الاثنين، 12 سبتمبر 2016

المسلمون في زمن فقهاء الطوائف بقلم: مسفر بن علي القحطاني*


شجون عربية 11 سبتمبر، 2016 

— أثار مؤتمر الشيشان الذي عقد في العاصمة غروزني (25 – 27) آب (أغسطس) الماضي ردود فعل واسعة وشعبية في العالم الإسلامي الحزين، فبيان المؤتمر الختامي حول – معنى «أهل السنّة» فتح أعظم جرح أدمى أمتنا الإسلامية لقرون من الصراعات، وبدلاً من تضميده وتخفيف نزفه من المتطرفين، إذ بالمؤتمر بعلمائه ورمزية الأزهر يضع الأصبع بعنفٍ أشد داخل هذا الجرح النازف، ويعيد النقاش والجدال، بل والاحتراب الديني إلى واجهة الإغراء للطوائف والفرق مرة أخرى، وكأننا أمام مشهد كربلائي آخر، سبق أن فرّق المسلمين إلى سنّة وشيعة، فها نحن نعود مرة تلو أخرى إلى تمزيق كيان السنّة وفق جدال لن ينتهي ومغيبات لن تحسم في الدنيا أبداً، كلها خرجت من مدافن التاريخ والتراث لتمارس دورها في التفريق وخدمة مشاريع الفوضى والتدمير الذاتي للمسلمين.
منظر قاتم يخيم على مستقبل مجتمعاتنا بعد هذه المؤتمرات، وغياب صوت الاعتدال العلمي الحقيقي وليس اللفظي والشعبوي يزيد من احتمالية وقوع الفتن والصراعات، والتاريخ كتب مثل تلك المواجهات الدموية. كأننا في طور تجديد ما حصل بين الحنابلة والأشاعرة سنة 496هـ، وفتنة الحنفية والشافعية في مرو وأصفهان في الفترة ما بين 560 – 582هـ، من فتن الصدام الشيعي – السنّي، ليأتي المؤرخ ويعقّب بعد كل فتنة يرصد أحداثها بعبارة حزينة متكررة: «أنه قتل فيها خلق كثير وخربت الدور ونهبت الأموال»، كدلالة على شدة المواجهة وعنف الصدام بين تلك المذاهب الدينية، وما سبق هو غيض من فيض، وإلا فالتاريخ محمل بهذه الصور، ولا نزال نشعر بتوجس وخوف من تجدد تلك المواجهات مرة أخرى.
في هذا المقال، لن أشير إلى التوظيف السياسي المباشر لهذا المؤتمر، ولن أناقش ما جاء في البيان من اختزال علمي واضح لا يليق بمن وقع عليه، وإنما سأبين مكمن الخلل من هذا التقسيم المذهبي لأهل السنة، وكيف تغلغل في الأمة وخندق مجتمعاتها، ورسم حدوداً عقدية تنذر دائماً باشتعال المواجهات. ولعلي أبين وجهة نظري في ذلك من خلال المسائل الآتية:
أولاً: عقيدة الإسلام على مرّ العصور عقيدة جامعة ظاهرة جلية في توحيدها لله تعالى وسهلة وواضحة في عرضها وتقريرها لأصول الاعتقاد، لأنها الحق الجلي والمطلب الرئيسي للنجاة يوم القيامة، لذلك كانت أقرب للفطرة وأوفق للعقل وأدعى للإيمان المطمئن. هذه الأوصاف هي الأليق بالعقيدة التي يعتنقها الخلق على اختلاف أعمارهم ومعارفهم ومشاربهم وأجناسهم. وخروج النسق العقدي نحو تفاصيل علم الكلام وغموضه أو مجادلة أهل الفرق والملل وخصومهم، جعل علم العقيدة شأن الخواص من العلماء والمتكلمين، وألزم مقرري علم الاعتقاد عند الشرح والتصنيف أن يدخلوا فيه من المسائل والقضايا التفصيلية ما يحوّل الوضوح العقدي إلى غموض كلامي ميتافيزيقي. وما تحصل به النجاة من العقيدة يستلزم تقريرات لا تنتهي من المسائل التي دخلها الخلاف مثل دقائق الصفات الإلهية وخلق القرآن ورؤية الله تعالى في الدنيا والتوسل بالنبي (صلى الله عليه وسلّم) بعد مماته والتبرك بآثاره، والدجال والمهدي والطاعة والجماعة. ثم وصل الأمر أن يُطلب من العامي في بعض المذاهب إظهار معتقده في الفرق الكلامية وهو لم يشهد سجالها ولا يعرف كنهها، فيضطرب معتقده في تفاصيل قد تؤثر في إيمانه واطمئنانه.
وهذا ما جعل تناول العقيدة وفق تقرير علمائها المتأخرين يختلف عن تناولها وفق التقرير القرآني والبيان النبوي المجسّد حقيقةَ التوحيد والمحذّر من الشرك، وهذا الفرق الكبير في التناول جاء بسبب طريقة تناول الدفاع عن حياض العقيدة من خصومها بتطويل وتصعيب طريق الوصول لعقيدة النجاة وليس إلى تذليله وتيسيره، وهذه الحالة من الامتحان العقدي مارسته غالبية المذاهب من أشاعرة ومعتزلة وشيعة ومتصوفة وليس حكراً على السلفية التي تقولب فيها هذا الوصف الحالي.
ثانياً: السلفية التي أخرجها المؤتمر عن مفهوم «أهل السنّة» كفعل نكاية ورد فعل انتقامي لا يمارسها العلماء في الغالب، وإن وقعت فمن وعاظ تغلبهم العاطفة، أو ساسة لبسوا جُبب العلماء. وهذا الانتقام قد يكون له ما يبرره في الحسابات المادية والسياسية، فممارسات بعض السلفيين تجاه مخالفيهم من الأشاعرة والصوفية كانت قاسية ومتشددة نزعت نحو إخراجهم من «أهل السنّة»، خصوصاً في التسعينات الميلادية وأوائل الألفية الثالثة، فتصدعت بعض تلك المدارس وتشوه تاريخها وأحرقت كتبها. ويبدو أن الغيظ والحنق تفجرا بعد الصبر الصامت، وأمام ما جاء في بيان مؤتمر الشيشان وما قابله من ردود فعل، نشعر بأننا أمام فريقين يتبادلان الأدوار في حلبة الصراع، ولسنا أمام علماء ربانيين همهم دين الله والرحمة بالمسلمين، فالسلفية أنواع (جهادية، حركية، علمية) وداخلها تيارات، كما أن الصوفية والأشاعرة مراتب وأحوال، وليس كل سلفي يعتبر متشدداً منزعه تكفير المخالفين، بل هناك سلفية مرجعها الكتاب والسنّة وتحتج بفهم السلف وتعذر المخالف وتجمع الكلمة ولا تفرّقها، والتوحيد الذي ينادون به هو دعوة الحق ومنجاة الخلق، ومثلهم معتدلون في الصوفية والأشاعرة والماتريدية، وهؤلاء في الغالب لا يتعادون لأن علمهم يمنحهم سعة أفق وإعذار، وإيمانهم يمنعهم المسارعة في الاتهام، واختلافهم رحمة ويؤول لائتلاف المسلمين، ونماذجه مشهورة معروفة، لكن المشهد المعاصر تسيّده المغالون الانتقاميون من تلك المذاهب، ولن يفضي ذلك إلا إلى مزيد من التشرذم والضعف ولا يربح في هذه المواجهات على مرّ التاريخ أحد.
ثالثاً: هناك أسباب جوهرية بقاؤها يعطي التيارات الدينية تماهياً في الافتراق، ويصعب معها جمع الكلمة ووحدة الصف الإسلامي، أوجزها في خمسة أسباب: أولها، الغرق في الجزئيات واحتكار الصواب فيها، فما إن دخلت الأمة في مسائل عقدية متعلقة بالتفاضل بين الصحابة أو تأويل آيات الصفات الإلهية وتعاملوا مع هذا الخلاف بعقلانية مجردة في الغالب، حتى بدأ الخلاف في مجال العقيدة يظهر، ويظهر معها مسمى «أهل السنّة» في مقابل أهل البدعة، ثم تجاوز الاحتكار صوابية المسائل إلى احتكار النجاة يوم القيامة، وتم تأويل حديث النبي عليه الصلاة والسلام :» وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي «(رواه الترمذي 2641) في شكل مبالغ فيه، جعل كل ملة تثبت نجاتها بإخراج الآخرين ووضعهم في النار. وهذا الحديث مع علل سنده ومتنه عند كثير من المحققين، لو سلمنا برفعه للنبي لكان وصفاً لأمر قدري كوني تفترق فيه الأمة مثل غيرها من الأمم السابقة، وليس كأمرٍ شرعي نحاول فيه البحث عمن سيكون داخل النار ونحيّده بعيداً من المسلمين، وهذا التقرير لما سمعه الصحابة تعاملوا معه بما يصلح لآخرتهم وينجيهم من النار، وليس عن وصف الذين يدخلونها وكيف يتعرفون إليهم. وما تنامى هذا النقاش وتحول إلى علم يصف المذاهب والنحل ويحكم عليها بالجنة والنار إلا بعد الثلاثمئة الأولى من الهجرة النبوية، ولا يزال هذا الاشتغال مستمراً، وفي مزيدٍ من التنامي والسعة، ومعه وللأسف تزداد الشقة والخلاف في الأمة.
وثاني الأسباب، أن غالبية مسائل الخلاف هي في القضايا الغيبية التي لم ينزل القرآن مفصلاً فيها أو في أمور الآخرة التي تركت لحكمةٍ أرادها الله، هذه الغيبيات التي الله وحده علمها هي ما أشغل الكثير من الأمة في دنياهم وجعلهم شيعاً متحاربين، فالحكم على فاعل الكبيرة بالخلود في النار، وعن كيفية صفات الله ومعناها، ورؤية الله في الآخرة، والمهدي والدجال، ومعاني القضاء والقدر والحِكَم منها، قضايا يستحيل الجزم بها، وكانت سبباً في ظهور الخوارج والقدرية والجهمية والمعتزلة وغيرهم، بينما نجد الصحابة والتابعين اكتفوا منها بالإيمان والتصديق والتعظيم ولم يشغلوا أنفسهم بتفاصيل معناها ومراد الله منها. والأمة إذا لم تدرك ما يجب عليها أن تتعلمه وتعمل به دُخل عليها من الاختلاف والجدل ما يثبّط قوتها ويؤخر تقدمها، وفي الحديث: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (رواه الترمذي 3253 وقال: حديث حسن صحيح).
والمتأمل في حال أمتنا ونحن في القرن الواحد والعشرين يرى أننا نعيش في أجواء القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. فزمن ابن تيمية، رحمه الله، غير زماننا وجوهر مناقشاته وردوده قد تختلف عن قضايانا من حيث أولوية الاشتغال والعمل بها، والأمة في حاجتها للاجتماع والوحدة والقيام بالأصول المفروضة والكليات الجامعة هي ما يجب على الجميع تأكيده، للحاجة إليها ولكثرة المهددات لها، وهذا هو تعظيم الدين في القلوب والواقع وليس في افتعال المعارك في أدق التفاصيل الفروعية بمراهقة فكرية همها الإثارة والشهرة. وثالث الأسباب من وجهة نظري: تدخّل السياسة في الدين، واللعب بعصا الخلافات للقضاء على الخصوم، وإشغال المجتمع بفتنٍ عقدية تستتب بعدها المكنة للسلطة. وغالبية مذاهبنا العقدية، إنما تدافعت في الأمة أو تقلصت بفعل سياسي تتحالف معه مرة لضرب خصومها المنافسين، وتقف ضده تارة أخرى عندما يقلب لها ظهر المجن، والحوادث في التاريخ لا تنتهي، وقديماً قال الشهرستاني: «إذ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان» (الملل والنحل، تحقيق أحمد فهمي، دار السرور، طبعة 1948م، 1/16). ولأجل ذلك تم توظيف الدين والمذاهب في خدمة السياسة في عصور كثيرة من الإسلام.
واليوم نشهد توظيفاً آخر مختلفاً، يتجاوز ساسة المسلمين إلى أعدائهم الأجانب من بعض الغربيين، توظيفاً ذكياً يستهدف توصيف التيارات الإسلامية وإضفاء صفة الاعتدال أو الإرهاب عليها، ثم يدفع الإعلام إلى شيطنة ما يريده السياسي منها، وبذلك تختلط المفاهيم ويحتار المسلمون ويفقدون بوصلة اختياراتهم لقياداتهم ومشاريعهم. ورابع هذه الأسباب: حضور القبيلة في المشهد الجدالي بين المذاهب والطوائف، وأعتقد أن هذا السبب له حظه من النظر، فالعصبية للمكون القبلي أو الهوياتي الخاص أضحت معياراً للقبول والرد، والضرب على وتر القبيلة أكثر فاعلية من الاتّباع المجرد للحق، خصوصاً مع الجماهير (وأقصد بالقبيلة المفهوم الشمولي لكل عصبيةٍ للجنس أو اللون أو التراب)، وكم هو مؤسف أن يكون الخطاب الديني هو المستفز لتلك العصبيات في توظيفها نحو الإقدام أو الامتناع في مسائل ينبغي فيها التجرد للحق بإذعان. والنبي في سابقة حضارية فريدة، يقوم في أول أيام انتقاله إلى يثرب بتغيير اسمها في شكل حداثي مدني، ثم المؤاخاة بين الصحابة على أساس الدين، وكتابة دستور مدني يجمع كل الفرقاء بعدل ومساواة، ليؤسس في العقل الجديد مفهوم المدنية للدين والاتباع للحق المبين. خامس هذه الأسباب: غياب التجديد ودعواته والخلود للتقليد، والظن أن فيه الكفاية والسلامة، بينما الواقع يشهد أن كل محاولة للتجديد هي ضمانة للأمان والسلام، فأهم معايير التجديد من وجهة نظري العودة الدائمة نحو الكليات الجامعة، فبها تتحقق وحدة الكلمة وقوتها، ومن خلالها يتجدد النظر والاجتهاد، ويقفز على ركام المقولات الميتة نحو روح النصوص الخالدة، وهذا المنحى في عصرنا تعطل وتكلست عليه المذاهب والآراء، وصار الخروج عليها خروجاً عن الدين وشذوذاً عن جماعة المسلمين!
وفي الختام، أجد أن مؤتمر الشيشان قد يكون خطوة للعودة إلى الوراء، لقرون التخلف والتشرذم، وقد يكون خطوة إلى الأمام عندما تكون هناك يقظة صحية تستلهم علماء المسلمين للقيام بدورهم الجامع ونصحهم المانع من أي فتنة تلعب بدماء المسلمين وتشتت مفاهيمهم، فالله تعالى قد سمانا المسلمين، وصفنا بالأمة الواحدة، ولم يرد منا تلك الفرق والمسميات المتفجرة في كل حضورٍ لها. وليس هناك جامع لنا أعظم من كلمة التوحيد، وليس لنا حاضن في الواقع أعظم من استقبال الحرمين الشريفين.
ومنجزات المملكة العربية السعودية في عمارة الحرمين وخدمة الحجيج ودعم قضايا المسلمين من خلال التبرعات وإنشاء الكيانات وما يقدمه بنك التنمية لمجتمعات المسلمين، أعظم وأبلغ رد على من يريد تهميش دورها وتسييس مكانتها، وهذا هو قدر المملكة وشرفها أيضاً، وهذا السؤدد يحتّم أن تقوم المملكة بتمكين مؤسساتها الدينية للتواصل مع العالم بمختلف تنوعاته، وهذا النجاح القريب المتقبل عند المسلمين سيكون أبلغ رد على كل مؤتمرات الفرقة والانتقام.

*باحث سعودي.

المصدر: صحيفة الحياة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق