الآخرين , أو بادعاء المقدرة الخارقة على حل العقد بما يشبه المعجزة , وإنجازها " هوا " , أو عمل كل شئ بالإصبع , أو حل المعضلة بجرة قلم .
ومن سمات " الفهلوة " المبالغة فى تأكيد الذات ( إخفاءا لشعوره بالضآلة ) وبما يعرف عادة بأنه " القنزحة " فى الكلام والسلوك , ولعل معظم ما نراه من البذخ فى العزائم , أو المبالغة فى تأكيد " الكرامة الشخصية " بمناسبة وبدون مناسبة , والإهتمام المبالغ فيه بالشكليات فى المناسبات والأفراح والمآتم , وكل ما يتصل بالمظهر أو " واجهة الشخصية " للفرد أو للجماعة, ليس إلا تعبيرا عن الرغبة فى تأكيد الذات , وليس غريبا أن تكون" الكلمة الحلوة " هى التى يأسر بها المصرى غيره , وتجريح الغير و "التريقة " عليه فى غيابه جزءا من سلوك الكثيرين , ومن يستطع أداء هذا الدور ببراعة يحظى عادة بالإعجاب , فالتهوين من قدر الآخرين ومن قيمة أعمالهم هو الجانب الآخر السلبى لتأكيد الذات , والشخص الذى " لا يعجبه العجب ولا الصيام فى رجب " هو وحده الذى " يفهمها وهى طايره " وهو الذى يستطيع أن
" يجيب الديب من ديله "
4 – العلاقة الملتبسة مع السلطة : فالفهلوى برغبته الدائمة والملحة فى تأكيد الذات يشعر فى قرارة نفسه بالسخط على الأوضاع التى توجد التمايز والتفرقة أيا كان نوعها , مهما كانت أسبابها ومبرراتها , ويتفرع من ذلك عدم الإعتراف بالسلطة أو الرئاسة , والتنكر لها فى أعماق الشعور , مع أنه فى الظاهر يبدى الخضوع ويستخدم عبارات فيها مبالغة شديدة للتفخيم ( أفندى و بيه و باشا , سعادة الباشا ) , ويلجأ إلى طقوس زائدة عن الحد للتعبير عن الإحترام , ويخفى كل ذلك الشعور بالإمتعاض ,  ويعبر عنه أحيانا بقوله : " فلان عامل ريس " أو
" عايش فى الدور ".
فالفهلوى لا ينظر إلى السلطة أو الرئاسة على أنها ضرورة من ضرورات التنظيم , يتطلبه توزيع المسئوليات وتحمل الأعباء فى التنظيم الإجتماعى أوالإدارى , ولكنه ينظر إليها على أنها قوة قاهرة يذعن لها إذعانا لما تبعثه فى نفسه من الهيبة والخوف .
5 – الإسقاط والتهرب من المسئولية : إن أهم الأسلحة التى تتزود بها شخصية " الفهلوى " هى عملية " الإسقاط " , لكى يزيح المسئولية عن نفسه ويلقيها على غيره من الناس , أو على ظروف خارج نطاق الذات تبرر ما يقع فيه  من مواقف الخطأ أو التقصير ( وهو ما يعرف فى علم النفس بوجهة الضبط الخارجية حيث يعتقد الفرد أن أحداث حياته تمت بتأثير من الآخرين أو من الحظ أو من عوامل لا يملك التأثير فيها أو تغييرها -  الباحث ) , وتزداد الفهلوة بازدياد القدرة على ممارسة هذه العملية النفسية , وبذلك لا يقوم الفهلوى بالعمل نتيجة شعوره الداخلى بالواجب ,  ولكن بدافع الطمع فى الكسب أو الخوف من العقاب , وما يقوله ويفعله هو دائما " لحاجة فى نفس يعقوب " كما يصفها المصريون , وليس لتحقيق الذات بالعمل الإجتماعى المنتج ( ربما يفسر هذا المحاولات المستميتة لدى المصريين للتهرب من العمل , ويؤكد هذا الإحصائية التى بينت أن إجمالى الإنتاج لدى الشعب المصرى يساوى فى المتوسط 27 دقيقة عمل يوميا لكل فرد -  الباحث )  .
ومن مظاهر الإسقاط الواضحة كثرة الشكوى من الزمان والتبرم من كيد الآخرين وإلقاء التبعة فى كل مشكلة على " الحكومة " أو على " البلد اللى من غير عمده " أو على " الإدارة " , أو أى قوة أخرى غير الشخص أو الجماعة المسئولة .
6 – الفردية وغلبة ال" أنا " , وعدم التوافق مع العمل الجماعى : وليس هذا من قبيل الأنانية لمجرد الأنانية , ولكنه تأكيد للذات من ناحية , وانصراف عن احتكاك الذات بغيرها من ناحية أخرى مما يعرضها لمواقف تنكشف فيها حقيقتها , أو تذوب فيها شخصية الفرد فى شخصية الآخرين . ويضاف إلى ذلك جذور العصبيات القبلية والعائلية , ونقص التربية الإجتماعية , لأن الإنسان يولد بنوازع الفردية والأنانية , ثم ينجح المجتمع أو يفشل فى عملية " التطبيع الإجتماعى " أى جعل الفرد يتخلى عن جانب كبير من فرديته والإندماج فى الجماعة واكتساب القدرة على التفاهم والتعاون  والعمل بجدية وإخلاص مع الآخرين , وفى ظل تنظيم اجتماعى أو إدارى أو قانونى , فإذا لم تتم عملية التطبيع الإجتماعى كما يجب فإن شخصية الفهلوى تظهر وهى تجيد إظهار الموافقة , ومسايرة الآخرين والتعاون معهم , ولكنه يتخذ هذه المواقف الشكلية من قبيل المجاملة , أو الخوف من الحساب أو العقاب , فيتظاهر بالعمل مع الجماعة ولكن بلا روح ولا التزام , وهذا هو سر الشكوى من غياب " روح الفريق " والقدرة على العمل الجماعى فى ظل قيادة ( راجع فشلنا المزمن فى الألعاب الجماعية مثل كرة القدم خاصة على المستوى العالمى , وتذكر دائما صفر المونديال – الباحث ) , ولتحقيق هدف عام وليس لهدف شخصى , بولاء للجماعة ,  وفى الأمثال المصرية الكثير مما يعبر عن الروح الفردية مثل " حصيرة ملك ولا بيت شرك " , ويظهر ذلك أيضا فى تعبير كل فرد " أنا عملت " بدلا من " احنا عملنا " . بينما سر القوة والنجاح فى الدول الكبرى فى هذا العصر هو أنها تؤمن بروح الفريق ,  وبالعمل الجماعى ,  وبتعاون عدة أفراد معا وكأنهم كيان واحد , ينسب إليهم جميعا النجاح ,  وينال كل فرد فى الجماعة نصيبه من هذا النجاح الجماعى .
7 – الحرص على الوصول إلى  الغنيمة بسرعة ومن أقصر الطرق دون الإعتراف بالمسالك الطبيعية : ولذلك يبحث الفهلوى دائما عن وسيلة تجعله يقفز على المراحل , ويتخطى الحواجز , باللجوء إلى الكذب أو التزوير أو الوساطة , أو الرشوة  أو الغش , فإذا وجد أنه لن يصل إلى الهدف إلا بالطريق الطبيعى كغيره , وأن هذا الطريق يحتاج إلى المثابرة والصبر واتباع خطوات لابد منها , فإن الحماس للعمل ينطفئ فى لحظة , فالطالب لا يعترف بأن الإستذكار وسهر الليالى للفهم والإستيعاب هى الوسائل الطبيعية للنجاح فى الإمتحانات , والفهلوى منهم يريد أن يصل إلى النجاح بدون هذا العناء ... بالغش أو بمحاولة شراء الإمتحانات ورشوة الآخرين ( أو بالدروس الخصوصية التى تصنع كائنات امتحانية تحقق تفوقا شكليا مؤقتا – الباحث ) , والعامل لا يريد أن يضيع وقته فى الإتقان والتشطيب لكى يبلغ الكمال , ولكنه يفضل " الكلفتة " , والجماعات التى يحركها الحماس لإقامة مشروع لا يستمر حماسها بعد ذلك لمتابعة استمرار المشروع ورعايته وصيانته .               

 *****
والآن نسأل أنفسنا : مالذى جعل الشخصية المصرية تصاب بهذا الداء بشكل وبائى مستعص لم ينج منه إلا القليلون ؟
يرجع معظم المفكرون والباحثون هذا السلوك إلى العلاقة السلبية للمصريين بالسلطة على مر العصور حيث تعرض المصريون على طول تاريخهم لفترات استعمار واستبداد وقهر وتسلط مما كان يفوق قدرتهم على المقاومة أو التغيير فى كثير من الأحيان , ونظرا لتكرار هذه الخبرات السلبية تعلم المصرى أسليب للتكيف والمواءمة تتضمن تحايلا على المستعمر أو المستبد , خاصة أن الحاكم فى مصر يتحكم فى ماء النيل أى فى لقمة العيش للناس , ففى مجتمع النهر يصبح الحكم مركزيا لأنه يتحكم فى شريان الحياة لسائر الناس , وهذا عكس المجتمع الرعوى الذى يعتمد على المطر وبالتالى تكون حركته وإرادته فردية ومستقلة نسبيا ويحكمه نشاط المطر الذى لا يحكمه أحد من البشر .
يقول الدكتور حامد عمار فى ذلك :" الفهلوى برغبته الدائمة والملحة فى تأكيد الذات يشعر فى قرارة نفسه بالسخط على الأوضاع التى توجدالتمايز والتفرقة أيا كان نوعها , ومهما كانت أسبابها ومبرراتها , ويتفرع من ذلك عدم الإعتراف بالسلطة أو الرئاسة , والتنكر لها فى أعماق الشعور , مع أنه فى الظاهر يبدى الخضوع ويستخدم عبارات فيها مبالغة شديدة للتفخيم ( لاحظ كثرة استخدام الألقاب الرنانة فى المجتمع المصرى : بيه , باشا , سعادة الباشا , سعادة الريس , ........ إلخ – إضافة من الباحث) , ويلجأ إلى طقوس زائدة على الحد للتعبير عن الإحترام , ويخفى كل ذلك الشعور بالإمتعاض . والفهلوى  لاينتظر من السلطة المقتدرة أى نوع من الألفة أو رفع الكلفة , ويتوقع منها أن تكون على عكس ذلك , حازمة وصارمة , وكأنما ذلك من لوازم السلطة . ويرجع هذا الشعور بالخوف من السلطة أو الهيبة من أصحابها إلى الظروف التاريخية التى تعاقبت على شخصية المصرى من علاقته بالحاكم , واستجابة المحكومين , وقد وصف الجبرتى شعور الأهالى نحو الملتزم بجمع الضرائب , فكان الفلاحون يهابون الملتزم القوى , أما إذا كان ذا رحمة بهم استهانوا به واذدروه فى أعينهم وسموه بأسماء النساء " ( عن كتاب : المصريون فى المرآه , مكتبة الأسره 2000 ) .

ويضيف الأستاذ على سالم : "نحن نباهى الأمم صغيرة السن ذات التاريخ القصير الذى لا يتعدى عدة مئات من السنين انشغلت فيها ببناء الديموقراطية , بأننا اقدم منها وننسى أننا نحكم أنفسنا منذ أقل من خمسين عاما فقط , ولابد من الإعتراف بأن مئات السنين من الحكم الأجنبى المستبد أرست فى عقولنا قواعد راسخة للفهلوة .. عقولنا مدربة على نحو شبه غريزى على الحذر من الحكومة وعمل المستحيل للإفلات منها , من قوانينها ولوائحها وتعليماتها , ثم شن حملات مضادة عليها عندما تحين لنا الفرصة , حتى الآن يداخلنا شك فى أننا نحكم أنفسنا , وفى المقابل سنجد الذين وصلوا إلى مواقع الحكم والسلطة يتوحدون على الفور بنفسية ذلك المملوك القديم المستورد من الخارج التى امتلأت أبعادها بالقسوة والحذر من هذا الشعب
" النمرود " , وهكذا تستمر علاقات الحذر والتربص بين الحكومة والأهالى كامتداد لا واع لآليات الواقع فى الحكم الأجنبى " ( على سالم , " وشاح الفهلوة " , روزاليوسف , 30/3/2001 )

وحين عاود الدكتور حامد عمّار النظر فى الشخصية المصرية فى التسعينيات وجد تحولات أخرى أكثر خطورة ذكرها فى المحاضرة التذكارية التى ألقاها فى المؤتمر العلمى السنوى لرابطة التربية الحديثة فى يوليو 1994 , حيث وجد أن مسيرة التيارات السياسية والإجتماعية والإقتصادية فى العقدين الماضيين قد أوجدت خللا ملحوظا فى فى عقيدة الإنتماء الوطنى والقومى ... وكذلك اضطربت العلاقات بين الفرد والجماعات والدولة , وأدى ذلك إلى أن يكون حرص الفرد أو الجماعة متجها نحو الخلاص الذاتى , وإلى تغليب المصالح الخاصة , وإلى ولاء محلى وعشائرى ضيق , مما قد يتعارض فى كثير من الأحيان مع قيم الوطن والمواطنة الرشيدة فى إطار الحق والواجب , ومن هنا ظهرت أعراض الفساد والإفساد .... وأعان على ذلك التوجه ما ساد مصر فى فترة السبعينيات من رخاء مؤقت ,  وما انتهزه البعض من فرص الإنفتاح , والإستغلال والمضاربات , والأرباح السريعة المذهلة , وأوهام شركات توظيف الأموال , والبحث عن النفوذ الخاص , هى العوامل المتحكمة فى طريق القيم والعمل ..... وذلك اللهاث نحو الإستهلاك المفرط والمستفز بإعلاناته , ومظاهر الحياة اليومية , أدى إلى هشاشة العلاقات , وشيوع نمط شخصية " الهبّاش " الذى يخطف بسرعة بقدر ما يستطيع , ويجرى قبل أن يلاحقه حساب القانون أو حساب المجتمع .... وهكذا جاءت شخصية الهبّاش بعد شخصية الفهلوى ( نقلا عن كتاب المصريون فى المرآة لرجب البنا ) .

 *****
وقد ظهر هذا الهباش فى صور كثيرة منها رجال الأعمال الذين " يهبشون " أموال البنوك ثم يهربون إلى الخارج , أو رجال السياسة الذين يهبشون السلطة للأبد , أو المرشحين الذين يهبشون المقاعد بشراء الأصوات علنا وبمبالغ متزايدة أمام اللجان , أو يستأجرون البلطجية مقابل ألف جنيه فى اليوم الواحد لإرهاب المواطنين , أو تسخير قوات الأمن لحساب أحد الأحزاب أو أحد الأفراد لتمنع الناس من الوصول إلى لجان الإنتخابات , أو تزوير إرادة الناخبين عند إعلان النتائج . وهناك صور أخرى على المستوى الفردى ومنها الموظف الذى لا يقضى مصلحة إلا بعد أن يأخذ مقابلا لها , وأحيانا يأخذ ويهرب , ومنها العامل أو الفنى الذى يأخذ أجرا ولا يتقن عملا , ..... , ...... وهكذا نماذج عديدة فى كل مستويات المجتمع من أعلاه إلى أدناه , حتى كادت تكون شخصية الفهلوى وشخصية الهبّاش هى القاعدة , وأصبحت النماذج الشريفة المخلصة ( وهى موجودة فعلا ) تشكل استثناءات تدعو للعجب , فمثلا حين يرفض أحد ضباط حرس الحدود رشوة , يكرمه الوزير لأمانته , وكأن القاعدة المتوقعة أن يقبل الرشوة , وأنه حين رفضها قام بعمل استثنائى , وأيضا حين صدعت المستشارة البطلة
" نهى الزينى " بكلمة الحق فى تزوير  انتخابات دمنهور اعتبرها الشعب المصرى بطلة عظيمة ( وهى فعلا كذلك ) مع أن المتوقع – فى الظروف الطبيعية -  أن تكون المستشارة على هذا المستوى العالى من النزاهة والشجاعة والجرأة .

ونتيجة لشيوع شخصية الهبّاش فقد انتشرت على ألسنة الناس مفردات جديدة مثل : " هبر " .... " هبش " ..... " تسليك " ..... " تقليب " ....... " شفط " ..... الخ .

التدين :
يبرز عنصر التدين كعنصر فاعل وأساس وشديد الأهمية فى الشخصية المصرية , وهو يكاد يكون مفتاحا مهما لفهمها ( بجانب مفتاح الفهلوة الذى برز فى العقود الأخيرة أكثر وضوحا ) , وذلك نظرا لتراكم الخبرات الدينية من الأديان المختلفة وتلاقيها وتناميها على أرض مصر , فعلى أرضها نشأت الديانات المصرية القديمة التوحيدية منها والوثنية , وانطلق موسى  عليه السلام من الوادى إلى سيناء ثم عاد إلى مصر مرة أخرى  وتمركزت اليهودية فى فلسطين ومصر , ولاذت مريم بوليدها عيسى عليه السلام إلى مصر ثم عادت به إلى فلسطين وتمركزت المسيحية فى  فلسطين ومصر معا , ثم ظهر الإسلام فى أرض الحجاز وجاء الفتح الإسلامى على يد عمرو ابن العاص لتكون مصر بعد ذلك مركزا إسلاميا هاما حتى تلك اللحظة وخاصة مع وجود الأزهر منذ أكثر من ألف عام كأكبر جامعة إسلامية . ويصور جمال حمدان علاقة المصرى بالدين بقوله : " ومن الناحية الدينية البحتة لم تنفصل مصر كذلك عن الحلقة السعيدة قط , سواء قبل الإسلام أو بعده . فمن الحقائق اللافتة للنظر أن مصر كانت دائما طرفا فى قصة التوحيد بفصولها الثلاثة , فمواطن الأديان التوحيدية فى فلسطين وسيناء والحجاز ترسم فيما بينها مثلثا أو سهما رأسه يشكل مماسا لمصر فى سيناء , فقد انصبت هذه الرسالات جميعا فى مصر على التوالى , وإن كانت كل فرشة منها تطغى وتغطى على سابقتها حتى سادت آخرها فى النهاية . وإلى هذا فإن مصر لعبت فى مراحل الدعوة إلى ثلاثتها دورا أو آخر , فكانت لموسى قاعدة ومنطلقا و ولعيسى ملجأ وملاذا , بينما كانت مع النبى محمد هدية ومودة" ( جمال حمدان 1993 ,  شخصية مصر , كتاب الهلال )

والتدين فى الشخصية المصرية مرتبط بعناصر التاريخ والجغرافيا كما رأينا , وهو مرتبط أيضا بالطبيعة الزراعية لأرض مصر , فالمصرى القديم والحديث يضع البذرة فى الأرض ويرويها من ماء النيل ثم ينتظر بزوغها ونموها وترعرعها فيرى بذلك تلك القدرة الخفية وراء كل هذا فتترك فى نفسه محبة واحتراما وتقديرا لها ورغبة محبة ومختارة فى عبادتها والتقرب إليها , ولهذا نجد إلحاح فكرة الدين والتدين على الشخصية المصرية ممثلا فى كثرة المعابد فى طول مصر وعرضها , وكثرة الرموز الدينية فى كل الآثار المصرية بشكل ملفت للنظر , فلا تكاد ترى أثرا مصريا قديما لايحمل تلك النقوش أوالرموزأ والنصوص الدينية ,  وكان اهتمام المصريين بالحياة الآخرة يفوق اهتمامهم بالدنيا , ولذلك نرى فى آثارهم غلبة القبور والمعابد على القصور والبيوت . باختصار نستطيع القول بأن الشخصية المصرية مشبعة بالدين فى مراحل نموها المختلفة عبر العصور .

وعلاقة المصرى بالدين علاقة حساسة وغامضة وأحيانا ملتبسة ومتناقضة , ولكنها علاقة مركزية ومحورية فى أغلب الحالات , وهى علاقة طوعية خرجت من رحم الحب للإله والمودة له حيث رآه المصرى مصدرا للنماء والدفء والرخاء لذلك كان تصور الموت إيجابيا لديه فهو سيذهب إلى إله محبوب  ويحيا لديه حياة طيبة , لذلك نرى القبور عامرة بالمقتنيات والنقوش والنصوص فكأن الميت ذاهب إلى زيارة محبوب فأخذ معه مالذ وطاب لكى ينعم فى رحاب محبوبه بكل هذا حين يبعث بين يديه . وهذه العلاقة الودودة المختارة المحبة تختلف عن علاقات أخرى بالإله فى بيئات مختلفة تتسم بقسوة المناخ وصعوبة ظروف الحياة حيث تميل العلاقة أكثر إلى الرهبة والفزع والخوف من الإله .

إذن فعلاقة المصريين بالإله علاقة فيها رجاء أكثر من الخوف . وفيها ترغيب أكثر من الترهيب , ولهذا نجد المناسبات والطقوس الدينية تتحول لدى المصريين إلى احتفاليات مبهجة ومبهرجة فى غالب الأحيان , فهم قد حولوا رؤية هلال رمضان إلى احتفالية عظيمة وكذلك ليالى رمضان كانت ومازالت لهم فيها طقوس احتفالية كثيرة  تفوق كثير من الشعوب الأخرى , وكذلك يحتفلون بذكرى المولد النبوى وذكرى الإسراء والمعراج , وذكرى النصف من شعبان وذكرى عاشوراء ,  ولكل ذكرى من هذه الذكريات طقوس وطعوم خاصة تميزها . قد يقول قائل بأن هذه الإحتفاليات إرث فاطمى جاء إلى مصر مع الفاطميين , وهذا صحيح ولكن الطبيعة المصرية احتضنت هذا الإرث لأنه  وافق تركيبتها النفسية , وأضافت عليه من قريحتها التى اشتهرت قبل الفاطميين بعصور طويلة بمحبتها للإحتفاليات الدينية . كما أن علاقة المصريين بالرموز الشخصية الدينية علاقة حميمية فهم يحبون الأنبياء حبا جارفا لأشخاصهم إضافة إلى حبهم لهم كرسل يبلغون عن الله  , ويحبون من تفرع من نسلهم ويقيمون لهم الموالد والإحتفاليات بشكل مبالغ فيه أحيانا , وهذا يأتى من العلاقة المحبة بالدين ورموزه من ناحية , كما يأتى من الطبيعة العاطفية للشخصية المصرية من ناحية أخرى .
وهذا الحب المتجاوز للخوف من الإله ترك فى الشخصية المصرية علاقة ملتبسة بالغيب , فالمصرى لديه ثقة هائلة بالغيب  وتوقعات إيجابية منه تجعله فى حالة استرخاء وعدم استنفار أغلب وقته , فقد تعود أن يأتى النيل بالخير دون جهد شاق , وتعود على طبيعة هادئة ليس فيها برد قارس أو حر شديد أو زلازل أو براكين أو وحوش , وتعود على قدر هائل من التماسك والتكافل الإجتماعى المرتبط بالمجتمع الزراعى من ناحية والمرتبط من ناحية أخرى بالتعاليم الدينية المتواترة والمستقرة فى البيئة المصرية . وهذه الحالة تركت فى الشخصية المصرية حالة من الوداعة والطمأنينة العميقة والثقة فى الغيب وفى الآخر , وأحيانا تصل هذه الصفات إلى درجة السلبية والإعتمادية وانتظار الفرج من الغيب  والعون من الله ثم من الآخر ( كثيرا ما تسمع المصريين يقولون لشخص آخر : أنا هاعتمد على الله ثم عليك )

 *****
ورؤية المصرى لأى أمر فى حياته يغلب عليها الدين حتى ولو كان غير متدين , وهناك نكتة مشهورة تقول بأن أحد المصريين سافر إلى روسيا فى حقبة الإشتراكية أيام جمال عبدالناصر وكانت للشيوعية والإلحاد وقتها بريقا يجذب بعض المثقفين الحالمين بالمساواة والإشتراكية , ولما عاد هذا المصرى جلس يقول متفاخرا لصديقه : "  أنا ألحدت  " ....... فرد عليه صديقه مستنكرا : " ياعم قول كلام غير ده " .... فرد عليه محاولا إقناعه : " والله العظيم أنا ألحدت" ....... فإلى هذا الحد نجد أن فكرة الدين تظل كامنة فى الأعماق حتى لدى هؤلاء الذين يدّعون غيرها , وهذا يبرز أيضا فى مواقف يفترض أنها مغايرة للدين فمثلا المطربات والراقصات كثيرا ما ترد فى كلماتهم ألفاظا دينية فيها تعظيم للإله وتعظيم للرسول على الرغم من أن الموقف يبدو متناقضا , ولكنها طبقات الدين المتراكمة بشكل تلقائى داخل النفس مثلما تتراكم طبقات الطمى التى يحملها النيل إلى أرض مصر .

وهذا يجعل الأمر يبدو ملتبسا فى أذهان بعض الناس خاصة من تربوا على الفكر الغربى الذى يفصل بين نشاطات الدين ونشاطات الدنيا , وهم يحاولون أن يضبطوا إيقاع الفكر المصرى على هذه النغمة التى تبدو عالمية فى الوقت الحالى , ولكن هذا يصعب كثيرا مع تركيبة الشخصية المصرية المشبعة بالفكرة الدينية ولا تجد مبررا لهجرها أو العمل خارج إطارها خاصة وأن هذه الفكرة لها وجود إيجابى ووجود محرك لدوافع الشخصية المصرية , وهذا عكس الصورة السلبية للفكرة الدينية فى المجتمعات الأخرى  والتى ارتبطت بالقهر والطغيان والترهيب أكثر مما ارتبطت بالحب والقداسة , ومن هنا تبدو الفكرة العلمانية غريبة على الذهنية المصرية التى ترى الله فى كل شئ  وتذكره حتى أثناء غنائها أو رقصها , وتتبنى المدخل الدينى فى النواحى الإيمانية ولا تكتفى بذلك بل تسحبه على كل شئ , والسبب الأساسى وراء ذلك كما قلنا هو العلاقة الإيجابية المحبة بالدين ورموزه  والتى ترسخت وتأكدت فى كل المراحل التاريخية , فلم يكن للمصرى قصة صراع مع الدين أو مع المسجد أو الكنيسة بل هى فى الأغلب قصة حب جارف ملأ عليه قلبه وعقله , وأصبح شديد الإرتباط  به رغبة وودا , وربما يفسر هذا كثرة المعابد والآثار الدينية فى مصر القديمة , وكثرة الأديرة والكنائس من الحقبة القبطية , وكثرة المساجد والزوايا والكتاتيب  من الحقبة الإسلامية , وكثرة المقامات والأضرحة لآل البيت وللصالحين وأحيانا لأشخاص مجهولين يظن بهم الصلاح ( مجرد ظن ) ومع هذا تقام لهم الأضرحة والموالد . وهذه الأضرحة والمقامات والموالد على الرغم من الموقف الدينى ( الإسلامى خاصة ) الرافض لها إلا أن الطبيعة المصرية العاطفية المحبة تغلب على كثير من الناس فيهتمون بها ويجدون لها تبريرات تريحهم , فالدين لديهم ليس تشريعات محددة وفقط , وإنما هو علاقة عاطفية فى أغلبها لاتخضع لمنطق العقل أو نصوص الدين بقدر ما تخضع لمشاعر القلب وأحاسيسه التلقائية .

يقول الدكتور نبيل راغب : " كذلك لعب الدين المعتدل دورا حيويا فى إشاعة البشر والتفاؤل فى حياة المصريين , لأنه أمدهم باليقين من خلال إيمانهم بالخلود والحياة الآخرة والحساب والجنة التى تعوض الفقير أو المظلوم عما قد يكون لاقاه من معاناة فى حياته الدنيا . فقد جنبته عقيدته الدينية العميقة الخوف من المجهول , والرعب من العدم , والشك فى المصير , والحيرة من الموت , حتى موت الأحياء فى نظره كان انتقالا إلى حياة ثانية زاخرة بالسعادة والخلود . وكلها عقائد ومفاهيم سرت بالبشر والبهجة والتفاؤل والمرح فى حياة المصريين " ( نبيل راغب 1992 , الشخصية المصرية بين الحزن والمرح , دار الثقافة )

 *****
وقد تميزت الحياة المصرية وإلى وقت قريب بقبول التعددية الدينية , فكان اليهود والنصارى والمسلمون يعيشون جنبا إلى جنب ويكونون نسيجا مجتمعيا متماسكا ومتعايشا ,  وكان للحكم الإسلامى دور كبير فى ترسيخ هذه التعددية فالإسلام بتعاليمه السمحة وصفة العالمية فيه ورفضه لكل أشكال القهر الإعتقادى أو التمييز العنصرى على أساس الجنس أو اللون أو الدين , قد رسخ لمبدأ حرية العقيدة والمساواة وحقوق المواطنة للجميع على اختلاف انتماءاتهم وتنوعاتهم فكان الولاة والخلفاء والأمراء فى الدولة الإسلامية يتخذون من اليهود والنصارى  وزراء ومستشارين , وكان اليهود إلى عهد قريب يملكون مشروعات اقتصادية كانت هى الأضخم فى مصر فى ذلك الوقت مثل " عمر افندى " و " صيدناوى " و " عدس " و
" ريفولى " وغيرها من المحلات والمشروعات التجارية الكبيرة , وكانوا يملكون بل ويسيطرون على تجارة الأقمشة فى حى الأزهر ذو السمت الإسلامى , وكان النصارى وما يزالون يملكون المشاريع الإقتصادية الضخمة التى يعمل فيها مسلمون ومسيحيون على السواء وبلا تمييز .

ولكن للأسف الشديد حدث بعض التحول فى هذه الحياة التعددية وكان من أسباب هذا التحول :
-    الصراع العربى الإسرائيلى وما تركه من شكوك بين اليهودى المصرى وغيره من النصارى والمسلمين
-   الثورة وفكرها الإختزالى البعيد عن الروح السمحة للإسلام , وضيقها بفكرة التعددية على كل المستويات
- الفكر الدينى الخليجى القادم إلى مصر مع المصريين العائدين من هناك بعد الطفرة النفطية  والقائم على التصور الإلغائى أو التسفيهى أو التحقيرى أو الإستبعادى للآخر المختلف عقائديا
-  المشاعر السلبية  لدى بعض أقباط المهجر , وعملهم على استثارة النزعات الطائفية لدى أقباط الداخل ومحاولة الإستقواء بالخارج المسيحى فى ظروف ضعفت وتضعضعت فيها الأنظمة العربية وأصبحت قابلة للضغوط الخارجية أو مستسلمة لها توقيا لانتقام محتمل أو سعيا لمصالح تتعلق بالبقاء فى الحكم أو توريثه للأبناء  
-  لعبة الأمن والسياسة والدين , حيث ضعفت الأحزاب السياسية , وأصبح الأمن مخولا بحل القضايا السياسية والأمنية , وحل المشكلات القائمة بين الطوائف والإتجاهات المختلفة , وقد لجأ الأمن إلى اتباع أساليب قمعية أو أساليب غير سياسية , وأحيانا أساليب ملتوية تتسم بسياسة لى الذراع أو شد الأذن أو محاولات التجنيد  أو الترويض أو ضرب تيار بآخر , كل ذلك خلف انشقاقات وعداوات ستحتاج لسنوات طويلة حتى تلتئم .  

وفى السنوات الأخيرة حدث مزيد من  التحول فى هذه النظرة وتلك العلاقة بالدين , وكان هذا التحول قادم من خارج مصر حمله أبناؤها الذين سافروا إما إلى الغرب المسيحى العلمانى أو إلى الشرق الإسلامى السلفى . فالذين عادوا من الغرب المسيحى العلمانى يحاولون فصل الدين عن الحياة , ويحاولون إعادة الهوية المصرية الفرعونية , ويحاولون من وقت لآخر صبغ الحياة المصرية بالصبغة الغربية فى الدين والإجتماع والثقافة , ولكنهم يواجهون بقيم دينية واجتماعية وثقافية راسخة تجعل من هذا التغيير أمرا صعبا , كما أن فئة من هؤلاء يعاونهم بعض المقيمين فى بلا د المهجر يثيرون من وقت لآخر نزعات طائفية محكومة برؤية غربية عنصرية تختلف كثيرا عن الرؤية المصرية المسالمة والمستقرة عبر العصور . والذين عادوا من الشرق الإسلامى السلفى يحاولون صبغ الحياة الدينية المصرية بالصبغة السلفية مع التقليل من أهمية اختلاف الزمان  والمكان والظروف , والتركيز على الحدود الشرعية أكثر من التركيز على جوهر الدين وروحانياته , واستدعاء منهج حياة السلف بحذافيره  متجاوزين – كما قلنا – أبعاد الزمان والمكان والظروف  والأحوال , وداعين إلى منهج استقطابى أحادى مستبعدا للآخر أو مستهينا بشأنه ,  ولكنهم يواجهون باختلاف الطبيعة المصرية عن الطبيعة الصحراوية القديمة والطبيعة النفطية الحديثة , ويواجهون باختلاف التركيبة المجتمعية المصرية التى قامت منذ فجر التاريخ على التعددية الدينية وقبول الآخر كمواطن شريك والتعايش معه .

وهذان التياران القادمان من الغرب ومن الشرق يمثلان فى الوقت الحالى بذورا لنزاعات طائفية يحاول المجتمع المصرى تجاوزها والتغلب عليها ليكمل مسيرته التعددية التعايشية المتسامحة كما كان , ولكن يعوق قدرة الشعب المصرى على هذا بعض الظروف الداخلية والخارجية التى تثير العصبيات والطائفيات خاصة فى نفوس الشباب المحبط سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتعليميا , فتؤدى هذه الإحباطات وما يصاحبها من تسخين داخلى ( غير مسئول وغير مقدر للعواقب ) وتسخين خارجى ( طامع فى تغيير خريطة المنطقة بما يخدم أهدافه ) إلى بعض الإحتكاكات والصدامات الطائفية الغريبة على المجتمع المصرى الذى تميز عبر العصور – كما ذكرنا - بتعدديته وتسامحه وتماسك نسيجه الوطنى .           

المجتمع الأبوى :
ذلك هو المجتمع الذى يملك فيه الأب ( أو الكبير بشكل عام ) المال والسلطة والقرار والحكمة والمعرفة , فى حين يكون الأبناء ( أو التابعين بشكل عام ) تابعين متلقين لا يتحركون ولا يفعلون شيئا إلا من خلال الأب الذى يعرف كل شئ ويفكر بالنيابة عنهم فهو أكثر منهم خبرة ومعرفة بالحياة وأدرى بما يصلحهم , وهم لذلك يسلمون له إر ادتهم . وفى هذا المجتمع نرى إعلاءا لقيم الطاعة والإتباع والتسليم للكبار , ونرى خوفا من الإستقلال والإرادة الشخصية والإبداع والتجديد , فما هو قائم أفضل بكثير مما يمكن أن يكون ( لأنه ينتمى إلى جيل الكبار ), وليس فى الإمكان أبدع مما كان , وما فعله الأولون هو الحكمة بعينها التى يجب السير على منوالها , أما المحدثون فقد لوثتهم الأفكار والمذاهب فلا يوثق فى رأيهم ولا يطمأن إلى فعلهم .

وفى المجتمع الأبوى يصبح الزمن الماضى هو أفضل الأزمنة وتسود فكرة الزمن الجميل , ويقدس كل قديم ويحقر كل حديث , ويصبح التراث بما يحويه من ثمين وغث قانونا يحكم الحياة المعاصرة ويسقط عامل الزمان وعامل المكان وعامل الظروف المتغيرة , وتصبح كل الكتب القديمة مقدسة وتفسيراتها أيضا مقدسة والممارسات القائمة عليها مقدسة , والأشخاص المتصلين بها مقدسون , وهنا يجد العقل نفسه يتحرك وسط حقل ملغم بالمقدسات فيفضل الوقوف بديلا عن مخاطر الحركة المحاطة بآلاف المحاذير والخطوط الحمراء .

وللمحتمع الأبوى جذور عميقة فى الحياة المصرية فقد رسخ له الكهنة فى مصر القديمة ليضمنوا ولاء الناس للفرعون ولهم . ثم توالت الرسالات السماوية اليهودية والنصرانية والإسلامية والتى تحمل فى جوهرها فكرة التوحيد لله والعبودية له وحده دون سواه والتحرر من أى عبودية للبشر وتحرير العقل من أغلاله , إلا أن أهواء ومصالح رجال الدين المتحالفين مع السلطة رسخت فكرة القداسة والأبوية والطاعة المطلقة لبعض البشر كآباء أو كهنة أو حكام بأمر الله  فترسخت مبادئ المجتمع الأبوى الذى يلغى الأفكار والعقول والإبداع والتطور لحساب الطاعة والإنقياد والتسليم لبشر يملك ويحكم ويفكر ويخطط بوكالة وتفويض من الله على حد زعمه أو زعم من يقدسونه . وقد تأخذ فكرة المجتمع الأبوى معنى الإحترام والتبجيل للكبار عموما ولللآباء على وجه الخصوص ( وهم بالفعل جديرين بالإحترام جزاء ماقدموه لأبنائهم ) , ولكننا هنا نتكلم على مستوى يقوم على تقديس الكبير والقديم وتحقير الصغير والحديث , وهذا يجعل الحياة تتجمد أو تتقهقر , ويجعل الناس يهاجرون دوما إلى الماضى وينسون الحاضر والمستقبل , ويجعل العبودية لغير الله , ويرسخ لفكرة الإستبداد والطغيان سواءا من الحكام أو من رجال الدين , ويصم الحرية والإستقلال والمساواة , وكلها أمراض استشرت فى المجتمع المصرى على مدار التاريخ وأفرزت الكثير من سلبياته وأفقدته مميزات أتاحها الله له من رزق وفير وطبيعة حية معطاءة وجميلة وهادئة ,  ونهر من أجمل وأروع أنهار الدنيا وسماءا صافية وعقولا ذكية .

 *****
وساعد على ترسيخ المجتمع الأبوى وجود النهر الذى شكّل ما يسميه علماء الإجتماع بالمجتمع النهرى ( أو المائى أو الهيدروليكى ) , ذلك المجتمع الذى يحتاج إلى سلطة مركزية تدير النهر وتتحكم فى مياهه إذا فاضت أو غاضت , وهذا الأمر لا يستطيع الأفراد وحدهم القيام به نظرا لضخامته , وهذا أعطى للسلطة المركزية قوة وسلطانا يختلف بكثير عما يحدث فى المجتمعات الرعوية التى تعيش على ماء المطر وما ينبت من عشب , فهذا لا يستدعى قوة مركزية منظمة , فكل قبيلة تعيش فى منطقة وتنتظر المطر من السماء ولا توجد ضرورة لأنظمة مركزية كبيرة باستثناء سلطة شيخ القبيلة الذى ينظم علاقات أفرادها .

وفكرة المجتمع الأبوى على المستوى السياسى والإجتماعى  ترسخ لحكم الفرد لأنها تعطى الحاكم كل حقوق ومميزات الأب فى حين تضع الشعب كله فى موضع الأبناء القصّر الذين يحتاجون لرعاية الحاكم ووصايته وتوجيهه , وهم بدونه لايعلمون شيئا ولا يهتدون , ولولا وجوده وحكمته وتدبيره لضاعوا وأضاعوا كل شئ , وهذا يدعم فكرة أبدية الحاكم – كما هى أبدية الأب – فالحاكم كلما استمر فى الحكم زادت قيمته وقدسيته وأصبحت حياة الرعية أمرا مفزعا بدونه , فهم تعودوا على السير ورائه واتباع خطواته والعمل برؤيته والإهتداء بحكمته. وإذا حدث ومات الحاكم فإن الرعية يشعرون باليتم الشديد , ويخرجون خلفه بالملايين يبكون
( كما حدث فى جنازة عبدالناصر مما أذهل العالم الغربى الذى لم يألف هذه العلاقة الأبوية بين الشعب وحاكمه ) , ثم إذا أفاقوا بحثوا عن حاكم ( أب ) آخر يتعلقون به إلى آخر العمر . وفى علم النفس تسمى هذه العلاقة " علاقة والد بطفل " , وهى علاقة مشحونة بالوصاية والتحكم والنقد أو الرعاية من جانب الوالد من ناحية , ومشحونة بالسلبية والإعتمادية ومشاعر متناقضة بين التعلق والرفض من جانب الطفل من ناحية أخرى . وهذا الوضع يختلف كثيرا عن العلاقة المقابلة فى الدول الديموقراطية حيث تكون علاقة " ناضج بناضج " , فكلا من الحاكم والمحكوم فى حالة نضج وتعاون متبادل وتفاهم واضح وشفّاف خال من الوصاية أو التحكم أو الإستخفاف .   

العلاقة بالسلطة :
كان نجيب محفوظ شغوفا بسيرة الفتوات فى رواياته ,  وربما كان ذلك محاولة ذكية منه لإظهار علاقة المصريين بالسلطة ( دون مشكلات ) والتى تشبه تماما علاقة أهل الحاره بالفتوة , فهم يكرهونه ويرفضونه ,  ومع ذلك يداهنونه وينافقونه ويرتعدون خوفا فى وجوده , ويشكرونه على أنه سمح لهم بالعيش فى الحارة تحت حمايته , فإذا خلوا إلى أنفسهم سخروا منه وصبوا عليه الدعوات واللعنات . ولكن ربما فى مرحلة من المراحل يدخلون فى حالة التوحد مع المعتدى , فيرونه محقا فيما يفعل , وربما يضفون عليه هالات قداسة فينسبونه إلى الأشراف أو يدّعون اتصاله بنسل النبى صلى الله عليه وسلم , وهذا يريحهم ويرفع عنهم مسئولية مواجهته .

ولم يكن الفتوة يسقط بإرادة جماعية من أهل الحارة , وإنما يسقط بظهور فتوة آخر ينازعه السلطة ويبارزه بالنبوت فيهزمه , ويبايع أهل الحارة الفتوة الجديد ويصبون اللعنات على القديم , ويعود إليهم وعيهم بظلمه ومساوئه , ثم يبدأون رحلة استذلال وتملق جديدة مع الفتوة الجديد ويضفون عليه من صفات القوة والعظمة ما يجعل ذاته تتضخم إلى أن يقول بلسان الحال أو المقال : " أنا ربكم الأعلى " ..... " ما أريكم إلا ما أرى " .... " لا أعلم لكم من إله غيرى" . ويبدو أن هذا سلوكا نمطيا فى حياة المصريين لأنه يتكرر فى كل مراحل تاريخهم تقريبا , وهذه العلاقة المتكررة بين الفتوة ( السيد – المقدس ) وأهل الحارة ( العبيد – الرعايا) تعمل على تشويه الطرفين ,  فهى من ناحية تنفخ فى ذات الفتوة فيتضخم ويتجاوز كل الحدود فى الإستبداد والسيطرة فيصل إلى حالة التأله و ومن ناحية أخرى تؤدى هذه العلاقة إلى سحق ذات أهل الحارة وشحنهم بالمزيد من أخلاق العبيد , ويبدو أن هذا هو لب مشكلة الشخصية المصرية , فالمصرى  يدرك أنه كشخص يمتلك طاقات عقلية وابتكارية عالية , ولكنه مع هذا يفتقد الإحساس بالمواطنة والسيادة والكرامة ,  فيبدأ فى تسخير ملكاته لخدمة السيد المقدس فيتحول إلى " فهلوى "  يلبى طلبات السيد ويحاول إرضاءه وإسعاده , وفى نفس الوقت يداهنه ويجاريه وربما يخدعه لكى يتجنب غضبه وقسوته , وهذه النقطة هى بداية مولد الشخصية البهلوانية أو شخصية الفهلوى , واستمرار هذه العلاقة يغذى صفات الفهلوة لدى الشخصية المصرية , تلك الصفات التى يستفيد منها الفتوة ( السيد )  ويحتقر صاحبها فى ذات الوقت , ويمجدها أحيانا بقوله : " إن المصريين هم أفضل الشعوب , وأنهم أصحاب حضارة سبعة آلاف سنة " , وهذا يفعله المستبد لكى يخدع المصرى بالتغنى بالماضى وبالحضارة وبالريادة حتى ينشغل بما كان عما يجب أن يكون  . وهكذا يستمر الأمر ويسوء فيصدق المصرى الفهلوى هذه الدعاية فيزداد فهلوة ويتفنن أكثر فى الألعاب البهلوانية , ويهتم بالشكل دون الجوهر , المهم أن يرضى سيده ( على الأقل فى الظاهر ) , فهو يشعر أنه مجبر على إرضائه وإمتاعه ومؤانسته إن أمكن , وهو كأى مستعبد لا ينتظر سوى نظرة رضا أو كلمة استحسان من السيد . وربما نفهم بناء الأهرامات فى ذلك السياق فعلى الرغم من عظمتها الهندسية التى تعبر عن عبقرية الشخصية المصرية وإبداعها إلا أنها من ناحية أخرى تكشف عن تلك العلاقة الإستبدادية المستغلة بين الفرعون وشعبه والتى تأخذ أبعادا هى مزيج من الرهبة والقداسة والخضوع والإستذلال لشعب يقضى عشرين سنة ليبنى قبرا للفرعون المقدس , ويتكرر ذلك مع كل فرعون بصورة أو بأخرى .

يقول جمال حمدان فى كتابه " شخصية مصر " : " سلبية المواطن الفرد إزاء الحكم جعلت الحكومة هى كل شئ فى مصر والمواطن نفسه لا شئ , فكانت مصر دائما هى حاكمها . وهذا أس وأصل الطغيان الفرعونى والإستبداد الشرقى المزمن حتى اليوم أكثر مما هو نتيجة له . فهو بفرط الإعتدال مواطن سلس ذلول , بل رعية ومطية لينة , لا يحسن إلا الرضوخ للحكم والحاكم , ولا يجيد سوى نفاق السلطة والعبودية للقوة , وما أسهل حينئذ أن يتحول من مواطن ذلول إلى عبد ذليل " .

 وهناك من يقول بأن النيل ( أو المجتمع النهرى ) هو أحد العوامل الكامنة خلف الطغيان  فى المجتمع المصرى وليس كلها , وقد قال فى هذا المعنى بارتملى سانت هيلر :
" منذ الفراعنة كتبت على سكان مصر العبودية السياسية , وإنى أبعد ما أكون عن القول بأن النيل هو السبب الوحيد لهذا الوضع المحزن , وإنى لمدرك أن ثمة كثيرا من الناس أكثر عبودية وبؤسا دون أن يكون لديهم نيل . كل ما أود أن أقوله هو أن النظام الطبيعى لهذا النهر العظيم كان فى مصر أحد أسباب الطغيان , لقد وجد الطغيان فيه نوعا من الضرورة , وكذلك حجة وذريعة خاصة " ( Saint Hilaire , 1857 )

وهذا الموقف ترك لدى الشخصية المصرية مجموعة من أخلاق العبيد مثل المداهنة والمسايرة والخضوع والتسليم للسيد أيا كان هذا السيد ( رئيسا فى العمل أو زوجا أو حاكما ) . ويبدوا أن المصريين من كثرة ما تعرضوا للإستعمار والإستبداد تعودوا أن يتعاملوا على أنهم رعايا لا مواطنين , فهم يكتفون ويرضون بلقمة العيش  والوظيفة – أيا كانت – ولا يطمحون لحقوق المواطنة والكرامة والسيادة إلا فى المواقف التى يستفز فيها المستعمر الخارجى الكرامة الوطنية إلى درجة جارحة , هنا ينتفض المصريين لدفع هذا الإستعمار ثم ما يلبثوا أن يعودوا لسابق عهدهم الذى وصفناه .

وفى الوقت الحالى تفشت ظاهرة البلطجة ( وهى تطوير عصرى لظاهرة الفتونة ) , والبلطجى يجد طريقه ممهدا لترويع الناس وإذلالهم حين تنعدم أو تضعف الإرادة الجماعية القادرة على مقاومته , فبالتأكيد تفوق قوة الناس مجتمعين قوة أى بلطجى يهددهم ويسرق قوتهم ويذلهم ولكن الإرادة الجماعية قليلا ما تنعقد فى مواجهة البلطجى , فيلجأ كل شخص إلى إيجاد صيغة تعايش فردية مع هذا البلطجى فيتضخم الأخير ويتوحش .

وهذا الوضع قائم بوضوح فى علاقة المصرى بحكامه فى كثير من المراحل التاريخية , سواء كان هؤلاء الحكام من المستبدين الخارجيين ( الإستعمار ) أو المستبدين الداخليين ( الحكام من أبناء الوطن ) .
والخضوع أمام السلطة يقابله زيادة فى العنف البينى أو التحتى ( إزاحة العدوان , فهذا المصرى الذى يخضع لسيده ,  بل وينسحق أحيانا تحت قدميه , نراه يمارس عنفا مباشرا أو غير مباشر مع من حوله من زملائه أو جيرانه أو من يقصدونه لقضاء مصالحهم ( إن كان موظفا ) , وفى البيت نجده يمارس العنف ضد زوجته وضد أولاده , وكأنه يعمل على إزاحة عدوانه من السيد الذى يقهره ولا يقدر عليه ( أو لا يريد أن يكلف نفسه عناء مقاومته ) إلى أناس آخرين يجد فى نفسه القدرة عليهم , وهذا يحيل الحياة المصرية المعاصرة إلى حالة من العدوان الظاهر ( السباب والمشاجرات فى الشارع والسوق , والإعتداء اللفظى والجسدى على الزوجات والأبناء ) , والعدوان السلبى ( اللامبالاة والكسل والتراخى وتعطيل المصالح والمكايدة والتجاهل ) .  

وهناك أمثلة شائعة تبين مدى العدوان السلبى الذى يمارسه المصرى تجاه من يقهره نذكر منها : " مد له الحبل لحد ما يخنق نفسه " ..... " اصبر على جارك السو يايرحل ياتجيله داهية تاخده " .... " انصح صاحبك من الصبح للضهر وبقيت النهار ضلله " .... " ياكشى تولع " ... " إن خرب بيت ابوك خدلك منه طوبة "

  
المجتمع المصرى بين الإستقرار والجمود :
أحد سمات هذا المجتمع هى الإستقرار النسبى عبر تاريخه الطويل مقارنة بمجتمعات عربية أخرى محيطة به , ولهذا الإستقرار أسباب سياسية وأسباب اقتصادية وأسباب اجتماعية وأسباب دينية وأسباب نفسية . فمن الأسباب السياسية مثلا حالة الإستبداد التى عاش فيها المصرى وأصبحت جزءا من حياته اليومية اعتاد عليه وأصبح لا يستنكره فضلا عن أن يقاومه , فقد ترسخ لديه فى الحقبة الفرعونية أن الحاكم مقدسا وأنه صنو الإله وأن الخروج عليه يستوجب غضب السماء , وفى الحقبة المسيحية تعلم أن يدع مالقيصر لقيصر وما لله لله , وتعلم إذا ضربه أحد على خده الأيمن أن يدير له خده الأيسر , وفى الحقبة الإسلامية فسر له الفقهاء آية " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " على أنها تستوجب الطاعة المطلقة للحاكم بأمر الله  وأن الخروج على الحاكم كفر مهما كانت الأسباب , وهنا تداخلت الأسباب السياسية مع الأسباب الدينية لتهئ لحالة الإستقرار الذى تحول إلى استبداد ثم إلى جمود . فإذا انتقلنا إلى الأسباب الإجتماعية وجدنا أن الترابط الأسرى والإجتماعى الوثيق لدى المصرى والذى يدعمه تلك التركيبة العاطفية الجياشة لدى المصرى إضافة إلى الحالة الدينية التى تدعوه دائما إلى التراحم والتكافل , كل ذلك يجعل المجتمع المصرى أقرب إلى الإستقرار ويجعله عصيا على التفكك أو التناحر تحت مطارق الأزمات أو الإنشقاقات فهو غالبا ما يعود إلى ترابطه وتكافله , ولك أن تتأمل قرية تقوم بين عائلاتها مشاجرات حامية ثم تجدهم بعد أيام وقد تم بينهم الصلح أو جمعتهم مصيبة عامة أصابتهم أو أصابت قريتهم فتجد روحا من المودة والتكافل قد حلت محل الخصام والشقاق , وهذا مالا يحدث بسهولة فى مجتمعات أخرى .
وإذا جئنا إلى الأسباب النفسية نجد أن المصرى لديه قدرة هائلة على التكيف مع الظروف المختلفة ومع الأحوال المتباينة ولديه قدرة هائلة على التحمل وعلى الصبر تجعله لا يميل إلى المواجهة أو التغيير , بل ينتظر الزمن أو القدر ليغير ماهو فيه , وإلى أن يحدث ذلك يقوم هو بتكييف نفسه وضبط احتياجاته طبقا لما تسمح به الأوضاع القائمة .

والبعض يفسر الإستقرار فى المجتمع المصرى ( والذى يصل إلى الجمود أحيانا ) بأنه عائد إلى الطبيعة المعتدلة لدى المصريين فهم لا يميلون للعنف أو للتغيير السريع , ويفسر الدكتور جمال حمدان ذلك فى كتابه " شخصية مصر " بقوله : " لا غرابة إذن فى أن تكون السلطة والحكم والنظام فى مصر دائما هى أكبر دعاة الإعتدال المصرى المزعوم وأشد المهللين المحبذين المزينين له ومحترفى التغنى المخادع الماكر به . ذلك لأن الإعتدال المرضى ليس فقط ضمان البقاء المطلق لهم , ولكن أيضا ضمان التسلط والسيطرة المطلقة . فمجتمع هذا النوع من الإعتدال العاجز هو مجتمع بلا صراع , هو مجتمع من العبيد أو قطيع من الأقنان . وإذا كان النظام الحاكم يباهى دائما بما يسميه الإستقرار فى المجتمع المصرى , لا سيما فى مقابل عدم الإستقرار الذى يميز معظم الدول العربية الشقيقة , فإن الحقيقة والواقع أن ذلك إنما هو استقرار الجسد الميت والجثة الهامدة , وإذا كان صحيحا أن بعض الدول العربية وغير العربية فى المنطقة تعانى فعلا من عدم الإستقرار , فإن ما تعانى منه مصر حقيقة إنما هو فرط الإستقرار "                

المزاج بين الحزن والمرح :
هناك حيرة فى توصيف الشعب المصرى , فالبعض يراه شعبا حزينا امتلأ تراثه القديم بالبكائيات والجنائزيات وتراثه الشعبى  وحياته اليومية يشهدان على ذلك ويؤكدانه , والبعض الآخر يراه شعبا مرحا حاضر النكته صخّاب فى الأفراح والمناسبات .

كثير من الدراسات تشير إلى أن المزاج الأساسى للشعب المصرى يميل إلى الحزن , وقد استشهدوا على ذلك بأن الحضارة المصرية القديمة تركت قبورا ولم تترك قصورا , كما طغت عليها فكرة الموت والثقافة الجنائزية التى تطيل أمد الحزن فتحيى ذكرى الميت أيام الخميس ثم الأربعين ثم السنوية , وهناك كتاب فرعونى هام هو كتاب الموتى , ..... إلخ . ولكن هذه الملاحظات ربما تصطدم أو تتناقض مع ما عرف عن الشعب المصرى من ولعه بالنكته وظهور الكثير من مظاهر المرح فى حياته ,بل وأحيانا مبالغاته فى المرح إلى حد الصخب . والحقيقة أنه لا يوجد تعارض من الناحية النفسية فمن المعروف علميا أن الحزن حين يكون كامنا بعمق فى الشخصية يمكن أن يدفع فى ظروف معينة إلى تكوين فعل عكسى فى صورة مرح , وهنا يكون المرح ثانويا أو رد فعل للحزن الكامن ويكون صاخبا حتى لا يعطى فرصة للحزن الكامن أن يظهر , وهذا ما نلحظه فى أفراح المصريين ومناسباتهم السعيدة حيث نجد مبالغة فى الصخب والفرح . وربما يكون انتشار تعاطى الحشيش وبعده البانجو فى المجتمع المصرى عائدا إلى طبيعة الحزن الكامن لديه فهو يختار المخدر الذى يخفف من حدة الإكتئاب ويعطيه إحساسا وقتيا بالمرح والفرفشة , فمن المعروف أن اختيار أى شعب للمخدر الذى يتعاطاه يرتبط بطبيعة هذا الشعب ولا يأتى الإختيار عشوائيا أو عفويا .

ويبدو أن الشعب المصرى يتسم عموما بالطبيعة العاطفية التى تميل إلى المبالغة فى الإنفعالات والتعبير عنها , فمثلا تجد عددا كبيرا يشارك فى الجنازات وخاصة جنازات الكبار والزعماء , ولقد لفت نظر علماء النفس والإجتماع جنازة عبدالناصر التى مشى فيها حوالى 5 مليون مصرى , وهذا لا يحدث فى الغرب مطلقا حيث لا يتبع الميت إلا عدد محدود من أقاربه , وعلى الجانب الآخر نرى المبالغة فى الأفراح إلى حد الترف والصخب .

والمصريون يعبرون عن حزنهم بوضوح فتجد الصراخ والعويل والنحيب فى لحظات الفقد المؤلمة , أما فى غير ذلك فتجد مزاجا حزينا ومسحة من الكآبة تميز الحياة المصرية المعاصرة بشكل عام فلا تخطئها فى العيون التى تلقاها , فالحزن لديهم أعمق من الفرح , وهم حين يفرحون يخشون لحظة هجوم الحزن الأكبر فيقولون : " اللهم اجعله خير " فتوقعاتهم بالحزن قائمة ودائمة ومخيفة ,  وهم يعتبرون الفرح لحظة عابرة سرعان ما تزول , وربما يفسر هذا صخبهم فى الأفراح والمناسبات فكأنهم يريدون أن يدفعوا تلال الحزن الجاثمة على صدورهم من خلال المبالغة فى الفرح .

 *****
والمصرى لديه شعور بالإنكسار والإذلال والشعور العميق بالظلم على المستوى الفردى وعلى المستوى الجماعى , فعلى المستوى الفردى يشعر أنه يتمتع بمميزات عقلية ومهارات حياتية ومع هذا يعيش فى ضنك من العيش ويحتاج لأن يحنى رأسه هنا أو هناك لكى تستمر حياته , وعلى المستوى الجماعى هناك تباين بين حجم مصر الحضارى والثقافى وحجمها السياسى والعسكرى والإقتصادى , فهى كما يقولون دولة عظمى ثقافيا وحضاريا ولكنها ليست كذلك
( على الأقل حاليا ) على المستوى السياسى والإقتصادى والعسكرى , لذلك فالمصرى يشعر أنه وبلده أشبه بعزيز قوم ذل , ويتأكد لديه هذا الشعور كلما سافر إلى هنا أو هناك فوجد أنه لا يأخذ ما يستحقه من احترام أو تكريم أو تقدير لمواهبه , وأن جنسيته المصريه لا يعمل لها الناس ( عربا وأجانب ) أى حساب , وأنه يمكن أن تسلب حقوقه وتهان كرامته دون أن يهب أحد للدفاع عنه , لذلك فهو يرضى بما يحدث له ويلجأ إلى الصبر والشكوى إلى الله من ظلم يستشعره على المستوى الفردى والجماعى وجرح للكرامة الشخصية والوطنية من جراء التوحش الأمريكى والتبجح الإسرائيلى والإهمال العربى .

وهذا الشعور العميق بالظلم يفجر مشاعر الكآبة والدونية لدى المصرى , ويتبدى هذا فى بعض الأمثال الشعبية مثل : " ربنا ما سّوانا إلا بالموت " .... " إذا شفت الفقير بيجرى إعرف إنه بيقضى حاجه للغنى " .... " ابن مين اللى محمول ؟ ابن اللى عندها مأكول , وابن مين اللى ماشى ؟ ابن اللى ماعندهاشى " ... " إذا غنى أكل حية قالوا من حكمته , وإذا أكلها فقير قالوا من حموريته " .... " خذوا من فقرهم وحطوا على غناهم " .... " أبو ميه بيحسد أبو لبنية " ..... " عريان بيجرى ورا مقشط " .... ويبلغ الإحساس باليأس والعدم فى قول : " إيش تاخد الريح من البلاط " .... " ضربوا الأعور على عينه قال خسرانه خسرانه " , .... هذه عينة من الأمثال اليائسة العدمية التى تعطى إحساسا مرا باللاجدوى يعقبه إحساس باليأس والحزن .

والمصرى فى كثير من مراحل تاريخه كان بين مطرقة الإستبداد وسندان الفقر , فبجانب معاناته من الفقر يضاف خوفه من الحاكم المستبد ومحاولة تملقه , وهذا يظهر فى الأمثال التالية :
" إن كان لك عند الكلب حاجه قل له ياسيد " ..... " القوى عايب " ...... " اسجد للقرد فى زمانه " ..... " أربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه " ..... " إذا لقيت الناس بتعبد العجل حش وارميله " ..... " اللى يتجوز امى أقول له يا عمى " ....

والمصرى الحديث ربما هو الشخص الوحيد القادر على العيش فى المقابر من بين خلق الله جميعا , فهو ربما لم يجد مسكنا يؤيه وهذا هو السبب الظاهر , أو أنه يشعر بألفة مع الموت والأموات , ويشعر بألفة مع الحزن ولا يجد فرقا بين حياته التعسة وموته .

ويقول الدكتور نبيل راغب فى كتابه  " الشخصية المصرية بين الحزن والمرح ( دار الثقافة 1992 ) : " إن نصوص الأهرام , ونصوص الأكفان , وكتاب الموتى تؤلف معا المادة التى تمثل الأدب الدينى المصرى القديم " .... " وهذا الإهتمام الشديد بالموت أدى عبر الأجيال والعصور والقرون إلى تحكم الموتى فى الأحياء . وهذه ظاهرة خطيرة لأنها تشل عناصر القوة والتطور والإنطلاق على هذه الأرض , وتخلق حساسيات يمكن أن توقف علاج مشكلات الناس وحفظ حقوقهم , ذلك لانصراف بعض أعضاء المجتمع المصرى المعاصر عن التركيز على القضايا الدنيوية ذات الطبيعة العاجلة والملحة إلى قضايا تدخل فى نطاق العدم الذى يشل الحركة تماما " ... " ولعل الظاهرة الفريدة التى  يندر وجودها فى مجتمع آخر غير المجتمع المصرى , تتمثل فى نشر أخبار الوفيات والتعازى التى تتضمن تعبيرات الحزن والأسى والإبتهال على عدة صفحات من الجرائد اليومية دون استثناء . وهذه الصفحات هى الشغل الشاغل للكثيرين من القراء الذين يبدأون بها قراءة جريدة الصباح " ..... " كل هذا وغيره يدل على أن مظاهر الحزن وتقاليده وعاداته جزء لا يتجزأ من التراث الثقافى المصرى , وبرغم ما طرأ عليه من تغيرات بمرور الزمن فإن جوهره لايزال واحدا . وهذه الخاصية المتأصلة لم يخفف من رسوخها حب المصريين للمرح والدعابة وإتقان فنونهما , فهم يبكون إذا حزنوا , كما يبكون إذا فرحوا , وإذا بدا لهم أن الفرح زاد عن الحد , فإنهم سرعان ما يتراجعون عنه ولسانهم يلهج : " اللهم اجعله خير " . كذلك فهم يضحكون بصوت عال أكثر مما يبتسمون , ويبكون أيضا بصوت عال , ويحزنون كثيرا , ولكن قليلا ما يغضبون , وإذا غضبوا فإنهم سرعان مايصفون , ومع كل هذا فإنهم شعب محب للحياة , بل وعاشق لها , برغم كل الضغوط والظروف المحيطة التى يعانون منها , والدليل على ذلك حرصهم على الإحتفاظ على توازنهم النفسى من خلال إتقانهم لفنون الدعابة والمرح والنكتة "

 *****
والمصرى يستخدم النكتة والدعابة للتخفيف من معاناته فمن خلالها يستطيع أن يسخر من المستبدين به ويهينهم ويقلل من هيبتهم , وهى وسيلة لتصريف العدوان والغضب حتى لا يتراكم لديه ويدفعه إلى الثورة , وربما يفسر ذلك تأخر الثورة عند المصريين وقلة الغضب مقارنة بمشاعر أخرى مثل الحزن والفرح على الرغم من وجود أسباب كثيرة للغضب . والنكتة والمرح عموما دفاع ضد الحزن العميق الكامن فى الشخصية المصرية, ولهذا تجد المصريين يضحكون كثيرا رغم أنهم ليسوا سعداء , وترى العكس فى شعوب أخرى لا يضحكون على الرغم من أنهم سعداء .  

ويقر جوستاف لوبون بأن الظرف والمرح والتلطف من أبرز خصال المصريين القدماء . وكثيرا ما دعا أدباؤهم وحكماؤهم إلى الأخذ بأسباب البهجة والمرح فى الحياة أينما كانت وحيث وجدت . بل لم ينسوا أن يحضوا على الإبتهاج وإشاعة السرور حتى وهم فى زيارة المقابر وبين الموتى . تقول إحدى الأغنيات فى ولائمهم التى كانوا يقيمونها فى المقابر :
" متع نفسك مادمت حيا , ضع العطر على رأسك , والبس الكتان الجميل , ودلك يدك بالروائح الذكية المقدسة , وأكثر من المسرات و ولا تدع الأحزان تصل إلى قلبك , كن مرحا حتى تنسى أن القوم سيحتفلون يوما بموتك " ( نبيل راغب 1993 , الشخصية المصرية بين الحزن والمرح )

النرجسية :
حين تتابع نشرات الأخبار فى التليفزيون المصرى أو تقرأ الصحف المصرية ستجد مثل هذه الأشياء :
-    الرئيس الأمريكى يشيد بحكمة القيادة المصرية ويتبنى وجهة نظرها فى حل مشكلات الشرق الأوسط
-   الأمم المتحدة تعترف بأن الدور المصرى هو الأهم فى رسم ملامح السياسة فى الشرق الأوسط 
-    المجتمع الدولى يشيد بتجربة الإصلاح السياسى فى مصر ويعتبرها نموذجا يحتذى
-   البنك الدولى يشيد بالتجربة الإقتصادية المصرية ويعتبرها الأنجح فى التحول إلى نظام السوق
-   العالم كله يتابع باهتمام شديد خطوات مصر نحو الديموقراطية وحقوق الإنسان
-  تليفزيونات وإذاعات العالم تتابع خطاب السيد الرئيس وتعتبره ورقة عمل سياسى فى السنوات القادمة
-    البنك الدولى يشيد بتجربة التنمية الإقتصادية فى مصر
-    الإقتصاد المصرى لن يتعرض لمثل ماتعرضت له دول جنوب شرق آسيا
-    مصر غير معرضة لمرض انفلونزا الطيور , وقد اتخذت الإجراءات الكفيلة بتأمين أجوائنا وموانينا ومطاراتنا ضد أى احتمال لعبور المرض

وهكذا تجد ذلك الخطاب النرجسى الذى يعطيك انطباعا بأن مصر هى محور العالم كله , وأن المصريين هم الأذكى والأقوى والأكثر حكمة وبراعة , والمحصنين ضد كل الأمراض المعدية , وأن العالم كله يقف على قدم وساق ليتابع أقوالنا وأفعالنا وتصريحاتنا , وأن كل الجهات العلمية والمؤسسات البحثية تتبع خطانا الهائلة نحو التقدم والرقى وتستفيد بتجاربنا الرائدة فى العلوم والتكنولوجيا والديموقراطية وحقوق الإنسان . هكذانرى أنفسنا , ونغنى كثيرا لأنفسنا ولمصر , ولا نرى فى الدنيا شيئا آخر يستحق الإهتمام فضلا عن الإعجاب فلدينا كل شئ , ونحن كل شئ .
هذا التضخم الذاتى يجعلنا بعيدين عن الواقع وغير قادرين على رؤية أخطائنا ومواطن ضعفنا وقصورنا , وغير قادرين على التعلم من خبرات غيرنا . وللأسف الشديد تتكرر الصدمات ولكننا – على المستوى الرسمى والإعلامى – مصرون على هذه النغمة النرجسية . وهناك متغير شديد الخطورة , وهو أن كثير من الشباب قد دخلوا فى حالة رد فعل عكسى تجاه هذه التصريحات والبيانات النرجسية , وراحوا ينظرون إلى بلدهم بشكل دونىّ يضعف انتماءهم  ويجعلهم يحلمون بالهجرة إلى أى مكان وفى أقرب فرصة سانحة , وهذا رد فعل على حالة الفخر الكاذبة فى الخطابين الرسمى والإعلامى كما ذكرنا .

الثقافة السمعية :
على الرغم من تعدد الكتاب والمفكرين والمثقفين فى مصر إلا أن عادة القراءة ضعيفة جدا لدى عموم المصريين , فمن النادر أن تجد الناس وهم جالسون فى وسائل المواصلات يقرأون كتبا , وإذا وجدتهم يقرأون فهم يقرأون الجرائد , وأغلبهم يفتح الصفحات الرياضية فيها , ونادرا ما تجد شخصا يجلس على البحر تحت شمسية ويتصفح كتابا , أو تجد شخصا واجهته مشكلة حياتية أو عملية بدأ يبحث عنها بين صفحات الكتب . ولذلك تجد الثقافة المصرية فى أغلبها سماعية انطباعية انفعالية سطحية , فالناس تفضل أن تسأل فى كل شئ وفى أى شئ , وربما هذا يفسر ذلك الكم من الأسئلة الغريبة والتافهة أحيانا التى توجه لعلماء الدين أو للمتخصصين فى الطب أو غيره على شاشات الفضائيات , تلك الأسئلة التى تبين عدم بذل جهد من جانب السائل فى المعرفة عن طريق القراءة والبحث الشخصى , لذلك يسأل ( أو تسأل ) كطفل اعتمادى سلبى يريد الإجابة جاهزة لا تكلفه عناء التفكير . وفى كثير من الندوات التى تستمر لساعات وتناقش فيها موضوعات حيوية وهامة بشكل فعّال كنا نواجه بسؤال طفلى ساذج من الحاضرين : " وما هو الحل إذن ... إنكم لم تعطوننا حلولا " , يحدث هذا على الرغم من أن كثيرا من الحلول تكون قد طرحت فى ثنايا المحاضرات أو المناقشات , ولكن المتلقى السلبى لا يكلف نفسه تجميع هذه الحلول أو التساؤل بشأنها أو بحثها والقراءة عنها فى مصادر أخرى , هو فقط يريد حلولا جاهزة يجمعها له المحاضر فى نقطة أو نقطتين بشرط أن تكون حلولا سهلة لا تحتاج منه إلى تفكير أو بذل جهد , باختصار هو يريد حلولا سحرية .

وقد كنا نعمل فى أحد المستشفيات ضمن فريق متعدد الجنسيات , كان من الملحوظ أن الأطباء المصريين يقضون وقتا طويلا مع المرضى ويبذلون جهدا واضحا ولكنهم لم يكونوا يسجلون ما يقومون به فى ملفات هؤلاء المرضى , وبما أن الإدارة كانت تتبنى المنهج الغربى لذلك كانت ترى ذلك عيبا كبيرا لأن العمل الذى لا يوثق كتابة كأنه لم يكن , وقد أخذ ذلك وقتا حتى تعود الأطباء المصريون على تسجيل ما يقومون به من أعمال حتى يمكن تقييمه بواسطة الإدارة .

وللأسف الشديد هذا يحدث لدى المصريين المعاصرين على الرغم من أن أجدادهم المصريين القدماء كانوا مهتمين بتسجيل كافة تفاصيل حياتهم على جدران المعابد وعلى ورق البردى بشكل مذهل . ويبدو أن ذلك يرجع لتقدير الإنسان لذاته فكلما ارتفع تقديرنا لذاتنا ولما نقوم به من أعمال كلما زادت دوافعنا لأن نكتب ونسجل ما نقوم به , والعكس صحيح , فيبدو أن المصرى المعاصر يشعر بضعف القيمة لذاته أو لأعماله ( لاحظ قلة أغنيات الفخر والتباهى بالمصريين فى السنوات الأخيرة ) لذلك لا يرى مبررا لكتابتها أو تسجيلها .  

ضعف الإدارة الجماعية على الرغم من كثرة الكفاءات الفردية :
فهناك غياب ملحوظ فى القدرة على العمل كفريق على الرغم من وجود كفاءات فردية متميزة فى كل المجالات ,  ولهذا نجد بطولات وإنجازات متعددة على المستوى الفردى ( 4 جوائز نوبل وعدد كبير من الشخصيات الفذة فى كل المجالات العلمية والفنية والأدبية والسياسية والدينية ) يقابلها فشل ملحوظ فى الإدارة الجماعية  . وهناك بعض التفسيرات لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " إذا فتحتم مصر فاتخذوا منها جندا فهم خير أجناد الأرض ..... " ( أو كما قال صلى الله عليه وسلم) , فقد حدد صلى الله عليه وسلم كلمة جندا ,  فإذا أخذناها كما هى " جندا " وليس
" قادة " فيمكننا أن نفهم مالديهم من قدرات قتالية وليس قدرات قيادية , وربما يؤكد التاريخ هذا التفسير ( القابل بالطبع للإختلاف حوله كأى جهد تفسيرى بشرى للنصوص الدينية ) أن الكثير من الإنتصارات العظيمة تحققت بجند مصريين وقادة غير مصريين ,  فصلاح الدين لم يكن مصريا وقد انتصر على الصليبيين فى موقعة حطين , وقطز لم يكن مصريا وانتصر على التتار فى موقعة عين جالوت بجند مصريين , والأمثلة على ذلك كثيرة , وهى تعنى فى النهاية كنز من الكفاءات والقدرات والعقول الفردية , لا يقابله تميزا فى العمل الجماعى أو العمل كفريق أو الإدارة الجماعية الفعّالة , وهذا يجعل المصرى علامة مميزة حين يعمل فى نظام علمى أو إدارى جيد فى خارج بلده ثم تجده عكس ذلك فى داخل بلده .

ففى مصر دائما أزمة قيادة وأزمة إدارة , ومشكلة دائمة فى أى عمل جماعى يزيد أفراده عن شخص واحد , فما اجتمع شخصان إلا ودبت المشكلات فى العمل . وربما يرجع هذا إلى الغرام بالتفوق الفردى والبطولات الفردية والنجم الأوحد والزعيم الأوحد , ذلك الغرام الذى يجعل هم الناس الإنفراد بالمكان والمكانة , والبحث عن الشهرة والمجد الفرديين بصرف النظر عن الإنجاز العام الذى يحتاج لجهود متآزرة ومتناسقة . وقد أدى هذا الوضع إلى تأخر صعود مصر إلى ما تستحقه من مكانة على المستوى السياسى أو الإقتصادى أو الصناعى أو الرياضى , وإلى سبق كثير من الدول الأقل منها حظا فى الحضارة والملكات الفردية ( ماليزيا وتايوان وكوريا كأمثلة ) .

وحالة الفردية والتفرد تنتشر من أعلى قمة الهرم ( السياسى أو الإجتماعى أو الدينى ) لتصل إلى أدنى مستويات العمل ( الأسطى فى ورشته ) , وتمنع الإستفادة من تراكم العمل الجماعى المتناسق والمتعاون , وتمنع تكوين منظومات عمل قابلة للنمو والتطور من جيل لجيل , وهذا الغياب لتلك المنظومات يجعلنا نبدأ من الصفر فى كل مرحلة ونعيد نفس الأخطاء .

وإذا أخذنا الرياضة كمثال ( اخترنا الرياضة إيثارا للسلامة وابتعادا عن مجالات أكثر حساسية ) لوجدنا أننا كمصريين ربما نحقق إنجازات عالمية فى بعض الألعاب الفردية مثل السباحة
( عبداللطيف أبوهيف ورانيا علوانى ) , أو المصارعة ( كرم جابر ) , ولكننا نفشل فشلا ذريعا فى كرة القدم ( كلعبة جماعية تحتاج لإدارة وعمل جماعى ) رغم وجود أندية عريقة جدا لدينا .

النظام الداخلى رغم الفوضى الظاهرة :
إذا تأملت النظام السياسى أو الإدارى فى كثير من المراحل التاريخية يخيل إليك أن البلد (مصر) على وشك الضياع أو الإنهيار أو الحرب الأهلية , ولكن هذا لا يحدث على الرغم من قسوة الظروف واضطراب الإدارة . ويمكنك أن ترى مثالا مصغرا لذلك فى بعض التقاطعات فى المدن حيث يغيب شرطى المرور نتيجة لإهمال أو تراخ , ويحدث تداخل بين السيارات من الإتجاهات المختلفة وتحدث أزمة مرورية , وفجأة تجد مواطنا أو أكثر( ليس لهم علاقة بالمرور ) تطوعوا بإدارة الأزمة وبدءوا فى تنظيم حركة السيارات , وهذا يحدث فى التعامل مع الحوادث والحرائق والأزمات الكبيرة حيث تجد أن هذا الشعب الفوضوى ظاهرا أو فى أغلب حالاته قد تحول إلى طاقة هائلة ومنظمة تواجه الأزمة أو الحادث وتعوض القصور الحكومى والإدارى فى مواجهة مثل هذه المواقف .
وقد اتضح هذا  فى زلزال 1992 , حيث قام الأهالى ( بعد إفاقتهم من صدمة الزلزال ) بتنظيم صفوفهم ومحاولة إنقاذ المنكوبين بكل الوسائل الممكنة , ولم ينتظروا ذلك من الحكومة فهم قد تعودوا على قصور أدائها , وفعلا نجحوا فى تقليل آثار الأزمة لحد كبير , ومن المذهل أنه بعد الزلزال ولمدة ثمانية وأربعين ساعة لم تسجل فى أقسام الشرطة جريمة واحدة , وفى هذا دلالة مهمة لا نستطيع تقديرها إلا إذا قارنا هذا بما حدث فى زلزال كاليفورنيا أو إعصار كاترينا فى أمريكا حيث انطلقت موجات السلب والنهب والفوضى فى وقت الأزمة , أو قارنا ذلك بسقوط حكم صدام فى العراق وانطلاق موجات السلب والنهب التى لم يوقفها بعد أيسابيع إلا نداءات صدرت من المساجد تدعو الناس للإلتزام بقواعد الدين الحنيف وإعادة مانهبوه إلى المساجد ليتم التصرف فيه وفق القواعد الشرعية .

نجد ذلك أيضا فى جانب الإلتزام الأخلاقى والدينى لدى أفراد هذا الشعب العجيب , فعلى الرغم من الحملات السياسية والإعلامية المضادة للإلتزام الدينى والواصمة له بالإرهاب والتطرف إلا أنك تجد الناس يزدادون التزاما وتمسكا بالدين ( على الرغم مما لديهم من تناقضات ) , ولو طفت الأرض شرقها وغربها فلن تجد التزاما طوعيا عميقا بالدين كما ستجده فى المصريين , وهذه شهادة أقولها وقد طفت بلدانا إسلامية وربما رأيت التزاما ظاهريا غالبا فى بعضها تدعمه السلطة السياسية والدينية , ولكن لا يقابله هذا الإلتزام الداخلى الطوعى العميق الذى تجده فى الشخصية المصرية .

وعلى المستوى الأخلاقى , فعلى الرغم من وجود الخمر تباع فى بعض المحلات ووجود الكباريهات والمراقص ووجود مظاهر للتحلل على هذه المستويات إلا أنك تجد غالبية الشعب المصرى لا يشربون الخمر ولا يرتادون هذه الأماكن , وهم فى داخلهم محافظون على كثير من القيم الأخلاقية التى تحلل منها آخرون , وقد تأكدت لى هذه الملاحظة من خلال ممارسة العلاج النفسى فى أكثر من مجتمع عربى فوجدت التزاما أخلاقيا ودينيا طوعيا لدى الشخصية المصرية يفوق الكثير من المجتمعات الأخرى التى تتميز بالإنضباط الدينى والأخلاقى الظاهرى.
والتفسير النفسى لذلك ربما يرجع إلى وجود منظومة دينية وأخلاقية ومجتمعية عميقة ترسبت فى نفس المصرى عبر القرون الكثيرة وشكلت حالة من النظام الداخلى والإلتزام الشخصى الذى يتجاوز الظروف الخارجية . وربما يقول قائل : إذا كانت هناك تلك المنظومة من الإلتزام والنظام والإنضباط النسبى الداخلى الرائع والذى يظهر فى وقت الخطوب والأزمات , إذن بماذا تفسر اضطراب الحياة المصرية وعشوائيتها ظاهرا ؟ ..... والجواب على ذلك يرجع إلى العلاقة الملتبسة بالسلطة فى أغلب مراحل الحياة المصرية والتى خلفت سلوكيات عدوانية سلبية تجاه السلطة وما تمثله من نظام , تلك السلوكيات التى تختفى وقت الأزمات وتختفى حين يخلو المصرى بنفسه ولا يجد ضرورة للعناد السلبى أو العدوان على السلطة بتخريب الظاهر .    

نمط التفكير :
التفكير هو تلك العمليات العقلية المجردة التى تسبق الفعل .
واستعراض التاريخ المصرى يبين نماذج رائعة من المفكرين الأفذاذ فى كل المراحل التاريخية , هؤلاء المفكرون الذين أثروا الثقافة العربية وجعلوا مصر تستحق وصف " منجم الفكر والإبداع فى العالم العربى " .

فإذا انتقلنا من هذا المستوى النخبوى إلى مستوى رجل الشارع العادى أو حتى الطبقات المتوسطة فإننا نلحظ أن التفكير لدى المصريين  يغلب عليه بعض الصفات التالية منفردة أو مجتمعة :
1 – غلبة المشاعر والإنفعالات على المنطق والموضوعية  
2- الموقف الإستقطابى تجاه الأفكار الجديدة , والذى يظهر إما فى الإستسلام والتسليم الكامل لها أو فى رفضها نهائيا دون المرور على المراحل البينية فى الرؤية , وربما يعود هذا إلى النقطة السابقة من غلبة المشاعر وضعف الموضوعية
3- اللجوء للقوة أو للهجوم الشخصى للتعامل مع الأفكار بديلا عن تفنيدها ودحض الحجة بالحجة
4 – وجود الكثير من أخطاء التفكير مثل : التعميم والتهويل والتهوين والإستنباط التعسفى والتفكير الخرافى . والتفكير الخرافى بشكل خاص يأخذ مساحة كبيرة فى العقلية المصرية , وهذا يرجع إلى حد كبير إلى العلاقة الملتبسة بالغيب , فنظرا لقدم الأديان على أرض مصر وتنوعها بين أديان سماوية وأديان كهنوتية فقد تشبعت الشخصية المصرية بأفكار مختلطة عن الغيب وتأثيراته فى حياتها , لذلك تتداخل الكثير من القوى غير المرئية فى حسابات المصرى , بعض هذه القوى غيبيا دينيا وبعضها أسطوريا خرافيا , فالمصرى يولى عناية كبيرة بعالم الجن والقوى الخفية كالسحر والحسد ويعزو إليها الكثير من أحداث حياته ويفسر بها الكثير من الظواهر . وهذا التفكير الخرافى ( المتجاوز قطعا لمفهوم الغيب فى الدين الصحيح ) لا يقتصر على رجل الشارع وإنما يمتد ليشمل كثير من المستويات التعليمية والثقافية , وهذا يبعد الشخصية المصرية عن المنهجية العلمية فى التفكير وحل المشكلات , وربما يكمن هذا
( بجوار الفساد السياسى والبيروقراطية الإدارية ) وراء تراكم المشكلات وتحولها لأزمات فى جوانب كثيرة من حياة المصريين على الرغم مما حباهم الله به من موارد متعددة وطبيعة معتدلة .
5 – ضعف الجوانب المعرفية : أو كما أطلق عليها يوسف إدريس " فكر الفقر وفقر الفكر " , فعلى الرغم من أن رجل الشارع المصرى يتحدث كثيرا ألا أنك تلحظ على محتواه المعرفى عدة أشياء منها:
- سطحية المعلومات
- أغلب معلوماته عبارة عن انطباعات شخصية يغلب عليها الإنفعال والتحيز الشخصى
- أغلب المعلومات – إن لم تكن كلها – سماعية شفاهية . فقليلا ما يلجأ رجل الشارع المصرى العادى إلى قراءة كتاب ليحل مشكلة تواجهه وإنما هو يفضل أن يسأل أحدا
6 – أحادية التفكير : بحيث يرى الموضوع ( أو يحب أن يراه ) من جانب واحد يرتاح إليه , وهذا مرتبط بغلبة الجوانب الإنفعالية المتحيزة ومرتبط أيضا بضعف الجوانب المعرفية والمعلوماتية والتى تجعل المعلومات المتوفرة غير كافية لرؤية محيطية شاملة أو رؤية متعددة المستويات , لذلك ترى أحكام كثير من المصريين قاطعة ومطلقة , وهى أحد سمات التفكير البدائى والدوجماتى الذى ينطلق من قوالب ثابتة ولا يرى غيرها بسهولة
7- ضعف ملكة الفكر النقدى : ذلك الفكر القادر على رؤية الجوانب المختلفة لأى موضوع بحيادية وتجرد , والقادر على تجنب المنزلقات الفكرية ( تحت الضغوط السلطوية ) أو التحيزات العاطفية ( تحت ضغوط الإحتياجات الذاتية ) , أو ردود الفعل الدفاعية .
8 – ثقافة " الكلام الكبير " : هذا التعبير مأخوذ عن كتاب طارق حجى  " نقد العقل العربى " , والذى يعيب علينا فيه لجوءنا إلى المبالغات السطحية والكاذبة والتى تعزلنا عن حقائق الأمور وعن الرؤية الموضوعية , فنحن نتعامل مع تاريخنا الماضى بحسناته وسيئاته بالكلام الكبير ونهاجر إليه بعيدا عن الفعل الواقعى الآنى والمسئول والمثابر , ونحن نتحدث عن أنفسنا بكلام كبير يعطينا تصورا أسطوريا عن قدراتنا وإنجازاتنا ونجاحاتنا ثم نكتشف عند مواجهة الواقع أننا كنا واهمين . وهناك أمثلة عديدة لهذا الداء فى حياتنا وآثاره المدمرة , نذكر منها إحساسنا بالزهو والإنتفاخ وإطلاقنا للتصريحات العنترية الفارغة قبل حرب 1967 ثم هزيمتنا النكراء بعد ذلك , وأيضا كلامنا عن انتصاراتنا الرياضية وأغانينا عنها رغم تواضع مستوانا وإنجازاتنا فيها , وكلامنا عن مصر واحة الأمن والأمان فى الوقت الذى تعددت فيه أعمال العنف والبلطجة والإرهاب , وكلامنا عن نزاهة الإنتخابات فى الوقت الذى شهد القاصى والدانى بما حفلت به من أعمال تزوير وبلطجة ومنع الناخبين من الإدلاء بأصواتهم بواسطة حوائط عسكرية من قوات الأمن المركزى ( وهذا ما شهد به القضاة الشرفاء فى تقاريرهم وتصريحاتهم ) . هذا الكلام الكبير يعزلنا عن الحقيقة ويخدر أحاسيسنا ويجعلنا نعيش فى وهم نصحو منه على كوارث محققة . وفى هذا يقول نزار قبانى :

مقتلنا يكمن فى لساننا
فكم دفعنا غاليا ضريبة الكلام
.....................................
إذا خسرنا الحرب – لا غرابة
لأننا ندخلها بكل ما يملك الشرقى من مواهب الخطابة
بالعنتريات التى ما قتلت ذبابة
لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة
.....................................
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية 

وجهة الضبط الخارجية : ( الهروب من المسئولية الشخصية ووضع الأشياء على شماعات خارجية )
وهذه أحد السمات البارزة والمشكلة فى الشخصية المصرية حيث ترى فى أغلب الأحوال أن ما حدث هو نتيجة للحظ أو الصدفة أو القدر أو تأثير أو تقصير أشخاص آخرين , وهذا الإسقاط يريح الشخص ويجعله يشعر أنه غير مسئول عن شئ , ولكنه فى ذات الوقت يعطل نضجه ونموه ويجعل مشاكله تتراكم لأنه لا يوجد شئ يفعله طالما هو غير مسئول , ويجعل الأمور تسير على نحو غامض وضبابى فليست هناك علاقة واضحة –فى وعى المصري – بين العمل والنجاح أو بين الإجتهاد والإنجاز , لذلك حين يريد النجاح والإنجاز فهو يكتفى إما بالتوجه إلى الله بالدعاء أو التوجه إلى أشخاص ذوى نفوذ يتملقهم ويطلب رضاهم , وإذا فشل فى تحقيق أهدافه فالسبب فى ذلك يأتى من هنا أو من هناك ولكنه ليس منه وبالتالى فليس لديه شئ يفعله ليغير النتيجة غير الإنتظار حتى تتعدل الظروف أو تتحسن الأحوال . وهذاالموقف هو عكس وجهة الضبط الداخلية التى تكون لدى الشخصيات الناضجة والشعوب الناضجة التى ترى أنها مسئولة مسئولية مباشرة عن نجاحها أو فشلها وترى أن ما يحدث لها هو نتيجة لما تقوم به من أفعال , وأنها تملك السيطرة على حياتها , وأن هناك قوانين واضحة ومحددة للنجاح وللإنجاز , وأن تفكير وجهد الإنسان اليوم هو الذى يصنع الغد

سمات المنحدر : تسير الشخصية المصرية على منحدر فى بعض من سماتها حيث يبدأ المنحدر فى أعلاه بصفة إيجابية ثم يتدرج إلى أن يصل إلى صفة سلبية , وفيما يلى بعض الأمثلة :

1 - من التسامح إلى التساهل إلى التسيب : الشخصية المصرية بطبيعتها الزراعية
تميل إلى التسامح , ففى البيئة الزراعية لاتوجد حاجة للإنضباط الصارم فالأخطاء لاتؤدى لكوارث بل يمكن تلافى آثارها دائما . يضاف إلى ذلك الطبيعة الدينية للمصريين والتى تدعو غالبا إلى التسامح , كما أن الإرتباطات الأسرية والإجتماعية القوية تشجع دائما على التسامح خاصة مع الأهل والأصدقاء والجيران وغيرهم . وفى ظروف معينة نجد هذه الصفة الإيجابية – وهى التسامح – تتحول تدريجيا إلى حالة من التساهل مع الآخرين فى ظروف العمل أو فى الأخطاء التى يرتكبونها , فهناك ميل دائما للعفو والتساهل , وهذا الميل يصل فى النهاية إلى حالة من التسيب تترك آثارا سيئة على الإنضباط والإلتزام المطلوب لنجاح أى عمل .
2 - من الكرم إلى الإسراف إلى البذخ إلى السفه :
ربما تكون وفرة الطعام فى مراحل معينة من تاريخ المصريين قد خلقت لديهم صفة الكرم  فالنهر بما يفيض به من خيرات يعطى حالة من الطمأنينة للناس تشجعهم على الإنفاق دون خوف . ورغم تغير الأحوال بالنسبة لجموع المصريين وحالة الشح التى يعيشها أغلبهم إلا أن صفة الكرم مازالت موجودة , وقد تتحول عند البعض إلى حالة من البذخ والسفه , فنجد أنه رغم الظروف الإقتصادية الصعبة ينفق الناس بسفه فى الأفراح والحفلات , ويكلفون أنفسهم مالايطيقون وربما يستدينون فى سبيل الظهور بمظهر الأثرياء , ويطلق المصريون على هذا أوصاف مثل : " العنطزة " ... و " الفشخرة " ..... و " الأنزحه " , ولديهم أمثلة شعبية دالة على ذلك مثل : " الصيت ولا الغنى " ..... " من بره هلا هلا ومن جوه يعلم الله "
3 - من المطاوعة إلى المسايرة إلى الخضوع :
المصرى لا يميل إلى التصلب أو العناد بل هو أقرب للمرونة والمطاوعة , وربما يؤكد هذه الصفات انتشار كلمة " ماشى " على ألسنة المصريين , وهى تعنى ميلهم الغالب للموافقة , حتى ولو كانت لديهم بعض التحفظات فهم دائما قادرون على التجاوز والتساهل والتنازل . وفى مجلس الشعب الذى يفترض فيه المناقشان والإعتراضات والتحفظات على قرارات الحكومة , إلا أننا نجد أن كلمة موافقة هى السائدة طول الوقت تقريبا على لسان رئيس المجلس ( حتى أصبحت مثارا للعجب والتهكم فى الصحف والمجلات ) وأحيانا يقولها رئيس المجلس دون أن يدقق فى عدد الموافقين والمعترضين , وكأنه يعلم أن عدم الموافقة غير وارد بالمرة .  وصفة المرونة والمطاوعة كثيرا ما تتحول إلى حالة من المسايرة حيث يلغى الشخص خياراته لحساب الآخر خداعا ( خذه على قد عقله ) , أو تكيفا ( اربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه ) أو يأسا وضعفا ( هو احنا ها نغير الكون ) ( ما يقدر على القدره إلا اللى خالقها ) أو سعيا نحو الراحة السلبية ( كبّر ) ... ( نفّض ) .... ( فوّت ) ..... ( طنّش ) .... ( عدّيها ) . وإذا زادت الضغوط
( خاصة إذا كانت تحمل بصمة سلطوية ) فإن خيار الخضوع – لا المواجهة – يصبح أكثر احتمالا , والخضوع هنا يلبس مسوح الحكمة أو تقدير الظروف , أو الحفاظ على لقمة العيش , أو تربية العيال . وأحيانا يلبس الخضوع رداءا دينيا ( يعضده علماء السلطة ) يدعو إلى طاعة أولى الأمر وجعلها ردفا لطاعة الله وطاعة الرسول . وفى مرحلة تالية قد يتبنى الشخص المطيع أو المساير أو الخاضع خيارات المتحكم فيه ويقنع نفسه بوجاهتها وأهليتها للإتباع , وهذا ما يطلق عليه : " التوحد مع المعتدى " , فنجد المصرى يبرر آراء المستبدين به ويتبناها وربما يروج لها , ولا ينجو من هذا المصير غير أصحاب البصيرة القوية ومن لديهم القدرة على الفكر النقدى بعيدا عن الإنزلاقات الدفاعية أو التحيزات الوجدانية .
4 - من حب الإستقرار إلى فرط الإستقرار إلى الجمود :
لقد فرض نهر النيل وما أرساه من طبيعة زراعية مستقرة على شاطئيه حالة من الإستقرار المعيشى جعلت المصريين يميلون للمحافظة عليها والتمسك بها حتى أصبحت هذه الحالة جزءا من سماتهم الأصيلة لقرون طويلة حتى تحولت مع الوقت إلى حالة من فرط الإستقرار , وفى كثير من الأوقات إلى حالة من الجمود , على اعتبار أنه " ليس بالإمكان أبدع مما كان " ......... " اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفوش " ..... " من فات قديمه تاه " ...... " من طلع من داره اتقل مقداره " . وسمة الإستقرار ( التى تحولت إلى فرط الإستقرار ثم إلى الجمود) تحظى بحفاوة وتشجيع ممن حكموا مصر على مر العصور , وهم يجعلونها مصدرا للفخر لدى شعوبهم , لأنها فى النهالية تصب فى مصلحة الحاكم الذى يريد أن تبقى الأوضاع على ماهى عليه .
5 - من الصبر إلى الرضى بأقل القليل إلى قلة الحيلة إلى التسليم :
يعتبر الصبر أحد السمات الواضحة فى الشخصية المصرية , والصبر هو احتمال الشئ الصعب على مضض , وهو لدى المصرى مرتبط بالمفاهيم والتصورات الدينية التى تعلى من قيمة الصبر وتعد الصابرون بالجنة " فاصبر صبرا جميلا " ..... " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " , ومرتبط أيضا بالبيئة الزراعية التى تعودت أن تضع البذرة وتنتظر النتيجة بعد شهور عديدة ويصبح الإنتظار حتميا حين لا يكون بالإمكان تعجل الحصاد , ويصبح الوقت متمددا مرتخيا , ويصبح إيقاع الزمن بطيئا , ولهذا تتعود النفس على التحمل والإنتظار , وبطء الإيقاع دون تذمر أو ثورة . وإذا كان الصبر هو التحمل وضبط النفس على مضض فإن الإنسان المصرى يتحول مع طول الصبر إلى حالة من الرضا قد يسعى إليها سعيا أو يضطر إليها اضطرارا , وهو لا يعدم نصوصا دينية  تعلى من قيمة الرضا لديه  " من رضى فله الرضا  " ...... ولا يعدم من الأمثال الشعبية مايؤيد هذا المعنى " من رضى بقليله عاش " .
وشيئا فشيئا يتحول الصبر إلى صبر سلبى يعانى منه المصريون دون أن يفعلوا شيئا لتغيير واقعهم , ثم يتحولون إلى حالة من الرضى بالفتات يفقدوا معها الدافع للنمو والحركة والتطور , ثم يصلوا إلى حالة من قلة الحيلة وفقد القدرة على التغيير تنتهى بحالة من التسليم أو الإستسلام للأمر الواقع .
وقد يكون الصبر السلبى والرضى بالدنية وقلة الحيلة والإستسلام للأمر الواقع , دفاعا ضد الشعور بالمسئولية تجاه الواقع المتردى ومحاولة تغييره , حيث تعطى هذه المفاهيم فرصة للشخصية أن تسترخى وتستسلم تحت وهم مبادئ برّاقة خاصة إذا أخذت قيمة دينية هامة , وفى هذه الحالة لا يفطن الشخص إلى الفروق بين الصبر الإيجابى المسئول والتحين للحظة المناسبة للتغيير للأفضل وبين الصبر السلبى المستسلم والمتواكل .   
6 - من المرح إلى الصخب إلى الفوضى :
رغم الحزن الكامن فى أعماق الشخصية المصرية والذى تؤكده كثير من عادات وطقوس وأدبيات المصريين خاصة فيما يختص بالموت وفراق الأحباب والأحزان الممتدة ( الخميس والأربعين والسنوية , والطقوس والأدبيات الجنائزية , والتعديد على الموتى وذكرهم لسنوات طويلة , والمواويل المصرية الحزينة على صوت الناى الأشد حزنا ) , إلا أن عين الفاحص لا تخطئ مظاهر الفرح أيضا لدى المصريين , وربما يكون للفرح تاريخا طويلا مع المصريين فهم تعودوا الإحتفال بأعياد الحصاد , وتعودوا الإحتفال بالنيل كل عام , وتعودوا الإحتفال بمولد ملوكهم , وتعودوا الإحتفال بأفراح زواجهم , وغيرها من المناسبات المتعددة , ولهم طرائق متعددة فى كل احتفال تدل على ولعهم بالفرح والمرح بشكل لافت للنظر إذا ما قورنوا بشعوب أخرى لا تملك هذا التعبير الواضح للفرح فى مناسبات كثيرة . وقد يكون  المرح لدى المصريين هو الوجه الآخر والطبيعى المواجه والمعادل للحزن فى هذه الشخصية ( وفى الإنسان عموما ) , وقد يكون رد فعل أو تكوين عكسى   ( Reaction Formation )على الحزن الكامن فى الأعماق . وحين يتحول المرح إلى صخب ( كما هو الحال فى الأفراح والموالد وكل المناسبات ) فإن هذا يؤكد فكرة رد الفعل أو التكوين العكسى , وكأن المصرى يحاول أن يبالغ فى فرحه ليهرب من الحزن الكامن بداخله .  
وشيئا فشيئا يتحول المرح إلى فوضى حيث تنطلق الميكروفونات بالأغانى والوسيقى فى كل فرح وفى كل قهوة أو كافيتريا , وفى كل رحلة أو معسكر , وفى كل نادى أو باخرة نيلية , دون اعتبار لعوامل الراحة أو السكن لبقية الناس , فمظاهر الفرح تفرض على الجميع قهرا وقسرا بأشكالها المعتدلة والفجة على السواء .
7 - من حب الحياة إلى الترف إلى الراحة إلى الكسل :
لا شك أن المصريون شعب محب للحياة , وقد ترسخ لديهم هذا الشعور كنتيجة لما أفاء الله عليهم من خيرات جاءت مع فيضان النيل , فعاشوا يمرحون على ضفافه ويستمتعون بخيراته , وسط بيئة خضراء , وطبيعة معتدلة , كل ذلك أعطاهم فرصة لممارسة الرياضات المختلفة , وإنتاج الفنون الجميلة والإستمتاع بها , وكانت طبيعة الحياة فى كثير من العصور تدعو إلى الراحة والرفاهية والترف , فماء النيل يروى الأرض بجهد بسيط ومحتمل , والأرض خصبة تجود بالخيرات , والطبيعة سمحة ومعتدلة وهادئة , والإستقرار شبه دائم .
هذا الأمن الغذائى والإعتدال البيئى أعطى فرصة للشعور بالراحة الذى يصل فى بعض الأحيان إلى حالة من الطمأنينة الزائدة التى تدعو إلى الكسل والتراخى .

 والتحول عبر صفات المنحدر ليس حتميا لدى كل المصريين فبعضهم يأخذ من المتصل أعلاه فيحتفظ بالسمات الإيجابية دون تحول إلى الدرجات السلبية الناشئة عن تشويهها , ولكن الملحوظ أن نسبة غالبة من المصريين قد انزلقت أقدامهم إلى درجات أدنى على المنحدر فتحولت كثير من الصفات الإيجابية إلى صفات سلبية دون الإنتباه إلى ما حدث , أو قد يحدث الإنتباه ( أو التنبيه ) دون إرادة حقيقية للتغيير .

العلاقة بالوقت :
نظرا للطبيعة الزراعية المتغلغلة فى الشخصية المصرية نجد هناك علاقة بالوقت تتسم بالتراخى وفرط الطمأنينة ,  فالمصرى القديم – كما ذكرنا - قد تعود على أت يبذر البذرة ثم ينتظر نموها بعد فترة غالبا تطول لشهور وليس مطلوبا منه شيئا غير بعض الرعاية البسيطة حيث أن خصوبة الأرض نتجة مايجلبه النيل من طمى وسهولة الرى تجعل عملية الزراعة أكثر بساطة وأقل عناءا .  وهذا يعطى للمصرى إحساسا بالطمأنينة وامتداد الزمن فلا داعى للعجلة حيث أن الأمور ستأخذ وقتها مهما حاولنا استعجالها , وهذا الشعور الممتد بالزمن يجعل مسألة الإلتزام بالمواعيد عملية صعبة لدى كثير من المصريين . وهذا بالطبع يختلف عن المجتمعات الصناعية التى تشعر بقيمة الوقت وتسارعه فالوقوف أمام الآلة يستلزم يقظة وانتباها , كما أن دولاب العمل الصناعى بما فيه من ارتباطات دقيقة تفرض على المجتمع التزاما شديدا بالوقت .
فنحن فى أغلب الأحوال فى مصر أمام ما يسمى بالنمط الفلاحى فى الحياة وهو يتسم بطول البال والتراخى والصبر السلبى وانتظار الفرج يأتى من السماء دون جهد بشرى يبذل أو بأقل جهد , ويرسخ لهذا النمط الفلاحى أقوال وأمثال مثل " طولة البال تبلغ الأمل " ... " اللى ما يتعملش النهارده يتعمل بكره " .... إمشى سنه ولا تعدى قنا " .... " الدنيا اتخلقت فى سبع أيام " .... " يا مستعجل عوقك الله " ..... " إجرى يابن آدم جرى الوحوش غير رزقك لم تحوش "

العشوائية :
حين تمشى فى شوارع أى مدينة أو قرية مصرية تجد حالة من العشوائية فى التنظيم الهندسى للشوارع والبيوت وكل شئ , فالعشوائية سمة سائدة فى الحياة المصرية , وهناك تسامح كبير تجاهها وقبول غير مبرر لها وكأنها أحد السمات المميزة لمصر . وهذا يتناقض بشكل كبير مع آثار الحضارة المصرية القديمة التى اتسمت بالإنضباط والجمال والتناسق والدقة المبهرة , ويتناقض مع الآثار القبطية والإسلامية التى اتسمت بالجمال والبساطة والإعتدال والنظام والترابط .
ويبدو أن العشوائية فى الشوارع والبيوت وكل مظاهر الحياة ( اللافتات , واللوحات , والمرور , والألوان , والأصوات , و ...... , ........... ) هى تعبير عن تشوهات نفسية داخلية لحقت بالشخصية المصرية عبر عصور الإستبداد والتدهور الحضارى والأخلاقى , تلك التشوهات التى تقبل بالقبيح والمعوج والقذر والملتوى فى الخارج لأنها قبل ذلك قبلته فى الداخل . فهذا التشوه البيئى ( صورة وصوتا ) يعبر عن تشوها مقابلا بالداخل , لأن النفس المستقيمة النقية النظيفة الجميلة الصادقة , لا ترضى بالإعوجاج أو التلوث أو القذارة أو القبح أو الكذب حولها وبينها .

أزمة الذوق والجمال :  
لا يكاد يصدق أحد أن المصريين الذين صنعوا الجمال وعلموه للدنيا ووضعوا حدوده ومقاييسه فى فترات صعودهم الحضارى سواء كان مصريا قديما أو قبطيا أو إسلاميا , هم أ نفسم الذين يبنون هذه البيوت العشوائية الأسمنتية القبيحة والفقيرة من أى جمال بل والمليئة بالقبح والتشوه حول القاهرة ومدن الأقاليم  والقرى المصرية .

ولا يصدق أحد أن بلدا له هذا العمق الحضارى الكبير تمتلئ شوارعه بأكوام القمامة فى كل مكان لتفوح منها روائح عفنة , أو تنبعث روائح البول فى بعض الميادين الهامة وتحت الكبارى فى أماكن حيوية بمدينة القاهرة , ولا يصدق أحدا أن أحفاد صنّاع الجمال يعيشون فى مدن ليس لها نظام معمارى متناسق بل كل بيت له شكل ولون مختلف ومتنافر مع الذى بجواره , واللافتات معلقة بلا أى نظام أو قواعد , والأصوات تتصاعد بشكل عشوائى ومتداخل من كل شئ .

والأغرب من كل هذا أن يعتاد الناس على ذلك فلم يعودوا يتذمرون أو يستنكرون , وتبقى قلة قليلة تستنكر وتنادى دون أن يستجيب لها أحد .
وهذا لا ينفى ما فى مصر من أماكن جميلة تستحق الإشادة والفخر بها , وهى تجذب السائحين ومحبى الجمال من كل مكان , ولكنها تبقى استثناءا فى الحياة المصرية يؤكد القاعدة سالفة الذكر ولا ينفيها .  

هل المجتمع المصرى فى أزمة ؟ :
يبدو بوضوح فعلا أنه فى أزمة , ويمكنك أن تلا حظ ذلك حين تنظر فى وجوه الناس فستجد أنهم مأزومين غير سعداء , محبطين , مجهدين , تظهر على بعضهم علامات الضيق وعلى بعضهم علامات الإعياء وعلى بعضهم علامات الإنكسار وعلى بعضهم علامات الإصابة بأمراض الكبد والكلى , وستجد قليلين منهم سعداء او مبتسمين . وستتأكد لديك هذه الملاحظة إذا كنت عائدا لتوك من خارج مصر وعقدت مقارنة بين ما شاهدته فى أهل البلد الآخر وما شاهدته فى المصريين فستجد الفرق واضحا فى نوعية الحياة واستمتاع الناس ( الآخرين ) بها. وإذا فتحت التليفزيون أو قرأت الصحف فسوف يهولك كم الحديث عن الأزمات فى السياسة والإقتصاد والتعليم والرياضة والخطاب الدينى والأزمات الطائفية , وغيرها كثير , وسوف تكتشف أن الحديث عن الأزمات يكثر دون حل لها , وهذا يصيب الناس بحالة شديدة من الإحباط والقهر وفقدان الأمل وقلة الحيلة , ولنأخذ على سبيل المثال مشكلة السحابة السوداء التى خنقت الناس وضيقت عليهم أنفاسهم وأصابتهم بالإنقباض والحزن , فقد عقدت اجتماعات وجرت مناقشات واتخذت قرارات ولم تنفذ وظلت السحابة السوداء متحدية للجميع رغم أن حلها بسيط ويستوجب فقط وجود آلية فعالة وصارمة لنقل قش الأرز من الحقل إلى مكان يتم تصنيعه أو تدويره بشكل آمن , وهى عمليات كلها بسيطة , ولكن فقد إرادة الفعل وفقد التنظيم الإدارى والإستهانة بصحة الناس وراحتهم جعل هذه المشكلة ومشكلات كثيرة غيرها تتراكم وتتحول إلى أزمات تخنق وتحبط الناس بلا مبرر .

وننقل هنا رأى بعض المتخصصين فى الطب النفسى وهم من رواده وأساتذته المعلمين , يقول الدكتور أحمد شوقى العقباوى أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر فى رده على سؤال عن حالة الشعب المصرى وما أصابه من تغيرات وذلك فى ندوة بجريدة الأهرام تحت عنوان : " المصرى بين الأنامالية والمسئولية " ( جريدة أهرام الجمعة , 4 نوفمبر 2005 , صفحة 26): " إن المجتمع المصرى قد تغير وبالذات فى الثلاثين سنة الماضية , ولحقه التشوه , وأصيبت البنية الأساسية للشخصية المصرية , وآن الأوان لكل مهتم بالشأن العام أن يتنبه ويدرك أن التفكير – كما قال عباس محمود العقاد – فريضة إسلامية , وآن الأوان أن نفيق فهذه مسئوليتنا جميعا وفى طليعة المجتمع يكون المثقفون ويكون دورهم " . ويقول الدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسى ورئيس الجمعية العالمية للطب النفسى فى حوار له فى جريدة " الغد " العدد الخامس والثلاثون بتاريخ 2 نوفمبر 2005 صفحة 10 : " .. فى الحقيقة لا يستطيع أحد أن يفصل بين السياسة والمجتمع والبيئة فكلهم يلعبون دورا واحدا , فمثلا لدينا بطالة وكبت للحرية ولا يوجد عمل جاد يؤدى إلى نتيجة , كما أن التعليم فى انهيار , والصحة غير متوفرة , وهناك تلوث بصرى وسمعى وشمى , كل هذه العوامل تجعل المواطن محبطا , والإنسان المحبط معرض لخمسة أشياء : لامبالاة , وفقدان المواطنة , والعنف والعدوان , والإرهاب , وأمراض القلب . والإحباط له أسبابه السياسية والإجتماعية والنفسية , فأكثر من 50% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر فكيف يبدعون ويخلقون وينتجون ؟ , وهو ما جعل نحو 90% من المصريين لا يشعرون بالمواطنة , أى يفقدون الإنتماء " , ويقول أيضا : "   الشعب المصرى فى حالة من حالات الإستكانة والخوف من الحاكم والبعد عن الحكومة , ليس الكل ولكن الغالبية صاروا فى حالة خنوع وطاعة عمياء لأولى الأمر , وهذا أحد أسباب التأخر , فالحكام السابقون لم يحاولوا مشاركة الشعب معهم فكانت تلك هى النتيجة " , ويقول: " الجمود هو أخطر شئ فى الصحة النفسية للفرد , لأنه يقتل الإبداع والتفكير والإنتاج ويحدث ركودا , كالذى نعيشه فى مصر , فكلما جلس الحاكم مدة أكبر كان الركود أكثر "

العلاج :
1- كشف أبعاد شخصية الفهلوى والبدء فى تكوين اتجاها سلبيا نحوها فى وسائل الإعلام وفى المؤسسات التربوية والدينية , وعدم التسامح مع كل من يمارس أى سلوك فهلوى على المستوى السياسى ( بالتزوير أو التهليل أو النفاق أو اغتصاب الشرعية ) أو المستوى الإقتصادى ( بإعطاء بيانات كاذبة وأرقام خادعة وأمانى لا تتحقق أو الحديث عن اذدهار خيالى) أو المستوى الإجتماعى ( بدغدغة مشاعر الناس وإيهامهم بالريادة والتفوق والتميز الكاذبين والمخدرين ) .
2- كشف أنماط التدين الكاذب والكذب المتدين والتدين النفعى , ثم إعطاء الفرصة للتدين الأصيل أن ينمو بشكل هادئ وطبيعى ليدفع الناس إلى تحسين علاقاتهم بالأرض والسماء  ويدفعهم إلى العمل الجاد الحقيقى لعمارة الأرض وسعيا لوجه الله .
3- الإرتقاء بالحس الفنى والجمالى لدى النشء , ذلك الحس الذى يجعلهم يرفضون القبح فى داخل نفوسهم ( التكوين الأخلاقى ) وفى خارجها ( المظهر البيئى ) , ويجعلهم صنّاعا للجمال ومستمتعين به كقيمة سامية تضفى على الحياة جمالا وبهاءا ونظافة وطهرا واستقامة .
3- بناء الشخصية المنتجة : وهى كما يحددها الدكتور / حامد عمار : " التى تعمل بجدية , وتستمتع بما تعمل , وتنتج وتدرك قيمة ماتنتجه , ولديها قدرة على الملاءمة بين الغايات والوسائل , وتؤمن بأن الوصول إلى الهدف لا يتم إلا خطوة بعد خطوة, ليكون الهدف الكبير مجموعة أهداف جزئية , كل منها يمثل حلقة تؤدى إلى ما بعدها , ومن تماسك وتتابع وتكامل هذه الحلقات يصل الفرد إلى إكمال السلسلة التى تنتهى به إلى الهدف .
4- القدرة على الإعتراف بالخطأ وتصحيحه : وهذا ضد منظومة الفهلوة التى كانت تزين كل الأخطاء وتحول الهزائم لإنجازات وتكتفى بوضع المراهم على السرطانات القاتلة , وتخادع وتناور وتلف وتدور بلا نهاية أو فائدة , تلك المنظومة القاتلة التى تهدر كل الفرص للنمو والتطور الحقيقى , وتدع الأمور بأيدى الكذابين والمنافقين والمخادعين والأفاقين . إذن حين تتغير هذه المنظومة المريضة وتحل محلها منظومة صدق  وأمانة وشجاعة وقدرة على الإعتراف بالخطأ وتصحيحه فإن ذلك يغير واقع الحياة المصرية تماما وفى وقت أقصر مما يتصور الناس . وربما يقول قائل : هذه أحلام وأمانى لا ترتكن إلى آليات حقيقية لتنفيذها , وهذا صحيح فأى مبادئ لاتحكمها وتحميها آليات تظل فى حكم الأمانى والأحلام  لفترة ثم تتآكل وتختفى مع الوقت . ولو عدنا إلى تجربة ماليزيا لوجدنا أن مهاتير محمد قد شكل لجنة مكونة من عشر أفراد يجمعون بين عمق التخصص العلمى وبين الصدق والأمانة , وهذه اللجنة وظيفتها تلقى تقارير يومية من كل المؤسسات الإنتاجية الحيوية , وترسم خطا بيانيا لكل مؤسسة داخل الخريطة الكلية للعمل والإنتاج , ومن ملا حظة هذه الخطوط صعودا وهبوطا كانت اللجنة تحصل على تغذية مرتجعة ( Feedback ) عن كل الأنشطة الإنتاجية فى الدولة , فإذا وجدوا تدهورا فى أحد المؤسسات بادروا باتخاذ ما يلزم فورا لاكتشاف الأخطاء وتصحيحها على وجه السرعة . وكانت القيمة السائدة فى المجتمع الماليزى الصاعد هى الصدق تليها قيمة الجدية فى العمل والإنتاج , تليها قيمة العمل الجماعى وروح الفريق , وهكذا استطاعت التجربة الماليزية أن تنجح " بحق وحقيق " فى الوقت الذى فشلت فيه التجربة المصرية التى قامت على الفهلوة .
5- روح الفريق  : حين أتيحت لى فرصة العمل ضمن فريق عمل متعدد الجنسيات اكتشفت لأول مرة " بشكل عملى وحقيقى " سر التقدم العلمى , وهو يكاد ينحصر فى ثلاثة عناصر بسيطة جدا ومهمة جدا ( وغائبة جدا من حياتنا المصرية )  : الأول : العمل الجماعى
 Team work,الذى يعطى فرصة للإستفادة من الخبرات المتنوعة للبشر ويعطى فرصة للتراكم والتكامل , الثانى : منظومة العمل System ) ( التى تضع إطارا واضحا للعمل وتضع بداخله الخطوط التفصيلية التى تشكل هيكل العمل ومساراته بحيث تسير الأمور بشكل سلس ومنتج ومؤثر وممتع فى ذات الوقت , الثالث : التغذية الإرتجاعية   ,(Feedback )  والتى تعطى فرصة صادقة وحقيقية لتقييم العمل ودراسة أوجه النجاح والفشل فيه بغرض التحسين المستمر والإستفادة من الأخطاء .
وتكاد تكون هذه العناصر غائبة بشكل خطير فى النسيج المصرى باستثناء بعض الأماكن القليلة , وهذا يجعلنا دائما نفشل فى الأنشطة التى تحتاج بشكل خاص إلى هذه الأشياء مثل المشروعات الصناعية الكبيرة أو المؤسسات الضخمة , أو الألعاب الرياضية الجماعية , وربما يفسر هذا فشلنا فى بناء أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية فاعلة على الرغم من وجود عدد كبير من العلماء المتميزين فى كل هذه المجالات , وعلى الرغم من حصول المصريين على أربعة جوائز نوبل فهم يأخذون صفرا مخزيا فى الصلاحية لاستضافة المونديال الكروى .
6- اكتساب مهارات " حقيقية " يحتاجها سوق العمل " الحقيقى " , ومعذرة لاستخدام كلمة " الحقيقى " طول الوقت ,  والسبب فى ذلك هو شعورنا بشبح "الشخصية الفهلوية " تحاول القفز طول الوقت لإيهامنا بأننا نفعل ذلك ونحن لم نفعله .  وهذه المهارات ليست فقط مهارات تقنية وإنما أيضا مهارات تنظيمية وإدارية كأن يتعلم مهارات القيادة الديموقراطية الحازمة والراعية , ومهارات الجندية الواعية بدورها وقيمته فى غير تمرد إو إفساد , ومهارات التخطيط , فالعمل فى دكان أو ورشة يختلف كثيرا عن العمل فى مصنع أو مؤسسة .
7 – إعادة الإعتبار لقيمة العمل الجاد والمتقن والمثابر , وذلاك بسحب الأضواء من الأفاقين والكذابين والمتسلقين والمرفهين والمهللين والمنافقين , وتسليطها على من يعملون " بحق وحقيق " وتكريمهم والرفع من شأنهم حتى يترسخ فى أذهان الناس وقلوبهم مرة أخرى القيمة العليا للعمل " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " , فالعمل لابد أن يقدر ويقيم ويكافأ على كل المستويات , وتصبح المرتبات والمكافآت والترقيات مرتبطة ارتباطا دقيقا بحجم العمل ونوعيته وجدته .
8 – الإصلاح السياسى الجاد والحقيقى لإيجاد آليات تغلق الباب وللأبد أمام كل محاولات الإستبداد السياسى , ذلك الإستبداد الذى كان هو العنصر الأساس فى تشويه الشخصية المصرية على مر العصور رغم وجود عوامل صحة وقوة فى هذه الشخصية , لذلك يبدو الإصلاح السياسى عاملا علاجيا أوليا , وكان من المفترض أن نضعه فى مقدمة وسائل العلاج وآلياته لولا خوفنا من أن يبتلع بقية العناصر الفردية والإجتماعية ويلغيها أو يهمشها , ولكنه فى الحقيقة جدير بأن يوضع فى مقدمة المقدمة نظرا لخطورته وأهميته وعصيانه على العلاج على مدى قرون طويلة , وليس هنا مجال الحديث عن وسائل هذا الإصلاح وخطواته وآلياته وصعوباته .

مراجع الدراسة :

·      جمال حمدان ( 1993 ) . شخصية مصر ( دراسة فى عبقرية المكان ) , كتاب الهلال , عدد 509
·       حماده حسين , الفهلوة المتوحشة , روزاليوسف 30/3/2001( 3789 )
·     رجب البنا , " من الفهلوى إلى الهباش " عن كتاب "المصريون فى المرآه" , مكتبة الأسرة 2000
·      على سالم . " وشاح الفهلوة " , روزاليوسف , 30/3/2001 (3798 )
·      عزه عزت ( 2000 ) . التحولات فى الشخصية المصرية , كتاب الهلال , العدد 598 , القاهرة
·   نبيل راغب ( 1992 ) . الشخصية المصرية بين الحزن والمرح , دار الثقافة , القاهرة
·   طارق حجى ( 1999) . نقد العقل العربى . سلسلة " إقرأ " الصادرة عن دار المعارف, القاهرة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق