الجمعة، 4 مارس 2016

العقيدة الركيزة الأساسية لرؤية إيران للعالم

بقلم د. باكينام الشرقاوي
متخصصة في الشؤون الإيرانية- كلية العلوم السياسية- جامعة القاهرة
المصدر: موقع قناة الجزيرة
السبت 27/1/1422هـ الموافق 21/4/2001م
مثلت الثورة الإيرانية أول ثورة إسلامية ناجحة فى العصر الحديث. وهي الحدث الذي كان له أكبر الأثر على سياستها الخارجية بسبب التغيير الحادث في داخل إيران وفى رؤيتها للعالم الخارجى ولتغير خريطة الحلفاء والخصوم في البيئة الدولية والإقليمية. ومنذ هذه اللحظة التاريخية عانى صانع القرار الإيراني من الحيرة والتخبط بين ما تمليه المصلحة القومية ومتطلبات الأهداف الأيدولوجية التي غيرت من مصادر التهديد للدولة الإيرانية والفرص السانحة أمام النظام الإيراني.
في مرحلة ما بعد الخمينى وما بعد الحرب العراقية الإيرانية، عملت السياسة الخارجية الإيرانية على المساعدة في تحقيق الأهداف الاقتصادية في محاولة لتنمية التجارة والاستثمار الأجنبي الذى تحتاجه إيران بشدة لإعادة بناء ما دمرته الحرب. فكان شعار رافسنجاني الرئيسي البناء، وأصبح الانفتاح على الخارج غاية هامة لجذب استثمارات أجنبية توقف تدهور الوضع الاقتصادي وتحافظ على بقاء النظام نفسه. استمرت أهمية البعد الاقتصادي في ظل خاتمي فتم التركيز على نقل التكنولوجيا وتطوير التجارة ولكن تحت مفهوم أشمل للتنمية يحوي ليس فقط الأبعاد السياسية بل الثقافية أيضا والتي استخدمتها إدارة خاتمي بكفاءة من أجل الحفاظ على جسور الحوار ممدودة مع الدول التي يتعثر تطوير العلاقة معها بالشكل الذي تطمح إليه إيران.
"
لم تعد السياسة الخارجية الايرانية تقوم على رفض أو تأييد شىء وانما بناء على موقف مدروس وتحليلها الخاص للمجتمع الدولى
"
بمعنى آخر حدث تحول في أهداف السياسة الخارجية الإيرانية من مجرد محاولة مواجهة الظروف المحلية الطارئة وتلبية الاحتياجات في ظل معطيات الوضع القائم إلى محاولة معرفة الظروف الدولية، بحيث لم تعد السياسة الخارجية الإيرانية تقوم على رفض أو تأييد شىء وإنما بناء على موقف مدروس وتحليلها الخاص للمجتمع الدولي فهو اتجاه جديد يختلف عما كان سائدا في عهد رفسنجانى ويسعى إلى تقديم رؤية إيرانية للنظام الدولي ودور إيران فيه. وبهذا يمكن القول إن سياسة إيران الخارجية انتقلت من مجرد كونها سلسلة من ردود الأفعال إلى مرحلة الصياغة الحقيقية التي لها خططتها المستقبلية. وفي هذا السياق طرحت إيران مفهوم حوار الحضارات الذي نجح في إعادة السياسة الخارجية إلى مسارها الثقافي الصحيح بخلاف ما كان سائدا في الماضي من تركيز على الجانب الاقتصادي فقط. أصبح يقوم توجه صانع القرار الإيراني نحو العالم الخارجي على إستراتيجية ثقافية تنطلق من محاولة الترويج للثقافة والحضارة الإيرانية من أجل مزيد من النجاح في سياسة الانفتاح على العالم التى لا بديل لإيران عنها في هذه اللحظة التاريخية التي يمر بها النظام الدولي –وبالفعل لاقت هذه الدعوة للحوار بين الحضارات
ترحيب كثير من الدول، خاصة الأوروبية، ولقد استغل خاتمي ما قدمته الانتخابات الإيرانية خاصة البرلمانية الأخيرة من صورة طيبة للتطور الديمقراطي في إيران وأرسل إشاراته الإيجابية للعالم الخارجي.
ومن ثم فرض خطاب خاتمي الإصلاحي تساؤلا رئيسيا حول حقيقة تغير السياسة الخارجية الإيرانية والرؤية الإيرانية لكثير من القضايا الدولية المطروحة مثل حقوق الإنسان وطبيعة التعامل مع المنظمات الدولية والعلاقات المشتركة مع أوروبا والنظرة تجاه العالم العربي
وتعريف الأمن القومي، وما إذا كان تغيير جوهرى أم مجرد نوع من المواكبة لنبرة حكومة خاتمي الإصلاحية كما تبدو للعالم الخارجي، ولعل الأهم رصد التحولات الحقيقية في السياسات نفسها التي عبرت عن هذا الخطاب الإصلاحي. ومن هنا يجب الإشارة إلى أنه بالرغم من قوة التيار المحافظ وعلى رأسه مرشد الثورة إلا أن خاتمي بات يشكل ظاهرة إصلاحية تتجاوز شخصه حيث حظي بتقدير المحافظين أنفسهم وعلى أقل تقدير يعتبرونه وجها مقبولا للتيار الإصلاحي، كما أصبح الإصلاح حركة مؤسسية قانونية دستورية من الصعب تجاوزها مهما بلغت قوة مناوئيها.
إيران وتطور العلاقات مع العرب:
لعبت العقيدة دور الركيزة الأساسية لرؤية إيران الثورية للعالم الخارجي خاصة في العقد الأول من عمرها. وتعبر مقولة الخميني أصدق تعبير عن ذلك حين أعلن "إننا نواجه الدنيا مواجهة عقائدية". لقد قدمت الثورة لغة خطابية جديدة ومتفردة للتعبير عن الخارج (وكذلك الداخل) فتميزت بإسلامية المفاهيم من خلال الاقتباس الناجح والمؤثر من القرآن الكريم الذي أعطاها الفعالية المطلوبة للتأثير على المتلقي لهذا الخطاب. وتلخص المعيار الأساسي للتمييز والتفرقة على المستوى الخارجي في مصطلح "الاستكبار"
اعتبر المنظور الإيرانى مفهومي الاستقلالية والحكم الإسلامي المحورين الأيديولوجيين الرئيسيين، وهما في الواقع المدخلان الأيديولوجيان اللذان أثرا بشكل أو بآخر على تطور العلاقات العربية الإيرانية، فحينما زاد التمسك بهما زادت درجة التوتر في هذه العلاقات، وهو ما ساد في الثمانينيات خاصة في ظل الحرب العراقية الإيرانية وموقف العرب المساند للعراق أمام ما عرف بالتهديد الإيرانى للمنطقة. ومما يميز الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنها تمتلك بالفعل نظرية سياسية لماهية الحكم الإسلامي –محورها مفهوم ولاية الفقيه- وتراها الحل الإسلامي الحقيقي لمشاكل العالم الإسلامي.
وارتبطت هذه الفترة بمبدأ "تصدير الثورة" الذي تعاني دول الخليج من حساسية مفرطة تجاهه لوجود أقليات شيعية كبيرة فيها خاصة البحرين ثم السعودية والكويت. واختلف أفراد النخبة الإيرانية حول وسائل تصدير الثورة الملائمة والفعالة، فهناك من رأى تقديم النموذج أو المثل كأداة رئيسية للتصدير وبالتالي حبذ هذا الاتجاه الوسائل السلمية ولكن هناك رأي آخر فضل أسلوب التصدير العسكري ولكنه مثل الاتجاه الأضعف وسرعان ما اختفى منذ عام 1986 تقريبا.
وكانت قيادة رفسنجانى لإيران إلى الاعتدال السياسي بمثابة عامل تخفيف لقيود البيئة الخارجية حيث أحدث تحولا تدريجيا في مجالات مثل تصدير الثورة وقاد انسحابا منظما للأنشطة العنيفة خارج البلاد.
إذا ما اعتبرنا أن مفهوم الحكم الإسلامي ومفهوم الاستقلالية هما حجر الزاوية في الرؤية الأيديولوجية الثورية الإيرانية، فيمكن القول إن المحور الأول حكم علاقة إيران بدول الخليج مما قاد إلى علاقات متوترة معها. أما بالنسبة لاستقلاليتها وللعداء للدور الأميركى والإسرائيلي فقد كان عامل تقارب على مستوى عربي آخر وهو سوريا والسودان تم فى إطاره التغاضي عن المحور الأيديولوجي الآخر خاصة مع سوريا.
ومن ناحية أخرى ظل تأثير الثورة الإيرانية الإسلامية على المنطقة العربية تأثيرا فكريا وأيديولوجيا ومعنويا بالأساس. إن انحسار نطاق التأثير داخل محيط الأفكار ارتبط بالقيود التي فرضها النظام الدولي على إيران. ومع مرور الوقت والاتجاه نحو مزيد من البراجماتية بدأ يخف الصراع بين متطلبات المصلحة القومية والمصلحة الأيديولوجية. لم يتحقق الفتور في العلاقات الإيرانية العربية والعداء في بعض الحالات إلا فى البدايات الأولى للثورة. ثم بدأ التغيير بالتدريج مع تغير لهجة خطاب النظام الإيراني وخفوت حدته وتحوله لمزيد من البراجماتية على المستوى الخارجي ولم يعد هذان المحوران يتحكمان في مسار العلاقات مع العرب.
بقبول قرار 598 بدأت مرحلة جديدة في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه العرب، فلم تعد الحرب محورا لرسم الأهداف الخارجية الإيرانية. وعملت إيران على تحسين صورتها الخارجية مع اهتمام واضح بالتسليح وعمليات إعادة البناء. وبدأ صوت البراجماتيين يعلو وتتحسن العلاقات مع العالم العربي.
وفي سياق قضية الحركات الإسلامية التي طالما كانت عائقا أمام وجود علاقات عربية إيرانية سلسة لم تلعب إيران دورا تكوينيا أو تثويريا للحركات الإسلامية في الوطن العربي، لكنها لعبت دورا تحفيزيا ومعنويا، بذلك لم يتعد تأييد إيران للحركات الإسلامية في المنطقة نطاق الدعم المعنوي أو تقديم النموذج الرائد وهو النموذج الذي اهتز بسبب ظروف إيران الداخلية ونجاح معظم الدول التي توجد بها جماعات إسلامية معارضة في تحجيم عملها.
الخليج كمحور الاهتمام بالدائرة العربية:
تحظى منطقة الخليج بقمة سلم الأولويات الإيراني -خاصة في ظل استبدال شعار جديد هو "كل من الشمال والجنوب" بشعار "لا شرق ولا غرب"-، تليها العلاقة مع سوريا ثم تأتي بقية الدول العربية.
لا شك أن حرب الخليج الثانية مثلت نقطة تحول إيجابية في انفتاح إيران على العالم العربي، فقبلها لم تكن القيادة الإيرانية تأمل في أن تمارس دورا إقليميا مهيمنا، إلا أنه بعد انكسار قوة العراق العسكرية أصبح النظام الإيراني يتمتع بهامش واسع من حرية الحركة في المنطقة. قامت العراق عقب احتدام أزمة الخليج الثانية بقبول اتفاقية الجزائر لتحييد القوة الإيرانية في الصراع، وذلك بعد حرب استمرت ثماني سنوات. كما استغلت إيران الخلافات العربية– العربية في ظل ما ساد من تداعيات انتهاء حرب الخليج الأولى والخوف الخليجي من القوة العراقية. وظهرت عدة عوامل دولية وإقليمية أخرى ساعدت على توطيد العلاقات الإيرانية الخليجية، فقد شهدت المنطقة تطورات هامة في مقدمتها دخول كل من الهند وباكستان النادي النووي، الأولى تمتلك سواحل طويلة على الطريق المؤدي لبحر عمان والخليج والبحر الأحمر والثانية ترتبط ارتباطا مباشرا بإيران عبر حدود برية تتجاوز الخمسمائة كيلومتر. ثم تصاعد الأزمة الأفغانية وسيطرة طالبان وعلاقاتها الطيبة بباكستان. وبالمثل جاء التعاون الإستراتيجي العسكري بين تركيا وإسرائيل وانعكاساته السلبية على الأمن القومي العربي والإيراني على السواء دافعا قويا لتكريس الرغبة الإيرانية في الانفتاح على دول الخليج والمنطقة العربية عامة في وقت تذبذبت فيه عملية السلام ثم توقفت. وتطلعت إيران إلى أن تصبح القوة الرئيسية في منطقة الخليج، فهي تمتلك من المقومات الموضوعية ما يسمح لها بذلك، سواحل على طول الخليج، تعداد يتعدى 65 مليون نسمة (أكبر دولة من ناحية السكان في المنطقة)، وبعد الحظر على البترول العراقي أصبحت ثاني أضخم منتج للبترول بعد السعودية. وتصف إيران نفسها كأكبر دولة في المنطقة وبالتالي صاحبة أكبر مصالح بها ومن ثم يجب أن تكون مسموعة الكلمة في ما يخص شؤون المنطقة. من ناحية أخرى تدرك إيران أن كبر موارد قوتها الجيوبوليتيكية والاقتصادية والثقافية تعد حائلا هاما امام تحالفها إقليميا مع دول الخليج حيث تغذى مخاوف هذه الدول من احتمالات هيمنة إيران على المنطقة ولذا تشعر بأمان أكثر باللجوء لدول من خارج المنطقة مثل الولايات المتحدة.
تقوم إستراتيجية النظام الإيراني –أيا كان شكله- على تأمين استقرار منطقة الخليج من خلال نظام أمن إقليمي تضطلع فيه إيران بدور قيادى مهيمن طارد لأي وجود قوي من قبل قوة أخرى من المنطقة (ومن باب أولى من خارجها). فمن ثوابت السياسة الخارجية الإيرانية منذ الثورة رفض الوجود الأجنبي في منطقة الخليج ولا يقتصر هذا الرفض على الوجود الأميركي بل لأي وجود من قوى إقليمية كبرى خارج النطاق الجغرافي لمنطقة الخليج. وهي الرؤية الكامنة وراء رفض صيغة 6+2 الخاصة بإعلان دمشق الذي هو وفق الرؤية الإيرانية يدخل دولا أخرى مثل مصر، مما قد يضر بالتوازن الذي لا تريد إيران تهديده. ويجيء العمل على استقرار منطقة الخليج هدفا في حد ذاته من أجل توجيه طاقات المنطقة للتنمية الداخلية وإنهاء أحد المبررات التي يسوقها الطرف الأميركى لوجود قوات أجنبية كبيرة بالخليج.
بالرغم من تذبذب العلاقات الايرانية الخليجية بسبب قضيتي الجزر واضطرابات البحرين، استمرت كل من قطر وعمان في علاقة قوية مع إيران خاصة وأن مضيق هرمز فرض خصوصية التعاون العسكري والأمني بين إيران وعمان. وانضمت لهما بعد ذلك الكويت بدرجة أو بأخرى مع استمرار العلاقات متدهورة مع كل من الإمارات وبدرجة أقل البحرين. ثم جاء الانفتاح الكبير بعد الجفوة كما هو الحال مع السعودية. فثمة رهان خليجي على التوجهات المعتدلة لخاتمي لتجاوز المرحلة السابقة وتقديم طرح جديد للإشكاليات المتبادلة بدون تقديم تنازلات حيال القضايا الخلافية مثل قضية الجزر التي يتمسك فيها الطرف الإيراني بأسلوب المفاوضات الثنائية وليس غيرها، أو عملية السلام قبل توقفها والتي ترى إيران أنها لن تقود لسلام عادل يرد الحقوق للفلسطينيين أو غيرهم وترى أن ما حدث في جنوب لبنان قد يكون نموذجا يحتذى به، أو من الوجود الأميركي في الخليج.
ولعل العلاقة الإيجابية التي بدأتها السياسة الخارجية الإيرانية تجاه السعودية صاحبة أكبر نفوذ بين دول الخليج خاصة منذ زيارة رفسنجانى لها عام 1998- تعد ركيزة لانطلاقة إيرانية جديدة تجاه منطقة الخليج. ونجح التنسيق الإيراني السعودي في مضمار الأوبك وسياسة إنتاج النفط في تحقيق مكاسب لكلتا الدولتين. حيث كانت العلاقة التعاونية بين الدولتين التي توثقت منذ تولي خاتمي الرئاسة في الحفاظ على الإجماع بين دول الأوبك. وبارتفاع أسعار النفط حققت إيران مكاسب اقتصادية وسياسية فزاد الثقل الجديد لإيران في الأوبك من وزن إيران في المنطقة. ولعل النجاح الإيراني على صعيد الأوبك كان من بين الدوافع الهامة التي دفعت الولايات المتحدة لتخفيف بعض القيود على التجارة مع إيران.
وفي ما يخص العراق لا تنتقد إيران بالشدة المطلوبة استمرار العقوبات الدولية حيث إن إضعاف العراق أمر لازم للإبقاء على توازنات القوى في المنطقة، ولكنه الإضعاف بدون التقسيم بسبب التركيبة السكانية للإيرانيين والتي تتهدد في حالة إنشاء دولة كردية شمال العراق.
ومنذ تولي خاتمي الرئاسة زاد الاهتمام الإيراني بالدائرة العربية غير الخليجية ممثلة في البداية بمحور يضم كلا من سوريا ولبنان ويسعى لكسب مصر. ومن المتوقع تزايد التقارب إذا ما دخلت التطورات الإقليمية الجديدة في الحسابات حيث تمر عملية السلام بتدهور حاد يهدد بانهيارها.
وتتميز العلاقات السورية الإيرانية بالخصوصية والتفرد، فالدولتان تفرقهما الأيديولوجية (علمانية النظام السوري وإسلامية النظام الإيراني) وتجمعهما المصلحة والخصوم (الولايات المتحدة وإسرائيل والعراق) والمنفعة المادية المتبادلة.وبالرغم من التفاوت في قوة هذه العلاقات فإنها استمرت وتخطت أي مشاكل قد تظهر. فحتى على مستوى تداخل وتشابك المصالح والنفوذ على الساحة اللبنانية استطاعت الدولتان السيطرة على التباين في الأساليب وتداخل مناطق النفوذ من أجل استمرار هذه العلاقة الحيوية للطرفين، فسوريا بمثابة مدخل إيران للعالم العربي، وإيران ورقة ضغط هامة في يد سوريا في مفاوضاتها مع إسرائيل. وركزت السياسة الخارجية الإيرانية في لبنان على المجتمع والعلاقة مع الطائفة الشيعية خاصة حزب الله. وجاء التطور الحاسم منذ انتخاب خاتمي في تعزيز العلاقات على مستوى المؤسسات من خلال تبادل الزيارات على مستوى كبار المسؤولين من البلدين.
بالرغم من إظهار الرغبة في إعادة العلاقات مع مصر فإن العلاقات معها انحصرت حتى الآن في المجالات الاقتصادية والبرلمانية والإعلامية والثقافية عامة. وتأمل القيادة الإيرانية في تحالفات إقليمية قوية تحول من مصير المنطقة ولذا ترى محدودية تأثير العلاقات
التوافق الإيراني السعودي:
الثنائية التي تربطها بدول الخليج كل على حدة، فهي ترى مثلا أنه إذا تحقق محور إيران- السعودية- مصر سيحدث فارق كبير في مستقبل المنطقة، ولكنها فى الوقت نفسه تدرك مدى قوة وفعالية معارضة الولايات المتحدة لما يمثله ذلك من تهديد مصالحها في المنطقة. كما تدرك القيادة الإيرانية أنه من الصعب جدا تحقيق "هذا الحلم"، فالأسهل أن يحاول العرب تدعيم التعاون في ما بينهم قبل أن يفضلوا التحالف مع إيران.
كما طورت إيران علاقاتها بالسودان التي اعتبرت بعد الثورة بوابة الثورة الإيرانية لتصدير الثورة فضلا عن استقطاب التحالف ضد الولايات المتحدة. وبدأ تعزيز العلاقات الإيرانية السودانية منذ 1985 واكتسب أهمية أكبر لكونه لا يمثل مدخلا للدائرة العربية بل أيضا للدائرة الأفريقية (حظيت عدة دول أفريقية مثل جنوب أفريقيا والسنغال وإثيوبيا بالاهتمام الإيراني). وازداد توثق العلاقات منذ 1989 مع انقلاب عمر البشير وتوجت زيارة رفسنجانى للخرطوم هذا التعاون متعدد الأبعاد التي ترواحت بين الاقتصاد إلى البعد العسكري والإستراتيجي. وقوى الطابع الإسلامي للحكم والموقف الأميركي من النظام السوداني من العلاقات بين إيران والسودان.
وامتد بصر القيادة الإيرانية إلى دول المغرب العربي، خاصة مع تونس التي فاقت الصلات بها كلا من الجزائر والمغرب.
وتسعى إيران إلى عودة علاقاتها الطبيعية مع الجزائر وتخطي الأزمة التي أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية عام 1992 ويساعدها على ذلك رغبة الرئيس بوتفليقة في تحسين علاقات الجزائر الخارجية كما توسمت إيران خيرا في محاولات الوفاق الوطني. أما بالنسبة للمغرب فكانت علاقاتها التجارية المطورة مع إسرائيل وما اعتبرته إيران دورا مغربيا ملحوظا في تدعيم التطبيع العربي مع إسرائيل من أهم العقبات أمام تطوير علاقات إيران بالمغرب خاصة فى ظل العلاقات المغربية الأميركية والموقف غير الواضح من قضية الصحراء. وامتد النشاط الإيراني إلى إجراء مباحثات مع ليبيا في محاولة لإخراج العلاقات بين البلدين من البرود الذي مرت به طيلة سنوات سابقة بسبب الاتهامات الإيرانية لليبيا بالضلوع في اختفاء الإمام بني صدر، وهي بذلك تحاول تعويض خسارتها الإستراتيجية في الجزائر، إلا أن ليبيا استبعدت أن تحل محل الجزائر بالرغم من مواجهة كلتيهما للولايات المتحدة.
العلاقة مع الغرب كمحدد للتوجه الخارجي:
ارتبطت إيران قبل الثورة بالكتلة الغربية وقامت بأدوار مختلفة منها دور حامية المنطقة، الا أنه مع نجاح الثورة الإسلامية ورغبتها في القيام بدور مستقل على الساحة الدولية انقلبت المعادلات الموجودة وتسببت في ردود أفعال متعددة من قبل الدول الغربية منها الحصار الاقتصادي والحرب مع العراق.
من أهم الإشكاليات التي يواجهها صانع السياسة الخارجية تحديد علاقته بالغرب، وتكسب هذه العلاقة أهمية محورية في السياسة الخارجية الإيرانية فبناء عليها تتشكل العلاقة مع العالم الخارجي ككل، العراق، أمن الخليج، النفط والغاز، إسرائيل، فلسطين، العلاقات مع العرب. ففي ظل العلاقة المتوترة بين إيران والقوة المركزية تشكلت أبعاد العلاقة بين إيران ونظمها الإقليمية فى الخليج وآسيا الوسطى.
تقوم سياسة إيران الخارجية على الخروج من العزلة المفروضة عليها وجعلها فاعلا رئيسيا في أمن واقتصاد الخليج وآسيا الوسطى في محاولة لكسب النفوذ داخل المنطقة الأولى والثالثة من حيث احتياطيات النفط والغاز. فمن الناحية الإقليمية توجد إيران في منطقة مخترقة بشدة من الغرب ولا بد من تحديد نهج السياسة الخارجية الإيرانية هل سيقوم على رفض الغرب وإدراك تناقض النظم بسبب الطابع الإسلامي للنظام الإيراني أم إيجاد صيغة للعمل مع الغرب.
تعاني إيران من حساسية شديدة تجاه الغرب ناشئة من الخبرة التاريخية السيئة للنفوذ الغربي التي عاشتها إيران في تاريخها الحديث من عام 1941 إلى عام 1979 حيث ساد استغلال القوى الغربية لإيران ومواردها وانتهاك ثقافتها ومن ثم تثير العلاقة مع الغرب المخاوف على الاستقلالية الوطنية. وبالرغم من هذه المخاوف فهناك إعجاب بتقدم الحضارة الغربية ومن هنا تصبح العلاقة مع الغرب هي "الكشاف المرشد" للسياسة الخارجية الإيرانية.
وفي هذا السياق لم ينظر صانع القرار الإيراني إلى الغرب باعتباره كيانا موحدا، استغلت السياسة الخارجية الإيرانية التمييز بين القوى الغربية خاصة الولايات المتحدة في جانب وأوروبا واليابان فى الجانب الآخر للتحرك في مساحة أكبر من حرية الحركة.
إيران والولايات المتحدة:
مثلت إيران تحديا لنموذج الأمن الأحادي الأميركي والحضور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ولهذا الخلاف جذور تاريخية وجغرافية وأيديولوجية، وكلما زاد الطابع الأيديولوجي للسياسة الخارجية الإيرانية كلما زاد الصراع مع الولايات المتحدة وأهدافها الإقليمية. وارتفعت درجة العداء بين الولايات المتحدة وإيران خاصة بعد الثورة مباشرة وطيلة ولاية الخميني، فالخلاف في جوهره أساسي وجذري ويمس المصالح ويقف الدعم اللامحدود المستمر الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل عقبة رئيسية أمام تخطيه، خاصة وأن التحالف مع إسرائيل الدعامة الأساسية للإستراتيجية الأميركية في المنطقة والأداة الأولى لتحقيق مصالحها. إلا أن هذا العداء وإن استمر بعد ذلك لكنه خفت حدته وتلطفت المصطلحات المعبرة عنه في ظل تعدد التصريحات من الجانبين التي تعطي الأمل في عودة العلاقات.
وركزت إيران في توجهها نحو العالم الخارجي خاصة الغربي وبشكل أخص الأميركي على مفهوم ثقافي جديد وهو حوار الحضارات، في محاولة لنفي صورة الإرهاب والتطرف عنها والتي روجت لها وسائل الإعلام الأميركية واليهودية بالأساس.
وتتركز مسائل الخلاف بين الدولتين من وجهة النظر الإيرانية في عدة نقاط منها: الأرصدة الإيرانية المجمدة منذ قيام الثورة والتي تقدر بنحو 12 مليار دولار، الحظر التجاري والتكنولوجي والعسكري الشامل المفروض على إيران والذي يعوق تنمية بنائها الاقتصادي والعسكري بعد الحرب. ففي ظل تطبيق سياسة الاحتواء المزدوج على كل من إيران والعراق لتطويقهما قامت أميركا بفرض حظر اقتصادي شامل في مايو/ أيار 1995 وألحق بقانون داماتو 1996، كذلك قيام الولايات المتحدة بما تعتبره إيران تدخلا في شؤونها الداخلية مثل تأييد مظاهرات الطلبة في يوليو/ تموز 1999 وإصدار التقارير التي تدين إيران بإنتهاك حقوق الإنسان وتضييق الحريات الدينية. كما يأتى الخلاف حول الموقف من كثير من القضايا الإقليمية التي تهم الدولتين ومن أهمها الموقف من التسوية السلمية للصراع العربى الإسرائيلي.
وقد خففت الولايات المتحدة من بعض القيود عام 2000 للسماح باستيراد السلع الإيرانية. إلا أن ذلك لم يمنع جورج بوش من تجديد الحظر الأميركي على التجارة والاستثمار في إيران. ورغم تزايد الاتصالات غير الرسمية بين الولايات المتحدة وإيران منذ أن دعا خاتمي لفتح الحوار بين الشعبين في 1998، فلا يزال الحوار يواجه عراقيل لا يستهان بها وتقول كل من واشنطن وطهران إنها تنتظر خطوات سياسية ملموسة من الجانب الآخر قبل أن يتم تحقيق أي تطور باتجاه تطبيع العلاقات. ومازال مرشد الثورة يصف الولايات المتحدة بالعدو الأول لإيران ويندد بالداعين لإعادة العلاقات إلى طبيعتها.
ولم يكف رموز التيار المحافظ عن الهجوم على الولايات المتحدة حتى عقب اعتذار كلينتون لإيران عن الظلم الذي سببه لها موقعها الجيوبولوتيكى الهام. ولذا فإن التفاؤل في هذا الخصوص يعنى سوء فهم لأوضاع إيران الداخلية. فبالنظر لعمق التحول الثورى الذي حدث داخل إيران، فمن الصعب تصور إجراء التغييرات المطلوبة في هوية النظام السياسي بشكل يغير من توجهاته الخارجية بما يتوافق مع الرؤية الأميركية. وأمام جوهرية ومحورية الخلاف الأميركي الإيراني فهو في جذوره خلاف حضاري رأى التيار المحافظ في العلاقة مع الولايات المتحدة تعارضا مع مصير الثورة والنظام لما يمثله من تهديد للهوية الإسلامية لإيران التي لا يمكن التفريط فيها. واضطرت إيران إلى إحداث مراجعات في علاقاتها وسياساتها الخارجية لموازنة الموقف الأميركي بهدف إيجاد بدائل للعلاقة مع الولايات المتحدة مثل تطوير العلاقات مع روسيا والصين وكوريا الشمالية وأوروبا.
وعلى الجانب الآخر يرى بعض المحللين أن مسألة العلاقة بين البلدين ليست مشكلة إيرانية بقدر ماهي مشكلة أميركية، فما زالت مراكز سلطة أميركية داخلية مثل الكونغرس الموالي لإسرائيل تقف عقبة أمام تحسين العلاقات مع إيران. فبالنظر إلى الخسائر التي تتكبدها إيران خاصة على المستويات الإقليمية سواء في الخليج أو آسيا الوسطى من جراء الحصار الأميركي، يمكن للنظام الإيراني أن يكون أكثر مرونة وأقل ممانعة في عودة العلاقات خاصة وأن إيران في مجال علاقاتها مع بريطانيا أثبتت أنها قادرة على إزالة العقبات من أمامها كلما استلزمت المصلحة ذلك.
من الواضح إذن أن العقبات في الساحة الداخلية لكل من الدولتين عقبات عديدة تجعل من عودة العلاقات إلى مستويات طبيعية أمرا ليس بالسهولة المرجوة. إذا كان هذا هو الحال في ظل نجاح الإصلاحيين في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة حيث لم تتعد محاولات التقارب مع الولايات المتحدة مستوى التصريحات الرسمية والتي هي في كثير من الأحيان تكون تصريحات مترددة بل ومتضاربة ومتعنتة أحيانا أخرى إذا أدخلنا تصريحات المرشد والتيار المحافظ، فمن المتوقع أن تزداد صعوبة التوصل لصيغة تفتح المجال لعودة العلاقات إذا ما فاز المحافظون في الانتخابات القادمة.
إسرائيل الوجه الإقليمي للهيمنة الأميركية:
احتلت القضية الفلسطينية منذ اندلاع الثورة الإسلامية مكانة خاصة في السياسة الخارجية الإيرانية على مستوى منظومة القيم الأيديولوجية وعلى مستوى السياسات والأدوات المستخدمة للتعامل معها. لقد كان عرفات أول مسؤول أجنبي يزور طهران وتحول مبنى السفارة الإسرائيلية إلى مقر لتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن قطعت القيادة الإيرانية الثورية علاقاتها مع إسرائيل ثم بعد ذلك مع مصر بسبب معاهدة السلام المبرمة بين الدولتين. ظلت فلسطين والدعوة للجهاد من الأبعاد الثورية الهامة في الخطاب الأيديولوجى الرسمي بالرغم من انفصام عرى العلاقة بين السياسة الخارجية الإيرانية وكثير من المبادئ الأيديولوجية الثورية مثل تصدير الثورة وغيرها، فالحل النهائى لمشكلة الفلسطينيين عند خامنئي ما زال يكمن في الجهاد الكامل ضد النظام الصهيونى.
لقد استمرت إيران في عدم الثقة في النهج السلمى وقدرة الاتفاقيات المبرمة على حسم الصراع لصالح الفلسطينيين أصحاب الحق، لقد أعلن خرازى في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2000 أن "السلام مع إسرائيل ليس إلا سرابا". بل كان أسلوب المواجهة العسكرية هو المعتمد لديها وكانت المساندة الإيرانية لحزب الله في لبنان أبرز دليل على ذلك. كما كونت الجمهورية الإسلامية الإيرانية علاقة خاصة بحماس والتي تعد أحد أهم أدوات السياسة الخارجية الإيرانية في تعاملها مع قضايا الصراع العربي الإسرائيلي حتى وإن اقتصر الدعم على البعد المعنوي كما يؤكد الطرفان.
وجاء نجاح حزب الله في فرض الانسحاب على قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان في الوقت الذي تعثرت فيه اتفاقيات السلام العديدة المبرمة منذ اتفاق أوسلو وتفجر الانتفاضة الثانية أو ما عرف بانتفاضة الأقصى ليزيد من نبرة الثقة في الخطاب الرسمي الإيراني معلنا في أكثر من موضع صواب وحكمة موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من الصراع العربي الإسرائيلي. وفي المقابل على الجانب العربي أشادت بعض الأطراف العربية مثل كل من سوريا ولبنان في أكثر من مناسبة بالموقف الإيراني من جنوب لبنان.
لقد أوضح خاتمي الرؤية الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية وحل الوضع الحالى المتأزم في الأراضى المحتلة في قمة الدوحة الأخيرة والتي تدور حول مفهوم الدولة الفلسطينية متعددة الأديان multi-faith state التي كانت قائمة قبل 1948، فقد نادى خاتمي في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 "بعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى فلسطين" وباستفتاء ديمقراطي للسكان الأصليين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودا لتقرير الشكل المستقبلي للحكم. ويتلخص الهدف هنا في إنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية على كل فلسطين التاريخية وتكون عاصمتها القدس؛ وعلى الدولة المستقلة أن تحدد من يعيش فيها. فوفق تصريحات خاتمي فإن "النظام الصهيونى، الذي تأسس على مذابح الفلسطينيين واحتلال أراضيهم وتوسيع احتلالها من خلال دعم القوى الاستعمارية، هو نظام غير شرعي" وأن مساندته يعد خرقا لحقوق الإنسان التي طالما رفعتها الولايات المتحدة لأنها تقف في مواجهة أصحاب الحق الحقيقيين. وقد أشار خاتمي إلى إسرائيل باعتبارها "أكبر عدو للعالمين العربي والإسلامي". واعتادت إيران أن تصف إسرائيل بأنها نموذج "للإرهاب الحكومي" ربما يكون التأكيد على هذا الوصف نوعا من الرد على ما تتهم به إيران من كونها دولة إرهابية.
بل وأكثر من ذلك أعلنت إيران على لسان زعيمها آيات الله خامنئي أن النظام الصهيونى لإسرائيل هو المصدر الرئيسي للأزمة في الشرق الأوسط ولذا لا بد من محوها، فالهدف الرئيسي وراء خلق إسرائيل في المنطقة هو زرع الخلاف بين المسلمين. وليس هناك قوة تستطيع محو فلسطين من التاريخ والحضارة الإنسانية. ومن ثم فعلى مستوى الخطاب الأيديولوجى الرسمي الذي يمثله المرشد ما زال هناك أهداف مثالية مثل القضاء على إسرائيل وهي الأهداف التي تخلى عنها العرب أنفسهم سواء دول مواجهة أو غيرها منذ فترة بعيدة، وهو التصور الذي يضفي خصوصية على الرؤية الإيرانية حتى ولو انحصرت على مستوى الخطب الرسمية. وتعد إيران معارضا رئيسيا وسط الدول الإسلامية لأي تحسين للعلاقات مع إسرائيل التي لا تعترف بوجودها.
وربطت إيران مثلها مثل معظم الدول العربية والإسلامية بين العدوان الإسرائيلي الفظ على الشعب الفلسطينى الأعزل والتمادي فيه وبين الموقف الأميركي المتخاذل أمام حليفه الإستراتيجي الأول في منطقة الشرق الأوسط. وفي وضع آخر كثر الهجوم الإيراني على الولايات المتحدة بالنظر لما تدعيه من كونها المدافع الأول عن حقوق الإنسان في وقت تتجاهل فيه عمليات القتل المنظمة التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي، فهي الازدواجية الأميركية التي شاركت فيها إيران العالم العربي انتقاده للموقف الأميركي، كما هاجم كل من العرب وإيران التأثير الإسرائيلي الفعال على الادارة الأميركية باعتبار أن السياسات الأميركية ليست إلا انعكاسا لضغوط اللوبى الصهيونى في الولايات المتحدة.
ولعل الموقف من القضية الفلسطينية يعد أحد المحاور الهامة لاستمرارية إيران في لعب دورا هام كقوة إقليمية كبرى في المنطقة. ومن ناحية أخرى ارتبط ترتيب الحلفاء الإقليميين وتقوية العلاقة بين الشركاء بالموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، ومن أبرز الأمثلة على ذلك العلاقة الإيرانية السورية، حيث تتقارب الرؤى والسلوك. ولعل التقارب المصري الإيراني المرتقب يعود في جزء منه إلى تداعي الإحداث الدامية في المنطقة خاصة داخل الأراضي الفلسطينية بشكل يجعل من الموقف الإيراني المعادي لإسرائيل غير مستهجن بنفس الدرجة التي كانت في السابق وأصبح له ما يبرره خاصة في ظل قيام الأخيرة بتعليق المفاوضات السلمية مع الفلسطينيين.
العلاقة مع أوروبا:
لم تضع إيران الغرب كله في سلة واحدة بل كانت دوما الدول الأوروبية (واليابان) محلا للحوار واستمرار العلاقات وعودتها بعد حدوث أي أزمة عكس الوضع مع الولايات المتحدة، فمفهوم العداء والترقب لم يشمل الغرب ككل بل هناك نوع من الانتقائية خص الولايات المتحدة وإسرائيل بالهجوم والرغبة في الدفاع عن النفس ومقاومة المخططات الرامية إلى حصارها والضغط عليها.
وعلى الجانب الآخر تبلورت مصالح أوروبية مستقلة –خاصة إيطاليا وفرنسا وألمانيا- بعيدا عن النفوذ الأميركي التقطها إيران لتطوير علاقاتها بأوروبا. ومثال ذلك ما واجهته إستراتيجية الاحتواء المزدوج من انتقاد أوروبى (ويابانى) متزايد وكان من الأسباب الرئيسية لفشل وعدم فعالية هذه الإستراتيجية. لقد استفادت إيران من تضارب المصالح الأميركية– الأوروربية خاصة على المستوى الاقتصادي لما له من أهمية قصوى، فالاتحاد الأوروبي على وفاق سياسي مع الولايات المتحدة، لكنه في الوقت نفسه منافس اقتصادي لها، وهو الأمر الذي يزيد من أهمية إيران لدى أوروبا. بل إن إيران في أكثر من مناسبة ترحب بالوجود السياسي الأوروبي في منطقة الخليج وغيرها وتشجع المبادرات الأوروبية للسلام في الشرق الأوسط والتي ترفضها الولايات المتحدة وإسرائيل.
كان عام 1997 هو عام الأزمة الكبرى في العلاقات الإيرانية الأوروبية بسبب أزمة قضية ميكونوس، ونتج عن هذه الأزمة سحب سفراء 15 دولة أوروبية ووقف ما سمي بالحوار النقدي. ثم كان عام 1998 عام " الهرولة الأوروبية" نحو طهران. فقد أدركت أوروبا أن فشل التفاهم مع إيران ستكون هي الخاسر الأكبر فيه خاصة مع سعي إيران لإحلال روسيا والصين في علاقاتها التجارية بدلا من أوروبا.
وبدأت الزيارات المتبادلة بين المسؤولين من الجانبين وكانت معظم الوفود الأوروبية في طهران ذات طابع اقتصادي وتوجت زيارات خاتمي لعدة دول أوروبية منها ايطاليا وفرنسا وألمانيا تطور هذه العلاقات وعكست سياسة الانفتاح التي انتهجتها إيران بدءا من عهد رافسنجانى. وكانت كل من فرنسا وايطاليا واليونان والمانيا وبريطانيا من أهم الشركاء الأوروبيين لإيران.
لم يتطرق الطرفان الإيراني والأوروبي إلى القضايا الخلافية التي تخل بتطور العلاقات أثناء زيارات خاتمي الأخيرة. ومن بين القضايا المثيرة للجدل بين الطرفين حقوق الإنسان والإرهاب.
وتؤكد إيران رفضها للإرهاب وتعترض على حرية عمل الجماعات الإرهابية في فرنسا وغيرها. كما سعى خاتمي لمزيد من طمأنة الغرب بالتعهد بتشجيع الديمقراطية ومكافحة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. وقد نجح خطاب خاتمي الجديد في تحقيق مسعاه على المستوى الخارجي، حيث قامت الدعاوى الأوروبية لتحسين العلاقة مع إيران على ضرورة دعم الاتجاه التحديثى الذي يقوده خاتمي لما يحققه من مصلحة غربية تتحقق بتأمين الشرق الأوسط لأن إيران بلد كبير وديمقراطيتها واستقرارها مهمان لهذه المنطقة.
وكانت لزيارات خاتمي لأوروبا والتي بدأت بإيطاليا بمثابة بوابة الدخول في حوار شامل وموسع ومتعدد الأطراف مع الغرب وفي الوقت نفسه دفعة قوية لخاتمي في معادلة الهرم السلطوي الداخلي.
وحققت إيران من هذه الزيارات عدة مكاسب أولها اكتساب الشرعية والاعتراف من أوروبا وإبلاغ الرأي العام الإيراني أن لسياسة الانفتاح مكاسبها الاقتصادية التي ستساعد على تحريك الاقتصاد الإيراني الذي يعانى من تزايد معدلات البطالة والركود بعد تولي خاتمي السلطة.
إذا نظرنا إلى الإستراتيجية الإيرانية الجديدة تجاه أوروبا نجد أن إيران بدأت مرحلة الرد على الطوق الإقليمي الذي تحاول أن تفرضه واشنطن عليها باختراق الدائرة الغربية الأميركية قى عقر دارها. فما زالت جهود إيران لمواجهة الطوق الأميركي جنوبا في الخليج وشرقا في أفغانستان وشمالا في آسيا الوسطى جهودا متعثرة. حيث تؤثر هذه الدول مصالحها مع القطب الأميركي على أي مصالح متوقعة بالتعامل مع إيران حتى وإن كانت حيوية.
روسيا وتحالف إستراتيجى:
بانهيار الإمبراطوية السوفياتية، تخلصت إيران من مشكلة الجار القوي، مما مثل مكسبا ماديا وأيديولوجيا حرر النظام الإيراني من أحد هواجسه الأمنية. إلا أنه تزامن مع بروز القوة الأميركية قطبا أعظم، وأثر هذا الوضع على حدود علاقة هذا القطب بالدول الطامحة في لعب دور أكبر في محيطها الإقليمي. ومن ناحية أخرى توثقت العلاقات الإيرانية الروسية وشاركت الدولتان في كثير من الرؤى لمواجهة هذه الهيمنة الأميركية في النظام الدولى الجديد، فتشابهت المواقف من أفغانستان ووسط آسيا لما تشعران به من محاولات الولايات المتحدة وحلفائها لتحجيم نفوذهما وإنكار دورهما في مشروعات نفط بحر قزوين.
"
توثقت العلاقات الإيرانية الروسية وشاركت الدولتان في كثير من الرؤى لمواجهة هذه الهيمنة الأميركية في النظام الدولى الجديد
"
اتضحت العلاقة القوية بين روسيا وإيران عندما تصاعد التعاون بين البلدبن في المجال النووى حيث دخلت روسيا لاستكمال بناء محطة بوشهر النووية عام 1995 بعد انسحاب كل من ألمانيا وأوكرانيا بسبب الضغوط الأميركية الإسرائيلية. وفي الزيارة الأخيرة التي قام بها خاتمي لموسكو تم الإعلان عن موافقة روسيا على بناء ثلاثة مفاعلات نووية أخرى بتكلفة تقدر بحوإلى بليوني دولار. إن للدولتين مصالح إستراتيجية مشتركة أكبر بكثير من التعاون النووي. كما أنه من وجهة النظر الإيرانية تمثل روسيا مصدرا أساسيا للتسليح وللمساندة التي يمكن أن تخفف من الضغوط الدولية الواقعة على إيران.
لقد أعلن الطرفان عن تدعيم التعاون الاقتصادي والعسكري من خلال عدة اتفاقيات وقعت من بينها ما يتعلق بإمداد إيران بالأسلحة "الدفاعية" كما أعلنت الدولتان مثل دبابات وقطع غيار. والأهم كان في مجال التوصل لاتفاق حول النظام القانونى لاستخدام موارد مياه بحر قزوين الغنية والتي ثار جدل حولها بين الدول الخمس المطلة عليه، وكانت إيران قد أعلنت أنها ستقبل بحصة تبلغ 20% من موارد النفط الغنية في بحر قزوين. كذلك اتفق الجانبان على معارضة وجود قوات أجنبية في هذه المنطقة والعمل على مد أنابيب البترول لهذا البحر. كما وقع الزعيمان اتفاق حول تدعيم العلاقات الاستراتيجية الثنائية.
ولقد غطت الأهمية الإستراتيجية للعلاقات الإيرانية الروسية على أي أبعاد أخرى للعلاقة حتى الاقتصادية منها، فعندما وجدت إيران صعوبة في دفع ديونها لروسيا وشهدت الصادرات الروسية لإيران تقلصا ملحوظا وافقت روسيا عام 1995 على جدولة دفع الديون الإيرانية. كما قيدت العلاقات الإيرانية الروسية الكبيرة من الموقف المؤيد المتوقع لأزمة الشيشان وعندما طالبت بوصفها دولة إسلامية بوقف العمليات الحربية في الشيشان نددت روسيا بالموقف الإيراني، فأعطت إيران الاعتبار الأقوى للعلاقات مع روسيا، حيث إنها لا تستطيع أن تضحي بحليفها الإستراتيجي في المنطقة خصوصا في ظل حالة العزلة التي تفرضها عليها الولايات المتحدة. ومن هنا جاء الاعتراف الإيراني بأن الأزمة الشيشانية ذات شأن روسي داخلي. وبالمثل جاء الموقف الإيراني من أزمة كوسوفو متناغما مع الموقف الروسي.
بعد ما أفرزته الزيارة الأخيرة لخاتمي لموسكو من اتفاقيات، منها تنظيم حق استخدام النفط في بحر قزوين، من المتوقع استمرار العلاقات الإيرانية الروسية في أفضل حالاتها خاصة في ظل ما يجمعها من خصومة مع الولايات المتحدة الأميركية.
توجه آسيوى جديد:
أقدم المسؤولون الإيرانيون مرات عديدة على طرح سياسة "التوجه إلى آسيا"، فالجمهورية الإسلامية تنظر إلى مسألة تنمية العلاقات بمختلف جوانبها مع القارة الآسيوية باعتبارها تحظى بأهمية قصوى وأولوية كبيرة، بالنظر إلى أن آسيا حققت أعلى نسبة في معدلات النمو الاقتصادي، كما أنه في ظل الموقع الجغرافي المناسب لتجارة الترانزيت ووجود طاقة وفيرة وعمالة رخيصة وسوق استهلاكية مناسبة فإنها سرعان ما ستسعى لتتخذ مكانتها اللائقة في ظل التحولات السريعة التي تمر بها قارة آسيا. وفي هذا السياق اكتسبت العلاقة الوثيقة التي تسعى لأن تبنيها إيران مع كل من اليابان والصين أهمية قصوى.
وجاءت زيارة خاتمي للصين لتعبر عن أهمية هذا التوجه في السياسة الخارجية الإيرانية' خاصة وأن الدولتين تشتركان في رؤيتهما لكثير من الشؤون الدولية ومنها الموقف من الهيمنة الأميركية في النظام الدولي الجديد، حيث تساند الدولتان التعددية في النظام العالمى. ومن ناحية أخرى تمتلك إيران احتياطات نفط كبيرة في وقت تعد الصين من كبار مستوردي الطاقة ومن ثم أقامت الدولتان علاقات اقتصادية وثيقة في عدة مجالات منها الطاقة والطرق والنقل والصلب وبناء السفن وارتبطا أيضا بمشاريع مشتركة كبيرة من أهمها تمويل مشروع مترو طهران. كما ساعدت الصين إيران في الحصول على التكنولوجيا النووية. ولا يجب إغفال ما تخشاه الصين من امتداد التطرف الأصولى إلى الحركة الانفصالية الإسلامية في إقليم زنجيانج كمصدر إضافي لترحيب الصين بأي علاقات وثيقة مع إيران.
تأثرت العلاقة الاقتصادية بين إيران واليابان في عقد التسعينيات حيث وقع الاقتصاد الياباني تحت الضغط الأميركي وانزوى عن التنافس في إيران مع شركائه الأوروبيين، مما أثر سلبيا على علاقة اليابان بإيران بالمقارنة بالثمانينيات، ولكن عادت العلاقات لتقوى من جديد ومثلت زيارة خاتمي لليابان دليلا هاما على ذلك وعلى رغبة إيران في عدم خسارة اليابان كشريك تجاري ممتاز. وتحتل إيران المرتبة الثالثة في قائمة الدول المصدرة للبترول لليابان الشريك الاقتصادي الأول لإيران على المستوى الدولي. وفي الواقع فإن كلا من إيران واليابان يكمل أحدهما الآخر اقتصاديا.
أما عن سياسة إيران الخارجية تجاه المشكلة الأفغانية فسرعان ما زال تفاهم إيران مع باكستان بوصول حلفائها طالبان لكابل وسيطرتهم على معظم أراضى أفغانستان. كما فجر سقوط مدينة "مزار الشريف" عام 1998 عاصمة الجبهة المتحدة المعارضة لطالبان في الشمال الأفغاني ومقتل الدبلوماسيين الإيرانيين الأزمة بين طالبان وطهران. وتعود جذور هذا الخلاف إلى بدايات ظهور حركة طالبان التي اعتبرتها إيران مؤامرة أميركية باكستانية للضغط على حدود إيران الشرقية. وتأكدت هذه المخاوف بعد مقتل زعيم حزب الوحدة الشيعي الأفغاني في مارس/ آذار 1995 بيد قوات طالبان في رسالة واضحة إلى طهران حول موقف الحركة من الأقلية الشيعية في أفغانستان، وقد دفع الموقف المعادي لها إيران إلى تقديم العون المادي والمعنوي لتحالف المعارضة ضد طالبان.
وترجع بعض التفسيرات هذا الخلاف للاختلاف المذهبى حيث تنتمى طالبان إلى الباشتون وهم سنة. ولكن الأمر المؤكد أن إيران تسعى لتجنب اقامة نظم معادية لها في أفغانستان فهي من دول الجوار الجغرافي المباشر لها ويمس هذا الوضع ليس فقط أمنها القومي ولكن مصالحها الاقتصادية خاصة وأن إيران تسعى لإحياء طريق الحرير الذي يجعل من طهران حلقة وصل بين جمهوريات آسيا الوسطى والجانب الغربى من الكرة الأرضية وترى إيران أن وصول طالبان للحكم والسيطرة على أقاليم أفغانستان سيقلل من فرصة طهران في إحياء هذا المشروع. في الوقت نفسه لا تشعر إيران بتهديد خطير مباشر لأمنها القومي نظرا لتفاوت ميزان القوة العسكرية بدرجة كبيرة لصالح طهران بالإضافة إلى ما حققته السياسة الخارجية الإيرانية من تقدم إقليمي ودولي يحجم من مخاطر طالبان لها.
ولأن الصراع الأفغاني لم يحسم بالكامل، فما زال له أثر على علاقات إيران مع روسيا ودول آسيا الوسطى والقوقاز بل والهند التي لم يعد أمامها بعد النجاح الباكستاني في أفغانستان سوى تقوية علاقاتها مع إيران لتكون بمثابة بوابة الهند على الأسواق الخارجية خاصة الآسيوية وبسبب خشية نيودلهي من انتقال عدوى طالبان إلى كشمير أيضا. ولذا فبالرغم من إعادة فتح نقاط مرور التجارة بين إيران وأفغانستان فإن هذا التحسن الطفيف مهدد بالانهيار في أي لحظة.
بشكل عام تحاول إيران أن تتخذ مداخل اقتصادية وثقافية في التعامل مع دول آسيا، غالبا ما تتركز المشاريع الاقتصادية الضخمة المتبادلة في مجالات الطاقة، مثل ما وقع من اتفاقية في مارس/ آذار 2000 لإنشاء خط أنابيب الغاز الإيراني لباكستان والهند.
أما عن تركيا المنافس التقليدى لإيران في منطقة آسيا الوسطى؛ فقد تذبذبت العلاقات الإيرانية التركية خلال 22 عاما منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران ما بين مهادنة وصراع خفي ومعلن. فعلى الرغم من رجوع سفراء كلا البلدين إلى طهران وأنقرة بعد انقضاء فترة استدعاء طويلة فإنه ظلت هناك مشكلات جوهرية تعترض مستقبل العلاقات بين البلدين مثل توتر العلاقات السورية التركية بين الحين والآخر وهجمات الجيش التركي على شمال العراق، والأهم في التحالف العسكري الإستراتيجى التركي الإسرائيلي. ومن ثم احتلت تركيا مكانة لها خصوصيتها في الرؤية الإيراينة، فهي ليست بالدولة المعادية كما كان الحال مع العراق في السابق وليست بالشريك الإستراتيجي كما هو الحال مع سوريا. في عهد أوزال قام الإيرانيون بخطوات واسعة في اتجاه تطبيع العلاقات مع تركيا بسبب ظروف الحرب العراقية الإيراينة وحاجة إيران الماسة لطرق تجارية غير خليجية. ولكن مع بداية التسعينيات عاد الفتور من جديد بسبب انتهاء هذه الحرب وازدياد قوة السياسيين الأتراك ذوي التوجهات الغربية وتوالت الأزمات الدبلوماسية والاتهامات التركية بتأييد حزب العمال الكردستاني والجماعات الإسلامية التركية فضلا عن الحرب الإعلامية على صفحات الجرائد. ومع تولي أربكان رئاسة الوزارة راود الإيرانيين الأمل في توطيد العلاقات مع تركيا، وبالفعل في أول زيارة خارجية له وقع أربكان في طهران عقدا قيمته 23 مليار دولار لشراء الغاز من إيران. ولكن بعد تولي يلماز الوزارة تنصل من تنفيذ هذا الاتفاق بحجة ارتفاع التكاليف، ولكن المعارضة الأميركية كانت السبب الحقيقي وراء ذلك. كما عمل أربكان على إحياء آلية التنسيق السوري التركي الإيراني الخاصة بشمال العراق، وهو التنسيق الذي ولا شك بتدعيمه كان سيغير موازين القوة في المنطقة لغير صالح إسرائيل.
رفضت المؤسسة العسكرية التركية القوية التوجه الإسلامي لحكومة أربكان، ومن ثم لعب عامل التباين في أيديولوجية نظم الحكم دورا هاما في تحديد مسار العلاقات الإيرانية مع تركيا، وهو الأمر الذي يبرهن على استمرار أهمية المكون الأيديولوجى ليس فقط في صياغة السياسة الخارجية الإيرانية بل الأهم في ردود أفعال الأطراف الدولية التي تتعامل معها إيران بعد الثورة.
ولكن يجب الإشارة إلى استمرار عمل اللجنة الأمنية المشتركة للحفاظ على العلاقات في حدها الأدنى. وأمام توطد العلاقة التركية الإسرائيلية في ظل المباركة الأميركية، توجهت الحكومة الإيرانية إلى تقارب أكثر مع الدول العربية في محاولة للضغط على محور أنقرة-تل أبيب الذي هو من وجهة النظر الإيراينة محور لتغيير المحيط السياسي الأمني بالشرق الأوسط، خاصة وأن المحاولات الإيرانية الكثيرة لتقوية العلاقات مع تركيا لم تؤت ثمارها المرجوة.
آسيا الوسطى.. المجال الحيوى الثانى:
وتأتى منطقة آسيا الوسطى مجالا حيويا لكسر طوق الحصار الأميركي المفروض على الدور الإيراني ولتفعيل عوامل تاريخية وثقافية تربط بين إيران ودول آسيا الوسطى بوصفها "دولا بكرا" تشهد تنافسا دوليا محموما للاستفادة بموارد الطاقة بها من نفط وغاز طبيعي بالإضافة إلى كونها دولا حبيسة، مما يفتح مجالا واسعا أمام التجارة وطرق المرور في إيران، خاصة وأن لإيران ميزة جيوبولتيكية داخل المنطقة لأن لها حدودا مع معظم هذه الدول.
وهناك تيار داخل الخارجية الإيرانية يؤمن بضرورة توجه إيران شمالا أكثر من التوجه جنوبا نظرا لأنها أكثر قبولا هناك حيث توجد عناصر مشتركة في اللغة (جمهورية طاجكستان) وفي القومية (أذربيجان) ولضخامة مصالحها في هذا الإقليم.
وقد أيدت إيران انضمام هذه الدول في منظمة التعاون الاقتصادي (الإيكو) والتي تضم إلى جانب إيران كلا من تركيا وأفغانستان وباكستان كإطار للتعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء كما ضمت الدول المطلة على بحر قزوين في منظمة تحمل هذا الاسم بغية التعاون والتنسيق في ما يخص بحر قزوين.
مرت إيران في تعاملها مع الجمهوريات المستقلة حديثا بعدة مراحل، بدأت المرحلة الأولى في ظل عدم معرفة حقيقية بهذه الدول فكان التركيز على البعد الديني والثقافي على حساب العلاقات الاقتصادية حيث آمنت إيران من منظورها الخاص بها أن هذه الدول تميل لأن تعود إلى جذورها وتؤسس دولها الإسلامية. فبدأت في توفير الدعم المعنوى لجماعات لا تتسق بالضرورة مع المصالح الإيرانية، مثال ذلك مساندة الحكومة في طاجيكستان عقب استقلالها والتي لها شعار إسلامي إلا أن الواقع أثبت بعد ذلك أنها ليست إلا تحالف بعض الإسلاميين مع المثقفين والأكاديميين وأنها حكومة موالية لروسيا واتبعت مسلكا مضادا للإسلام وأنها بعيدة تماما عن غالبية مواطني هذه الدولة وتعارض التوجهات القومية في طاجيكستان. فأثبت التعامل مع هذه الدولة عدم معرفة الطرف الإيراني معرفة دقيقة بمجريات الأمور في هذه المنطقة. وفي المقابل ساد التخوف من قبل هذه الدول من النوايا الإيرانية وأنها ستكون مصدرا لتهديد استقرار المنطقة بمحاولة إحياء الحركة الإسلامية بها.
وجاءت المرحلة الثانية بعد أن أدرك صانع السياسة الخارجية الإيرانية أنه لا يوجد حماس جماهيري وخاصة حكوميا تجاه إنشاء دولة إسلامية، وأن روسيا بنفوذها القوي في المنطقة لن تسمح بقيام مثل هذه الدول. فلم تجد إلا التوجه إلى روسيا كقوة رئيسية في المنطقة واعترفت بالمصالح الروسية فيها بل ودافعت عن الوجود الروسى في آسيا الوسطى فعام 1996 أعلن رفسنجانى أن احتياجات هذه الدول من طرق وصناعات والخبرة الأكاديمية توجد في روسيا وعلى هذه القوى الناشئة ألا تحاول خلق صراع معها بل تعمل على القضاء على مثل هذه الخلافات إن وجدت.
وقد بدأت الرؤية الإيرانية تتسم بالواقعية فكان التركيز على حفظ السلم والأمن في المنطقة خاصة وأن إيران كانت أول من عانى من الحرب الأهلية في طاجيكستان في شمالها بسبب تدفق اللاجئين على حدودها؛ وتطوير التعاون الاقتصادي والثقافي. وركزت إيران في مشاريعها الاقتصادية على تسهيلات الترانزيت والطرق ومن أمثلة ذلك بناء خط سكك حديدية تربط وسط آسيا بشبكة الطرق في إيران وبميناء بندر عباس في الخليج. لقد أعطى موقع إيران الجيوبولوتيكي ميزة في مسألة نقل نفط المنطقة عبر خطوط أنابيب والتي تتنافس مع تركيا على عقود إنشائها.
ولكن لأن إيران أقصر الطرق فتكلفة إنشاء خط أنابيب نفط يمر من إيران يقل بليون دولار عن مثيله الذي يمر من تركيا. بل إن إيران في الوقت الحالي تنفذ اتفاقية هامة لنقل نفط كل من تركمنستان وكازاخستان بمقتضاه تستقبل إيران نفطهما في حدودها الشمالية وتوزعه بأنابيبها الموجودة بالفعل للاستخدام المحلى وتقوم بتصدير النفط الإيراني في الجنوب بالنيابة عن هذه الدول. وتقف خصوصية التحالفات في المنطقة عائقا أمام تنفيذ اتفاق مماثل مع أذربيجان.
ومن ثم بعد خبرة قصيرة في التعامل مع هذه الجمهوريات حديثة الاستقلال اتبعت إيران النهج البراجماتى في التعامل مع دول آسيا الوسطى مركزة على البعد الاقتصادي دون الدخول لهذه الدول من المدخل الديني الذي من شأنه أن يثير المخاوف من الدور الإيراني والتركيز على العلاقات الثقافية والتاريخ المشترك. وتباينت درجة الاهتمام الإيراني لدول المنطقة بحسب أهميتها لإيران، فحظت طاجيكستان باهتمام أكبر نسبيا نظرا للغتها الفارسية بالرغم من انخفاض الفرص الاقتصادية فيها بسبب الحرب الأهلية. في حين زادت العلاقات الاقتصادية مع تركمنستان، فمع نهاية عام 1996 تقابل رئيسا الدولتين حوالى 14 مرة خلال خمس سنوات ووقعا حوالى مائة اتفاق.
وحظيت أوزبكستان بأقل درجة انفتاح إيراني نظرا للمخاوف القومية والدينية لحكومة أوزبكستان –بسبب الأقلية الكبيرة الطاجكية الناطقة بالفارسية وتاريخ مدينة بخارى.
بالرغم من النشاط الدبلوماسى الإيراني المكثف في هذه المنطقة حيث ما بين 1992 و1995 -على سبيل المثال- تمت حوالي 60 زيارة بين رؤساء الدول أو الوزراء وقع فيها اتفاق أو عقد بروتوكول، إلا أن النتيجة لم تكن ذات شأن حيث لم تتخط هذه الأنشطة مستوى المراسم والاحتفالات الرسمية. بل إن منظمة الإيكو التي ترتكن عليها إيران كمحرك للتعاون وكسب النفوذ، لم تحقق الآمال كمنظمة إقليمية تحقق الاندماج الاقتصادي لدولها طالما أن أعضاءها يفضلون التفاعل على مستوى العلاقات الثنائية سواء مع روسيا أو أي من الدول الغربية المتقدمة.
وتواجه إيران الكثير من العقبات في مد نفوذها إلى هذه المنطقة بالشكل الذي ترضاه. فقد ظهر دعم القوى الكبرى للأطراف الإقليمية، فكان الدعم الأميركي لتركيا والدفع الروسي لإيران. إلا أن مساندة الشركات الأميركية للدور التركي تفوق ولا شك التأييد الروسي لإيران نتيجة للمشكلات الاقتصادية التي تواجهها روسيا. كما تشجع الولايات المتحدة تكوين المحور التركي الإسرائيلي الأذربيجاني في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى (ففي ظله استطاعت طائرات التجسس الإسرائيلية التحليق فوق المناطق الحدودية الإيرانية وهددت أقاليم أذربيجان الإيرانية).
وافتقدت إيران لسياسة خارجية متناسقة أمام النظرة التقليدية للغرب التي ما زالت سائدة في بعض أوساطها الهامة، ولأدوات معاصرة لتنفيذ سياستها. كما لم تنجح إيران في كسب ثقة زعماء هذه الدول والقضاء على صورة إيران كمصدر لعدم الاستقرار ودعم مد الإسلام الراديكالي، وهي الصورة التي روجت لها وسائل الإعلام الغربية.
وعانت السياسة الخارجية الإيرانية في آسيا الوسطى من السلبيات التي فرضتها الأعراض الثورية التي ما زالت تلقي بظلالها على عملية صنع السياسة داخليا وبالطبع خارجيا أيضا. وظهر هذا التأرجح في السياسة الإيرانية للتصدير والاستيراد تجاه هذه المنطقة، فبعد مكاسب رجال الأعمال الإيرانيين في أسواق الملابس والطعام، جاء القرار المفاجىء لتخفيض العملة في 1995 ليضرب التواجد التجاري الإيراني في آسيا الوسطى في شهور قليلة. بالإضافة إلى أنه لم ينجح القطاع الخاص الإيراني بأن يكون سمعة طيبة له في هذه البلدان بسبب جريه وراء الأرباح قصيرة المدى أو قيامه بمشاريع فاشلة خاصة وأن التنظيمات الثورية الاقتصادية التي اضطلعت بالعبء الأكبر من هذه العلاقات التجارية الاقتصادية تفتقر للخبرة والكفاءة اللازمة.
في ظل ما بدا حتى الآن من قوة التيار المحافظ بزعامة المرشد خامنئي لا يجب أن نعول كثيرا على أن الانتخابات القادمة حتى وإن نجح فيها الإصلاحيون واحتل خاتمي منصب الرئيس لولاية ثانية ستحدث تغييرا كبيرا في سياسة إيران الخارجية، فانفتاح خارجي محسوب وانتقائي لا يهدد منظومة قيم وأهداف المحافظين، بل لعلهم بستغلون تلك الدرجة المدروسة من الحرية التي يعمل في إطارها المعسكر الإصلاحي بشكل يسمح بتطوير التعاون مع بعض القوى الغربية والآسيوية بما يخدم مصالح إيران الاقتصادية ويخفف من وطأة مشاكلها الداخلية.
إن ظهور إيران بمظهر ديمقراطي تسود فيها انتخابات نزيهة وينجح فيها الإصلاحيون أمر حيوي لتحسين صورة إيران الخارجية ودرء اتهامات التطرف والإرهاب عنها ويفتح لها مزيدا من المداخل للساحة الدولية حتى تواجه وتخترق الحصار الأميركي. ولكنها الديمقراطية الإيرانية التي لا تهدد أسس النظام الإيراني كما رسمته الثورة وحمته بسياج دستوري قوي يضمن استمراره ويترك مساحة لحرية الحركة يعتد بها لمن سيباشر السياسات الإيرانية اليومية التي من اختصاص الرئيس وليس الإستراتيجية طويلة الأجل والتي يختص بها رمز الثورة المرشد.
وهنا لا يضير التيار المحافظ الذي يسيطر على مفاتيح النظام السياسي أن يلعب الاصلاحيون في المنطقة المسموح بها، بل ويشجعوه أيضا لما يحققه من مكاسب داخلية ممثلة في تجنب مخاطر كبت أي معارضة "معقولة" وأخرى خارجية تخفف من قيود البيئة الدولية المفروضة على الثورة منذ قيامها.
ومن ثم من الممكن القول إن نجاح عنصر من المحافظين أو من الإصلاحيين في انتخابات الرئاسة القادمة لن يغير كثيرا من توجه النظام الخارجي، حيث من المتوقع استمرار العمل على تدعيم التحالف مع روسيا والصين وغيرها من الدول القليلة التي لا ترتمى بالكامل في أحضان الزعيم الجديد لعالمنا المعاصر، مع استمرار السياسة الحذرة المترقبة في عودة العلاقات مع الولايات المتحدة ومحاولة كسب نفوذ أكبر في منطقتي الخليج وآسيا الوسطى، بل لعله ليس في المبالغة في شيء القول إن انتصار رمز إصلاحي في هذه الانتخابات يخدم التيارين الرئيسيين في إيران المحافظين والإصلاحيين على السواء بل ويدعم استقرار النظام الإيراني بتحقيق درجة مقبولة من الرضاء لمعسكريه الرئيسيين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق