خالد أبو بكر
نشر فى : الأحد 24 يوليو 2016
يولد المصرى فيتم تلقينه منذ نعومة الأظفار بأن مصر هى أجمل بلد فى الدنيا (كل بلاد الدنيا جميلة لكن أجمل من بلدى لا!)، وأن شعبها هو أعظم شعب فى الوجود (المصريين أهما حيوية وعزم وهمة.. جيل بعد جيل متقدمين!)، وأن حضارته هى أعظم حضارة عرفتها الإنسانية (مصريتنا منارة وعزيمة جبارة.. ملت الدنيا حضارة على مر الأزمان!)، نعيش مهووسين بأننا أول من فعل كذا وكذا؛ فندمن حالة أننا أعظم شعب وأعظم بلد وأعظم حضارة (أم الدنيا.. قد الدنيا!)، وتاليا يصبح من العبث أن نعمل على تحسين أوضاعنا المتردية.. فما حاجتنا لذلك مادمنا الأفضل فى كل شىء؟!
هذه الصورة اليوتوبية للمصرى عن ذاته وبلده لا يمكن لها أن تصمد عدة دقائق عند زيارته لأى بلد أوروبى أو متقدم فى العالم. يكتشف أن جو مصر ليس الأفضل على الإطلاق، وأن شعبنا ليس الأحسن بدليل نسبة الجهل والمرض التى تنخر عظامه. يكتشف أن للشعوب الأخرى حضارات ضاربة فى جذور التاريخ، ربما تمتاز عن «الفرعونية»، التى لم تفد البشرية باعتبار أنها حضارة كهنوتية سرية، جعلتنا نلهث بحثا عن أسرارها!؛ فمازلنا نبحث عن أسرار بناء الاهرامات والتحنيط وخلافه!.
لا تستغرب إذا وجدت أن هذه القضية الحاكمة فى تخلفنا والمرتبطة بتضخم ذاتنا الوطنية دون مبرر، من القضايا التى توقف مليا أمامها الجغرافى العظيم د.جمال حمدان فى تقديمه لموسوعته الاستثنائية «شخصية مصر دراسة فى عبقرية المكان».
يقول حمدان فى هذا التقديم «إننا نصطدم بمشكلة مؤسفة وجسيمة كالعقبة الكأداء فنحن كشعب ــ لابد لنا بصراحة أن نعترف ــ لا نحب فقط أن نمجد ونطرى أنفسنا بما يرضينا ويعجبنا أو يرضى إعجابنا بذاتنا الوطنية وبشخصيتنا القومية، بل إننا لنكره أشد الكره أن نسمع عن عيوبنا وشوائبنا، ونرفض بإباء أن نواجهها أو نواجه بها، ولا تكاد توجد فضيلة أو ميزة على وجه الأرض إلا وننسبها إلى أنفسنا، وأيما رذيلة أو عيب ــ فينا إن هى وجدت ــ فلا محل لها لدينا من الإعراب أو الاعتراف، وإن اعترفنا بها على مضض واستثناء فلها عندنا العذر الجاهز والمبرر والحجة المقنعة أو المقنّْعة.
ومن طريف ما يلاحظ فى هذا الصدد أننا، حين نرجع مثلا فيما نكتب عن أنفسنا إلى كتابات الرحالة والمؤرخين العرب فى العصور الوسطى أو الكتاب الأجانب المعاصرين، ننتخب منها فقط تلك الإشارات الطيبة والمرضية ونحشدها حشدا كـ(فضائل مصر)، مهملين ببساطة شديدة كل الإشارات العكسية أو المعاكسة التى أوردها الكتاب نفسه والتى قد تكون أضعاف الأولى كما وكيفا!».
يواصل حمدان تشخيصه بأن الأخطر مما سبق هو «أننا كثيرا ما نقلب عيوبنا عن عمد إلى مزايا ونقائصنا إلى محاسن، بل أسوأ من ذلك قد نتباهى ونتفاخر بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها! ولعل هذا تجسيد لقمة ما سماه البعض (الشخصية الفهلوية)، ويبدو عموما أننا كلما زاد جهلنا بمصر زاد تعصبنا لها، بل الملاحظ أننا كلما ازدادت أحوالنا سوءا وتدهورا زاد تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا، كلما زدنا هزيمة وانكسارا زدنا افتخارا بأننا شعب محارب، وكلما زدنا استسلاما وتسليما زدنا تباهيا بأننا شعب سلام متحضر..إلخ، أهو نوع من الدفاع الطبيعى عن النفس للبقاء، أم خداع للنفس قاتل، أم هو الأول عن طريق الثانى؟».
أيا ما كان ــ يواصل حمدان ــ «فنحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغى وإلى درجة تتجاوز الكبرياء الصحى إلى الكبر المرضى، ونحن نتلذذ بممارسة عبادة الذات فى نرجسية تتجاوز العزة الوطنية المتزنة السمحاء إلى النعرة الشوفينية الساذجة البلهاء، إنه مركب عظمة بكامل أبعاده وبكل معنى الكلمة وهذا مقتل حقيقى كامن للشخصية المصرية؛ فمن المحقق الذى لا يقبل جدلا أن كل مركب عظمة فعلى أو مفتعل إنما هو (مركب نقص مقلوب)، إنه تعويض مريض عن شعور بعدم الثقة، بالعجز والقصور، باليأس والضمور والاحباط والانحدار...إلخ».
ويفند حمدان أسباب هذا الشعور المرضى بقوله «بديهى أن هذا الشعور يرجع فى حالتنا إلى ميراث القرون والأجيال الكئيبة من الاستعمار والتبعية والاستبداد والمذلة والتخلف والفقر، ومن هنا جميعا تبدو الهوة هائلة والتناقض فاحشا إلى حد السخرية بين واقعنا وحقيقتنا، وبين ادعاءاتنا وطنطناتنا».
نشر فى : الأحد 24 يوليو 2016
يولد المصرى فيتم تلقينه منذ نعومة الأظفار بأن مصر هى أجمل بلد فى الدنيا (كل بلاد الدنيا جميلة لكن أجمل من بلدى لا!)، وأن شعبها هو أعظم شعب فى الوجود (المصريين أهما حيوية وعزم وهمة.. جيل بعد جيل متقدمين!)، وأن حضارته هى أعظم حضارة عرفتها الإنسانية (مصريتنا منارة وعزيمة جبارة.. ملت الدنيا حضارة على مر الأزمان!)، نعيش مهووسين بأننا أول من فعل كذا وكذا؛ فندمن حالة أننا أعظم شعب وأعظم بلد وأعظم حضارة (أم الدنيا.. قد الدنيا!)، وتاليا يصبح من العبث أن نعمل على تحسين أوضاعنا المتردية.. فما حاجتنا لذلك مادمنا الأفضل فى كل شىء؟!
هذه الصورة اليوتوبية للمصرى عن ذاته وبلده لا يمكن لها أن تصمد عدة دقائق عند زيارته لأى بلد أوروبى أو متقدم فى العالم. يكتشف أن جو مصر ليس الأفضل على الإطلاق، وأن شعبنا ليس الأحسن بدليل نسبة الجهل والمرض التى تنخر عظامه. يكتشف أن للشعوب الأخرى حضارات ضاربة فى جذور التاريخ، ربما تمتاز عن «الفرعونية»، التى لم تفد البشرية باعتبار أنها حضارة كهنوتية سرية، جعلتنا نلهث بحثا عن أسرارها!؛ فمازلنا نبحث عن أسرار بناء الاهرامات والتحنيط وخلافه!.
لا تستغرب إذا وجدت أن هذه القضية الحاكمة فى تخلفنا والمرتبطة بتضخم ذاتنا الوطنية دون مبرر، من القضايا التى توقف مليا أمامها الجغرافى العظيم د.جمال حمدان فى تقديمه لموسوعته الاستثنائية «شخصية مصر دراسة فى عبقرية المكان».
يقول حمدان فى هذا التقديم «إننا نصطدم بمشكلة مؤسفة وجسيمة كالعقبة الكأداء فنحن كشعب ــ لابد لنا بصراحة أن نعترف ــ لا نحب فقط أن نمجد ونطرى أنفسنا بما يرضينا ويعجبنا أو يرضى إعجابنا بذاتنا الوطنية وبشخصيتنا القومية، بل إننا لنكره أشد الكره أن نسمع عن عيوبنا وشوائبنا، ونرفض بإباء أن نواجهها أو نواجه بها، ولا تكاد توجد فضيلة أو ميزة على وجه الأرض إلا وننسبها إلى أنفسنا، وأيما رذيلة أو عيب ــ فينا إن هى وجدت ــ فلا محل لها لدينا من الإعراب أو الاعتراف، وإن اعترفنا بها على مضض واستثناء فلها عندنا العذر الجاهز والمبرر والحجة المقنعة أو المقنّْعة.
ومن طريف ما يلاحظ فى هذا الصدد أننا، حين نرجع مثلا فيما نكتب عن أنفسنا إلى كتابات الرحالة والمؤرخين العرب فى العصور الوسطى أو الكتاب الأجانب المعاصرين، ننتخب منها فقط تلك الإشارات الطيبة والمرضية ونحشدها حشدا كـ(فضائل مصر)، مهملين ببساطة شديدة كل الإشارات العكسية أو المعاكسة التى أوردها الكتاب نفسه والتى قد تكون أضعاف الأولى كما وكيفا!».
يواصل حمدان تشخيصه بأن الأخطر مما سبق هو «أننا كثيرا ما نقلب عيوبنا عن عمد إلى مزايا ونقائصنا إلى محاسن، بل أسوأ من ذلك قد نتباهى ونتفاخر بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها! ولعل هذا تجسيد لقمة ما سماه البعض (الشخصية الفهلوية)، ويبدو عموما أننا كلما زاد جهلنا بمصر زاد تعصبنا لها، بل الملاحظ أننا كلما ازدادت أحوالنا سوءا وتدهورا زاد تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا، كلما زدنا هزيمة وانكسارا زدنا افتخارا بأننا شعب محارب، وكلما زدنا استسلاما وتسليما زدنا تباهيا بأننا شعب سلام متحضر..إلخ، أهو نوع من الدفاع الطبيعى عن النفس للبقاء، أم خداع للنفس قاتل، أم هو الأول عن طريق الثانى؟».
أيا ما كان ــ يواصل حمدان ــ «فنحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغى وإلى درجة تتجاوز الكبرياء الصحى إلى الكبر المرضى، ونحن نتلذذ بممارسة عبادة الذات فى نرجسية تتجاوز العزة الوطنية المتزنة السمحاء إلى النعرة الشوفينية الساذجة البلهاء، إنه مركب عظمة بكامل أبعاده وبكل معنى الكلمة وهذا مقتل حقيقى كامن للشخصية المصرية؛ فمن المحقق الذى لا يقبل جدلا أن كل مركب عظمة فعلى أو مفتعل إنما هو (مركب نقص مقلوب)، إنه تعويض مريض عن شعور بعدم الثقة، بالعجز والقصور، باليأس والضمور والاحباط والانحدار...إلخ».
ويفند حمدان أسباب هذا الشعور المرضى بقوله «بديهى أن هذا الشعور يرجع فى حالتنا إلى ميراث القرون والأجيال الكئيبة من الاستعمار والتبعية والاستبداد والمذلة والتخلف والفقر، ومن هنا جميعا تبدو الهوة هائلة والتناقض فاحشا إلى حد السخرية بين واقعنا وحقيقتنا، وبين ادعاءاتنا وطنطناتنا».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق