الأحد، 1 يونيو 2014

إيران من الداخل...الشعب يرفض إسلام الملالي

مشاهدات صحفية غير رسمية في إيران

إيران من الداخل...الشعب يرفض إسلام الملالي

عادت ايران إلى واجهات الإعلام مرة أخرى بعد أن شغل ربيع الثورات العربية الاعلام الاقليمي والدولي. الصحافي أمير علي حيدر زار إيران مؤخرا وعايش تراجع تأثير الاسلام السياسي على حياة الناس في ظل مشكلة الملف النووي وظمأ الجيل الشاب الى الحرية، ورصد أن المستقبل سيحمل أكثر من مفاجأة للتغييرفي أول جمهورية إسلامية في العالم.

أخفيت صفتي الصحفية واتكأت على تمكني التام من اللغة الفارسية وحملت حقائبي لأدخل إيران قبل ثلاثة أيام من حلول شهر رمضان، وفي كل هذا تحد كبير لي ولأسرتي. الرحلة طويلة من مطار دوسلدورف في غرب ألمانيا الى مطار "الامام الخميني" في ضواحي طهران إذ تمتنع المطارات الاوروبية عن تزويد الطائرات الايرانية بالوقود. لكن اوكرانيا لا تلتزم باجراءت المقاطعة الاوروبية لإيران، من هنا حطت طائرتنا في كييف لأكثر من ساعة للتزود بالوقود لنواصل الرحلة بعدها الى العاصمة الإيرانية طهران. وبحساب فرق الوقت غادرنا المانيا في تمام الحادية عشرة صباحا لنصل المطار الايراني في تمام التاسعة ليلا بتوقيت طهران.

طهران العاصمة، مختنقة بالسيارات والمباني، الانوار تضيء الشوارع بكثافة لا تدل على وجود تقشف في استهلاك الطاقة، والمركبات تتكدس عند التقاطعات بشكل يدل على غياب التنظيم - رغم انتشار اشارات المرور الضوئية في كل مكان.

قم المقدسة تغادر شرنقة التقاليد

​​
بعد يومين أقلّتني نفس السيارة الى مدينة قم التي تبعد عن طهران 144 كيلومترا. على قمة جبل "الخضر" الأعلى قرب المدينة - حيث أقيم مرقد للنبي الخضر - تكدّس رجال الدين وعدد كبير من الاشخاص وهم يستخدمون النواظير المقربة لرؤية هلال شهر رمضان. هم يرجّحون أن يبدأ الصيام يوم الاثنين، أي بعد يوم أو يومين من صيام أغلب الدول العربية والاسلامية وهو ما يتكرر كل عام.

نحو مليوني زائر قدموا الى المدنية ليتبركوا بضريح السيدة معصومة، أخت الامام الرضا ثامن أئمة المذهب الشيعي المدفون في طوس( مشهد) . الحجاب الكامل مع الملاءة السوداء يلف أجساد النساء، واللحى الخفيفة تؤطر وجوه أغلب الرجال.
ابتعد قليلا عن مركز المدينة المحيط بالمرقد المقدس، في بارك "سالاريه" إنتشرت العائلات مساء يوم قائظ وهي تودع شهر شعبان لتدخل الى شهر الصوم، في زوايا المتنزه يجلس شبان وفتيات متلاصقون يتحينون الفرص لاختلاس القبل وربما أكثر من ذلك. لم الاحظ وجودا لعناصر الامن، الذين يمنعون مثل هذا التقارب في العادة، كان هذا تطورا كبيرا عما شاهدته في المدينة المقدسة حين زرتها قبل أكثر من عامين.

لكن المشهد يتغير حين تتجه غربا الى (شهرك قدس)، وهي ضاحية عصرية تبعد 10 كيلومترات عن مركز المدنية المقدسة، فالملاءات السوداء تختفي وتكتفي النسوة بغطاء متراجع الى منتصف الرأس يظهر مقدمة شعر وسوالف المرأة وكل وجهها مع معطف قصير وسروال ملتصق بالجسد، كما تختفي اللحى عن وجوه الشبان الذين يقفون في البوتيكات والمحلات الانيقة.

يتوسط الضاحية محل لبيع الوجبات السريعة على الطريقة الامريكية. المحل كبير وفي باحته ساحة عصرية لالعاب الاطفال، وحديقة أنيقة مزهرة تتوزع فيها مناضد الجلوس تحت مظلات حمراء كبيرة، وأمامه ساحة فسيحة لوقوف السيارات، يقترب المشهد من المدن الأوروبية، وتبدو الأسر الإيرانية مرفهة وهي تترجل عن سياراتها الحديثة لتقضي بعض الوقت في هذا المكان الذي ينتمي بالكامل الى المشهد الغربي. أسعار العقارات في هذه الضاحية تبلغ قيما خيالية، ويتجاوز سعر المتر المربع من الارض في عموم المدنية المقدسة الألف دولار.

آراك مدينة الصناعة والقبل المتوارية

​​
سيارة أخرى تأخذني الى مدينة آراك التي تبعد نحو 136 كيلومترا غرب قم. هذه المدينة هي عاصمة المحافظة المركزية ( استان مركزي) والصناعة هي سمة المحافظة ( الاقليم) حيث تنتشر المجمعات صناعات البتروكيمياويات والالمنيوم والسيارات وصناعات البلاستيك والانابيب في أطرافها، علاوة على مجمع آراك للطاقة النووية الذي يقع على الطريق الى (ملاير) باتجاه الشمال الغربي.

ترتبط بالمدينة إداريا مدينة (خمين) التي يتحدر منها الامام الخميني، مؤسس الجمهورية الاسلامية وتبعد نحو 65 كيلومترا شمالا. أغلب سكان المدنية من أصول تركية، ويبلغ عدد ذوي الاصول التركية في عموم إيران حسب تقديرات محلية نحو 20 مليون نسمة يشكلون أغلبية في اقاليم آراك وهمدان وتبريز وزنجان وآذربايجان الشرقية وآذربايجان الغربية، علاوة على انتشارهم في قم وطهران ومشهد واصفهان ومدن اخرى، ومنهم يتحدر مرشد الثورة السيد علي خامنئي، ويشكلون عصبا رئيسيا في السباه ( حرس الثورة) وفي أجهزة الأمن .

بسبب شهر رمضان لا يوجد مكان لتناول الطعام في المدينة. اشتريت قنينة كولا وعلبة من البسكويت وقصدت مركز المدينة حيث توجد داران للسينما هما "عصر جديد آراك" و "فرهنك آراك" التي اخترتها لقضاء الظهيرة وكمحطة استراحة لتناول الطعام المحرّم الممنوع .

تشغل دار العرض مبنى متهالكا عمره خمسون عاما، أحد العاملين فيها تطوع للحديث معي بعد أن لاحظ اهتمامي بتصوير يافطات الافلام التي تعرضها الدار مبينا أن الدار تعاني من الاهمال ولا تحصل على أفلام تثير الاهتمام (صناعة السينما كبيرة مزدهرة في هذا البلد وتغطي أكثر من 90 % من احتياجات دور العرض، وتشجع الحكومة هذه الصناعة فيما تحدّ الى حد كبير من دخول الافلام الاجنبية). ورغم أن أسعار تذاكر الدخول قد خفّضت الى النصف في شهر رمضان (دولاران للتذكرة) الا أن هذا لم يرفع عدد الرواد.

في الصالة ذات المقاعد المتهرئة توزع عدد من الرواد لا يتجاوز العشرين. لفت نظري شاب وشابة إختارا مقعدا في نهاية الصالة. عندما اقترب منهما أحد الاشخاص الملتحين وطلب منهما إظهار وثيقة تثبت أنهما متزوجان، إحتجت الشابة بصوت عال وهي تقول: "وهل يجب على الإنسان أن يحمل وثيقة زواجه معه مثل البطاقة الشخصية؟". صوت مرافقها بدا هامسا مقارنة بصوتها المتحدي الصارخ. في النهاية رضخ الشخص المكلف بالمراقبة لاعتراضاتها وتركهما يشاهدان الفليم من موقعهما الغارق في الظلام. الفلم كوميدي سيء جدا ونوع الصوت رديء بسبب كاميرا العرض القديمة أولأسباب أخرى، اثناء عرض الفيلم اختلست النظر الى الشاب والشابة فوجدتهما غارقين في عناق حميم وحّد جسديهما في قبل عطشى.

همدان : بوابة السياحة تفتح نوافذ الحرية

​​
تنخفض الحرارة في مدينة همدان صيفا لتصل الى 35 درجة مئوية وهذا يجعلها قبلة للهاربين من قيظ طهران وقم وآراك وملاير ونهاوند التي تحيط بها، لاسيما أنها تضم آثارا ومعالم ومواقع سياحية هامة من بينها، مرقد الطبيب إبن سينا "آرامگاه بوعلی‌سینا" ومرقد الشاعر الفارسي الكبير بابا طاهر، وموقع ومتحف "هگمتانه" و غار "علی‌ صدر" علاوة على شلال " گنج‌نامه" السياحي.

مركز المدينة الدائري يشغله مرقد إبن سينا وقربه متنزه صغير يجلس فيه الناس كبارا وصغارا. شابات في العشرينات من العمر يتوزعن على المقاعد الحجرية، بعضهن يحملن أجهزة "لاب توب" ويتهامسن فيما بينهن، شابتان تحملان على كتفيهما آلات موسيقية (ربما كانت جلو) في أغلفتهما وتقطعان الشارع لتعبرا الى المتنزه. وشاب آخر يحمل على ظهره قيثارة في غلافها ومعه فتاة خجولة الحجاب يوقفان دراجتمها النارية ويدخلان الى المكان ( الدارجات النارية وسيلة نقل شائعة جدا في ايران التي تنتج ملايين منها كل عام، يركبها الرجال ويردفون خلفهم النساء، ويشاهد هذا حتى في المدن الدينية مشهد وقم حيث يمتطي المعممون الدر اجات ويردفون نساءهم خلفهم).

زرت إحدى مقاهي الانترنيت القريبة، وحاولت أن أفتح مواقع أجنبية على غرار موقع قنطرة، دويتشه فيله، بي بي سي، سي أن أن ، العربية، فكانت الروابط تقودني الى موقع إيرانية، سألت صاحبة المقهى - وهي شابة في منتصف العشرينات- عن سر ذلك فقالت ضاحكة: "هذه مواقع محجوبة، وفي العادة يستخدم الشباب نظاما يدعى "فلتر شكني" وهو رابط يزيل الحجب، لكننا في المقهى " كافي نت" لا نستطيع أن نفعل ذلك، عليك أن تفعله بنفسك" وانصرفت عني الى ما كانت تفعله وهي تحمّل أغان من الانترنيت على هاتفها المحمول.

في اليوم التالي ذهبت الى شلال " گنج‌نامه" الذي امتلأ بالمصيفين من مختلف أنحاء ايران، ويبدو أن رمضان وواجباته لم يفتر من عزيمتهم فتوزعوا في ظلال المكان يتسامرون ويتضاحكون. في زوايا المكان يلحظ المرء بكثرة شبانا وشابات يجلسون متعانقين في وضح النهار. اقتربت من ثلاثة شبان كانوا يدخنون في مكان بعيد عن اعين الآخرين، سألتهم ملاطفا إن كان المذهب الشيعي يبيح التدخين للصائمين، كما سمعت أن مقتدى الصدر قد أفتى لاتباعه في العراق بصحة ذلك، ضحكوا وقالوا : "من يستطيع الصيام في هذا القيظ". وأضاف علي رضا وهو أصغرهم سنا :" يبدو أن الزمن قد تغير، فالقدامى كانوا قادرين على الصيام لأن أجسادهم أقوى، فيما جيل اليوم أضعف منهم ولا يقوى أحد من هذا الجيل على تحمل مشاق الصيام، أنا أعمل في الحقل وأشرب 3 الى 4 لترات من الماء يوميا، فكيف يمكنني الصيام؟".

تدخل في الحديث أكبرهم سنا وعرّف نفسه باسم" أمير" قائلا: "لا أحد يقوى على الصيام اليوم، والحقيقة أنّ الصيام عادة جاء بها العرب القدماء، وهم في الاصل كانوا بدوا قادرين على تحمل المشاق والعطش والجوع بسبب فقر بيئتهم. أما في هذا العصر كيف يمكن للإنسان أن يمسك عن الطعام والشراب؟ نحن لسنا من سكان المدن، النساء في عائلتنا هنّ اللواتن يؤدين فريضة الصوم، أما الرجال فلا يتيح لهم عملهم الشاق في الحقول ومزارع الدواجن والابقار أن يؤدوا هذا التكليف"، ثم ضحك مضيفا :" على المعممين" أخوندها" أن يجدوا حلا لهذه المعادلة الصعبة".

سألتهم عن مهنتهم وكيف جاءوا الى هذا المكان، فقال علي رضا وهو يحمل مجرفته على كتفه:" نحن فلاحون نعمل في حقل قريب من هذا المكان ، وجئنا الى هنا في زيارة خاطفة" .

في زاوية تظلها الاشجار جلس شاب وشابة في مقتبل العمر وهما يتبادلان العناق والقبلات السريعة ما داما بعيدان عن أعين الفضوليين، ابتعدت عنهما قليلا فاقتربا من بعضهما ووضع الشاب رأسه على صدر الفتاة التي أخذت تقبل جبينه ووجهه بحنان وجل.

طهران مدينة لا تنام

​​في ختام الرحلة عدت الى طهران، مدينة الاثني عشر مليون نسمة في النهار. مناخها هو الاكثر تلوثا في الشرق الاوسط، مدينة يتحدى فيها الحاضر وتقنياته الالكترونية القواعد الصارمة التي يفرضها نظام الجمهورية الاسلامية. تملأ الشارع سيارات صينية وكورية وفرنسية بنسخ ايرانية، والنساء يقدن سياراتهن بكثرة وحرية في الشوارع دون أن يعترض أحد على ذلك- وهم في ذلك لا يشبهون القطب الاسلامي الآخر في السعودية.

حجاب النساء يقتصر على قطعة قماش صغيرة توضع متراخية على الرأس لا تخفي مقدمة الشعر ولا ذيوله، أما الملابس فعصرية حديثة يموهها لباس قصير ابتكرته ضرورة الحجاب المفروض ليغطي منطقة الحوض المحرّمة. الغريب أن الايرانيات يضعنّ مكياجا ثقيلا على وجوههن حتى في النهار، وفي أرجاء ووسط المدينة يلاحظ المرء نساء يقدن الدراجات الهوائية، وفي بعض الاحيان دراجات نارية- وهو أمر لا تجده في أي بلد عربي تقريبا.

قمت برحلة طويلة بمترو طهران، الذي يخفف كثيرا من زحام المدينة المليونية، المترو الانيق ومحطاته المزينة بالرخام يشي بمدينة عصرية تضاهي الحواضر الاوروبية، وركاب المترو يتعتعهم إرهاق العمل والتنقل في المدينة بالغة السعة. عدت من رحلتي لاترجل في ميدان فردوسي، فلفظتني المحطة الانيقة المبردة الى الشاعر اللاهب المكتظ. حول الميدان تنتشر محلات تبيع الملابس والاحذية والحقائب الجلدية. وفي جانب الشارع الاخر تنتشر محلات الصيرفة الكثيرة التي يحرص أصحابها على أن يجمعوا أكبر قدر ممكن من الدولارات واليورو خلال مبادلاتهم بتقديمهم عروضا مغرية للاجانب ليبيعوهم التومان.

​​
في الفندق الذي سكنته وسط المدينة نبهني قسم الاستقبال الى أن التدخين في صالة الفندق ممنوع بسبب شهر رمضان، لكنهم أضافوا أنني يمكن أن أفعل ما أشاء في غرفتي. في الغرفة المجاورة لغرفتي سكن ثلاثة رجال، قرع أحدهم باب غرفتي وقت الغروب وطلب مني علبة كبريت، ناولته ولاعتي فقرأ ما مكتوب عليها وسألني إن كنت أجنبيا، ترددت في الاجابة- كما هو شأني في هذا البلد دائما- ثم أجبته بالايجاب، فبش في وجهي ودعاني الى حجرتهم.

رافقته الى الحجرة حيث عرّفني على أصدقائه ثم طلب مني الجلوس لأشاركهم في جلسة سمر إيرانية تقليدية، جلست والتعجب يلفني من جلسة سمر نهارية وسط طهران. بدأ الرجال يرتبون معدات السمر، موقد غازي صغير للرحلات القصيرة، قضيب معدني رفيع، وثلاثة مخاريط كارتونية صغيرة، ولفائف ورقية تضم مادة عجينية لزجة سوداء. دون عناء عرفت انها جلسة "كيف" لتداول مخدر الافيون الذي يسمونه "ترياك"، وسألتهم : كم تكلف جرعة المخدر هنا في طهران؟
ضحك الذي دعاني لمشاركتهم الجلسة وهو يقول :"إن السعر رخيص جدا بالنسبة لأسعار المخدرات في أوروبا، فالجرعة تكلف بين 5 الى 10 دولارات حسب جودة المادة " . ثم قال الآخر:" في بلدانكم يمكن للمرء أن يتناول الكحول كما يشاء دون أي منع، أما في الجمهورية الاسلامية فالكحول محرّم، وما يصلنا منه سرا غالي الثمن رديء النوعية وأغلبه فودكا روسية مجهولة المصدر، لذا فإن كل الايرانيين تقريبا يتداولون الترياك". وبدأوا بمراسيم" الكيف" فاعتذرت لهم وانسحبت الى حجرتي لأرتب حقائبي استعدادا لرحلة العودة الى المانيا.

أمير علي حيدر / صيف 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق