إنما يُريد أحمد!
عوض بن حاسوم الدرمكي
التاريخ:
في الفيلم الرائع Analyze This أمر زعيم المافيا (روبرت دينيرو) حارسه الضخم (جو فيتيريللي) برمي أحد الأشخاص من شقته من أعلى البناية، ورغم مشاهدة الجميع لذلك بما فيهم ضابط الشرطة إلا أنه لم يجرؤ على اتهام زعيم المافيا حتى لا يلحق بزميله، ويرمى بعده، فقال وهو يتصبب عرقاً: هل ترك الميت رسالة انتحار؟ فنظر الحارس للسقف قليلاً ثم قال: الآن سيكتبها!
مثل هذا الافتئات والعراك وعدم التثبت ومحاولة تقويل الآخرين ما لم يقولوا أصبحت أمراً رائجاً بانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ففي نقاشات الكرة عراك وشتائم لا تنتهي، وبين الشعراء مشادات لا تتوقف، وباسم الوطنية يتقاتل البعض، ويطلقون تهم التخوين الـمُعلَّبة على من خالفهم الرأي، ثم امتد هذا الشطط والشرر لينال من علماء الأمة، وسلفها الصالح، وبها تم الزج بكل ما يُعقَل ومالا يُعقَل من الاتهامات، وكلما ضعفت الحجة وبان تهافتها استعان المهاجم برفاقه ليُشَغِّبوا ويُحدثوا ضجيجاً يحاول إخفاء الحجج الهشة والدعاوى المغلوطة.
في دين الله سبحانه أن لا معصوم إلا الأنبياء فقط، وكل من سواهم يؤخذ من كلامه ويُرد ما دام كلامه عن اجتهاد لم يرد فيه نص صريح، فالقداسة وحدها لله تعالى وكتابه، والعصمة من الخطأ لما صح نقله وروايته من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، وديننا دين سعة ومرونة كافية لمسايرة اختلاف الأجيال والأزمنة، وما تعدد الأقوال في المسائل المتشابهة بين أصحاب المذاهب الأربعة إلا دليل على تلك المرونة والتكيف مع متغيرات أحوال البشر، وقد نُقل أن فقيهاً ألف كتاباً سماه كتاب الاختلاف، فقال له الإمام أحمد :«لا تُسمِّه كتاب الاختلاف ولكن سَمّه كتاب السعة»، وذلك ما دعا الإمام مالك لأن يرفض رأي الخليفة عندما اقترح عليه أن يُلزم الناس بكتابه «الموطأ» لاختلاف الناس وواقع أقطارهم، وحيثيات حياتهم المتباينة.
ومادام الاختلاف موجوداً بل ومطلوباً إلا أن ذلك ليس لكل من هب ودب، فلا يعقل أن يأتي كاتب مبتدئ كتب للتو روايته الأولى لينتقد ويتطاول على قامات الرواية ودهاقنتها أمثال همنجواي، ديكنز، غارسيا ماركيز، جورج أورويل، جيمس جويس، ولو فعل ذلك لأصبح أضحوكة المجالس، فكيف إن حاول أن يلج لجة الفقه وعلم أصوله لينظر ويرجح، ويهاجم ذاك العالم ويشتم الآخر ثم يلتفت لمن دافع عن مكانة ذلك العالم ويسيل له من تهم «تويتر» الجاهزة للاطلاق دوماً: «الجمود، التحجر، عبادة العلماء، افتقاد المنطق» وقس عليها من تهم تحاول ملء فراغ الحجة الواهية التي أتى بها، محاولاً أن يغفل الناس عن حقيقة أن لا اعتبار لخلاف من لا يملك أهلية الاجتهاد والنظر في الأدلة الشرعية، وذلك ما عبر عنه الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات بقوله: الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان، أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه، والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد (التشهي)، فكل رأي صادر عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضد الحق الذي أنزله.
ولأن فاقد الشيء يحاول دوماً إيهام الناس على توفره عليه، تجد من لا حظ له بالعلم يستخدم كلمة «المنطق» كثيراً، فكلما أعيته كنانته الخالية من التأصيل الشرعي عن دفع قول إمام ما بدليل أو حتى شبه دليل تراه يأتي بالجملة الشهيرة «لن آخذ إلا ما يتوافق والمنطق لديّ »، وهذا منطق مضحك، شبيه بمن لا يفقه في الكرة شيئاً ثم يدخل للملعب لأول مرة لينادي بأن هذه المباراة سبب فتنة وتخالف العقل من حيث ترك 22 لاعباً يتقاتلون من أجل كرة واحدة والمنطق يقول إنه لا بد من إعطاء كل واحد منهم كرة وينتهي العراك!
مزلق آخر يقع فيه من يقفز هكذا لنتائج دون تبصر وبحث هو التباس الـمسميات عليهم، فعندما هاجم بعضهم أئمة الإسلام الذين حذروا من كتب الكيمياء وحطوا من قدر أصحابها، لم يكن يعرف أن تلك غير كيمياء العصر الحديث، فالكيمياء المذمومة كانت امتهان الخرافات والسحر وادعاء القدرة على تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، ولو بحث هذا الأخ الغاضب وقرأ لعرف ذلك، ولكن الكراهية تجعل الهم هو البحث عن أية شبهة للتهجم، وكذلك الحال عندما انتقدوا الفلسفة، فتلك الفلسفة الـمنتقدة ليست هي الحالية، فالتي انتقدوها كانت تطعن في الذات الإلهية وتنفي الوحي والنبوات وهي بلا شك كفر محض.
ليس من الحكمة ترك من شاء ليطعن في علماء الأمة، فإن سقطت مكانتهم في أعين الناس لم يبق قيمة لمذاهب الإسلام وعلومه بعد أن سمحنا لمن لا يعرف أن يكتب سطراً واحداً دون خطأ إملائي في الحط من قدرهم ليحدث فراغ ينتظره البعض ليملأه بخرافاته وترهاته، بدعوى أن المعصوم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فتلك حقيقة مسلمة توضع في غير محلها، لكن العلماء لم يأتوا بدين جديد، بل مدار فقهم وقياسهم واستنباطهم قائم على نص الكتاب ونص السنة المعتبرة، ولا يكون الاجتهاد إلا في ما لا نص صريح أو نقل صحيح فيه، وما الطعن فيهم إلا محاولة للتدرج في الطعن حتى نصحو لنجد الطعن في الشريعة نفسها، فقد روي عن الإمام عبد الوهاب الوراق قوله: من تكلم في أصحاب أحمد فاتهمه ثم اتهمه، فإن له خبيئة سوء، وإنما يريد أحمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق