السبت، 5 مارس 2016

اهتمام الملك عبدالعزيز في دعم قضية فلسطين

توطئــة :
أولى جلالة الملك عبدالعزيز قضية فلسطين جل اهتمامه، وهو الملك العربي المسلم الوحيد الذي حمل وحده دون سائر حكام العرب والمسلمين عبء قضية فلسطين، وكان وحده الذي وقف في وجه روزفلت وتشرشل في أواخر الحرب العالمية الثانية، وواجههما بظلم الحلفاء للعرب عامة، وللفلسطينيين خاصة في الحرب العالمية الأولى، وانتزاعهم منهم حقهم وإعطائهم إياه لليهود([1]).
ورغم انشغال الملك عبدالعزيز في تأسيس دولته الحديثة فإن الملك عبدالعزيز انطلاقا من عقيدته الدينية كان متعاطفاً ومنحازاً تلقائياً وفطرياً لقضايا الأمة الإسلامية ، ولاسيما قضية فلسطين، وهي حقيقة تشهد بها المواقف والوقائع ، وتسجلها الوثائق الدولية بما لا يترك مجالاً للشك([2]).
وكان للملك عبدالعزيز مواقفه المبدئية من جميع الأحداث والمؤتمرات والثورات الفلسطينية، وكانت إسهاماته في كل مراحل القضية بادية للعيان وواضحة وضوح الشمس.
الحركة الصهيونية ووعد بلفور (2 نوفمبر 1917م):
الصهيونية حركة عنصرية دينية استعمارية سياسية، تهدف إلى جمع شتات اليهود المشردين في العالم ؛ لتعيدهم إلى فلسطين لتأسيس دولة لهم على حساب الشعب الفلسطيني العربي وطرده من أرضه .
وقد ظهرت الصهيونية في الوقت الذي انتشرت فيه القوميات في أوربا، وعملت الصهيونية على أن يتمسك اليهود بدينهم، ويطالبون بالعودة إلى فلسطين والدعوة إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين ، وقد تبلورت هذه الأهداف في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م.
سعى هرتزل لدى السلطان عبدالحميد الثاني بالحصول على بعض الامتيازات في فلسطين وشراء بعض الأراضي، فرفض السلطان طلبه رغم تقديم رشوة مالية له مقدارها عشرون مليون ليرة ذهبية، واتجه بعد ذلك إلى ألمانيا وفرنسا ، وفشل أيضاً في مسعاه، وأخيراً اتجه هرتزل إلى بريطانيا لمساعدته ، فعرضت على اليهود بلاداً أخرى غير فلسطين، ورفض اليهود ذلك، وبعد وفاة هرتزل وانتخاب حاييم وايزمن خلفاً له حصل على وعد بلفور من بريطانيا عام 1917م([3]).
وهكذا منح المستعمرون الصهاينة أرض فلسطين عن طريق إصدار وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917م، وينص هذا الوعد على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، هذا مع العلم بأن فلسطين لم تكن تحت السيطرة الإنجليزية أثناء إصدار تصريح بلفور، بل كانت فلسطين جزءاً من الدولة العثمانية؛ إذ إن الاحتلال الإنجليزي لفلسطين قد تم في 17 ديسمبر 1917م، وهذا يوضح أن الوعد قد صدر قبل احتلال بريطانيا لفلسطين بشهر ونصف([4]).
كما نجح الصهاينة في جعل بريطانيا دولة منتدبة على فلسطين ؛ لتتمكن من تنفيذ وعد بلفور وتهويد فلسطين ، فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى خضعت فلسطين للانتداب البريطاني في عام 1922م بموجب قرار عصبة الأمم المتحدة بموجب المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم.
لقد صاغت بريطانيا صك انتدابها على فلسطين من أجل تحقيق الأطماع المشتركة البريطانية والصهيونية في فلسطين، وعملت على تحقيق وعد بلفور في بناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين وفق مخطط مُعد ومدروس ، يشمل الهجرة اليهودية واستملاك الأراضي العربية بشتى الطرق والوسائل([5]).
صدى تصريح بلفور في العالم العربي :
شعر العرب بالتآمر عليهم من قِبل الحلفاء رغم أنهم كانوا يساعدونهم ضد العثمانيين، والتي تمثلت بالثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي، وأدرك العرب خيبة أملهم بعد أن شموا رائحة التآمر على الاستقلال العربي المنشود، فعقد الوطنيون السوريون الممثلون لسوريا الكبرى اجتماعات للتعبير عن معارضتهم للصهيونية ولوعد بلفور على السواء، ولكن بريطانيا نجحت في خداع العرب وطمأنتهم بأن هذا الوعد سوف لا يضر بهم، كما أكدت لهم أن اتفاقية سايكس بيكو لن تؤثر عليهم([6]).
وكان السلطان (الملك) عبدالعزيز آل سعود ـ رغم انشغاله في تأسيس المملكة ـ بعيد النظر في جميع الأدوار التي أراد الإنجليز وحلفاؤهم تمثيلها على مسرح السياسة العربية لتحقيق التصريح المشؤوم، فلم يكترث بجميع الوعود الغربية لعلمه الكامل ويقينه الراسخ بأنها وعود خادعة، يهدف الغربيون من ورائها تأمين مصالحهم في نطـاق الدولـة الصهيونية على أنقاض عرب فلسطين([7])، ورغم جميع المحاولات التي كان يبذلها ممثلو بريطانيا في العراق والكويت لدى الملك عبدالعزيز آل سعود لانتزاع شبه اعتراف باليهود ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين فإن شيئاً من هذا لم يقدم عليه، بل ظل حذراً جدا يدفع كل ما يختص بهذا الموضوع بدراية وحكمة، على حين كان يعمل سرًّا وجهراً لتثبيت عروبة فلسطين ما استطاع إلى ذلك سبيلا([8]).
وقد استنكر عبدالعزيز وعد بلفور بأبعاده ؛ إذ قال: “ليس من العدل أن يطرد اليهود من جميع أنحاء العالم، وأن تتحمل فلسطين الضعيفة المغلوبة على أمرها هذا الشعب برمته”([9]).
وقد رفض الملك عبدالعزيز رفضاً قاطعاً كل ادعاءات اليهود وحقهم في فلسطين، فذكر ذلك في كل مراسلاته ولقاءاته مع كبار الساسة الأمريكيين والإنجليز، فقال في ذلك الشيء الكثير الذي دونه في رسائله ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما جاء في رسالة من الملك عبد العزيز إلى روزفلت في 10 مارس 1945م :” إن مساعدة الصهيونيين في فلسطين لا تعني خطراً يهدد فلسطين وحدها، بل إنه خطر يهدد سائر البلاد العربية “، وأضاف قائلاً: ” إن أعمال الصهيونيين في فلسطين وفي خارجها صادرة عن برنامج متفق عليه من الصهيونية “.
وقال أيضاً: ” إن تكوين دولة يهودية في فلسطين سيكون ضربة قاضية للكيان العربي ومهدداً للسلم باستمرار “. وقال أيضاً: ” من أجل الإسلام أحارب بريطانيا نفسها ” ، وأضاف قائلاً: ” إن مطامع اليهود ليست في فلسطين وحدها، فإن ما أعدوه من العدد يدل على أنهم يبيتون العدوان على ما جاورها من البلدان العربية “. وقال أيضاً: ” ليس في جسمي ذرة لا تدعوني لقتال اليهود “، ” إني أفضل أن تفنى الأموال والأولاد والذراري ولا يتأسس لليهود ملك في فلسطين “([10]).
وهكذا فإن الملك عبدالعزيز قد عبر عما في نفسه وضميره تجاه قضية فلسطين وتجاه عرب فلسطين، فرفض الوعد الذي أعطته بريطانيا لليهود وهي لا تملك فلسطين، ” لقد أعطى من لا يملك وعداً لمن لا يستحق “.
ومما يجدر ذكره أن الفلسطينيين والعرب استنكروا وعد بلفور، فرفضوه ، وطالبوا بإلغائه، فقامت ثورات ومظاهرات وإضرابات في فلسطين، وكانت أولاها تلك المظاهرة التي قامت في القدس في عام 1339هـ/1920م والتي طالبت بإلغاء وعد بلفور، ونادت كذلك بإلغاء الانتداب البريطاني على فلسطين وقيام حكم وحدوي في بلاد الشام.
إن الملك عبد العزيز لا يألو جهداً، ولا يدخر وسعاً إلا بذله في سبيل نصره هذه القضية رغم مشاغله الداخلية والعقبات التي يواجهها.
وحاول الإنجليز الضغط على الملك عبد العزيز للاعتراف بوعد بلفور والانتداب البريطاني في شأن فلسطين، إلا أن هذه المحاولات قد باءت بالفشل.
فقد ضغط عليه الإنجليز عندما جرت مفاوضات بينه وبين البريطانيين بشأن مشروع اتفاقية جدة التي وقع عليها في 28 من ذي القعدة 1345هـ/18 مايو 1927م([11])؛ إذ طلب الإنجليز من الملك عبد العزيز وضع مادة خاصة يعترف فيها بمركز بريطانيا في فلسطين عندما طالب الملك عبدالعزيز بإلغاء معاهدة دارين (القطيف) المعقودة عام 1333هـ/1915م؛ لتأخذ ثمن إلغائها اعترافاً من ابن سعود بمركز خاص لها في فلسطين، واستمرت المباحثات نحو عشرين يوماً، وكانت هذه المادة سبباً لتوقف المفاوضات مدة من الزمن إلى أن رضخت بريطانيا لمطالب ابن سعود([12]).
ومهما يكن من أمر فإن عبد العزيز اعتمد على قوته الذاتية، وكان يتميز بعمق نظرته، وأصالة رأيه، والحس السياسي المرهف، والنظرة الواقعية الصائبة في تقدير الأمور والعواقب.
فقد تقدمت الصهيونية إلى الملك عبد العزيز بطلب من أجل أن تحصل منه على اعتراف أو اتفاق بوعد بلفور وتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين مقابل أن تقدم له دعماً مالياً كبيراً في سبيل تخفيف الأزمة المالية والاقتصادية التي تمر بها البلاد([13]).
وقد عرض الصهانية بزعامة وايزمن عن طريق فيلبي إعطاء فلسطين لليهود وطرد العرب منها وتوطينهم في مكان آخر – وهو جزيرة العرب – مقابل مبلغ من المال ، مقداره عشرون مليوناً من الجنيهات الإسترلينية، وقد رفض عبدالعزيز هذا العرض رفضاً قاطعاً؛ إذ إن الملك عبد العزيز كانت له مبادئ راسخة نابعة من إيمانه بدينه وعقيدته، ولا ينقاد للمصالح الذاتية؛ ولذلك فإن الملك عبد العزيز عندما قابل الرئيس الأمريكي روزفلت ذكر له غضبه من وايزمن وجرأته على الملك عبد العزيز لجره إلى خيانة قضية المسلمين الأولى([14])، وأكد جلالته للرئيس الأمريكي العداوة مع اليهود ، وبخاصة وايزمن الذي عرض أيضاً استعمار مناطق خيبر وبني قريظة وبني النضير وغيرهما من أراضي المدينة المنورة، بحجة أنها كانت مواطنهم في القرون الماضية، غير أن الملك عبد العزيز رفض كل ما طلبوه ، وباءت جميع محاولاتهم بالفشل([15]).
موقف الملك عبد العزيز من ثورة البراق 1348هـ/1929م :
كانت فلسطين من أولى اهتمامات الملك عبدالعزيز، وقد أبدى اهتماماً كبيراً رغم انشغاله في توحيد المملكة وخوضه حروباً أخرى كثيرة، وإبان ذلك حدث حادث البراق أو هبة البراق.
أرسل الملك عبد العزيز برقية إلى المؤتمر السوري الفلسطيني في القاهرة وإلى المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين يستنكر فيها الحادث ، ويطالب الحكومة البريطانية بمعاقبة الجناة([16]).
ولم يكتف الملك عبد العزيز آل سعود بذلك، بل أرسل خطاباً إلى ملك بريطانيا جورج الخامس في 15 أكتوبر 1929م، عبر فيه عن حزنه العميق وأسفه البالغ لما حدث من اعتداء صهيوني على المصلين في المسجد الأقصى أثناء صلاة الجمعة، وأعرب له كذلك عن الأثر السيئ الذي تركه هذا الحادث في نفسه ونفس شعبه، وناشده بالمحافظة على الدين وحماية المصلين ومعاقبة الآثمين ، وقد رد عليه ملك بريطانيا في 10 ديسمبر 1929م بأن حكومته مهتمة بهذا الأمر ، وستعمل على إجراء تحقيق في هذا الشأن([17]). وأجرى كذلك اتصالات مع حكومة الانتداب في فلسطين، فادعت بريطانيا بأنه لم يحصل ولم يقع اعتداء على المصلين في المسجد الأقصى ، وذكّر الملك عبد العزيز الساسة البريطانيين أن الموقف البريطاني يتعارض مع مفهومي الصداقة والمودة بين بريطانيا والعرب([18]).
وانطلاقاً من اتصالات الملك عبدالعزيز بالمسؤولين في الحكومة البريطانية عينت لجنة يرأسها ولترشو في عام 1349هـ/1930م، عهدت إليها بالبحث في أسباب الاضطرابات، ووضع التوصيات الكفيلة بمنع وقوع مثل هذه الاضطرابات([19]) .
أصدرت الحكومة البريطانية بياناً عن خطتها في فلسطين على ضوء تقرير ولترشو في عام 1349هـ/1930م ، وقد عرف هذا البيان (بالكتاب الأبيض الثاني)، ونص على تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتشكيل لجنة ؛ لتحديد حقوق الطرفين في حائط المبكى، وتمكين المزارعين الفلسطينيين من زراعة أراضيهم بيسر وسهولة، وإقراضهم ما يحتاجون إليه من البنك الزراعي، غير أن بريطانيا بضغط من الصهيونية العالمية تراجعت عن قرارها هذا في الكتاب الأبيض، وأصدرت كتاباً آخر أطلق عليه العرب الكتاب الأسود ؛ لأن بنوده تضر بمصلحة العرب([20]).
وقد أصدرت لجنة التحقيق بشأن البراق قرارها الخاص بحق المسلمين في ملكية حائط البراق والرصيف الذي أمام الحائط ، ولا يجوز لليهود زيارة الحائط إلا في أيام الأعياد إذا وافق المسلمون على ذلك([21]).
وقد جاءت وفود إسلامية إلى القدس، وعقد المؤتمر الإسلامي في 27 رجب 1350هـ/ 7 ديسمبر 1931م ، واستمر أسبوعاً ، وحضره وفد من الحجاز برئاسة الأمير فيصل بن عبد العزيز من بين 22 وفداً من مختلف الأقطار الإسلامية جاؤوا لتكوين تكتل إسلامي عربي للوقوف أمام المطامع الصهيونية في القدس، واستنكر المؤتمرون الاستعمار والصهيونية ، وتم إنشاء المؤتمر الإسلامي العام ومقاطعة البضائع الاستعمارية والصهيونية([22]).
وقررت اللجنة التنفيذية العربية إرسال وفد فلسطيني إلى لندن برئاسة موسى كاظم الحسيني، وطالبوا بمنع بيع الأراضي ، ووقف الهجرة اليهودية، وإقامة حكومة وطنية، ولكن الحكومة البريطانية لم تستجب لطلباتهم([23]).
وعلاوة على ذلك اتبعت بريطانيا سياسة التهويد؛ إذ قام المندوب البريطاني السير (آرثر واكهوب) بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، وفتح الباب على مصراعيه أمام الهجرة اليهودية من كل مكان، وتمليك اليهود الأراضي العربية قسراً، فقد بلغ عدد اليهود الذين دخلوا فلسطين في هذه المدة حوالي مائة وخمسين ألف يهودي([24]).
شعر زعماء فلسطين بهذا الخطر المحدق، وزاد الطين بلة اختلاف الأحزاب السياسية في فلسطين، فأدى إلى ضعف الجهبة الداخلية الفلسطينية، وضج الرأي العام في فلسطين، وحملت عليهم الصحف العربية، وطالبت بوحدة الصفوف. ونتيجة لذلك استاء الملك عبدالعزيز للوضع المتردي في فلسطين، فطلب من ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير سعود الذي كان عائداً من أوربا زيارة فلسطين والتعرف على أوضاع الشعب هناك، وفي 15 جمادى الأولى 1354هـ/ 15 أغسطس 1935م زار الأمير سعود نابلس، واستقبل استقبالاً شعبياً، وكذلك زار الأمير سعود القدس ، والتقى بأهلها، وأكد لهم تضامن حكومة وشعب المملكة العربية السعودية ، فقال: ” أنتم أبناؤنا وعشيرتنا ، وعلينا واجب نحو قضيتكم سنؤديه “([25]).
وقد رافق سمو الأمير سعود الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين رئيس اللجنة العربية العليا وفؤاد حمزة وخير الدين الزركلي، وألقى عدد من الخطباء كلمات الترحيب ، ومنهم أكرم زعيتر الذي قال : إن فلسطين مفتاح الجزيرة وعنق بلاد العرب، وإن الصهيونية خطر على جميع العرب([26])، فرد عليهم سموه باستعداد المملكة لنصرة القضية.
ولما كانت السياسة البريطانية في فلسطين تتنكر لمطالب الفلسطينيين، وتؤيد بقوة مطالب الصهيونية من أجل تمكين اليهود لإقامة دولتهم في فلسطين، الأمر الذي دفع العرب إلى الثورة، وقرر عرب فلسطين أن العداء يجب أن يوجه إلى بريطانيا ؛ لأنها المسؤولـــة عن كارثة فلسطين، ولذا عقد عرب فلسطين مؤتمرهم الشعبي الذي في القدس عام 1354هـ/1935م لبحث الحالة العامة في البلاد، ودفع هذا الأمر حركة الشيخ عز الدين القسام بإعلان الجهاد ضد الإنجليز، فقامت الحكومة البريطانية بالقضاء على القسام ورفاقه، فأثار ذلك حفيظة العرب، وتحولت جنازة الشيخ عز الدين القسام إلى مظاهرة شعبية رائعة في حيفا، أثارت الإنجليز الذين تحرشوا بالمشيعين ، فقاومهم العرب، ودمروا مركز البوليس، فهز هذا الحادث مشاعر العرب في البلاد كلها، وكان ذلك إيذاناً بقيام الثورة الكبرى([27]).
الموقف السعودي من الثورة الفلسطينية الكبرى
3 صفر 1355هـ/ 25 أبريل 1936م
تألفت في فلسطين لجنة قومية ، هي اللجنة العربية العليا في 3 صفر 1355هـ/ 25 أبريل 1936م([28])، كما دعت إلى تشكيل لجان قومية في كل مدينة وقرية كبيرة في فلسطين، وكانت مهمة هذه اللجان القومية الإشراف على تنظيم الإضراب العام المستمر، واستجاب عرب فلسطين لدعوة الإضراب العام([29]).
وقد حددت اللجنة المطالب القومية ، وهي منع الهجرة اليهودية، ومنع انتقال الأراضي العربية إلى اليهود، وإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي([30]). وقد نجح زعماء فلسطين في رأب الصدع عندما تشكلت اللجنة العربية العليا، واشتركت في عضويتها جميع الأحزاب والهيئات واللجان من المسلمين والمسيحيين دعماً للعمل الثوري في جبهة قومية واحدة ، كما ارتفعت دعوات الجهاد والكفاح بدلاً من الاحتجاج والاستنكار([31]).
ازداد النشاط السياسي، وارتفعت درجة الحماسة الوطنية، وتعددت الاشتباكات ، وكثر الشهداء العرب، ورفضوا دفع الضرائب، فكان هذا القرار إعلاناً للعصيان المدني نحو الإنجليز، ورغم ذلك فإن الحكومة البريطانية لم تعمل على الاستجابة لمطالب العرب، بل استمرت في السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين([32]).
واشتدت نقمة العرب، وأدركوا أن طريق الكفاح المسلح والجهاد هو أفضل وسيلة لدرء أخطار الاستعمار والصهيونية عن فلسطين ، وانتقل كفاح العرب من مرحلة الإضراب والمظاهرات إلى مرحلة الثورة المسلحة، فقاموا بأعمال تدميرية للمصالح الإنجليزية والصهيونية من نسف الجسور وقلب القطارات، وقطع خطوط البرق والتليفون، وإتلاف الأشجار المثمرة في المستعمرات اليهودية، وقتل سكانها ، ونسف أنابيب البترول التي تصب في حيفا، وإضرام النار في الزيت المتدفق منها، وإحراق المصانع اليهودية، واغتيال رجال الشرطة البريطانيين واليهود على السواء. وأقفلت الدكاكين، وامتنع الناس عن مزاولة أعمالهم اليومية ، وتعطلت حركة السير([33]).
اشتطت حكومة الانتداب في موقفها، وقررت مقابلة العنف بالعنف، فأعلنت تطبيق قانون الطوارئ وفرض غرامة جماعية مشتركة على القرى، وألقت القبض على عدد من أعضاء اللجنة العربية([34])، ونفتهم إلى جزيرة سيشل ، ثم أفرجت عنهم بعد حوالي عام، كما استقدمت الحكومة البريطانية قوات عسكرية من قواعدها في الشرق الأوسط([35])، وليس هذا فحسب ، بل قامت كذلك بالاعتداء على حقوق المسلمين بالاستيلاء على أوقافهم ومحاكمهم الشرعية وعزل مفتي فلسطين من رئاسة المجلس الإسلامي.
وأرسل مفتي القدس رئيس اللجنة العربية العليا رسائل إلى زعماء العالم العربي والإسلامي، يطلب فيها الوقوف مع كفاح الشعب الفلسطيني لدعم الإضراب، فوصلت رسالة إلى الملك عبدالعزيز آل سعود في أواخر إبريل 1936م، وعلى إثر ذلك اجتمع القنصل الإنجليزي في جدة السير أندرو ريان Sir Andrew Ryan مع الشيخ يوسف ياسين بتاريخ 8 صفر 1355هـ الموافق29/4/ 1936م، وبحث معه طلب المفتي مساعدة السعودية لعرب فلسطين في كفاحهم ضد السياسة الإنجليزية الصهيونية، وكان المفتي يركز في رسائله للزعماء المسلمين أنه إذا بقي الموقف جامداً من قِبل العالم الإسلامي والعربي نحو القضية الفلسطينية فإن المسلمين سيفقدون فلسطين ، كما فقد العرب والمسلمون الأندلس([36]).
كما أرسل مفتي القدس رسالة إلى صاحب السمو الملكي الأمير سعود بتاريخ 12 يونيو 1936م الموافق 22 ربيع الأول عام 1355هـ ، قال فيها: ” إن فلسطين المسلمة… وقد أرهقها ما صب عليها من بلاء، وأنهكها ما تلاقيه من تسلط وبطش تفزع بعد الله تعالى إلى صاحب الجلالة الملك أن يستعمل نفوذه العالي في نصيحة ذوي الشأن في لندن وسواها بضرورة إنصاف عرب فلسطين وتغيير السياسة المتبعة الآن للقضاء عليهم وإجابة مطالبهم ؛ حتى يعود للبلاد المقدسة هدوؤها واطمئنانها ، ويحل فيها السلام”([37]). وهذه الرسالة من أهم الرسائل التي كان لها انطباع مؤثر لدى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود([38]).
وقد طلب الملك عبدالعزيز من وزيره المفوض في لندن حافظ وهبة الاتصال بالحكومة البريطانية ومناقشة الإنجليز في القضية الفلسطينية، كما طلب الوزير المفوض من الإنجليز الإفراج عن المعتقلين والمحكوم عليهم([39]).
وقررت الحكومة البريطانية اتباع الأسلوب السياسي الدبلوماسي بدلاً من الأسلوب العسكري، وبخاصة بعد أن تبين لها أن الحل العسكري غير ممكن، وأن الإضراب والمقاومة الفلسطينية ستستمر إلى أن يحقق الشعب الفلسطيني النصر ؛ لذا فإن الحكومة البريطانية لجأت إلى الدول العربية ـ ولاسيما المملكة العربية السعودية ـ للوساطة ؛ وذلك لما للملك عبدالعزيز من ثقل سياسي بين العرب عامة والفلسطينيين خاصة، وقد تعهدت بريطانيا سراً للملك عبدالعزيز بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين([40]).
وفي نفس الوقت أصدرت اللجنة العربية بياناً في 13 جمادى الثانية 1355هـ الموافق 30/8/1936م ، قالت فيه: ” إن الأمة ستستمر في إضرابها الشامل بنفس الثبات واليقين اللذين عرفت بهما رافعة الرأس راسخة الإيمان متريثة رزينة إلى أن تصل هذه المفاوضات إلى النتيجة المرغوبة التي تحفظ لهذه الأمة الباسلة كيانها ونيلها حقوقها وأمانيها إن شاء الله “([41]).
اتصل الملوك والأمراء العرب بزعماء اللجنة العربية العليا، وطلبوا منها إنهاء الثورة ووقف الإضراب ، وجاء فيه ما يأتي : ” لقد تألمنا كثيراً للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبدالله ندعوكم للإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا أننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم”([42]) .
ولبى أهل فلسطين دعوة ملوك العرب، فتوقف الإضراب، وبعث رئيس اللجنة العربية العليا الحاج أمين الحسيني برقية إلى الملك عبدالعزيز آل سعود بتاريخ 28 جمادى الثانية 1355هـ الموافق 14/9/1936م يعلن فيها موافقة الشعب الفلسطيني على وساطته ، كما أبلغ الملوك والأمراء بذلك([43]).
والواقع أن بريطانيا قد أوعزت للحكام العرب بتوجيه نداء إلى الثوار الفلسطينيين، ويدل على ذلك ما طلبه جورج ريندل من وزير الخارجية البريطانية المستر إيدن توجيه رسالة شكر وتقدير إلى كل من الملك عبدالعزيز والملك غازي إثر نجاح ندائهم في وقف الإضراب والاضطرابات في فلسطين، ولكن إيدن رفض ذلك([44]).
وفي 27 رجب 1355هـ الموافق 13/10/1936م أصدرت اللجنة العربية العليا بياناً إلى الشعب الفلسطيني بوقف الإضراب بناء على رغبة الملوك العرب ، وتوقف الإضراب نهائياً بعد أن استمر ستة أشهر، وأخبر رئيس اللجنة العربية العليا القادة العرب بوقف الإضراب في برقية جاء فيها:” إطاعة لأوامر جلالتكم وسموكم أخلد أبناؤكم عرب فلسطين للسكينة ، وأقبلوا على مزاولة أعمالهم شاكرين عطف جلالتكم و” سموكم ” الأبوي واثقين بأن مساعدة جلالتكم ” سموكم ” ستحقق مطالبهم القومية، أدامكم الله عزاً للعرب والمسلمين “.
وقد رد الملك عبدالعزيز على الحاج أمين الحسيني ببرقية في 28 رجب 1355هـ الموافق 14/10/1936م شكر فيها الشعب الفلسطيني على إخلاده للسكينة وإطاعتهم لأوامر الملوك العرب ، وما أبدوه من حب للسلام وإظهار نواياهم الحسنة للوصول إلى الأهداف المرجوة .
تنفس الإنجليز واليهود الصعداء بعد أن توقف الإضراب، وسار الجنود إلى مراكز عملهم بحرية، كما أن المسؤولين الإنجليز لم يهتموا بوساطات الزعماء العرب، بل رموا بطلباتهم عرض الحائط، فلم يستمعوا إلى ظلامة المقهورين من الشعب الفلسطيني، ولم تظهر بريطانيا حسن النية تجاه الشعب الفلسطيني، بل استمرت في اعتقال ومحاكمة من خططوا للإضراب وقاموا به ، وصفا الجو للإنجليز لعمل ما يشاؤون بالشعب الفلسطيني الذي أنهى ثورته بناء على أوامر الملوك العرب([45]).
وإزاء ذلك أرسل مفتي القدس الحاج محمد أمين الحسيني رسالة إلى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بتاريخ 15 شعبان 1355هـ الموافق 31/10/1936م طلب فيها من الملك السعودي أن يستخدم نفوذه عند الإنجليز لتحقيق الأمور الهامة التي هي موضوع قلق عام في فلسطين ، وأهمها:
1 ـ وقف الهجرة اليهودية بكل أشكالها.
2 ـ إلغاء قانون الطوارئ.
3 ـ العفو عن كل المحكومين بسبب الثورة.
4 ـ إخلاء سراح بقية المعتقلين والمنفيين.
5 ـ إلغاء الغرامات المفروضة بسبب الاضطرابات.
6 ـ توقيف التحقيقات والتعقيبات بحق المتهمين.
7 ـ منع تجديد حالة الفزع والاضطرابات ، وذلك بعدم البحث والتفتيش عن المجاهدين والأسلحة([46]).
والحقيقة أن الإنجليز خدعوا زعماء العرب، وشعر الملوك العرب بذلك؛ لأن الإنجليز لم يحققوا المطالب العربية، وأصيب الملوك العرب بخيبة أمل ؛ لأنهم أصبحوا يتحملون المسؤولية أمام العرب عامة والفلسطينيين خاصة، وعلاوة على ذلك طلب الملك عبدالعزيز من الإنجليز الإفراج عن جميع السجناء والمحكوم عليهم ، ولكن بريطانيا لم تنفذ ذلك، ولم تف بأي وعد قطعته على نفسها، فأوجد حرجاً للحكام العرب أمام شعوبهم([47]).
ومهما يكن من أمر فإن القضية الفلسطينية منذ عام 1936م استأثرت باهتمام الملك عبدالعزيز أكثر فأكثر، فقد مثلت القضية الفلسطينية لابن سعود إشكالية لم تجد حلاً حتى وفاته ، غير أن تعقيدات القضية غدت أكثر قوة وشعوراً بالمرارة نتيجة قمع بريطانيا لثورة الفلسطينيين ، وقد ذكر ابن سعود في رسالة إلى البريطانيين حول إحلال اليهود في فلسطين ، قال فيها: ” لو قلت لكم إن هناك ذرة واحدة في جسدي لا تدعوني إلى قتال اليهود لكنت أكذب، لو ذهبت كل أملاكي وتوقف نسلي لكان أسهل عليّ من أن أرى موطئ قدم لليهود في فلسطين “، كما اتهم الإنجليز واليهود ابن سعود بأنه غدا أصولياً متشدداً ([48]).
وقد بحث القنصل البريطاني في جدة جورج ريندل G. W. Rendel مع الوزير السعودي القضية الفلسطينية، وتطرق الحديث بينهما إلى الأوضاع في فلسطين وبرقية المفتي إلى الملك عبدالعزيز آل سعود، ولكن راندل احتج على إرسال المفتي برقية إلى الملك عبدالعزيز ؛ كي يخبر ابن سعود بما يجري في فلسطين ، ونستنتج من هذه المقابلة أن الإنجليز امتعضوا من المراسلات التي كانت تجري بين الزعماء العرب، ويريدون أن يعرفوا بمحتويات كل رسالة أو برقية، وهذا هو منتهى الظلم والتعسف والقهر والاستعمار([49]).
وعلى العموم كانت نظرة الإنجليز إلى الملك عبدالعزيز بأنه رجل معتدل في الشرق الأوسط وواقعي الاتجاه ومتزن ورزين ، ورغم أن الإنجليز لم يحققوا طلباته بشأن فلسطين كانوا لا يسمحون بأي وحدة عربية هاشمية تؤثر عليه وعلى مملكته، ولاسيما بعد محاولات الهاشميين في قيام وحدة عربية تضم العراق وفلسطين وشرق الأردن([50]).
وبلغ من اهتمام الملك عبدالعزيز بالقضية الفلسطينية أن قام بنشاط واسع على الصعيدين الداخلي والدولي، ففي المدة ما بين عام 1936م و 1973م أمر الأمير فيصل ابن عبدالعزيز نائب الملك بالحجاز بتأليف لجنة في كل مدينة وقرية ، تسمى لجنة فلسطين([51])، مهمتها العمل على إسماع العالم العربي والإسلامي والعالم أجمع صوت الشعب السعودي وإمداد الحركة الوطنية الفلسطينية بكل المعونة التي يقدمها الشعب السعودي؛ ليشترك مع حكومته في مساندة الحركة([52]).
بريطانيا ومشروعات التسوية
لقضية فلسطين
1 ـ مشروع اللجنة الملكية بتقسيم فلسطين (لجنة بيل) 1356هـ/1937م:
أعلنت الحكومة البريطانية أنها تعتزم إيفاد لجنة تحقيق ملكية للبحث في أسباب الثورة الفلسطينية، فقررت بريطانيا في 10 جمادى الأولى 1355هـ الموافق 29/7/1936م إرسال اللجنة الملكية برئاسة (اللورد بيل Peel) لدراسة ووضع تقرير حول الأسباب التي أدت إلى الإضراب الذي استمر ستة شهور ، والتي كان أهمها وقف الهجرة اليهودية ومنع بيع الأراضي وإلغاء وعد بلفور والاستقلال التام([53]).
وأوفدت اللجنة العربية العليا وفداً مكوناً من الشيخ كامل القصاب وعوني عبدالهادي ومحمد عزة دروزة ومعين الماضي إلى العواصم العربية الرياض وبغداد ودمشق لمناشدة الحكام العرب للوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وشرح أبعاد هذه المشكلة ، بالرغم من أن وزير المستعمرات البريطاني قد منح 1800 شهادة هجرة جديدة يهودية إلى فلسطين رغم أنف العرب ضارباً عرض الحائط بمطالب الشعب الفلسطيني التي رفعها ملوك العرب إلى الإنجليز؛ لذلك أعلن الحاج أمين الحسيني عن عدم استعداده لمقابلة اللجنة الملكية احتجاجاً على قرار وزير المستعمرات أورمسبي غور Ormesby Ghor) ([54]) ).
حاول الملك عبدالعزيز إقناع عرب فلسطين عن عدولهم عن مقاطعتهم اللجنة الملكية، ورأى الملك عبدالعزيز بثاقب نظره وحصافة رأيه الاتصال باللجنة الملكية والإدلاء إليها بالمطالب الفلسطينية العادلة ؛ لأن ذلك أضمن لحقوق الشعب الفلسطيني، وأدعى لمساعدة الأصدقاء في حسن الدفاع عن الشعب الفلسطيني([55]).
لذا فإن الملك عبدالعزيز تابع جهوده مع بريطانيا من أجل حل قضية فلسطين حلاً عادلاً، وقد وعدت بريطانيا الملك بأنها ستنظر في القضية بشكل عادل([56])، لكن الإنجليز لم يكونوا صادقين، بل إنهم لم يكونوا حريصين على تحقيق أي مطلب لعرب فلسطين، وبخاصة تلك التي تتعلق بالعفو العام، وإيقاف هجرة اليهود، وحماية الملكية الفلسطينية، واستقلال فلسطين([57]).
قابل زعماء فلسطين اللجنة الملكية، وشرحوا لها المظالم التي وقعت عليهم نتيجة الانتداب البريطاني، وحددوا طلباتهم الواضحة التي طالما طالبوا بها سابقاً مراراً وتكراراً ، وهي منع الهجرة اليهودية، ومنع بيع الأراضي العربية لليهود، وتشكيل الدولة الفلسطينية المستقلة، وبعد أن أنهت اللجنة الملكية أعمالها وعادت إلى لندن أصدرت لجنة (بيل) قراراً بتاريخ 28 ربيع الثاني 1356هـ الموافق 7/7/1937م يوصي بتقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق: منطقة يهودية، ومنطقة عربية تضم إلى شرق الأردن، ومنطقة تبقى تحت الانتداب البريطاني الدائم وهي الأماكن المقدسة (القدس وبيت لحم والناصرة). استنكر الفلسطينيون قرار التقسيم، وأرسل المفتي رسائل إلى زعماء المسلمين وملوكهم ، طلب منهم حماية المقدسات الإسلامية في فلسطين ؛ لأنها لكل المسلمين في العالم([58]).
وقد أرسل مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني رسالة هامة إلى الملك عبدالعزيز بتاريخ 11 جمادى الأولى 1356هـ الموافق 19 يوليو (تموز) 1937م، شرح فيها الأخطار العامة والخاصة التي ستلحق بفلسطين والعالمين العربي والإسلامي إذا طبق قرار التقسيم، أما عن الأخطار العامة فقال المفتي: إن تقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق وإنشاء دولة يهودية سيؤدي إلى قطع الاتصال بين القسم الجنوبي من بلاد الشام أي فلسطين عن القسم الشمالي ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قطع شمال بلاد الشام عن مصر ؛ كي لا تقوم وحدة عربية في المستقبل. وأضاف بأن ميناء حيفا الهام للعراق والحجاز سيكون ضمن الدولة اليهودية، وستتحكم هذه الدولة بساحل البحر المتوسط الشرقي ، وستكون خطراً على المصالح العربية، وأضاف قائلاً: بما أن دولتهم ستكون خليطاً من أمم شتى فسوف يجلبون معهم أخلاقاً ومبادئ هدامة للشرق العربي، وبما أن لجنة بيل توصي بجعل العقبة تحت الانتداب البريطاني الدائم فسيكون خطراً على الديار المقدسة في الحجاز والبلاد العربية عامة. وأما عن الأخطار الخاصة بفلسطين فقال المفتي لابن سعود بأنها كثيرة ، ومنها أن منطقة قضاء عكا فيها 63 قرية عربية على حين أن لليهود قرية واحدة فقط، وسيكون هذا القضاء في الدولة اليهوية، وأن العرب في الدولة اليهودية هم أكثر من اليهود، وأن كثيراً من المساجد والمقامات الدينية الإسلامية سوف تقع وتخضع للسيطرة اليهودية، وأن القدس ستكون ضمن الانتداب البريطاني، وسيصبح فيها اليهود أكثر من العرب، وسيكون المسجد الأقصى في خطر، وأن الدولة اليهودية ستحصل على المناطق الخصبة على حين تحصل الدولة العربية على المناطق الفقيرة والجرداء([59]).
ورد الملك عبدالعزيز على رسالة المفتي قائلاً: “إن قضية عرب فلسطين كانت ولا تزال موضع اهتمامنا الشديد، وتعلمون أننا ما ادخرنا وسعاً، ولا ندخر وسعاً في سبيل حلها بطريقة تحقق العدل والإنصاف إن شاء الله”([60]).
وقد أرسل الملك عبدالعزيز مذكرة إلى وزارة الخارجية البريطانية في غرة رجب 1356هـ الموافق 6 سبتمبر 1937م، أوضح فيها الأسباب التي تحمل جلالته على الاهتمام بقضية فلسطين وبذل كل ما في وسعه لإيجاد حل عادل ودائم لها ، وقد أوضح الأسباب فيما يأتي:
أولاً: أن وعود بريطانيا للعرب بالاستقلال أعطيت في الأساس باسم الحجاز الذي هو الآن قسم مهم من مملكتنا.
ثانياً: أن عدم حل قضية فلسطين على وجه مقبول يؤدي إلى إيجاد هوة سحيقة بين العرب وبريطانيا، مما ينجم عن ذلك أخطار نأمل ألا تقع.
ثالثاً: المسؤولية الأدبية العظمى التي أخذها جلالة الملك عبدالعزيز على عاتقه بموافقة بريطانيا حينما أصدر الملوك والأمراء العرب البيانين اللذين كان لهما الأثر الفعال والمباشر في وقف الاضطرابات وتعاون العرب مع اللجنة الملكية([61]).
وشرح الملك عبدالعزيز للحكومة البريطانية الموقف العربي من قرار التقسيم الذي أعلنته لجنة بيل الملكية ورفض العرب له وعدم موافقتهم عليه، وطلب من بريطانيا أن تعمل على تأمين السلم وإقراره بشكل دائم في هذه المنطقة الحساسة من العالم؛ وذلك لأن العرب يعدون قضية فلسطين قضية حياة أو موت، وحذر الملك عبدالعزيز من العواقب التي يمكن أن تؤدي إلى نزاع عنصري بين العرب وبريطانيا، واقترح جلالة الملك عبدالعزيز حلاً عادلاً يرضي جميع من يهمهم الأمر على الأسس الآتية:
أولاً: تأسيس حكومة دستورية في فلسطين يشترك فيها سكان فلسطين على أسس يتفق عليها، وتوضع ضمانات كافية لحماية الأماكن المقدسة، وكفالة حقوق الأقليات، وتحقيق العدالة للجميع.
ثانياً: تحديد الهجرة اليهودية بنسبة ثابتة لا تجوز زيادتها عن ذلك.
ثالثاً: وضع تدابير معينة لانتقال الأراضي بشكل يضمن عدم تجريد العرب من أراضيهم([62]).
أعلنت الدول العربية كافة باستثناء إمارة شرق الأردن استنكارها وشجبها لقرار التقسيم، كما رفضه الصهاينة والولايات المتحدة الأمريكية ، وقامت اللجنة العربية العليا ـ كما أشرنا ـ بإرسال برقيات إلى زعماء العالم العربي والإسلامي تندد فيه بالتقسيم ، وتشرح مخاطره على فلسطين والعرب ، وتطلب منهم المعونة والعون، وقد أسفرت هذه الاتصالات عن الدعوة إلى عقد مؤتمر عربي، تمثل فيه الدولة العربية ، ويعقد في بلودان، وذلك لبحث مستقبل فلسطين وإفشال خطة التقسيم([63]).
وهكذا فشلت كل المشاريع المطروحة على الساحة الفلسطينية، وبقي الإنجليز متمسكين بتوصية لجنة بيل ، وغضب الإنجليز على المفتي محمد أمين الحسيني لتوجيهه رسائل إلى زعماء العالم الإسلامي وحثهم على الجهاد، ودفعهم هذا الأمر لاعتقال علماء المسلمين واعتقـــال أعضاء اللجنة العربية العليا ونفيهم خارج البلاد في 25 رجب 1356هـ الموافق 30/9/1937م، وحاولوا كذلك إلقاء القبض على المفتي إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك ؛ لأنه استطاع الهرب سراً إلى لبنان ، وحصل على حق اللجوء السياسي فيه([64]).
ورغم محاولات بريطانيا الفاشلة في كبح جماح الفلسطينيين عقد زعماء العرب مؤتمراً في بلودان (سوريا) في يومي 8 و 9 سبتمبر 1937م، وحضر المؤتمر أكثر من أربعمائة وخمسين عضواً من مختلف الأقطار العربية، وترأس المؤتمر ناجي السويدي رئيس الوزراء العراقي السابق، ومن أهم القرارات التي قررها المؤتمر:
1 ـ أن فلسطين جزء لا ينفصل من أجزاء الوطن العربي.
2 ـ رفض ومقاومة تقسيم فلسطين أو إنشاء دولة يهودية؛ لأن إنشاء دولة يهودية ستكون خطراً على العرب جميعاً.
3 ـ إلغاء الانتداب البريطاني وعقد معاهدة مع بريطانيا تضمن استقلال فلسطين.
4 ـ وقف الهجرة اليهودية، ومنع انتقال الأراضي من العرب لليهود.
5 ـ يعلن المؤتمر أن استمرار الصداقة بين العرب وبريطانيا متوقف على تحقيق المطالب السابقة([65]).
وفي المملكة العربية السعودية عبر الشعب السعودي الكريم عن تأييده للشعب الفلسطيني في محنته، وأرسلت برقيات الاستنكار والاحتجاج([66])، وكان لعلماء نجد موقف يتسم بالحماسة الدينية ؛ إذ كتبوا رسالة إلى الملك عبدالعزيز، كانت بمثابة فتوى دينية، ورد فيها أن جعل ولاية لليهود في بلاد الإسلام أمر باطل ومحرم، وطلبوا من الملك أن يقوم بصد هذا الخطر، كما أعلنوا هم وعلماء الحجاز أنهم سينادون بالجهاد المقدس إذا طبقت سياسة التقسيم([67]).
ونتيجة لما يعمله الإنجليز من إرهاب واعتقال وقتل في صفوف الشعب الفلسطيني ازداد التضامن السعودي مع الشعب الفلسطيني انطلاقاً من دعوة علماء السعودية إلى الجهاد ، ونجم عن ذلك إعادة الإنجليز لدراسة المشروع وعدم تطبيقه بعد اقتنـــاع الحكام الإنجليز بعدم جدوى تطبيقه، واعترف الإنجليز أن خطة التقسيم المقترحة ليست في مصلحتهم، والدليل على ذلك أن العلاقات الإنجليزية تدهورت، فكتب جون راندل رسالة إلى ريدر بولارد Reader Bullard بتاريخ 19/6/1937م قائلاً: “إن تدهور العلاقات الإنجليزية مع ابن سعود والعرب عموماً هي سياستنا الخاطئة، وكنا واضحين في دعم اليهود”([68]).
وإزاء ازدياد الوضع تدهوراً في فلسطين انتشر الثوار في الجبال، وعادت المظاهرات، فأرسلت بريطانيا عدداً من الجنود لكبح جماح الثورة، وأيدت الدول العربية الثورة الفلسطينية الملتهبة، فعقدت مؤتمرات عربية كثيرة لنصرة فلسطين، كان من أهمها مؤتمر القاهرة البرلماني الذي ترأسه محمد علي علوبة، وحضره كثيرون من أعضاء البرلمانات في الدول العربية والإسلامية ، وعقد المؤتمر في 7/10/1938م (13 شعبان 1357هـ) ، وكان من أبرز قراراته استنكار عمليات القمع ضد الفلسطينيين وإرسال وفد إلى لندن للدفاع عن القضية الفلسطينية في الأوساط الإنجليزية ، وقد نقل هذا المؤتمر القضية إلى العالم الإسلامي([69]).
وإزاء تصاعد عمليات الثوار في فلسطين وبسبب غضب العالم الإسلامي على التقسيم قررت وزارة المستعمرات البريطانية في يناير 1938م إرسال لجنة فنية لدراسة احتمال إجراء التقسيم، وتدعى لجنة (وود هيد) نسبة إلى رئيسها جون وود هيد John Wood Head، ووصلت اللجنة فلسطين في 27/4/1938م (26 صفر 1357م)، وقد وجدت هذه اللجنة عند وصولها شعلة من نيران الثوار ومن المظاهرات الصاخبة ضد التقسيم، فقدمت تقريرها باستحالة تنفيذ التقسيم، وعدَّ الثوار توصية لجنة (وود هيد) بعدم التقسيم نصراً كبيراً للثورة الفلسطينية([70]).
وكان الملك عبدالعزيز ينتهز كل فرصة تسنح له للدفاع عن فلسطين والعمل على نصرة قضيتها؛ ففي مساء يوم السبت 13 ذي القعدة 1356هـ/ 16 يناير 1938م اجتمع اللورد بلهافين بالملك عبدالعزيز في جدة ، وكان يصحبه السير ريدر بولارد، وقد دعاهما للعشاء، وبعد تناول طعام العشاء اختلى الملك عبدالعزيز بالسير ريدر بولارد، وتحدث له عن قضية فلسطين بصراحة ووضوح، وذكر له صداقته لبريطانيا، وأن هذه الصداقة قد تفسر من العرب ـ وبخاصة أهل فلسطين ـ تفسيراً لا يتناسب مع كرامته، وأن من مصلحة الطرفين أن تتفهم بريطانيا الوضع الصحيح للمنطقة العربية وقضية فلسطين، ثم تناول الملك خطة الحكومة البريطانية في تقسيم فلسطين وإقطاع اليهود جزءاً منها ، ثم قال: ” إن مشروع تقسيم فلسطين يعتبر بحق نكبة على العرب والمسلمين ، ولكنه نكبة مهددة لبريطانيا أيضاً، فإنه لا يوجد مسلم أو عربي يستطيع أن يقنع عرب فلسطين بالقبول بهذا، كما إنني مهما كان لي نفوذ قوي ومهما بلغت صداقتي للإنجليز فإنني لا أستطيع مقاومة تيار عواطف المسلمين والعرب القوية، ولا أقدر أن أقف مع الإنجليز ، وعليه فإنني أرى أن تصرف الحكومة البريطانية النظر عن التقسيم، وأن يسار على خطة أخرى تضمن حقوق العرب” ([71]).
وبعد أن سمع القادة الإنجليز في لندن توصية لجنة (وود هيد) قرروا عدم مواصلة السعي للتقسيم، بل قرروا دعوة ممثلين من العرب واليهود للتفاوض في لندن تحت إشرافهم، فعقدت بريطانيا مؤتمر المائدة المستديرة عام 1939م.
مؤتمر لندن (مؤتمر المائدة المستديرة) 1358هـ/1939م :
أصدرت وزارة المستعمرات البريطانية بياناً بالعدول عن التقسيم بسبب توصية لجنة (وود هيد) الفنية، وقررت الوزارة البريطانية بحث المسألة الفلسطينية من جميع جوانبها في مؤتمر يحضره العرب واليهود والإنجليز، وسمي بمؤتمر لندن أو مؤتمر المائدة المستديرة، ووافق العرب على حضور المؤتمر شريطة ألا يجلسوا مع اليهود.
وقد اشتركت الدول العربية بالإضافة إلى فلسطين في المؤتمر، وأهم هذه الدول هي السعودية والعراق ومصر وشرق الأردن واليمن ، وكان الوفد السعودي يتكون من السادة: الأمير فيصل (وزير الخارجية) رئيساً للوفد، والأمير خالد، والشيخ حافظ وهبة السفير السعودي في لندن، وفؤاد حمزة وكيل وزارة الخارجية، والشيخ إبراهيم السليمان سكرتيراً([72]).
وقبيل انعقاد المؤتمر في لندن قام الملك عبدالعزيز آل سعود بالاتصال بملوك العرب وأمرائهم من جهة، وبالحكومة البريطانية من جهة أخرى([73])، ونتيجة لهذه الاتصالات عقد مؤتمر تحضيري في القاهرة في 27 من ذي الحجة 1357هـ/ 17 يناير 1939م من أجل توحيد المواقف العربية في مؤتمر لندن بما يخدم القضية الفلسطينية([74]).
واتفق العرب في القاهرة على طرح النقاط الآتية في المؤتمر:
1 ـ يطرح الوفد العربي الفلسطيني قضية فلسطين في مؤتمر لندن باسم العرب جميعاً ، ويعرض على المؤتمر مطالب عرب فلسطين.
2 ـ يعلن رؤساء الوفود العربية في المؤتمر تأييد دولهم لبيان الوفد العربي الفلسطيني والتزامهم بالمطالب المعروضة.
3 ـ تشترك الوفود العربية في مناقشات المؤتمر على ضوء تأييد مطالب عرب فلسطين، والتمسك بالسياسة العربية الرسمية بأن الكلمة الأخيرة في قضية فلسطين وفي كل حل يعرض تعود للشعب العربي الفلسطيني، وأن الدول العربية ملزمة بإقرار ما يقره ورفض ما يرفضه([75]).
وهكذا سافرت الوفود العربية إلى لندن، وكانت جبهة متراصة وصفًّا واحدًا([76]).
افتتح مؤتمر لندن في 18 من ذي الحجة 1357هـ/ 7 فبراير 1939م، وألقى المستر تشمبرلين Chambrlane رئيس الحكومة البريطانية خطاباً حول المؤتمر ومهمته، ورحب فيه بقدوم الوفد الفلسطيني ووفود الدول العربية، ثم ألقى فيه رؤساء الوفود خطباً عامة بشأن المؤتمر ، وأعربوا عن أملهم في أن يكتب له النجاح ، ولقد استمر انعقاد المؤتمر حتى 26 محرم 1358هـ/17 مارس 1939م، وعقد خلال تلك المدة أربع عشرة جلسة، حاولت فيها بريطانيا أن يتصل المندوبون العرب بأعضاء الوفد اليهودي، غير أن تلك المحاولة لم تنجح ؛ لأن الوفد السعودي برئاسة الأمير فيصل بن عبدالعزيز هدد بالانسحاب من المؤتمر والعودة إلى بلاده ، وهكذا حرصت المملكة العربية السعودية على وضع سياسة ثابتة، وهي عدم إجراء أية مباحثات مباشرة مع الصهاينة؛ لذا فإن الوفد البريطاني كان يجتمع مع الوفود العربية في الصباح ومع الوفد الصهيوني في المساء([77]).
وفي هذا المؤتمر عرض رئيس الوفد الفلسطيني جمال الحسيني قضية بلاده، وكان واضحاً وحاسماً ومعبراً عن المطالب الفلسطينية العادلة ، وهي:
1 ـ الاعتراف بحق العرب في الاستقلال التام لفلسطين.
2 ـ إلغاء الانتداب البريطاني في فلسطين.
3 ـ رفض تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
4 ـ وقف الهجرة اليهودية ومنع بيع الأراضي العربية لليهود([78]).
وكان الوفد السعودي يقوم بزيارات متبادلة مع الوفود العربية والوفد الإنجليزي ، وأثناء تلك الزيارات كان الأمير فيصل قد بحث مع الإنجليز موضوعات أخرى تتعلق بموضوع فلسطين([79]).
وفي المؤتمر ألقى الأمير فيصل خطاباً شاملاً، فكان له صدى واسع في الأوساط الإنجليزية وفي المؤتمر ؛ إذ شرح موقف السعودية تجاه حل القضية الفلسطينية” ، فبعد أن بسط الأمير العهود المقطوعة للعرب وأقام الأدلة على صحتها وقوتها تكلم عن علاقات الصداقة الوثيقة بين بلاده وإنجلترا، وقال إن هذه العلاقات التي يريدها العرب وطيدة، ويخشى أن تتصدع إذا لم يعامل عرب فلسطين بالعدل والإنصاف “([80]).
وقد تعثرت المفاوضات في النهاية، فقد رفض العرب الحل الإنجليزي، كما اعتذر الإنجليز عن قبول وجهة النظر العربية بسبب الضغط الأمريكي على بريطانيا، وكان اليهود قد ضغطوا على الرئيس الأمريكي روزفلت من أجل الضغط على بريطانيا بعدم قبول المطالب العربيــــة؛ لذا فشلت المفاوضــــات العربيــــة الإنجليزية في مؤتمر المائدة المستديــــرة، ورجعت الوفود العربية إلى بلادها، ولكن السفير المصري نشأت باشا بقي في لندن ؛ ليقوم بمتابعة المناقشــــات مع الإنجليز حول موضوع فلسطين إذا غيّر الإنجليز رأيهم([81]).
والحقيقة أن الإنجليز اعترفوا في المؤتمر بضرورة تشكيل دولة فلسطينية، ولكن بعد مدة انتقالية مدتها عشر سنوات، ولكنها مشروطة بموافقة اليهود، وعندما بدأت تلوح في الأفق بوادر حرب عالمية ثانية تراجع الإنجليز عن دعمهم المطلق للصهاينة خطوة إلى الوراء، فقدموا للسفير المصري مشروعاً جديداً حمله السفير إلى القاهرة لدراسته مع الوفود العربية التي قدمت من لندن إلى القاهرة، فدرس العرب المشروع ، وقدموا اقتراحاتهم عليه ، وتضمن الرد العربي نقاطاً هامة ، منها ضرورة إلغاء وظيفة المندوب السامي ؛ ليحل محله رئيس الدولة الفلسطينية المقترحة لمدة ثلاث سنوات، وفي حالة وقوع خلاف بين عرب فلسطين وبريطانيا فيجب أن يعرض الخلاف على لجنة تحكيم مكونة من مصر والعراق والسعودية([82]).
وبعد فشل مؤتمر المائدة المستديرة انتقل العمل السياسي في المحادثات من لندن إلى القاهرة، وذلك بسبب رجوع نشأت باشا سفير مصر في لندن ومعه مشروع إنجليزي جديد ، وقد حضر الأمير فيصل بن عبدالعزيز إلى القاهرة لمتابعة المفاوضات، وكان الخلاف بين العرب والإنجليز هو أن العرب لا يريدون تجديد مدة العشر سنوات التي تؤدي للاستقلال، أما الإنجليز فقد كانوا يقولون بعدم تحديد المدة ، بل تركها للظروف بعد العشر سنوات ، وكان الأمير فيصل على اتصال مستمر مع الحاج أمين الحسيني بشأن المحادثات الجارية في القاهرة لإطلاعه عليها أولاً بأول ، وقال الأمير فيصل لمفتي فلسطين: إنه إذا لم تصل محادثات القاهرة إلى نتيجة فإن مؤتمراً عربياً سيعقد في مكة المكرمة تحت رعاية الملك عبدالعزيز آل سعود لبحث المسألة الفلسطينية من جميع جوانبها([83]).
خافت بريطانيا أن يغضب عليها العالمان العربي والإسلامي بسبب عدم التوصل إلى حل المسألة الفلسطينية، كما خافت بريطانيا أن ينضم العرب والمسلمون لصف هتلر زعيم ألمانيا في حال هجومه على بريطانيا؛ لأن بوادر الحرب العالمية بدأت تظهر في سماء أوربا، لذلك أصدر الإنجليز الكتاب الأبيض بتاريخ 27 ربيع الأول 1358هـ الموافق 27/5/1939م، وصرح الإنجليز أنهم سوف ينفذون بنوده سواء قبل به العرب واليهود أم رفضوه، وأهم ما جاء في الكتاب الأبيض:
1 ـ أن تصبح فلسطين دولة مستقلة بعد مرحلة انتقال مدتها عشر سنوات، وأن يوضع دستور لفلسطين.
2 ـ يسمح بالهجرة اليهودية في أول خمس سنوات، وذلك بدخول 75 ألف مهاجر يهودي في هذه المدة، ثم تتوقف الهجرة اليهودية نهائياً، وتصبح الهجرة مرهونة بموافقة العرب.
3 ـ يمنع انتقال الأراضي العربية إلى اليهود خوفاً من إلحاق الأذى والضرر بالاقتصاد العربي، ويسمح لليهود بشراء أراضٍ في أماكن مختلفة محددة في فلسطين، وتوضع قيود على انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود في بعض المناطق الأخرى([84]).
رفضت اللجنة العربية العليا في فلسطين الكتاب الأبيض ؛ لأنه لم يحقق المطالب الفلسطينية التي تدعو إلى تشكيل دولة فلسطينية رأساً أو بعد ثلاث سنوات على أبعد تقدير، ولأن الدولة الفلسطينية سيتوقف قيامها على الوفاق بين العرب واليهود ، وهذا مستحيل ، والحقيقة أن الكتاب الأبيض كان بمثابة مخدر للشعب الفلسطيني ولتهدئة الثورة الفلسطينية، وقد عارض العرب واليهود الكتاب الأبيض([85]).
وهكذا رفض اليهود الكتاب الأبيض، ووجهوا إرهابهم ضد الإنجليز، كما قام يهود الولايات المتحدة بمظاهرات متوالية احتجاجاً على الكتاب الأبيض ، ونتيجة لذلك نقل زعماء الحركة الصهيونية وسائل تأثيرهم ودعايتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية آملين أن يكون في مقدور الصهاينة التأثير على السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية([86]).
وهكذا بدأت الحكومة السعودية اتصالاتها بالحكومة الأمريكية التي بدأت تتأثر بالدعاية الصهيونية بعد أن قلب اليهود ظهر المجن لبريطانيا العظمى، واتجهوا إلى الحكومة الأمريكية ؛ لوجود جماعات الضغط الصهيوني (اللوبي) في أمريكا ، وقدرتهم على التأثير في القرار الأمريكي بما يخدم مصالحهم.
الاتصالات السعودية الأمريكية:
بدأت الاتصالات السعودية بالولايـــات المتحدة الأمريكية منذ عام 1357هـ/1938م؛ إذ بدأ الملك عبدالعزيز يوالي اتصالاته بالرئيس الأمريكي روزفلت بخصوص قضية فلسطين.
وقد أرسل الملك عبدالعزيز رسالة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت، بسط فيها الحقائق التي تؤيد الحق العربي في فلسطين، وفند حجج الصهيونية ، وأثبت زيفها، وكذب ادعاءات اليهود ومزاعمهم، ولام الشعب الأمريكي الذي ينادي بالحرية والديمقراطية في مناصرة اليهود في فلسطين وعدم تأييد الحق والعدل ومناصرتهما([87]).
وقد حوت رسالة الملك عبدالعزيز بعض الحقائق الهامة الآتية:
1 – طلب الملك عبدالعزيز من الرئيس الأمريكي روزفلت النظر إلى قضية فلسطين بالحق والعدل.
2 – أشار الملك عبدالعزيز في رسالته ما صدر عن الحكومة الأمريكية ما يؤيد وجهة نظر اليهود والصهيونية ؛ إذ قال: ” لقد ظهر لنا من البيان الذي نشر عن موقف أمريكا أن قضية فلسطين قد نظر إليها من وجهة نظر اليهود والصهيونية ، وأهملت وجهات نظر العرب، في حين أن ذلك ظلم فادح على شعب آمن مستوطن في بلاده “([88]) .
3 – فند الملك عبدالعزيز في رسالته دعوى الصهيونية الباطلة بحقهم التاريخي في فلسطين استناداً إلى وعد بلفور ، فقد قال: ” أما دعوى اليهود التاريخية فإنه لا يوجد ما يبررها، في حين كانت فلسطين ولا زالت مشغولة ومأهولة بالسكان العرب في جميع أدوار التاريخ المتقدمة، وقد كان السلطان فيها لهم “.
4 – أكد الملك عبدالعزيز في رسالته بأن العرب كانوا في سائر أدوار حياتهم محافظين على الأماكن المقدسة معظمين لمقامها محترمين قدسيتها قائمين بشؤونها بكل أمانة وإخلاص.
5 – دحض الملك عبدالعزيز دعوى اليهود التاريخية، وأثبت الحق التاريخي للعرب منذ آلاف السنين، كما رفض دعوى اليهود التي يستثيرون بها عطف العالم بأنهم مشتتون في البلدان ومضطهدون، فأثار الملك عبدالعزيز رفض الدول الغربية لقبول اليهود عندهم وتهجيرهم إلى فلسطين التي لا تتسع لهم.
6 – فند الملك عبدالعزيز فكرة الصهيونية الغاشمة والتي تمثل الظلم المجحف بحق عرب فلسطين، كما فند تصريح بلفور الظالم لإعطاء شعب طريد أرض شعب آخر وطرده منها، فإن تصريح بلفور أعطى من قبل بريطانيا التي لا تملك حقاً في فلسطين، كما أن عرب فلسطين لم يؤخذ رأيهم في الانتداب ووعد بلفور ، وذلك رغم حق تقرير المصير.
7 – تطرق الملك عبدالعزيز إلى حقوق العرب في فلسطين منذ أقدم العصور، وهم يسكنون هذه البلاد، ففلسطين عربية عرقاً ولساناً وموقعاً وثقافةً ، وقد انضم العرب إلى الحلفاء في الحرب العالمية الأولى أملاً في الحصول على الاستقلال ، ولكن العرب خُدعوا، وقد جزئت بلادهم ، وقسمت ، وخضعت للاستعمار، وقد احتج العرب بشدة على وعد بلفور ، وأعلنوا رفضهم له، وحدثت في فلسطين ثورات متعددة 1920، 1921، 1929، 1936م ، ولا تزال مستمرة.
8 – ختم الملك عبدالعزيز رسالته بالمطالبة بحق العرب وإقرار السلام في فلسطين، وإذا لم ينل العرب حقوقهم فإن المنطقة لن تشهد سلاماً ولا أمناً ولا استقراراً ، وناشد الملك عبدالعزيز الرئيس الأمريكي روزفلت باسم العدل إعطاء العرب حقوقهم، وقال عبدالعزيــــز: ” إنه ليس من العدل أن يطــــرد اليهــــود من جميع أنحاء العالم، وأن تتحمل فلسطين المغلوبة على أمرها هذا الشعب برمتــــه”([89]).
ومما يجدر ذكره أن الملك عبدالعزيز كان رجل مبادئ وعربي صميم ومسلم حق، لا يساوم ولا يتهاون في أمر يمس عقيدته وحق قومه المشروع ، فالملك عبدالعزيز مؤمن بأن القضايا المصيرية لا تتلاعب بها السياسات ، ولا تخضع للمساومة([90])؛ لذا فإن الملك عبدالعزيز وقف في وجه الدعاية الصهيونية التي استغلت ظروف الحرب، وقامت بدعاية واسعة النطاق، أرادوا بها السعي لتضليل الرأي العام الأمريكي من جهة، والضغط على الحلفاء في موقفهم الحرج من جهة ثانية ؛ ليحملوا بذلك دول الحلفاء على الخروج على مبادئ الحق والعدل والإنصاف التي أعلنوها وقاتلوا من أجلها، وهي حريات الشعوب واستقلالها([91]).
وقد رد روزفلت على خطاب جلالة الملك عبدالعزيز في 16 ذي القعدة 1357هـ الموافق 9 يناير 1939م يطلعه فيها على موقف الشعب الأمريكي من قضية فلسطين ، وهو الموقف الذي ظهر في البيان الأمريكي الذي يوضح الموقف الأمريكي من اليهود ورغبتها في تحقيق إنشاء الوطن القومي لليهود، لكن روزفلت أضاف فقرة في كتابه تشير إلى أن الحكومة الأمريكية لن تتخذ أي موقف مخالف لما تمسكت به ، وهو النظر بروح العدل، غير أن الحكومة الأمريكية وبريطانيا مصرتان على جعل فلسطين دولة يهودية ، ولم يقف أمام الدول الاستعمارية سوى الملك عبدالعزيز آل سعود والحاج أمين الحسيني بدون قوة تدعمهما([92]).
وأرسل الرئيس الأمريكي روزفلت مبعوثاً شخصياً (هارولد هوسكنز) إلى الملك عبدالعزيز ؛ ليعرض عليه أفكاراً خاصة باليهود، فقابل هوسكنز الملك عبدالعزيز، وحاول أن يقنعه بوجهة نظره في مقابلة وايزمن، ورد عليه الملك عبدالعزيز بأنه لا يريد أن يهضم حق العرب الصريح الذي هو مثل الشمس بمغالطات تاريخية ونظريات اجتماعية واقتصادية من قِبل اليهود والصهاينة، وذكر الملك عبدالعزيز بالوعود التي قطعتها الحكومة الأمريكية بالنظر في هذه القضية بروح العدل والإنصاف بعد اندحار المحور ، وقد رفض الملك عبدالعزيز مقابلة وايزمن ؛ لأنه عرض على الملك عبدالعزيز رشوة دنيئة([93]).
وحرص الملك عبدالعزيز في خطابه الثاني للرئيس روزفلت بتاريخ 25 ربيع الثاني 1362هـ/ 30 أبريل 1943م على أن يحذر الحكومة الأمريكية من خطورة الدعاية الصهيونية التي تحاول إثارة الرأي العام الأمريكي لهذه القضية الظالمة ، وذكَّر الرئيس الأمريكي بحقوق المسلمين والعرب في ذلك البلد المقدس، وأكد أن حقوق العرب في هذه المسألة حقوق واضحة كضوء الشمس، ورفض عبدالعزيز بشدة إجراء أي اتصال مع وايزمن ؛ لأن وايزمن عدو للدين والوطن ، وقد فشلت جميع محاولات روزفلت بإقناع ابن سعود بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين ومنع بيع الأراضي في فلسطين لهم ، ونجح عبدالعزيـــز في إقنـــاع روزفلت بأن يكرر مرة أخرى تأكيده السابق في عدم اتخاذ أي قرار يغير وضع فلسطين من دون التشاور الكامل مع العرب واليهود([94]).
تركت رسالة الملك عبدالعزيز إلى الرئيس الأمريكي روزفلت بصماتها الواضحة على السياسة الأمريكية، ظهر ذلك واضحاً عندما شعر روزفلت بالسخط الشديد الذي عم البلاد العربية والرأي العام الأمريكي في أعقاب مؤتمر بلتيمور، بل إنه أكد للملك عبدالعزيز بعدم اتخاذ أي قرار بشأن فلسطين بدون مشاورة العرب واليهود، ورفض الرئيس الأمريكي روزفلت بأن يعطي الصهاينة أي تعهد بشأن فلسطين([95]).
وهكذا فقد أخذت العلاقات السياسية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية تنمو باطراد، ففي عام 1362هـ/1943هـ وجه الرئيس الأمريكي روزفلت دعوة رسمية للملك عبدالعزيز لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية([96])، وقد قبل الملك عبدالعزيز هذه الدعوة، وأناب عنه ابنيه الأمير فيصل والأمير خالد للقيام بهذه الزيارة، وفعلا قام الأميران السعوديان في أواخر شهر رمضان 1362هـ/ 20 سبتمبر 1943م بزيارة الولايات المتحدة، وأجريا مفاوضات مع المسؤولين الأمريكيين دارت حول المساعدات الاقتصادية الأمريكية للمملكة، وتنمية الموارد البترولية السعودية، وسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط([97]).
ومما يجدر ذكره أن الولايات المتحدة الأمريكية عينت الكولونيل وليم إدي W. Eddi سفيراً لها لدى المملكة العربية السعودية، وقد بعث إدي Eddi إلى حكومته برقيات جاء فيها: ” إن عبدالعزيز يشرفه أن يموت شهيداً في ميدان الجهاد دفاعاً عن فلسطين في معركتها ضد اليهود ” ، وجاء في مذكرة وليام إدي المؤرخة في 1 فبراير 1945م أن الملك عبدالعزيز صرح بأن الأمة العربية تواجه خطرين ، هما:
أ ـ الضغط الفرنسي على سوريا.
ب ـ الضغط اليهودي على فلسطين.
وقال أيضاً: ” على أمريكا وبريطانيا الاختيار بين أرض عربية وعالم عربي يسودهما الأمن والسلام والهدوء، وأرض يهودية غارقة في الدم “.
وأضاف جلالته قائلاً: ” إننا نطلب من أمريكا تسوية لمشكلة فلسطين على أساس تقاليد العدل الأمريكي، فإن أمريكا تكون بذلك قد خسرت صداقتها معنا ، وسوف تندم على ذلك ، إن الاختيار على أي حال لأمريكا، ونحن قلنا رأينا، ونرغب منكم أن تعلنوه إلى حكومتكم “([98]) .
اهتم الرئيس الأمريكي بهذا الأمر، فهو يعرف أن الملك عبدالعزيز ليس كغيره من الحكام الذين يقتصرون على الأقوال دون الأفعال، كما أن الرئيس الأمريكي روزفلت من خــــلال المكاتبات التي دارت بينـــه وبين الملك عبدالعزيز بات معجباً بشخصية الملك عبدالعزيز القوية ، فأخذ الرئيس روزفلت يعمل على ترتيب لقاء مع الملك عبدالعزيز ؛ ليعرف منه عن كثب آراءه عن القضيــة الفلسطينية ، وفعلاً تم تحديد اللقاء بين الزعيمين الكبيرين في شهر فبراير 1945م([99]).
في غرة ربيع الأول 1364هـ/ 14 فبراير 1945م اجتمع الرئيس الأمريكي روزفلت إلى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود على ظهر الطراد الأمريكي (كوينسي) في البحيرات المرة في قناة السويس بمصر، وتباحث الزعيمان في أمور عامة عن الحرب ، ثم تناولا القضية الفلسطينية، وحاول روزفلت أن يظفر بتأييد من الملك عبدالعزيز لتوطين اليهود في فلسطين، فلم يظفر منه بجواب ، بل رد عليه الملك عبدالعزيز : ” فلتعطهم وذريتهم خير أراضي وخير بيوت الألمان الذين اضطهدوهم ” ، وفشلت جميع محاولات روزفلت بإقناع الملك عبدالعزيز بما يريد، وخرج روزفلت من الاجتماع وهو يصف الملك عبدالعزيز بأنه الشجاع النبيل([100]).
ولا ريب أن الرئيس الأمريكي قد تأثر بما قاله الملك عبدالعزيز ، وقال: ” بأن ما عرفته من ابن سعود عن فلسطين في خمس دقائق أكثر مما عرفته في حياتي كلها “. وقال روزفلت أيضاً: ” بين جميع الأشخاص الذين تحدثت معهم في حياتي ما وجدت واحداً حصلت منه أقل مما حصلت من هذا الملك العربي بالإرادة الحديدية “([101]) .
وذكر روزفلت أيضاً أن ما وعاه من عبدالعزيز عن قضية المسلمين واليهود كان أوسع بكثير مما قد يوفره له تبادل العديد من الرسائل حول القضية([102]).
واجتمع الملك عبدالعزيز كذلك إلى رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشـــل Winston Charchill في الفيـــوم، وتم بحث قضـــــية فلسطــــين من جميع جوانبها ، وأوضح الملك عبدالعزيز لتشرشل ما كان قد دار من بحث فيها مع روزفلت وما وعد به، فوعد المستر تشرشل الملك عبدالعزيز بمساعدة العرب، وعدم الإجحاف بحقوقهم، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث ، بل حدث الغدر والخداع، وكانوا يعطون العرب وعوداً بقصد التضليل والتخدير، لكنهم يعطون لليهود كل ما في وسعهم من تأييد وتحقيق في كل شيء، فكانت بريطانيا دائماً تغدر بالعرب في كل وعودها وعهودها مع العرب والمسلمين منذ نكبوا باستعمارها ، وبعث الملك عبدالعزيز إلى السير ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني برسالة مماثلة لتلك التي أرسلها للرئيس الأمريكي روزفلت.
وكان الملك عبدالعزيز يبذل قصارى جهده للحيلولة دون قيام دولة يهودية في فلسطين، وذلك على حسب رأيه سوف يؤدي إلى قيام نزاع بين العرب واليهود ؛ وذلك لأن اليهود يعتزمون التوسع منذ البداية، وسوف ينشئون جيشاً قويا يستخدم في أهداف عدوانية ضد العرب؛ لأن هدفهم النهائي هو فلسطين وشرقي الأردن والمدينة المنورة وغيرها.
هذا ما تنبأ به الزعيم العربي ذو الرؤيا البعيدة، وهو يستشرف آفاق المستقبل، لذا كان يصر في كل مواقفه مع بريطانيا أن تحد بأي شكل من الأشكال من الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، فقد كان عبدالعزيز يخدم قضية فلسطين بدافع الإيمان بالدين الحنيف أولاً، علاوة على أن قضية فلسطين هي قضية العرب كلهم ، وقد أكد عبدالعزيز في كل مناسبة أن واجبه يقضي عليه بالمحافظة على دينه وأولاده وشرفه وبلاده، وعرب فلسطين كأولاده، ويأتي أمر المحافظة عليهم بعد المحافظة على الدين([103]).
وقد بعث عبدالعزيز قبيل وفاة الرئيس روزفلت ببضعة أيام رسالة سجل فيها الموقف العربي المسلم من القضية، فرد عليه الرئيس الأمريكي برسالة أكد فيها مجدداً الوعد الذي قطعه له خلال اجتماعهما في فبراير 1945م.
لا ريب أن رسالة عبدالعزيز في رأيي هي أهم وثيقة عن قضية فلسطين في العصر الحديث، ولو أن العرب انتهجوا الطريق ذاته الذي رسمه عبدالعزيز للقضية لكان لهم اليوم وجهة نظر أخرى، وجهة لصالح القضية بالتأكيد ، وفي الرسالة الوثيقة من الموضوعية ما لا تجده في أية خطة أو كلام حول القضية الفلسطينية من قبل من يدّعون العلمية والموضوعية ، وستبقى هذه الرسالة للأجيال العربية الإسلامية وللتاريخ.
والآن ماذا في رسالة عبدالعزيز إلى روزفلت؟ .
الرسالة مؤرخة في 26 ربيع الأول 1364هـ الموافق 10 مارس (آذار) 1945م، وهي موجهة من الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية إلى صاحب الفخامة المستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد الديباجة والتحيات أشار الملك عبدالعزيز إلى انتصار المبادئ التي قامت الحرب من أجلها، وذكره بأنه يراد الآن القضاء على حق الحرية والديمقراطية، فذكره بحق العرب في فلسطين الذي يريد دعاة الصهيونية اليهودية القضاء عليه.
أكد الملك عبدالعزيز حق الحياة لكل شعوب العالم، وهو حق طبيعي أقرته مبادئ الإنسانية ، وأعلنه الحلفاء في ميثاق الأطلسي، والحق الطبيعي للعرب في فلسطين لا يحتاج إلى بيان، فقد أوضح الملك عبدالعزيز أن العرب هم سكان فلسطين منذ أقدم العصور التاريخية، أي منذ 3500 ق. م عندما سكنها الكنعانيون، وفي سنة 1000 ق.م هاجر من العراق (آور عاصمة الكلدانيين) بقيادة النبي إبراهيم فريق من العبرانيين، وأقاموا في فلسطين، ثم هاجروا إلى مصر بسبب المجاعة، فاستعبدهم الفراعنة إلى أن أنقذهم سيدنا موسى، وعاد بهم إلى أرض كنعان، ولكنهم خالفوا نبيهم موسى ، وخالفوا قول الله سبحانه وتعالى، فكتب الله عليهم التيه في سيناء إلى أن قادهم يشوع ابن نون إلى فلسطين، وهو الذي احتل أريحا.
وانقسم اليهود بعد ذلك إلى دولتين ، هما مملكة إسرائيل (السامرة) في نابلس ، ومملكة يهوذا في القدس، وتم القضاء على الدولتين من قبل البابليين والآشوريين، وعاد اليهود إلى القدس بأمر قورش([104]).
واستعرض الملك عبدالعزيز المراحل التاريخية في فلسطين كحكم اليونان والرومان، والفتح الإسلامي لفلسطين، وأخيراً الحكم العثماني في فلسطين إلى أن جاء الحكم الإنجليزي في مطلع القرن الحالي.
وهكذا أوضح الملك عبدالعزيز تاريخ فلسطين العربية مبيناً أن العرب أول من سكنوا منذ ثلاثة آلاف سنة وخمسمائة قبل الميلاد، واستمر سكناهم فيها إلى اليوم ، وحكموها وحدهم ألف وثلاثمائة سنة تقريباً، أما اليهود فلم تتجاوز مدة حكمهم المتقطع فيها 380 سنة، وكلها إقامات متفرقة، ومنذ سنة 232 ق.م لم يكن لليهود وجود في فلسطين إلى أن دخلت القوات البريطانية إلى فلسطين عام 1917م؛ ولذلك لم يكن اليهود إلا دخلاء على فلسطين.
أما الحقوق الثابتة للعرب في فلسطين فترتكز على مرتكزات أساسية ، هي:
1 ـ حق الاستيطان في فلسطين منذ 3500 ق.م حتى اليوم.
2 ـ الحق الطبيعي في الحياة.
3 ـ ليس العرب دخلاء على فلسطين، ولا يراد جلب أحد منهم من أطراف المعمورة لإسكانهم فيها.
4 ـ لوجود بلادهم المقدسة فيها.
أما اليهود فإن دعواهم التاريخية هي مغالطة، ثم إن حكمهم القصير لا يعطيهم أي حق في ادعائهم أنهم أصحاب البلاد.
إن حل قضية اليهود المضطهدين في العالم يمكن أن تتعاون عليه جميع دول العالم، ولا يمكن أن تكون فلسطين هي الوحيدة في مجال الحل، وأشار إلى أن وضع اليهود في دولة آهلة بالسكان يشكل خطراً على أهل فلسطين والبلاد العربية؛ وذلك لأن اليهود يشكلون تشكيلات عسكرية خطيرة يمكن أن تهدد العرب جميعاً؛ لأن اليهود سيقومون باعتداءات ومذابح ضد العرب، وستكون الصهيونية عامل إفساد بين العرب والحلفاء، علاوة على أن مطامع اليهود لا تقتصر على فلسطين بل على العرب جميعاً، وأكد أن تكوين دولة يهودية سيكون ضربة قاضية لكيان العرب ومهددة للسلم باستمرار ومصدر اضطراب بين العرب واليهود.
وختم رسالته برجاء إلى الرئيس روزفلت بمنع الأخطار التي تهدد العرب من قِبل اليهود ؛ حتى يعيش العرب بأمن وسلام في أوطانهم([105]).
ورد الرئيس الأمريكي روزفلت على رسالة الملك عبدالعزيز، وشكر الملك عبدالعزيز على آرائه القيمة في القضية ، ووعده بألا يتخذ أي موقف يخص قضية فلسطين دون استشارة العرب واليهود، كما وعد بألا يتخذ أي موقف عدائي للشعب العربي ، وأن موقف حكومته بهذا الشأن لن يتغير([106]).
غير أن روزفلت توفي بعد ذلك بقليل، وانتهج خلفه سياسة مغايرة إزاء القضية الفلسطينية.
هذا هو الملك عبدالعزيز في فضائله ونقائه في سياسته الخارجية والداخلية على السواء ، فقد استشف آفاق المستقبل ، وحدد كل مسارات التاريخ منذ 3500 سنة قبل الميلاد، وأقرأه العالم كله في هذه الوثيقة مما سيسهل على الإنسان المثقف والقارئ البصير أن يرى خلاصة زمن طويل تحادثت فيه العقول، واختلفت عليه المفاهيم، وضل فيها من ضل في حقبة من التاريخ والقرون([107]).
والحقيقة أن الإنجليز والأمريكيين على السواء يؤيدون ويناصرون الصهيونية، بالرغم من وعودهم التي قطعوها للعرب بعدم اتخاذ أي موقف يضر بالعرب، وهكذا لم تنجح محاولات الملك عبدالعزيز في جعلهم يقومون بالحق والعدل والإنصاف، ولكن الكذب والغش ديدنهم، ويؤكد ذلك ما جاء في القرآن الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120).
وغداة تولي الرئيس الأمريكي هاري ترومان السلطة خضع الرئيس المذكور لتأثير جماعة الضغط الصهيوني، وأصدر ترومان أمراً قرر فيه السماح لمائة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين ، وبعث إليه الملك عبدالعزيز آل سعود رسالة يستغرب فيها هذا القرار المناقض لتعهد حصل عليه من سلفه جاء فيه أنه لن يقرر شيء في فلسطين قبل الاتصال بالعرب الطرف المعني مباشرة بالأزمة ، ورد الرئيس ترومان رسيماً بأنه لا يعرف شيئاً عن وجود مثل هذا التعهد([108]).
وبعث الملك عبدالعزيز برد على الرئيس ترومان يذكره بالتعهد الذي قدمه الرئيس الأمريكي الراحل روزفلت، ولكن ترومان أنكر وجوده، واستمرت المراسلات بين الملك عبدالعزيز والرئيس الأمريكي ترومان، وكلها تستنكر التصريحات العدائية التي نسبت للرئيس ترومان عن مستقبل فلسطين والتي تعد ضربة قوية للعرب، علاوة على أنها مناقضة لتأكيدات الحلفاء وكذلك تأكيدات الرئيس روزفلت للملك عبدالعزيز ، وإزاء تدخل الحكومة الأمريكية اضطرت الحكومة البريطانية أن تعلن أن باب الهجرة سيظل مفتوحا بعد انتهاء المدة التي حددها الكتاب الأبيض، وأن لجنة إنجليزية أمريكية ستقوم بالتحقيق في هذه القضية([109]).
لجنة التحقيق الإنجليزية الأمريكية 1365هـ/1946م :
قررت الحكومة البريطانية بصفتها الدولة المنتدبة على فلسطين بعد أن رأت التدخل الصريح من قبل الولايات المتحدة في شؤون هذه القضية (فلسطين) قررت بريطانيا بالتعاون مع الولايات المتحدة تأليف لجنة تحقيق مشتركة إنجليزية أمريكية (أنجلوأمريكية) لدراسة القضية من جميع جوانبها على ضوء تحرياتها التي تجريها في المنطقة.
طافت لجنة التحقيق الإنجليزية الأمريكية معظم الدول العربية بهدف الوصول إلى حلٍّ مرض لمشكلة فلسطين ، وقد وصلت اللجنة إلى المملكة العربية السعودية في 16 ربيع الثاني 1365هـ/19 مارس 1946م، واجتمعت إلى الملك عبد العزيز ، واستمعت إلى آرائه في موضوع فلسطين.
أكد الملك عبد العزيز للجنة التحقيق اهتمامه الشخصي بقضية فلسطين ، فقال: “أنا من العرب وللعرب، والمسلمون يعرفون ديانتي وتمسكي بأحكام الإسلام “، واستطرد قائلا:” اليهود أعداؤنا في كل مكان… ولا يدخرون وسعاً في إحداث الخلافات بيننا وبين بريطانيا وأمريكا، كما أنهم يعملون بالفساد وضد مصلحتنا “. وهذا ما يتجنبه العرب ، ولا يريدونه.
وأضاف جلالته قائلاً: ” إن هجرة اليهود إذا استمرت على ما هي عليه وتوسعت أملاكهم في فلسطين فسيكونون خطراً على العرب كافة؛ لأن لديهم جميع الوسائل لإمدادهم بالأسلحة والنقود وغيرها “.
واستطرد الملك عبد العزيز ليوضح للجنة التحقيق أسباب تردي حالة عرب فلسطين ، فقال: ” إن العرب نهضوا للدفاع عن بلادهم والمطالبة بحقوقهم واستعادة ما سلب منهم، لكن كيف يتسنى للعرب أن يباروا اليهود، وهم بين مصلوب على أعواد المشانق وسجين وشريد ومغرب؟ ” ، وأوضح الملك دوره في تهدئة خواطر العرب ومحاولة التوفيق بين بريطانيا والعرب، كما بين وضعه الحرج بعد أن اتضحت سياسة بريطانيا بعد الحرب في فلسطين ، فسأله أحد أعضاء اللجنة عن التقسيم، فقال: ” أنا واحد من العرب ، وأرفض ما رفضوه “، كما رفض هجرة اليهود إلى فلسطين وتملكهم الأراضي فيها، وقال: ” إذا أوقفت بريطانيا الهجرة ومنعتها منعاً باتاً وأوقفت كذلك بيع الأراضي أمكن الوصول إلى حل جميع المشاكل “([110]) .
وظهرت بعد ذلك توصيات لجنة التحقيق الإنجليزية الأمريكية التي تتضمن السماح لمائة ألف يهودي بالهجرة إلـى فلسطين، ورفع الحظر عن انتقال الأراضي لليهـــود، والإبقاء على الانتداب البريطاني ؛ حتى يصبح بالإمكـــان قيام دولة أو عدة دول([111]).
احتج العرب جميعاً– وعلى رأسهم جلالة الملك عبدالعزيز –على توصيات لجنة التحقيق ، وأعربت الحكومة السعودية عن استيائها واستنكارها لهذه القرارت، وذكّرت كلا من الحكومتين الأمريكية والبريطانية بالوعود التي قطعتها للعرب من أجل الحفاظ على صداقة البلاد العربية والإسلامية، وطلبت الحكومة السعودية وقف هذه التوصيات وعدم تنفيذها ؛ حتى لا تحدث قلاقل في المنطقة ، ويتسرب اليأس إلى نفوس العرب، ويفقد الإنجليز والأمريكيون صداقة العرب([112]).
وبعثت الجامعة العربية بمذكرة للولايات المتحدة الأمريكية في 12 يونيو 1946م، أوضحت فيها أن قرارات اللجنة غير ملزمة، وردت الحكومة الأمريكية على المذكرة بأنها لن تتخذ أي قرار بشأن اللجنة دون التشاور المسبق مع الدول العربية([113])، وكان ذلك نتيجة اتفاق العرب جميعاً وضغطهم على الولايات المتحدة ، وبخاصة موقف الملك عبد العزيز الذي عاهد على الجهاد المقدس دفاعا عن فلسطين العربية، كما وجه خطاباً لوزير خارجية بريطانيا يطلب منه الوفاء بالعهود والمواثيق، وأرسلت حكومة المملكة مذكرتين ، إحداهما لبريطانيا ، والأخرى للولايات المتحدة الأمريكية، وقد ناشدت حكومة المملكة هاتين الدولتين بالامتناع عن تنفيذ تقرير اللجنة لما قد ينشأ من أضرار بحقوق العرب تهدد أمن المنطقة والسلام في العالم([114]).
وقد عَدَّتْ حكومة المملكة العربية السعودية أن اللجنة الأنجلو أمريكية كانت متحيزة لصالح اليهود ، ولم تكن محايدة وموضوعية في تقريرها ؛ من أجل تمكين اليهود من إقامة دولة لهم في فلسطين، وهذا يناقض الوعود التي قطعها الإنجليز والأمريكيون للعرب، ويناقض حق تقرير الشعوب لمصيرها، ومناقض لكل مبادئ الحق والعدل والأمم المتحدة([115]).
وقد بعث الملك عبد العزيز برسائل إلى الرئيس الأمريكي هـــــــاري ترومان H. Truman ذكّره فيها بصلات المودة والصداقة بين البلدين، وندد بالدعاية الصهيونية وبقرارت مجلس النواب والشيوخ الأمريكيين بشأن تأييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين([116]). كما بعث الملك عبدالعزيز باحتجاج شديد اللهجة بشأن قرارت لجنة التحقيق الإنجليزية الأمريكية وتوصياتها، وكتب رسالة إلى الرئيس الأمريكي ترومان شجب فيها التوصيات، وحذر من ارتكاب ظلم فادح ضد الشعب الفلسطيني ، وذكره بأن العرب ينظرون إلى قضية فلسطين بأنها قضية حياة أو موت، وحذر من أن عدم معالجة هذه القضــــية بحكمة وبروح العدل والإنصاف سيؤدي إلى أخطار لا يعلم مداها إلا الله ([117]).
وقد أجاب ترومان برسالة في 8 شعبان 1365هـ/8 يوليو 1946م، يعرب فيها عن إدراك جلالة الملك عبدالعزيز الأسباب الإنسانية التي أوجبت على هذه الحكومة التدخل في مشكلة فلسطين، وأن السماح لمائة ألف يهودي ليس تعدياً على حقوق العرب في فلسطين ، وأنه لا يؤدي إلى تغيير في الوضع الحالي([118]).
وقد رد الملك عبدالعزيز على ترومان بخطاب يؤكد فيه الحق الطبيعي للعرب في فلسطين وأطماع اليهود التي يضمرونها للعرب جميعاً ، وليس لفلسطين وحدها، وندد بالتصريح الذي يؤيد مطالب اليهود في فلسطين وهجرتهم إليها([119]).
ولا ريب أن الملك عبدالعزيز عَدَّ توصيات لجنة التحقيق والبيان الأمريكي الصادر عن الرئيس ترومان بالسماح لمئة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين عدَّ ذلك كله تعدياً على حقوق العرب ومناقضا لمبادئ العدالة، وعدَّ تصريح ترومان تحيزاً أمريكياً لليهود([120]).
ومهما يكن من أمر فإن رسائل ترومان تفصح عن عزم الولايات المتحدة الأمريكية وتصميمها على مساعدة اليهود لإنشاء دولة يهودية لهم في فلسطين بغض النظر عن الأخطار التي قد تنجم عن قيام هذه الدولة؛ وذلك لأن ترومان يخضع لجماعات الضغط الصهيوني (اللوبي الصهيوني)، ولذا فإنه سيكون أكثر تصميماً لتحقيق أحلام الصهيونية رغم معارضة العرب ورغم معارضة وزير خارجيته المستر مارشال([121]).
هذا هو عبدالعزيز الذي جابه قوى الاستعمار والصهونية، فقد رفض الجاه والمال؛ إذ عرض الأمريكيون والإنجليز عليه أن يكون سيد الشرق الأوسط بدون منازع، وأن يعطى له المال الوفير نظير موافقته على مطالب الصهيونية([122])، وقد خرج عبدالعزيز من هذه التجربة أقوى وأعظم جاهاً ومجداً وسيادة في المنطقة العربية؛ لأنه قاوم كل إغراءات الأجانب، ودافع عن حقوق العرب والمسلمين في فلسطين والبلاد العربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق