التفاصيل المجموعة الأم: المقالاتالمجموعة: دراسات وبحوثنشر بتاريخ: 23 شباط/فبراير 2016
كتب بواسطة: د. طه الدليمي
ثورة العشرين
خفايا وأسرار لا تسر الكثيرين
المقدمة
في كل عام في مثل هذا اليوم (30/6) ينبري (الوطنيون) في العراق للاحتفاء بذكرى (ثورة العشرين) على أنها الثورة الوطنية التي ضمت تحت جناحيها جميع العراقيين. والحقيقة أن هذه الثورة لا تعدو أن تكون (حرباً بالنيابة) خاضها الشعب العراقي بدلاً عن إيران، لاهثاً – دون أن يدري إلى أين يراد به - وراء المرجعيات الفارسية الخائنة لحقوق (الزاد والملح)، التي لعبت الدور بإتقان فتعددته فيما بينها خدمةً للهدف. لا نغمط حق من قاتل فيها بشرف بنية الدفاع عن الدين أو الوطن أو قيم العشيرة، بل نذكرهم بما يستحقون، ونفخر بهم كما نستحق كأحفاد يسيرون على خطى الأجداد. لكن هذا كله لا يكفي عائقاً أمام قول الحقيقة التي توصلنا إليها من خلال المعاناة، التي دفعتنا دفعاً وساقتنا سوقاً للتنقيب بين أحجار التاريخ وزواياه المنسية.
21/7/2009
تمهيد
المنهج الحماسي وسذاجة الوطنيين في ثورة العشرين
يقول الدكتور علي الوردي في مقدمة الجزء الخامس من كتابه (لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث) المخصص لدراسة (ثورة العشرين) (ص15)([1]):
ويستشهد لهذا المنهج التمجيدي الحماسي (ص21) بتركيز بعض الكتاب على سببين اثنين لقيام الثورة هما: ظلم الاحتلال، وطبيعة الشعب العراقي التي تأبى الضيم. وينقل لذلك نماذج عدة. ثم يصف هذا الأسلوب (ص25) بأنه (أقرب إلى أسلوب الشعر والخطابة منه إلى الموضوعية والمنهج العلمي.. يستطيع أي كاتب أو شاعر إذا امتلك ناصية البيان أن يأتي بالمناقب والمثالب كما يشاء).
ولا ينسى الوردي أن يقول (ص25): (إني لا أنكر أنه أسلوب حسن إذا كان المقصود منه إثارة الحماس الوطني في أفئدة الناشئة الجديدة، إنما هو لا يصلح أن يكون أسلوباً للبحث العلمي الذي ينبغي أن يكون من نمط آخر).
إن هذا هو الأسلوب الوحيد الذي يجري على أساسه إيصال الحديث عن الثورة إلى الجمهور، سواء عن طريق كتب التاريخ والوطنية في المناهج الدراسية، أو وسائل الصحافة والإعلام، أو المنابر الدينية، وغيرها من وسائل التثقيف الاجتماعي. وبهذا يتبين مدى الفرق بين الصورة الدعائية التي رسخت في أذهان الناس عن هذه الثورة، والصورة الحقيقية لها، بصرف النظر عن سلبياتها وإيجابياتها.
في يوم من أيام ربيع 2005 قلت لأحد السياسيين الإسلاميين: هل يرضيك فلان يتحدث عن محمد باقر الحكيم على رؤوس الملأ ومن خلال شاشات الفضائيات ويقول: لقد وجدته حكيماً حقاً، وهو من عائلة وطنية سعت وما زالت تسعى في جمع العراقيين وتحقيق الوحدة الوطنية"([2])؟!
شعرت بالصدمة حين سمعته يجيب: "نعم هو من عائلة وطنية"! قلت: "عن أي وطنية تتكلم"؟! قال: "هل تعلم أنه لولا فتوى السيد محسن الحكيم في الشيوعية لاجتاح الشيوعيون العراق في منتصف القرن الماضي"؟ فأجبته على الفور: "وهل تعلم أن هذه الفتوى هي فتوى أمريكية إيرانية؟ كان الصراع يومها بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة على أشده، فقد كان الروس يسعون بكل طاقتهم لتحقيق حلم القياصرة في الوصول إلى (المياه الدافئة) في الخليج، وكان الشاه محمد رضا بهلوي رجل أمريكا الذي يقف سداً أمام أحلام الروس في اجتياح المنطقة. فأوعز الشاه إلى رجله في العراق المرجع الشيعي الإيراني محسن الحكيم (والد محمد باقر الحكيم) أن يصدر فتواه بتحريم الانتساب إلى الشيوعية حتى يقطع أذرع الروس التي يمكنهم استعمالها في سبيل هدفهم المذكور. فالفتوى يا أستاذ أمريكية بثياب دينية شيعية"!
لم يجبني على هذا الكشف الواضح الفاضح لجذور الفتوى، وإنما قفز إلى موضوع آخر بعيد قليلاً عن أصل النقاش، ليقول: لقد شارك الشيعة وعلى رأسهم مراجعهم الدينيون في ثورة العشرين". فقلت له:
أولاً: ثورة العشرين ثورة مسروقة؛ فأول من قاوم الانجليز هم أهل السنة، وقد ثار أهل تلعفر ومعهم الجيش العربي القادم من سوريا بقيادة جميل المدفعي وأبادوا الحامية البريطانية في قلعة تلعفر عن آخرها، وتقدموا إلى مركز محافظة الموصل لكنهم فشلوا في دخولها وانسحبوا راجعين، قبل تحرك الشيعة في رميثة السماوة بحوالي أربعين يوماً. وذلك في الشهر الخامس من سنة 1920 كما يذكر علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية) في الجزء المخصص للثورة.
وثانياً: فتش عن يد إيران تجدها فاعلة في الحدث".
فتش عن إيران في كل تحرك شيعي ( وطني )
لكل عمل بعدان: بعد سابق في النفس، هو النية الباطنة، وبعد لاحق في الأفق، هو الحركة الظاهرة. وبحسب صلاح البعد الأول يكون صلاح الثاني، وبحسبهما معاً يكون صلاح العمل وقيمته وقبوله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه البخاري. فما كل عمل صالح في ظاهره هو صالح في حقيقته. نقول هذا ولدينا قبل الدخول في عمق الموضوع الملاحظات التالية:
كأي ثورة قامت ثورة العشرين على قيادة نخبوية، وعلى قاعدة جماهيرية. نخبة ذكية خططت ودفعت، وجماهير قادها الحماس اندفعت ونفذت، وهي لا تدري بالنوايا والأهداف الحقيقية لتلك النخبة. على أن هذه النخبة تنقسم إلى قسمين: قسم يمتلك الأسرار والدوافع الحقيقية الخفية للحدث، وقسم حاله حال الجمهور: نية صالحة وفعل جميل. وهؤلاء ربحوا المعنى، وإن خسروا - وخسرنا معهم - المبنى. نقول هذا ابتداءً حتى لا نغمط حق من شارك في الثورة وضحى وتحمل التبعات بدوافع لم يكن شيء منها واقعاً في الدائرة المظلمة لدوافع القيادات والنخب الموجهة، التي سيتبين لنا – بعد قليل – أنها قيادات إيرانية أو متأيرنة، أو طائفية تنظر بمنظار الطائفة المحدود، وليس الوطن الذي يسع الجميع، أو مغفلة حالها حال الجمهور المسكين.
حين نقيس ثورة العشرين بمقياس الدوافع والمحركات الحقيقية الخفية التي يمثلها المراجع الدينيون والسياسيون، نجد أنها لم تكن ثورة عراقية وطنية، وإنما ثورة شيعية طائفية لتكوين دولة شيعية، أُعد لها من حين بدت بوادر زوال الدولة العثمانية السنية في الحرب العالمية الأولى. وكانت إيران وراء الحدث من أساسه، عن طريق المراجع الإيرانيين في العراق؛ تحقيقاً لهدفين:
الأول: التخلص من الهيمنة البريطانية التي كانت يومها تغتصب القرار الإيراني كلياً.
الثاني: تكوين دولة شيعية في العراق موالية لها.
يُظهر البحث في المفارقة بين (وطنية) الشيعة قبل تسعين سنة على عهد الاحتلال الانجليزي، والعمالة الواضحة على عهد المحتل الأمريكي أنه ليس من مفارقة، ولا من وطنية! إنما هي إشاعات روجها الإعلام الشيعي، وساهم في ترسيخها التثقيف الوطني للدولة العراقية (1921-2003)، وشاركه في ذلك المنبر الديني. فالظاهر غير الحقيقة!
التطابق التام بين موقف المرجع الشيعي محمد تقي الشيرازي من الاحتلال البريطاني وموقف علي السيستاني من الاحتلال الأمريكاني، رغم وجود فترة طويلة تفصل بينهما تمتد إلى حوالي قرن من الزمان: يكشف عن وجود استراتيجية أو منهجية شيعية واحدة تحكم تحركاتهم، هي وراء (قابلية الاستعمار) هذه التي يلاحظها كل متابع لتاريخهم في جميع أدواره وعصوره. ابن العلقمي الوزير العباسي الفارسي الشيعي، ومعه العالم أو (المرجع) الديني الإيراني نصير الدين الطوسي مثالان مشابهان، وإن اختلف الزمان.
لم أكن يومها أملك أي معلومة تفصيلية عن علاقة إيران بالثورة وتحريكها لها، وأن القتال كان يصب في صالحها وخدمة أهدافها! إنما قلت ذلك – للمسؤول (الإسلامي) - بناءً على استقراء تاريخي وخبرة طويلة بالمحركات الخفية للشارع الشيعي، وأنه ما من حركة شيعية إلا ووراءها إيران، بصرف النظر عن الثوب الذي تلبسه الحركة وتظهر به للعالم. حتى إنني صغت هذه الحقيقة الخطيرة بعبارة تقول: "إذا أردت أن تفسر مواقف الشيعة في جميع البلدان والأزمان؛ فابحث عن الأم الحبيبة إيران".
الرئيس الراحل صدام حسين كان أوعى من (الإسلاميين) المتأخرين، وغير الإسلاميين، هؤلاء جميعاً، فكان فلم (المسألة الكبرى) الذي ركز على الشيخ ضاري المحمود، وجعله محور الحدث. اغتاظ الشيعة لظهور الفلم وقالوا: أراد صدام سرقة الثورة منا وإعطاءها للسنة، وحملوا الفعل محملاً طائفياً، كعادتهم في تفسير كل حدث وهم يمارسون (الإسقاط) العلة المزمنة التي ينظرون من خلالها إلى كل فعل من الطرف الآخر؛ ما يجعلهم بعيدين عن القراءة الموضوعية. حدثني بعض المتابعين أن الرئيس صدام لم يكن يرى في ثورة العشرين ثورة وطنية، وإنما ثورة طائفية بدفع إيراني؛ ولذلك لم يكرم أحداً من قادة الثورة الذين أدركهم أحياء على عهده، رغم أنه كرم رموزاً وطنية عديدة من العهد الملكي السابق. لكنه كسياسي تعامل مع الجانب الذي يبدو مشرقاً منها، وأبرزه وجعل تثقيف الشعب على هذا الأساس. أي اتبع عملياً أسلوب (التمجيد) و(الحماس) الذي نوه عنه الوردي، وذكرته في بداية البحث([3]).
المفارقة الهائلة بين التاريخ المكتوب والواقع المنظور
مفارقة هائلة بين القناعة المسبقة التي تكونت لدينا بفعل التثقيف الوطني في المدارس والصحافة ووسائل الإعلام والكتب والمنابر الدينية والوطنية عن (وطنية) الشيعة قبل تسعين سنة على عهد الاحتلال الانجليزي، ووقوفهم ضده في ثورة العشرين، وبين العمالة الواضحة الفاضحة التي أبداها الشارع الشيعي خلف مراجعه الدينيين والنخب والقادة السياسيين، وترحيبهم الحار بالمحتل الأمريكي واستبشارهم بمجيئه، واستقباله بالزغاريد والورود والحلوى تنثر على رؤوس الجنود، وعمل قادة الشيعة السابق على إغرائه بغزو البلد وإعانته في سبيل إتمام هذه المهمة الخيانية القذرة! هذا مع استثنائنا قلة منهم ربما كان لهم تصرف مغاير. الموقف نفسه وقفه شيعة لبنان من الاحتلال الإسرائيلي للجنوب في سنة 1982. فقد استقبلوهم بالأرز والورود والهتافات! كما اعترف بذلك الشيخ صبحي الطفيلي الأمين العام السابق([4])، والشيخ حسن نصر الله الأمين العام الحالي لـ"حزب الله"([5]).
هذا الظاهرة التي رأيناها ولمسناها أدت بي إلى إجراء مراجعات فكرية لكثير من الانطباعات والتصورات السابقة، وولدت عندي تساؤلاً يطرح نفسه بإلحاح:
هل يمكن أن تتغير طبائع الأمم والشعوب بهذه السرعة بحيث يتحول المجموع خلال أقل من قرن من شعب وطني مقاوم إلى شراذم عميلة متواطئة؟
صحيح أن العقيدة والتاريخ الشيعيين يشيران إلى (قابلية استعمار) عريقة لدى الشيعة على مر العصور، ولكن موضوع ثورة العشرين، لكثرة الضخ الإعلامي الوطني الذي نوهت عنه قبل قليل، كان يتخذ في أذهاننا منحى آخر، هو عبارة عن شذوذ عن هذه القاعدة العريقة. غير أن الحدث الجديد يقول بوضوح: ما من شذوذ، إن الأمر لا يعدو أن يكون إشاعة تاريخية خاطئة.
الهوية الضائعة ورأس الديك المفقود
سمعت الأستاذ محمد أحمد الراشد يقول: كان الشيعة يبحثون عن هوية من خلال ثورة العشرين. وهو رأي يفسر هذا التمسك الشديد بنسبتها إليهم والافتخار بها، والدعاية لها. وكنت أبتسم أمام هذا المشهد البائس! وأقارن بينه وبين مشهد آخر رأيناه بأعيننا.
لقد خاضت المقاومة العراقية طيلة السنين الست الماضية مئات المعارك ضد الأمريكان (كتبت البحث قبل أكثر من أربع سنين)، في اللطيفية وجرف الصخر وجبلة والصويرة والفلوجة والمدائن وبغداد بكل مدنه السنية وديالى بكل مناطقها والموصل بكل نواحيه والرمادي وشارع العشرين والحي الصناعي والحوز والجزيرة والخالدية وحصيبة والرطبة وهيت وحديثة وتكريت وسامراء وكركوك وغيرها من ربوع المستطيل السني: كل معركة منها هي عبارة عن ثورة بحجم ثورة العشرين وأكبر منها! لكن لم نجد لواحدة منها هذا التطبيل والتدليل! ولا عجب فالمفلس لا يستغرب منه إكباره لما عنده من قروش قليلة! وتذكرت قصة رأس الديك. يقال: إن رجلاً أعمى ارتد بصيراً لحظة واحدة لم ير فيها إلا رأس ديك، ثم عاد المسكين إلى عماه. فكان كلما وصف له شيء قال: لعله يشبه رأس الديك؟ هل هو أكبر أم أصغر من رأس الديك؟ هل هو بجمال لون ريش الديك؟ الديك الديك! وكان كلما تكلم عن شيء حشر معه رأس الديك المسكين!
هؤلاء قوم لم يكن لديهم سوى رأس ديك ثورة العشرين! ومن خلال هذا الرأس الذي لم يروا غيره يريدون أن يجدوا لهم هوية بين الهويات الضائعة، ويثبتوا وطنيتهم بهذه الطريقة الإعلامية الزائفة. ثم سطروا كل حكاياتهم، وحكوا كل أساطيرهم وبنوها على هذه الأحدوثة الديكية في زمن كان مخلصهم فيه الرئيس الأمريكي جورج بوش ونائبه (ديك) جيني.
دوافع العشائر في اشتراكها بالثورة
الترقيع والتزوير الشيعي للتاريخ
لم يكتف الشيعة..
- بتزوير الحقيقة وسرقة ثورة العشرين؛ بحثاً عن الهوية (الوطنية) المفقودة.
- وإخفاء الدافع الحقيقي من تحريض بعض المراجع الدينية على المشاركة فيها، ووقوف البعض الآخر على الحياد، ألا وهو..
1- جر العراقيين للقتال بالنيابة عن إيران ضد بريطانيا التي كانت تهيمن عليها.
2- محاولة تأسيس دولة شيعية في العراق.
لم يكتفوا بذلك – وهذه هي طبيعة الشخصية الشيعية: الاستحواذ والإقصاء الكاملين - حتى ارتقوا مرتقى صعباً ليصفوا السنة العرب بالعمالة للانجليز، وأن هذه (العمالة) هي سر تسليم الانجليز مقاليد الدولة للسنة، بينما حرم الشيعة من مناصبها لـ(وطنيتهم ومقاومتهم). وقد تكلم الأستاذ علي البزركان في كتابه (الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية) كثيراً عن هذه الدعاوى وشخوصها ومحاولاتهم المستميتة في الاستحواذ على شرف الثورة دون السنة، في ردوده على دعاوى الشيخ فريق مزهر الفرعون في كتابه (الحقائق الناصعة للثورة العراقية).
ومن شهود هذا الزور من المتأخرين الكاتب الشعوبي المتدثر بثوب العروبة والوطنية حسن العلوي، الذي بدأ العزف على هذه الربابة منذ أن كتب كتابه المليء بالمغالطات (الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990) في بداية التسعينيات، وإلى اليوم في كتبه وتنظيراته من خلال برامجه ولقاءاته على القنوات الفضائية، والتي انخدع لها الكثيرون حتى من أهل السنة داخل العراق وخارجه.
في الكتاب المذكور مثلاً حاول العلوي
كتب بواسطة: د. طه الدليمي
ثورة العشرين
خفايا وأسرار لا تسر الكثيرين
المقدمة
في كل عام في مثل هذا اليوم (30/6) ينبري (الوطنيون) في العراق للاحتفاء بذكرى (ثورة العشرين) على أنها الثورة الوطنية التي ضمت تحت جناحيها جميع العراقيين. والحقيقة أن هذه الثورة لا تعدو أن تكون (حرباً بالنيابة) خاضها الشعب العراقي بدلاً عن إيران، لاهثاً – دون أن يدري إلى أين يراد به - وراء المرجعيات الفارسية الخائنة لحقوق (الزاد والملح)، التي لعبت الدور بإتقان فتعددته فيما بينها خدمةً للهدف. لا نغمط حق من قاتل فيها بشرف بنية الدفاع عن الدين أو الوطن أو قيم العشيرة، بل نذكرهم بما يستحقون، ونفخر بهم كما نستحق كأحفاد يسيرون على خطى الأجداد. لكن هذا كله لا يكفي عائقاً أمام قول الحقيقة التي توصلنا إليها من خلال المعاناة، التي دفعتنا دفعاً وساقتنا سوقاً للتنقيب بين أحجار التاريخ وزواياه المنسية.
21/7/2009
تمهيد
المنهج الحماسي وسذاجة الوطنيين في ثورة العشرين
يقول الدكتور علي الوردي في مقدمة الجزء الخامس من كتابه (لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث) المخصص لدراسة (ثورة العشرين) (ص15)([1]):
ويستشهد لهذا المنهج التمجيدي الحماسي (ص21) بتركيز بعض الكتاب على سببين اثنين لقيام الثورة هما: ظلم الاحتلال، وطبيعة الشعب العراقي التي تأبى الضيم. وينقل لذلك نماذج عدة. ثم يصف هذا الأسلوب (ص25) بأنه (أقرب إلى أسلوب الشعر والخطابة منه إلى الموضوعية والمنهج العلمي.. يستطيع أي كاتب أو شاعر إذا امتلك ناصية البيان أن يأتي بالمناقب والمثالب كما يشاء).
ولا ينسى الوردي أن يقول (ص25): (إني لا أنكر أنه أسلوب حسن إذا كان المقصود منه إثارة الحماس الوطني في أفئدة الناشئة الجديدة، إنما هو لا يصلح أن يكون أسلوباً للبحث العلمي الذي ينبغي أن يكون من نمط آخر).
إن هذا هو الأسلوب الوحيد الذي يجري على أساسه إيصال الحديث عن الثورة إلى الجمهور، سواء عن طريق كتب التاريخ والوطنية في المناهج الدراسية، أو وسائل الصحافة والإعلام، أو المنابر الدينية، وغيرها من وسائل التثقيف الاجتماعي. وبهذا يتبين مدى الفرق بين الصورة الدعائية التي رسخت في أذهان الناس عن هذه الثورة، والصورة الحقيقية لها، بصرف النظر عن سلبياتها وإيجابياتها.
في يوم من أيام ربيع 2005 قلت لأحد السياسيين الإسلاميين: هل يرضيك فلان يتحدث عن محمد باقر الحكيم على رؤوس الملأ ومن خلال شاشات الفضائيات ويقول: لقد وجدته حكيماً حقاً، وهو من عائلة وطنية سعت وما زالت تسعى في جمع العراقيين وتحقيق الوحدة الوطنية"([2])؟!
شعرت بالصدمة حين سمعته يجيب: "نعم هو من عائلة وطنية"! قلت: "عن أي وطنية تتكلم"؟! قال: "هل تعلم أنه لولا فتوى السيد محسن الحكيم في الشيوعية لاجتاح الشيوعيون العراق في منتصف القرن الماضي"؟ فأجبته على الفور: "وهل تعلم أن هذه الفتوى هي فتوى أمريكية إيرانية؟ كان الصراع يومها بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة على أشده، فقد كان الروس يسعون بكل طاقتهم لتحقيق حلم القياصرة في الوصول إلى (المياه الدافئة) في الخليج، وكان الشاه محمد رضا بهلوي رجل أمريكا الذي يقف سداً أمام أحلام الروس في اجتياح المنطقة. فأوعز الشاه إلى رجله في العراق المرجع الشيعي الإيراني محسن الحكيم (والد محمد باقر الحكيم) أن يصدر فتواه بتحريم الانتساب إلى الشيوعية حتى يقطع أذرع الروس التي يمكنهم استعمالها في سبيل هدفهم المذكور. فالفتوى يا أستاذ أمريكية بثياب دينية شيعية"!
لم يجبني على هذا الكشف الواضح الفاضح لجذور الفتوى، وإنما قفز إلى موضوع آخر بعيد قليلاً عن أصل النقاش، ليقول: لقد شارك الشيعة وعلى رأسهم مراجعهم الدينيون في ثورة العشرين". فقلت له:
أولاً: ثورة العشرين ثورة مسروقة؛ فأول من قاوم الانجليز هم أهل السنة، وقد ثار أهل تلعفر ومعهم الجيش العربي القادم من سوريا بقيادة جميل المدفعي وأبادوا الحامية البريطانية في قلعة تلعفر عن آخرها، وتقدموا إلى مركز محافظة الموصل لكنهم فشلوا في دخولها وانسحبوا راجعين، قبل تحرك الشيعة في رميثة السماوة بحوالي أربعين يوماً. وذلك في الشهر الخامس من سنة 1920 كما يذكر علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية) في الجزء المخصص للثورة.
وثانياً: فتش عن يد إيران تجدها فاعلة في الحدث".
فتش عن إيران في كل تحرك شيعي ( وطني )
لكل عمل بعدان: بعد سابق في النفس، هو النية الباطنة، وبعد لاحق في الأفق، هو الحركة الظاهرة. وبحسب صلاح البعد الأول يكون صلاح الثاني، وبحسبهما معاً يكون صلاح العمل وقيمته وقبوله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه البخاري. فما كل عمل صالح في ظاهره هو صالح في حقيقته. نقول هذا ولدينا قبل الدخول في عمق الموضوع الملاحظات التالية:
كأي ثورة قامت ثورة العشرين على قيادة نخبوية، وعلى قاعدة جماهيرية. نخبة ذكية خططت ودفعت، وجماهير قادها الحماس اندفعت ونفذت، وهي لا تدري بالنوايا والأهداف الحقيقية لتلك النخبة. على أن هذه النخبة تنقسم إلى قسمين: قسم يمتلك الأسرار والدوافع الحقيقية الخفية للحدث، وقسم حاله حال الجمهور: نية صالحة وفعل جميل. وهؤلاء ربحوا المعنى، وإن خسروا - وخسرنا معهم - المبنى. نقول هذا ابتداءً حتى لا نغمط حق من شارك في الثورة وضحى وتحمل التبعات بدوافع لم يكن شيء منها واقعاً في الدائرة المظلمة لدوافع القيادات والنخب الموجهة، التي سيتبين لنا – بعد قليل – أنها قيادات إيرانية أو متأيرنة، أو طائفية تنظر بمنظار الطائفة المحدود، وليس الوطن الذي يسع الجميع، أو مغفلة حالها حال الجمهور المسكين.
حين نقيس ثورة العشرين بمقياس الدوافع والمحركات الحقيقية الخفية التي يمثلها المراجع الدينيون والسياسيون، نجد أنها لم تكن ثورة عراقية وطنية، وإنما ثورة شيعية طائفية لتكوين دولة شيعية، أُعد لها من حين بدت بوادر زوال الدولة العثمانية السنية في الحرب العالمية الأولى. وكانت إيران وراء الحدث من أساسه، عن طريق المراجع الإيرانيين في العراق؛ تحقيقاً لهدفين:
الأول: التخلص من الهيمنة البريطانية التي كانت يومها تغتصب القرار الإيراني كلياً.
الثاني: تكوين دولة شيعية في العراق موالية لها.
يُظهر البحث في المفارقة بين (وطنية) الشيعة قبل تسعين سنة على عهد الاحتلال الانجليزي، والعمالة الواضحة على عهد المحتل الأمريكي أنه ليس من مفارقة، ولا من وطنية! إنما هي إشاعات روجها الإعلام الشيعي، وساهم في ترسيخها التثقيف الوطني للدولة العراقية (1921-2003)، وشاركه في ذلك المنبر الديني. فالظاهر غير الحقيقة!
التطابق التام بين موقف المرجع الشيعي محمد تقي الشيرازي من الاحتلال البريطاني وموقف علي السيستاني من الاحتلال الأمريكاني، رغم وجود فترة طويلة تفصل بينهما تمتد إلى حوالي قرن من الزمان: يكشف عن وجود استراتيجية أو منهجية شيعية واحدة تحكم تحركاتهم، هي وراء (قابلية الاستعمار) هذه التي يلاحظها كل متابع لتاريخهم في جميع أدواره وعصوره. ابن العلقمي الوزير العباسي الفارسي الشيعي، ومعه العالم أو (المرجع) الديني الإيراني نصير الدين الطوسي مثالان مشابهان، وإن اختلف الزمان.
لم أكن يومها أملك أي معلومة تفصيلية عن علاقة إيران بالثورة وتحريكها لها، وأن القتال كان يصب في صالحها وخدمة أهدافها! إنما قلت ذلك – للمسؤول (الإسلامي) - بناءً على استقراء تاريخي وخبرة طويلة بالمحركات الخفية للشارع الشيعي، وأنه ما من حركة شيعية إلا ووراءها إيران، بصرف النظر عن الثوب الذي تلبسه الحركة وتظهر به للعالم. حتى إنني صغت هذه الحقيقة الخطيرة بعبارة تقول: "إذا أردت أن تفسر مواقف الشيعة في جميع البلدان والأزمان؛ فابحث عن الأم الحبيبة إيران".
الرئيس الراحل صدام حسين كان أوعى من (الإسلاميين) المتأخرين، وغير الإسلاميين، هؤلاء جميعاً، فكان فلم (المسألة الكبرى) الذي ركز على الشيخ ضاري المحمود، وجعله محور الحدث. اغتاظ الشيعة لظهور الفلم وقالوا: أراد صدام سرقة الثورة منا وإعطاءها للسنة، وحملوا الفعل محملاً طائفياً، كعادتهم في تفسير كل حدث وهم يمارسون (الإسقاط) العلة المزمنة التي ينظرون من خلالها إلى كل فعل من الطرف الآخر؛ ما يجعلهم بعيدين عن القراءة الموضوعية. حدثني بعض المتابعين أن الرئيس صدام لم يكن يرى في ثورة العشرين ثورة وطنية، وإنما ثورة طائفية بدفع إيراني؛ ولذلك لم يكرم أحداً من قادة الثورة الذين أدركهم أحياء على عهده، رغم أنه كرم رموزاً وطنية عديدة من العهد الملكي السابق. لكنه كسياسي تعامل مع الجانب الذي يبدو مشرقاً منها، وأبرزه وجعل تثقيف الشعب على هذا الأساس. أي اتبع عملياً أسلوب (التمجيد) و(الحماس) الذي نوه عنه الوردي، وذكرته في بداية البحث([3]).
المفارقة الهائلة بين التاريخ المكتوب والواقع المنظور
مفارقة هائلة بين القناعة المسبقة التي تكونت لدينا بفعل التثقيف الوطني في المدارس والصحافة ووسائل الإعلام والكتب والمنابر الدينية والوطنية عن (وطنية) الشيعة قبل تسعين سنة على عهد الاحتلال الانجليزي، ووقوفهم ضده في ثورة العشرين، وبين العمالة الواضحة الفاضحة التي أبداها الشارع الشيعي خلف مراجعه الدينيين والنخب والقادة السياسيين، وترحيبهم الحار بالمحتل الأمريكي واستبشارهم بمجيئه، واستقباله بالزغاريد والورود والحلوى تنثر على رؤوس الجنود، وعمل قادة الشيعة السابق على إغرائه بغزو البلد وإعانته في سبيل إتمام هذه المهمة الخيانية القذرة! هذا مع استثنائنا قلة منهم ربما كان لهم تصرف مغاير. الموقف نفسه وقفه شيعة لبنان من الاحتلال الإسرائيلي للجنوب في سنة 1982. فقد استقبلوهم بالأرز والورود والهتافات! كما اعترف بذلك الشيخ صبحي الطفيلي الأمين العام السابق([4])، والشيخ حسن نصر الله الأمين العام الحالي لـ"حزب الله"([5]).
هذا الظاهرة التي رأيناها ولمسناها أدت بي إلى إجراء مراجعات فكرية لكثير من الانطباعات والتصورات السابقة، وولدت عندي تساؤلاً يطرح نفسه بإلحاح:
هل يمكن أن تتغير طبائع الأمم والشعوب بهذه السرعة بحيث يتحول المجموع خلال أقل من قرن من شعب وطني مقاوم إلى شراذم عميلة متواطئة؟
صحيح أن العقيدة والتاريخ الشيعيين يشيران إلى (قابلية استعمار) عريقة لدى الشيعة على مر العصور، ولكن موضوع ثورة العشرين، لكثرة الضخ الإعلامي الوطني الذي نوهت عنه قبل قليل، كان يتخذ في أذهاننا منحى آخر، هو عبارة عن شذوذ عن هذه القاعدة العريقة. غير أن الحدث الجديد يقول بوضوح: ما من شذوذ، إن الأمر لا يعدو أن يكون إشاعة تاريخية خاطئة.
الهوية الضائعة ورأس الديك المفقود
سمعت الأستاذ محمد أحمد الراشد يقول: كان الشيعة يبحثون عن هوية من خلال ثورة العشرين. وهو رأي يفسر هذا التمسك الشديد بنسبتها إليهم والافتخار بها، والدعاية لها. وكنت أبتسم أمام هذا المشهد البائس! وأقارن بينه وبين مشهد آخر رأيناه بأعيننا.
لقد خاضت المقاومة العراقية طيلة السنين الست الماضية مئات المعارك ضد الأمريكان (كتبت البحث قبل أكثر من أربع سنين)، في اللطيفية وجرف الصخر وجبلة والصويرة والفلوجة والمدائن وبغداد بكل مدنه السنية وديالى بكل مناطقها والموصل بكل نواحيه والرمادي وشارع العشرين والحي الصناعي والحوز والجزيرة والخالدية وحصيبة والرطبة وهيت وحديثة وتكريت وسامراء وكركوك وغيرها من ربوع المستطيل السني: كل معركة منها هي عبارة عن ثورة بحجم ثورة العشرين وأكبر منها! لكن لم نجد لواحدة منها هذا التطبيل والتدليل! ولا عجب فالمفلس لا يستغرب منه إكباره لما عنده من قروش قليلة! وتذكرت قصة رأس الديك. يقال: إن رجلاً أعمى ارتد بصيراً لحظة واحدة لم ير فيها إلا رأس ديك، ثم عاد المسكين إلى عماه. فكان كلما وصف له شيء قال: لعله يشبه رأس الديك؟ هل هو أكبر أم أصغر من رأس الديك؟ هل هو بجمال لون ريش الديك؟ الديك الديك! وكان كلما تكلم عن شيء حشر معه رأس الديك المسكين!
هؤلاء قوم لم يكن لديهم سوى رأس ديك ثورة العشرين! ومن خلال هذا الرأس الذي لم يروا غيره يريدون أن يجدوا لهم هوية بين الهويات الضائعة، ويثبتوا وطنيتهم بهذه الطريقة الإعلامية الزائفة. ثم سطروا كل حكاياتهم، وحكوا كل أساطيرهم وبنوها على هذه الأحدوثة الديكية في زمن كان مخلصهم فيه الرئيس الأمريكي جورج بوش ونائبه (ديك) جيني.
دوافع العشائر في اشتراكها بالثورة
الترقيع والتزوير الشيعي للتاريخ
لم يكتف الشيعة..
- بتزوير الحقيقة وسرقة ثورة العشرين؛ بحثاً عن الهوية (الوطنية) المفقودة.
- وإخفاء الدافع الحقيقي من تحريض بعض المراجع الدينية على المشاركة فيها، ووقوف البعض الآخر على الحياد، ألا وهو..
1- جر العراقيين للقتال بالنيابة عن إيران ضد بريطانيا التي كانت تهيمن عليها.
2- محاولة تأسيس دولة شيعية في العراق.
لم يكتفوا بذلك – وهذه هي طبيعة الشخصية الشيعية: الاستحواذ والإقصاء الكاملين - حتى ارتقوا مرتقى صعباً ليصفوا السنة العرب بالعمالة للانجليز، وأن هذه (العمالة) هي سر تسليم الانجليز مقاليد الدولة للسنة، بينما حرم الشيعة من مناصبها لـ(وطنيتهم ومقاومتهم). وقد تكلم الأستاذ علي البزركان في كتابه (الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية) كثيراً عن هذه الدعاوى وشخوصها ومحاولاتهم المستميتة في الاستحواذ على شرف الثورة دون السنة، في ردوده على دعاوى الشيخ فريق مزهر الفرعون في كتابه (الحقائق الناصعة للثورة العراقية).
ومن شهود هذا الزور من المتأخرين الكاتب الشعوبي المتدثر بثوب العروبة والوطنية حسن العلوي، الذي بدأ العزف على هذه الربابة منذ أن كتب كتابه المليء بالمغالطات (الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990) في بداية التسعينيات، وإلى اليوم في كتبه وتنظيراته من خلال برامجه ولقاءاته على القنوات الفضائية، والتي انخدع لها الكثيرون حتى من أهل السنة داخل العراق وخارجه.
في الكتاب المذكور مثلاً حاول العلوي
أن يجعل من الشيعة وحدهم حملة الراية الوطنية والقومية في العراق، ورمى بكل ثقله على (ثورة العشرين) التي لم يجعل لأهل السنة فيها نصيباً. وقد وصم أهل السنة - ممثلين بالشيخ عبد الرحمن النقيب - بالعمالة للمحتل البريطاني. واعتبر ذلك هو السبب وراء إقصاء الشيعة عن مقاليد الحكم وانفراد السنة بها.
لكنه لم يتوقف عند ثورة مايس سنة 1941 إلا قليلاً، ومر بها مرور الكرام! ولا أجد لذلك تفسيراً سوى أن الثورة كانت سنية بحتة، في مناطق سنية خالصة، وقد كان رموزها جميعاً من أهل السنة ابتداءً من رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني إلى يونس السبعاوي إلى العقداء الأربعة صلاح الدين الصباغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب القادة العسكريين للمعركة التي استمرت أكثر من شهر على ربى محافظة الأنبار ومغاني الفلوجة وغيرها من مدن أهل السنة!
بعد الاحتلال الذي كان العلوي من دعاته ورجاله، وكوفئ على ذلك بأن عينه مجلس الحكم - الذي شكله الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر - سفيراً للعراق لدى سوريا: صار العلوي يمثل دور المرقع لفضائح طائفته من خلال الظهور بمظهر المنصف فيقول: إن ما حصل ليس من فعل الشيعة ولا السنة، إنما هو رد فعل على ما ارتكبه المتطرفون من الجانبين. وإذا كان السيستاني الشيعي تواطأ مع المحتل الأمريكي فإن عبد الرحمن النقيب السني كان متواطئاً مع المحتل البريطاني، ورضي أن يكون أول رئيس وزراء للحكومة التي شكلها الانجليز بعد ثورة العشرين. ويردد قائلاً: لقد فاز السنة بالوطن على حساب الوطنية، وفاز الشيعة بالوطنية على حساب الوطن في زمن الانجليز. بينما انقلبت المعادلة بينهما في زمن الأمريكان، وتبادل الطرفان الأدوار. وهي مقارنات سطحية تعتمد المغالطة، وعزل الحدث عن حيثياته، وتستغل عاطفة الجمهور وجهله سوقاً للتصدير.
تأمل هذه المغالطة لتعرف حجم التزييف: البريطانيون لم يحتلوا العراق في بداية القرن العشرين بدعوة وإغراء وتسهيل وترحيب وتهليل من سنة العراق لا من الشيخ عبد الرحمن النقيب ولا غيره، إنما هو بلاء وقع على رؤوسهم اضطروا للتعامل معه كواقع مفروض دفعاً للمفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى. بينما احتل الأمريكان العراق بدعوة وتخطيط وتنفيذ وتواطؤ وتسهيل وترحيب من الشيعة مراجع وسياسيين ونخباً وعامة. فكيف يقاس هذا بذاك، وبينهما هذا الفارق الذي لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال؟!
دوافع العشائر للانضمام إلى المعركة
أما اشتراك عشائر الجنوب (الشيعية) في الثورة فيمكن أن يأخذ تفسيره مناحي عديدة بعيداً عن (الوطنية) والعقيدة الشيعية التي هي بمثابة الحاضنة الطبيعية لـ(القابلية على الاستعمار):
- فتشيع العشائر هناك قبل مئة عام كان تشيعاً ساذَجاً غير مبني على معرفة بحقيقة التشيع، والنفوس ما زالت غير متشربة تماماً بمبادئه المزورة التي تورث صاحبها (قابلية الاستعمار)، فكانت النخوة العشائرية العربية، وبقايا الحس الديني موجودة يمكن تفجيرها بأي صاعق.
- كان الجنوب مسكوناً بنسبة كبيرة من السنة. فليس كل الجنوب شيعياً كما يسبق إلى الذهن.
- يمثل التعصب القبلي - لا سيما لشيخ القبيلة - دافعاً قوياً للتحرك الفاعل، كما حصل مع شيخ الظوالم في الرميثة شعلان أبو الچون حين اعتقله الانجليز فهاجمت مجموعة من أقاربه وقبيلته مركز الاعتقال وقتلت الجنود الانجليز وحررته، فكانت الشرارة التي أشعلت نار المعركة في الجنوب. وقد أكد الوردي (ص27) على أن ما أسماه بـ(التراث البدوي) كان عاملاً مهماً من عوامل الثورة على نحو ما كان في المعارك العشائرية السابقة التي تنشب بين العشائر والحكومة في العهد التركي.
- انضم كثير من رؤساء القبائل إلى الثورة بدافع الحرص على تسلم مشيخة العشيرة، والتنافس على الزعامة؛ إذ يقرب الانجليز أحد وجوه العشيرة فيكون موالياً لهم؛ ويهملون وجهاً آخر يحقد عليهم لهذا السبب، فلما نشبت الثورة وقف هؤلاء المهملون إلى جانب الثوار فكانوا منهم.
- من الشيوخ من تعرض إلى إهانات متكررة على يد ضباط المحتل فكانت الثورة خصوصاً بعد انتصارها في أسابيعها الأولى فرصة للانتقام. وقد أورد الوردي نماذج كثيرة لكل صنف من الأصناف السابقة. على أنني لا أعيب على من انتصر لنفسه من عدوه فنال منه عندما حانت ساعة الثأر؛ فموقف هذا – بصرف النظر عن الدافع الخفي - خير وأنبل من موقف الضعفاء الخانعين على أية حال. ولا أغمط صاحبه حقه من الذكر الطيب والفخر الجميل. كما لا يمكنني أن أجرده من دوافع سامية أخرى تكون أسباباً غير مباشرة للقتال.
إنما ينصب حديثي ونقدي على أمرين:
1. إضفاء الصبغة الوطنية على مشاركة الشيعة في الثورة، بينما الحقيقة المستندة على المعطيات العلمية من معرفة العقيدة والشخصية الشيعية، وكشف زوايا التاريخ المواربة، ومعاناة الواقع الذي عشناه ولمسناه، وما سمعناه من التطبيل بوصف الوطنية والمقاومة لكبار مجرمي وخونة الشيعة في زماننا، وما زلنا نسمعه من عامة من وضعته الموجة في مقدمة الناطقين المحسوبين على السنة: الحقيقة القاطعة أن "وطن الشيعي طائفته"، وأنه ليس للشيعي من وطن يتعلق به خارج نطاق التعلق الغريزي الذي تشترك فيه الأحياء جميعاً. وأن الولاء لإيران هو مفتاح فهم الموقف الشيعي في كل زمان ومكان. فكل موقف للشيعة يبدو في ظاهره (وطنياً) فلأن فيه مصلحة لإيران، والوطن إنما جاء بالعرَض والتبع. ويمكن لكل من قرأ ما كتب عن "ثورة العشرين" بتمعن وحيادية أن يشهد تطابقاً شديداً بين موقف الشيعة - مراجع ومقلدين - من المحتل البريطاني آنذاك، وموقفهم من المحتل الأمريكي في عهدنا. وهذا لا يعني عدم وجود المخالف ولكن على سبيل الشذوذ والندرة كما قال تعالى عن اليهود وغيرهم: (لَيْسُوا سَوَاءً ) (آل عمران:113). كما لا يلزم منه كون جميع السنة وطنيين ومبدإيين، فكلامي على الخط والتوجه العام للطرفين.
2. إضفاء القدسية على الناس أجمعين، وتصوير من عاصر ذلك الحدث من العراقيين على أنهم كانوا جميعاً مشاركين في الثورة مناصرين لها، وكل واحد منهم في قمة الحماس والنخوة وغاية الوطنية والغيرة. أو أن كل من قاتل فيها فقاتل لغايات نبيلة نقية من نوازع البشر؛ فهذا التعميم غير واقع، ولا واقعي، بل ومستحيل. وإذا صلح في مقام الحماس وإثارة الهمم، فلا يصلح في مجال العلم والبحث عن الحقيقة.
أهل السنة في الجنوب
كان الجنوب حينذاك آهلاً بأهل السنة، والمجتمع العراقي كان متقارباً ومتداخلاً ومتمازجاً بصورة أشد مما هو عليه فيما تلاه من أزمان، والفوارق الطائفية كانت أخف وأقل وضوحاً على المستوى الاجتماعي، لا سيما بين أبناء العشائر. وتستطيع ببساطة أن تشخص هذا من خلال الكتابات التي تروي الحدث. يذكر د. علي الوردي في كتابه السابق (ص243) في معرض حديثه عن اجتماع كبير عقد في صحن الحسين ألقيت فيه قصائد وخطب حماسية ضد الانجليز، كان من المشاركين فيها رجل اسمه (عمر العلوان) ألقى خطاباً حماسياً شديداً على حد وصف الوردي. وذلك في منتصف حزيران (1920). كما ورد اسم عمر العلوان (ص132) ضمن ستة أشخاص من أهل كربلاء ألقى الانجليز القبض عليهم في (2/8/1919) وجرى تسفيرهم إلى بغداد بغية نفيهم إلى الهند، لكن هذا لم يتم. بعد اجتماع كربلاء بأربعة أيام (19/حزيران) عقد اجتماع كبير في مدينة الحلة لتلاوة رسالة وردت من الشيرازي (تدعو العراقيين إلى المطالبة بحقوقهم المشروعة بالطرق السلمية)، تتابع بعدها عدة مشايخ فألقوا خطباً حماسية تطالب باستقلال العراق، ذكر منهم (رؤوف الأمين وخطيب السنة عبد السلام الحافظ) على حد تعبير الوردي. والجامع الكبير هو جامع سني يقع في وسط السوق المسقف في مركز المدينة، ورؤوف الأمين اسم عليه الطابع السني، أضف إلى ذلك عبد السلام الحافظ الذي وصفه الوردي بـ(خطيب السنة)، فهو خطيب الجامع المذكور.
وشارك أبناء قبيلة الجنابيين برئاسة بيت عويف في منطقة جرف الصخر شمال غربي الحلة، وقد شكل الجرف نقطة التقاء وتنسيق حربي بين قبيلة الجنابيين وقبيلة زوبع ومن معهما من القبائل السنية في المنطقة من جهة، وقبائل الجنوب الشيعية من جهة أخرى.
الضباط السنة يقودون عشائر الجنوب
يقول د. علي الوردي (ص333): (إن عدداً من الضباط العراقيين من بقايا الجيش العثماني قد تطوعوا لخدمة الثورة، فذهب واحد منهم إلى ديلي هو شاكر محمود قنبر علي وكان في صحبته سامي خوندة، أما الآخرون فقد ذهبوا إلى الفرات الأوسط وهم: حسين علوان الدوري وشاكر القرغولي ومحمود رامز وإسماعيل حقي الأغا ومحمود سامي وسعيد حقي وفؤاد المدفعي وطالب الجدة وإبراهيم مهدي وسامي النقشلي وزكي أمين الكردي.
اشتهر من هؤلاء الضباط اثنان لما قاما به من أعمال باهرة في الثورة، أحدهما حسين علوان الدوري وكان مقره في الكوفة، والثاني هو سامي النقشلي وقد التحق بثوار بني حجيم في منطقة السماوة والخضر.
ان سامي النقشلي ضابط بغدادي من أصل تركي، وكان في اثناء الحرب الأولى ضابط رشاش وقد شارك في معركة جناق قلعة مشهورة، وحين تطوع في الثورة انتحل لنفسه اسم (محمود التركي) خوفاً من ان ينتقم الانكليز من اهله في بغداد. وقد أخلص للثورة وبذل فيها جهوداً كبيرة ظل الثوار في منطقة السماوة يلهجون بها مدة غير قصيرة.
كان من جملة غنائم الثوار في منطقة السماوة مدفعان وعدد كبير من القنابل اليدوية والقنابل المدفعية. وقد تمكن النقشلي أن ينصب أحد المدفعين فوق كورة تقع شمال بلدة السماوة لضرب المعسكر الانكليزي في شاطئ حسيجة، ونصب المدفع الثاني في الجانب الآخر من النهر للغرض نفسه...
وجد النقشلي صعوبة في تدريب أبناء العشائر على استعمال القنابل اليدوية التي كانت من جملة الغنائم، وكانت كثيرة لديه، فهم كانوا يكرهون القنبلة اليدوية ويسمونها (العقرب) ويرفضون استعمالها. والتجأ النقشلي إلى حيلة من أجل ترغيبهم بها، وهي استعمال القنابل في صيد السمك، فأخذ يقذف بها إلى النهر واحدة بعد الأخرى مما أدى إلى حصولهم على سمك كثير. وعند هذا أقبلوا على استعمال القنابل بشوق كبير، واستطاع النقشلي ان يؤلف فصيلاً منهم لقذف القنابل اليدوية على الإنكليز).
إن هذا يكشف التخلف الذي كان عليه شيعة الجنوب بسبب الفتاوى الدينية التي تحرم عليهم الخدمة في الجيش العثماني. ولما واجهت الدولة العراقية مهمة تشكيل جيش وطني لم يجدوا ضابطاً واحداً من الشيعة يعينونه فيه؛ فكان جميع الضباط من السنة. واعتاضت الحكومة عن ذلك بأن سمت أول فصيل تشكل لهذا الغرض باسم فصيل (موسى الكاظم). بينما يصر الشيعة – كعادتهم – على تفسير الأمر تفسيراً إسقاطياً طائفياً يُظهرون به مظلوميتهم الأبدية.
نجم الدليمي مفجر معركة النجف
ذكرت في المقال الأول عن (ثورة العشرين) أن إيران كانت وراء الحدث من أساسه، عن طريق مراجعها الإيرانيين في العراق؛ وقد دعا هؤلاء والنخبة التي حولهم إلى الثورة على الانجليز تحقيقاً لهدفين كلاهما في مصلحة إيران:
الهدف الأول: التخلص من الهيمنة البريطانية التي كانت يومها تغتصب القرار الإيراني كلياً. وعلى هذا تكون إيران قد نجحت في دفع العراقيين إلى خوض حرب بالنيابة عنها. وفي الوقت نفسه كسب الشيعة بعداً وطنياً هم في حاجة إليه لتثبيت هوية لهم تمنحهم شيئاً من الاستقرار النفسي الجمعي على اعتبار أنهم مواطنون دافعوا عن البلد.
الهدف الثاني: تكوين دولة شيعية في العراق موالية لها.
وفي المقال السابق قلت: "كان الجنوب حينذاك آهلاً بأهل السنة، والمجتمع العراقي كان متقارباً ومتداخلاً ومتمازجاً بصورة أشد مما هو عليه فيما تلاه من أزمان، والفوارق الطائفية كانت أخف وأقل وضوحاً على المستوى الاجتماعي، لا سيما بين أبناء العشائر. وتستطيع ببساطة أن تشخص هذا من خلال الكتابات التي تروي الحدث". فلم يخض المعركة في الجنوب الشيعة وحدهم بل السنة أيضاً، إضافة إلى سنة الوسط والشمال، وكون الثورة بدأها السنة في تلعفر/الموصل في آيار/مايو قبل أن يتحرك الشيعة في الجنوب بأربعين يوماً. ومن إرهاصات الثورة المنسية معركة خاضها رجال فخذ العمران من عشيرة الغرير في اللطيفية بقيادة المرحوم بديوي الحسن، الذي جرح في المعركة وتوفي بعد أيام، وقد شارك فيها عم والدتي (حنتوش محمد العُبَيدي)، وكان يساكنهم في منطقتهم وبينه وبينهم مصاهرة. وما زالوا يذكرونها له. ولما انطلقت شرارة الثورة بعد ذلك في الجنوب أطلق بعض الشيعة عن تلك المعركة أهزوجة نصها "سوّاها السني وضم راسهْ" على طريقتهم في إنكار الجميل ونسبة كل شيء لأنفسهم. سمعتها من الحاج نوار السلمان العمراني رحمه الله.
ومن التواريخ التي تشهد لما أقول ما ذكره الدكتور علي الوردي في الجزء الخامس من كتابه (لمحات اجتماعية) (ص285) عن رجل يدعى (نجم البقال) وابنه عباس كان لهما الدور الأكبر في تفجير ثورة النجف سنة (1918) وقيادتها إلى النهاية.
يذكر إسحاق نقاش قيام التجمعين العشائريين الرئيسين في النجف (الزغرت والشمرت) عام 1915 بطرد العثمانيين من المدينة؛ ما أدى إلى سيطرة شيوخهما الأربعة عليها. وكان البريطانيون قبل إتمام احتلال العراق يدفعون لأولئك الشيوخ مخصصات شهرية مصدرها وقف أودة في الهند. وفي سلسلة مساعي البريطانيين لإحكام قبضتهم على المدينة بعد السيطرة التامة على البلد لا بد من تقليم أظافر الحكم العشائري فعينوا الكابتن مارشال مسؤولاً عن النجف في شباط 1918، الذي شكل قوة من أفراد الشرطة لا تكون خاضعة لسلطة الشيوخ الأربعة، وسعى إلى تنظيم سداد الضرائب البلدية. وختم هذه المساعي بقطع المخصصات التي كانت تدفع إلى أولئك الشيوخ. أدت هذه الإجراءات إلى تمرد الشيوخ على البريطانيين مستغلين مرور المدينة بحالة من شحة الغذاء وارتفاع حاد في الأسعار. ولم يؤيد التمرد كبار المجتهدين في النجف وعلى رأسهم كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني. سوى لجنة سميت بـ(لجنة التمرد الإسلامي) مكونة من علماء أدنى مرتبة([6]). هذه هي الخلفية الكامنة وراء اندلاع الثورة المذكورة.
ابتدأت الثورة – كما يذكر الوردي - بهجوم شنه نجم البقال وعصابته مساء (18/3/1918) على خان عطية التي تتمركز فيه الحامية البريطانية وقتل قائد الحامية الكابتن (مارشال)! وكان ابنه في الوقت نفسه قد سافر إلى المنطقة الشمالية الغربية من العراق للتنسيق مع الأتراك في مقاومة الانجليز. جاء التعريف بنجم البقال بأنه (رجل نجفي من أصل دليمي). وأما ابنه عباس فقد قال عنه الوردي: (كان منتسباً إلى الجيش التركي برتبة رئيس عرفاء)، والشيعة يحرمون الانتساب إلى الجيش التركي (السني).
وتتكرر قصة خذلان الحسين مع نجم وأصحابه بعد فشل الثورة! يقول الوردي (ص318 وما بعدها): (أخذ الكثير من الثوار يتبرأون من الثورة وينضمون إلى أهل الطاعة ويدّعون أنهم كانوا ناقمين على الثورة منذ بدايتها... لم يبق مصراً على مواصلة الثورة سوى نحو مئتي رجل، وقيل أقل من ذلك، وهم الذين كانوا واثقين بأن الانكليز لن يعفوا عنهم... حين رأى الحاج نجم قلة أصحابه اقترح عليهم أن يجمعوا كل التمر الموجود في خانات النجف فيخزنوه في الصحن ثم يغلقوا عليهم أبوابه ويتحصنوا في سطوحه ومرتفعاته، ويظلون يقاتلون حتى يفرجها الله عنهم. ولكن أصحابه لم يقبلوا بهذا الاقتراح خشية أن يصاب المرقد المقدس بضرر (!). وانتشرت بينهم روح الهزيمة، واضطروا في النهاية إلى التفرق، واختبأ كل منهم في مكان... في 12 نيسان ألقي القبض على الحاج نجم البقال... وقد أغلقت الأسواق على أثر ذلك، وهُرع الناس لمشاهدته. واصطفوا على جانبي الطريق الذي مر به، وكان هو ثابت الجأش يدخن ولا أثر للجزع عليه، وصار يوبخ الناس بعبارات شديدة قائلاً لهم: إن هي إلا موتة واحدة يا كفرة. فسير به إلى دار مهدي السيد سلمان. ولما مثل بين يديه أخذ مهدي يسبه ويشتد في تعنيفه. ثم سلمه بعدئذ إلى الانكليز). صدر بعدها الحكم بالإعدام في حقه مع عشرة رجال آخرين، ونفذ في يوم (30/5/1918).
فكون الرجل دليمياً، وابنه عريفاً في الجيش العثماني يشهد له بالسنية، كما أن في قوله لجموع الناس الذين اصطفوا لمشاهدته: "يا كفرة" إشارة إلى كونه ليس شيعياً.
موقف مرجع الشيعة
محمد تقي الشيرازي من ثورة العشرين
لكنه لم يتوقف عند ثورة مايس سنة 1941 إلا قليلاً، ومر بها مرور الكرام! ولا أجد لذلك تفسيراً سوى أن الثورة كانت سنية بحتة، في مناطق سنية خالصة، وقد كان رموزها جميعاً من أهل السنة ابتداءً من رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني إلى يونس السبعاوي إلى العقداء الأربعة صلاح الدين الصباغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب القادة العسكريين للمعركة التي استمرت أكثر من شهر على ربى محافظة الأنبار ومغاني الفلوجة وغيرها من مدن أهل السنة!
بعد الاحتلال الذي كان العلوي من دعاته ورجاله، وكوفئ على ذلك بأن عينه مجلس الحكم - الذي شكله الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر - سفيراً للعراق لدى سوريا: صار العلوي يمثل دور المرقع لفضائح طائفته من خلال الظهور بمظهر المنصف فيقول: إن ما حصل ليس من فعل الشيعة ولا السنة، إنما هو رد فعل على ما ارتكبه المتطرفون من الجانبين. وإذا كان السيستاني الشيعي تواطأ مع المحتل الأمريكي فإن عبد الرحمن النقيب السني كان متواطئاً مع المحتل البريطاني، ورضي أن يكون أول رئيس وزراء للحكومة التي شكلها الانجليز بعد ثورة العشرين. ويردد قائلاً: لقد فاز السنة بالوطن على حساب الوطنية، وفاز الشيعة بالوطنية على حساب الوطن في زمن الانجليز. بينما انقلبت المعادلة بينهما في زمن الأمريكان، وتبادل الطرفان الأدوار. وهي مقارنات سطحية تعتمد المغالطة، وعزل الحدث عن حيثياته، وتستغل عاطفة الجمهور وجهله سوقاً للتصدير.
تأمل هذه المغالطة لتعرف حجم التزييف: البريطانيون لم يحتلوا العراق في بداية القرن العشرين بدعوة وإغراء وتسهيل وترحيب وتهليل من سنة العراق لا من الشيخ عبد الرحمن النقيب ولا غيره، إنما هو بلاء وقع على رؤوسهم اضطروا للتعامل معه كواقع مفروض دفعاً للمفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى. بينما احتل الأمريكان العراق بدعوة وتخطيط وتنفيذ وتواطؤ وتسهيل وترحيب من الشيعة مراجع وسياسيين ونخباً وعامة. فكيف يقاس هذا بذاك، وبينهما هذا الفارق الذي لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال؟!
دوافع العشائر للانضمام إلى المعركة
أما اشتراك عشائر الجنوب (الشيعية) في الثورة فيمكن أن يأخذ تفسيره مناحي عديدة بعيداً عن (الوطنية) والعقيدة الشيعية التي هي بمثابة الحاضنة الطبيعية لـ(القابلية على الاستعمار):
- فتشيع العشائر هناك قبل مئة عام كان تشيعاً ساذَجاً غير مبني على معرفة بحقيقة التشيع، والنفوس ما زالت غير متشربة تماماً بمبادئه المزورة التي تورث صاحبها (قابلية الاستعمار)، فكانت النخوة العشائرية العربية، وبقايا الحس الديني موجودة يمكن تفجيرها بأي صاعق.
- كان الجنوب مسكوناً بنسبة كبيرة من السنة. فليس كل الجنوب شيعياً كما يسبق إلى الذهن.
- يمثل التعصب القبلي - لا سيما لشيخ القبيلة - دافعاً قوياً للتحرك الفاعل، كما حصل مع شيخ الظوالم في الرميثة شعلان أبو الچون حين اعتقله الانجليز فهاجمت مجموعة من أقاربه وقبيلته مركز الاعتقال وقتلت الجنود الانجليز وحررته، فكانت الشرارة التي أشعلت نار المعركة في الجنوب. وقد أكد الوردي (ص27) على أن ما أسماه بـ(التراث البدوي) كان عاملاً مهماً من عوامل الثورة على نحو ما كان في المعارك العشائرية السابقة التي تنشب بين العشائر والحكومة في العهد التركي.
- انضم كثير من رؤساء القبائل إلى الثورة بدافع الحرص على تسلم مشيخة العشيرة، والتنافس على الزعامة؛ إذ يقرب الانجليز أحد وجوه العشيرة فيكون موالياً لهم؛ ويهملون وجهاً آخر يحقد عليهم لهذا السبب، فلما نشبت الثورة وقف هؤلاء المهملون إلى جانب الثوار فكانوا منهم.
- من الشيوخ من تعرض إلى إهانات متكررة على يد ضباط المحتل فكانت الثورة خصوصاً بعد انتصارها في أسابيعها الأولى فرصة للانتقام. وقد أورد الوردي نماذج كثيرة لكل صنف من الأصناف السابقة. على أنني لا أعيب على من انتصر لنفسه من عدوه فنال منه عندما حانت ساعة الثأر؛ فموقف هذا – بصرف النظر عن الدافع الخفي - خير وأنبل من موقف الضعفاء الخانعين على أية حال. ولا أغمط صاحبه حقه من الذكر الطيب والفخر الجميل. كما لا يمكنني أن أجرده من دوافع سامية أخرى تكون أسباباً غير مباشرة للقتال.
إنما ينصب حديثي ونقدي على أمرين:
1. إضفاء الصبغة الوطنية على مشاركة الشيعة في الثورة، بينما الحقيقة المستندة على المعطيات العلمية من معرفة العقيدة والشخصية الشيعية، وكشف زوايا التاريخ المواربة، ومعاناة الواقع الذي عشناه ولمسناه، وما سمعناه من التطبيل بوصف الوطنية والمقاومة لكبار مجرمي وخونة الشيعة في زماننا، وما زلنا نسمعه من عامة من وضعته الموجة في مقدمة الناطقين المحسوبين على السنة: الحقيقة القاطعة أن "وطن الشيعي طائفته"، وأنه ليس للشيعي من وطن يتعلق به خارج نطاق التعلق الغريزي الذي تشترك فيه الأحياء جميعاً. وأن الولاء لإيران هو مفتاح فهم الموقف الشيعي في كل زمان ومكان. فكل موقف للشيعة يبدو في ظاهره (وطنياً) فلأن فيه مصلحة لإيران، والوطن إنما جاء بالعرَض والتبع. ويمكن لكل من قرأ ما كتب عن "ثورة العشرين" بتمعن وحيادية أن يشهد تطابقاً شديداً بين موقف الشيعة - مراجع ومقلدين - من المحتل البريطاني آنذاك، وموقفهم من المحتل الأمريكي في عهدنا. وهذا لا يعني عدم وجود المخالف ولكن على سبيل الشذوذ والندرة كما قال تعالى عن اليهود وغيرهم: (لَيْسُوا سَوَاءً ) (آل عمران:113). كما لا يلزم منه كون جميع السنة وطنيين ومبدإيين، فكلامي على الخط والتوجه العام للطرفين.
2. إضفاء القدسية على الناس أجمعين، وتصوير من عاصر ذلك الحدث من العراقيين على أنهم كانوا جميعاً مشاركين في الثورة مناصرين لها، وكل واحد منهم في قمة الحماس والنخوة وغاية الوطنية والغيرة. أو أن كل من قاتل فيها فقاتل لغايات نبيلة نقية من نوازع البشر؛ فهذا التعميم غير واقع، ولا واقعي، بل ومستحيل. وإذا صلح في مقام الحماس وإثارة الهمم، فلا يصلح في مجال العلم والبحث عن الحقيقة.
أهل السنة في الجنوب
كان الجنوب حينذاك آهلاً بأهل السنة، والمجتمع العراقي كان متقارباً ومتداخلاً ومتمازجاً بصورة أشد مما هو عليه فيما تلاه من أزمان، والفوارق الطائفية كانت أخف وأقل وضوحاً على المستوى الاجتماعي، لا سيما بين أبناء العشائر. وتستطيع ببساطة أن تشخص هذا من خلال الكتابات التي تروي الحدث. يذكر د. علي الوردي في كتابه السابق (ص243) في معرض حديثه عن اجتماع كبير عقد في صحن الحسين ألقيت فيه قصائد وخطب حماسية ضد الانجليز، كان من المشاركين فيها رجل اسمه (عمر العلوان) ألقى خطاباً حماسياً شديداً على حد وصف الوردي. وذلك في منتصف حزيران (1920). كما ورد اسم عمر العلوان (ص132) ضمن ستة أشخاص من أهل كربلاء ألقى الانجليز القبض عليهم في (2/8/1919) وجرى تسفيرهم إلى بغداد بغية نفيهم إلى الهند، لكن هذا لم يتم. بعد اجتماع كربلاء بأربعة أيام (19/حزيران) عقد اجتماع كبير في مدينة الحلة لتلاوة رسالة وردت من الشيرازي (تدعو العراقيين إلى المطالبة بحقوقهم المشروعة بالطرق السلمية)، تتابع بعدها عدة مشايخ فألقوا خطباً حماسية تطالب باستقلال العراق، ذكر منهم (رؤوف الأمين وخطيب السنة عبد السلام الحافظ) على حد تعبير الوردي. والجامع الكبير هو جامع سني يقع في وسط السوق المسقف في مركز المدينة، ورؤوف الأمين اسم عليه الطابع السني، أضف إلى ذلك عبد السلام الحافظ الذي وصفه الوردي بـ(خطيب السنة)، فهو خطيب الجامع المذكور.
وشارك أبناء قبيلة الجنابيين برئاسة بيت عويف في منطقة جرف الصخر شمال غربي الحلة، وقد شكل الجرف نقطة التقاء وتنسيق حربي بين قبيلة الجنابيين وقبيلة زوبع ومن معهما من القبائل السنية في المنطقة من جهة، وقبائل الجنوب الشيعية من جهة أخرى.
الضباط السنة يقودون عشائر الجنوب
يقول د. علي الوردي (ص333): (إن عدداً من الضباط العراقيين من بقايا الجيش العثماني قد تطوعوا لخدمة الثورة، فذهب واحد منهم إلى ديلي هو شاكر محمود قنبر علي وكان في صحبته سامي خوندة، أما الآخرون فقد ذهبوا إلى الفرات الأوسط وهم: حسين علوان الدوري وشاكر القرغولي ومحمود رامز وإسماعيل حقي الأغا ومحمود سامي وسعيد حقي وفؤاد المدفعي وطالب الجدة وإبراهيم مهدي وسامي النقشلي وزكي أمين الكردي.
اشتهر من هؤلاء الضباط اثنان لما قاما به من أعمال باهرة في الثورة، أحدهما حسين علوان الدوري وكان مقره في الكوفة، والثاني هو سامي النقشلي وقد التحق بثوار بني حجيم في منطقة السماوة والخضر.
ان سامي النقشلي ضابط بغدادي من أصل تركي، وكان في اثناء الحرب الأولى ضابط رشاش وقد شارك في معركة جناق قلعة مشهورة، وحين تطوع في الثورة انتحل لنفسه اسم (محمود التركي) خوفاً من ان ينتقم الانكليز من اهله في بغداد. وقد أخلص للثورة وبذل فيها جهوداً كبيرة ظل الثوار في منطقة السماوة يلهجون بها مدة غير قصيرة.
كان من جملة غنائم الثوار في منطقة السماوة مدفعان وعدد كبير من القنابل اليدوية والقنابل المدفعية. وقد تمكن النقشلي أن ينصب أحد المدفعين فوق كورة تقع شمال بلدة السماوة لضرب المعسكر الانكليزي في شاطئ حسيجة، ونصب المدفع الثاني في الجانب الآخر من النهر للغرض نفسه...
وجد النقشلي صعوبة في تدريب أبناء العشائر على استعمال القنابل اليدوية التي كانت من جملة الغنائم، وكانت كثيرة لديه، فهم كانوا يكرهون القنبلة اليدوية ويسمونها (العقرب) ويرفضون استعمالها. والتجأ النقشلي إلى حيلة من أجل ترغيبهم بها، وهي استعمال القنابل في صيد السمك، فأخذ يقذف بها إلى النهر واحدة بعد الأخرى مما أدى إلى حصولهم على سمك كثير. وعند هذا أقبلوا على استعمال القنابل بشوق كبير، واستطاع النقشلي ان يؤلف فصيلاً منهم لقذف القنابل اليدوية على الإنكليز).
إن هذا يكشف التخلف الذي كان عليه شيعة الجنوب بسبب الفتاوى الدينية التي تحرم عليهم الخدمة في الجيش العثماني. ولما واجهت الدولة العراقية مهمة تشكيل جيش وطني لم يجدوا ضابطاً واحداً من الشيعة يعينونه فيه؛ فكان جميع الضباط من السنة. واعتاضت الحكومة عن ذلك بأن سمت أول فصيل تشكل لهذا الغرض باسم فصيل (موسى الكاظم). بينما يصر الشيعة – كعادتهم – على تفسير الأمر تفسيراً إسقاطياً طائفياً يُظهرون به مظلوميتهم الأبدية.
نجم الدليمي مفجر معركة النجف
ذكرت في المقال الأول عن (ثورة العشرين) أن إيران كانت وراء الحدث من أساسه، عن طريق مراجعها الإيرانيين في العراق؛ وقد دعا هؤلاء والنخبة التي حولهم إلى الثورة على الانجليز تحقيقاً لهدفين كلاهما في مصلحة إيران:
الهدف الأول: التخلص من الهيمنة البريطانية التي كانت يومها تغتصب القرار الإيراني كلياً. وعلى هذا تكون إيران قد نجحت في دفع العراقيين إلى خوض حرب بالنيابة عنها. وفي الوقت نفسه كسب الشيعة بعداً وطنياً هم في حاجة إليه لتثبيت هوية لهم تمنحهم شيئاً من الاستقرار النفسي الجمعي على اعتبار أنهم مواطنون دافعوا عن البلد.
الهدف الثاني: تكوين دولة شيعية في العراق موالية لها.
وفي المقال السابق قلت: "كان الجنوب حينذاك آهلاً بأهل السنة، والمجتمع العراقي كان متقارباً ومتداخلاً ومتمازجاً بصورة أشد مما هو عليه فيما تلاه من أزمان، والفوارق الطائفية كانت أخف وأقل وضوحاً على المستوى الاجتماعي، لا سيما بين أبناء العشائر. وتستطيع ببساطة أن تشخص هذا من خلال الكتابات التي تروي الحدث". فلم يخض المعركة في الجنوب الشيعة وحدهم بل السنة أيضاً، إضافة إلى سنة الوسط والشمال، وكون الثورة بدأها السنة في تلعفر/الموصل في آيار/مايو قبل أن يتحرك الشيعة في الجنوب بأربعين يوماً. ومن إرهاصات الثورة المنسية معركة خاضها رجال فخذ العمران من عشيرة الغرير في اللطيفية بقيادة المرحوم بديوي الحسن، الذي جرح في المعركة وتوفي بعد أيام، وقد شارك فيها عم والدتي (حنتوش محمد العُبَيدي)، وكان يساكنهم في منطقتهم وبينه وبينهم مصاهرة. وما زالوا يذكرونها له. ولما انطلقت شرارة الثورة بعد ذلك في الجنوب أطلق بعض الشيعة عن تلك المعركة أهزوجة نصها "سوّاها السني وضم راسهْ" على طريقتهم في إنكار الجميل ونسبة كل شيء لأنفسهم. سمعتها من الحاج نوار السلمان العمراني رحمه الله.
ومن التواريخ التي تشهد لما أقول ما ذكره الدكتور علي الوردي في الجزء الخامس من كتابه (لمحات اجتماعية) (ص285) عن رجل يدعى (نجم البقال) وابنه عباس كان لهما الدور الأكبر في تفجير ثورة النجف سنة (1918) وقيادتها إلى النهاية.
يذكر إسحاق نقاش قيام التجمعين العشائريين الرئيسين في النجف (الزغرت والشمرت) عام 1915 بطرد العثمانيين من المدينة؛ ما أدى إلى سيطرة شيوخهما الأربعة عليها. وكان البريطانيون قبل إتمام احتلال العراق يدفعون لأولئك الشيوخ مخصصات شهرية مصدرها وقف أودة في الهند. وفي سلسلة مساعي البريطانيين لإحكام قبضتهم على المدينة بعد السيطرة التامة على البلد لا بد من تقليم أظافر الحكم العشائري فعينوا الكابتن مارشال مسؤولاً عن النجف في شباط 1918، الذي شكل قوة من أفراد الشرطة لا تكون خاضعة لسلطة الشيوخ الأربعة، وسعى إلى تنظيم سداد الضرائب البلدية. وختم هذه المساعي بقطع المخصصات التي كانت تدفع إلى أولئك الشيوخ. أدت هذه الإجراءات إلى تمرد الشيوخ على البريطانيين مستغلين مرور المدينة بحالة من شحة الغذاء وارتفاع حاد في الأسعار. ولم يؤيد التمرد كبار المجتهدين في النجف وعلى رأسهم كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني. سوى لجنة سميت بـ(لجنة التمرد الإسلامي) مكونة من علماء أدنى مرتبة([6]). هذه هي الخلفية الكامنة وراء اندلاع الثورة المذكورة.
ابتدأت الثورة – كما يذكر الوردي - بهجوم شنه نجم البقال وعصابته مساء (18/3/1918) على خان عطية التي تتمركز فيه الحامية البريطانية وقتل قائد الحامية الكابتن (مارشال)! وكان ابنه في الوقت نفسه قد سافر إلى المنطقة الشمالية الغربية من العراق للتنسيق مع الأتراك في مقاومة الانجليز. جاء التعريف بنجم البقال بأنه (رجل نجفي من أصل دليمي). وأما ابنه عباس فقد قال عنه الوردي: (كان منتسباً إلى الجيش التركي برتبة رئيس عرفاء)، والشيعة يحرمون الانتساب إلى الجيش التركي (السني).
وتتكرر قصة خذلان الحسين مع نجم وأصحابه بعد فشل الثورة! يقول الوردي (ص318 وما بعدها): (أخذ الكثير من الثوار يتبرأون من الثورة وينضمون إلى أهل الطاعة ويدّعون أنهم كانوا ناقمين على الثورة منذ بدايتها... لم يبق مصراً على مواصلة الثورة سوى نحو مئتي رجل، وقيل أقل من ذلك، وهم الذين كانوا واثقين بأن الانكليز لن يعفوا عنهم... حين رأى الحاج نجم قلة أصحابه اقترح عليهم أن يجمعوا كل التمر الموجود في خانات النجف فيخزنوه في الصحن ثم يغلقوا عليهم أبوابه ويتحصنوا في سطوحه ومرتفعاته، ويظلون يقاتلون حتى يفرجها الله عنهم. ولكن أصحابه لم يقبلوا بهذا الاقتراح خشية أن يصاب المرقد المقدس بضرر (!). وانتشرت بينهم روح الهزيمة، واضطروا في النهاية إلى التفرق، واختبأ كل منهم في مكان... في 12 نيسان ألقي القبض على الحاج نجم البقال... وقد أغلقت الأسواق على أثر ذلك، وهُرع الناس لمشاهدته. واصطفوا على جانبي الطريق الذي مر به، وكان هو ثابت الجأش يدخن ولا أثر للجزع عليه، وصار يوبخ الناس بعبارات شديدة قائلاً لهم: إن هي إلا موتة واحدة يا كفرة. فسير به إلى دار مهدي السيد سلمان. ولما مثل بين يديه أخذ مهدي يسبه ويشتد في تعنيفه. ثم سلمه بعدئذ إلى الانكليز). صدر بعدها الحكم بالإعدام في حقه مع عشرة رجال آخرين، ونفذ في يوم (30/5/1918).
فكون الرجل دليمياً، وابنه عريفاً في الجيش العثماني يشهد له بالسنية، كما أن في قوله لجموع الناس الذين اصطفوا لمشاهدته: "يا كفرة" إشارة إلى كونه ليس شيعياً.
موقف مرجع الشيعة
محمد تقي الشيرازي من ثورة العشرين
بعد وفاة مرجع الشيعة كاظم اليزدي، الموالي للانجليز علناً، تولى المرجعية محمد تقي الشيرازي، وذلك في 29 نيسان 1919.
لاحظت - من خلال قراءتي المبكرة لكتابات الوردي - التطابق التام بين موقف المرجع الشيعي محمد تقي الشيرازي من الاحتلال البريطاني وموقف علي السيستاني من الاحتلال الأمريكاني، رغم وجود فترة طويلة تفصل بينهما تمتد إلى حوالي قرن من الزمان. وهذا يكشف عن استراتيجية أو منهجية شيعية واحدة تحكم تحركاتهم، هي وراء (قابلية الاستعمار) هذه التي يلاحظها كل متابع لتاريخهم في جميع أدواره وعصوره. ابن العلقمي الوزير العباسي الفارسي الشيعي، ومعه العالم أو (المرجع) الديني الإيراني نصير الدين الطوسي مثالان مشابهان، وإن اختلف الزمان.
كان محمد رضا ابن الشيرازي يحرض الناس ضد الانجليز([7]) وكان يراسل القوميين في سوريا والحجاز ويثيرهم في رسائله، ما أدى إلى اعتقاله في (21 حزيران/1920) ونفيه إلى جزيرة هنجام في الهند. وبعد حوالي شهر أفرج عنه بوساطة من شاه إيران – وهذا يشير إلى العلاقة الخفية بين الطرفين في تحريك الثورة - ومن هناك ذهب إلى أرض الميعاد طهران ليعيش فيها بقية حياته. يظهر أن مهمته في العراق انتهت فما عاد يهمه من أمره شيء.
إن الذي يعرف النفسية (الفارسية) في كرهها للعرب وللعراقيين على وجه الخصوص، والنفسية الشيعية في عدم انتمائها إلى غير طائفتها، ولديه أدنى علم بالفقه الشيعي وموقفه من الجهاد في زمن (الغيبة): يدرك سر تحركات شخص إيراني مثل الميرزا محمد رضا في العراق وعلاقتها بإيران.
يقول الدكتور علي الوردي (ص236): كان الانكليز يعتقدون أن الشيرازي لم يكن راضياً عن أعمال ابنه. وينقل (ص237) عن مذكرات ويلسون بقوله:
كان رد فعل الشيرازي على تحركات الانجليز قبيل اعتقال ابنه أن أرسل كتاباً إلى حاكم الحلة الميجر بولي يدعوه لملاقاته من أجل شرح الأمور جاء فيه (ص248): (وإذا امتنعتم عن المجيء في هذه المرة أيضاً فتصبح وصيتي للأمة بخصوص مراعاة السلم ملغاة من ذاتها، وأترك الأمة وشأنها). إذن هناك اتفاق مسبق بين المرجع والانجليز بوصية الناس بمراعاة السلم وعدم الحرب، كما هو الحال مع السيستاني واتفاقه مع الأمريكان، وعلاقته غير المعلنة مع الحاكم المدني بول بريمر، التي ذكرها في كتابه (عام في العراق).
موقف مرجع الشيعة محمد تقي الشيرازي من الثورة
من خلال كتاب (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، الجزء الخامس المخصص لثورة العشرين، للأستاذ علي الوردي تمكنت من الوصول إلى بعض الحقائق، لكنها ظلت ناقصة تبحث عن سطور تكملها.
يقول الوردي في مقدمة الكتاب:
تبدو من خلال صفحات الكتاب والوثائق المنشورة فيها صورة المرجع الشيعي محمد تقي الشيرازي في موقفه من المحتل البريطاني مطابقة تماماً لصورة مثيله المرجع الشيعي الحالي علي السيستاني في موقفه من المحتل الأمريكي. كان الشيرازي يشدد في فتاواه على عدم مقاومة المحتل حتى لو رأوه معتقلاً بين أيديهم، وينهاهم عن القتال نهياً جازماً إلا في حالة الدفاع عن النفس حين يكون الجندي البريطاني هو البادئ. وكأن الدفاع عن البلد ليس دفاعاً عن النفس. وبهذا يتبين العزل الديني الشيعي بين الوطن و(المستوطن) الشيعي، وقتل الحس الوطني عند الشيعة؛ فلا يشعر بوطن خارج نطاق الطائفة. ولهذا وغيره نقول: (وطن الشيعي طائفته). أما المرجع السابق كاظم اليزدي فلم تكن عمالته للمحتل محل نقاش؛ إذ كان واضحاً في علاقته معه، وتأييده له، وخذلانه لمن قاومه لأي سبب كان. وهكذا تجد الموقف المزدوج عند الشيعة في كل زمانومكان كاليهود تماماً.
لم يؤيد الشيرازي الثورة حين قيامها، كما يذكر الوردي، على العكس مما يقوله الشيعة عنه من أنه من قادة الثورة، رغم مراجعة الثوار من رؤساء القبائل وغيرهم له، بينما كان ابنه محمد رضا من المتحمسين لها والداعين إليها، إضافة إلى رموز دينية أخرى مؤيدة أقل منزلة من الشيرازي. ويرجح الوردي أن الفتوى التي يعرضها الشيعة على أنها صادرة منه إنما كانت بعد أكثر من شهر من اندلاع الثورة، مستشهداً بأنها خالية من ذكر التاريخ، في حين تشير المصادر الانجليزية أن الفتوى صدرت في تاريخ متأخر، هو 6 آب 1920. أي بعد أكثر من شهرين ونصف الشهر من اندلاع شرارة الثورة في الموصل (تلعفر).
أما الخروج من هذا الإشكال الظاهري في تأييد وعدم تأييد الثورة بين الأطراف الدينية الشيعية إلى حد انقسام بيت المرجع على نفسه: فسهل على من أدرك الطريقة أو القاعدة القديمة الجديدة التي يتبعها الشيعة في التمويه على الخصم، وهي: (تعدد أدوار ووحدة هدف). وذلك خدمة للطائفة وليس الوطن، حتى إن بدا أحياناً تطابق المطلب الوطني مع المطلب الطائفي، فإن هذا التطابق يكون فيه مطلب الوطن تابعاً وليس متبوعاً، وفرعاً وليس أصلاً بالنسبة لمطلب الطائفة. وانقسام الشيعة أخيراً حيال (الاتفاقية الأمنية) مع الأمريكان أوضح مثال على هذه اللعبة. مثله مثل موقفهم من كركوك. كل المواقف تحكمها هذه القاعدة من جهة، والتناغم مع مطالب إيران وأهدافها من جهة أخرى.
قاعدة (تعدد أدوار ووحدة هدف) يمكن بها تفسير المواقف الشيعية التي تبدو مناقضة للخط العام في ارتباطه بإيران من جهة، والمحركات الطائفية الذاتية من جهة أخرى.
عظم الشيعة من شأن هذه الثورة ليكتسبوا بها الهوية الوطنية أولاً، ولأنها أعطتهم الأمل بتكوين دولة خاصة بهم ثانياً، وثالثاً لأنه لم يكن في تاريخهم سواها ما يمكن لهم أن يفخروا به طيلة عهد الاحتلال البريطاني الذي دام أكثر من أربعين سنة.
حركة عشائرية لا فتوى مرجعية
المعروف في الذاكرة العراقية عامة أن ثورة العشرين انطلقت بفتوى من المرجع الشيعي محمد تقي الشيرازي، ويلقبه الشيعة، وقوميو السنة ووطنيوهم أيضاً، بـ(قائد ثورة العشرين). لكن البحث يظهر أمراً مغايراً تماماً. إذ اندلعت شرارة الثورة في الجنوب على يد قبيلة الظوالم في الرميثة على إثر اعتقال شيخهم شعلان أبو الچون، وليست على أساس فتوى من الشيرازي. يقول د. علي الوردي (ص273):
يواصل د. علي الوردي الحديث فيقول (ص274): (عثرت في كتاب مخطوط للشيخ محمد الخالصي - الذي كان حينذاك بمثابة الكاتب للشيرازي – ما يلقي شيئاً من الضوء على هذا الموضوع. وهذا نص ما قاله الخالصي: (... وكانت ترد كتب رؤساء القبائل إلى آية الله الشيرازي فكان مواضباً على اتخاذ خطة السلم وإخماد نار الفتنة في أجوبته، حتى إن بعض رؤساء القبائل كتب إليه بعد القبض على ولده: إن أعمال الانكليز في القبض على ولدك قد بلغت الغاية من القسوة والظلم وهتك الحرمات فمرنا أن ندافع عن أنفسنا بالسلاح. فأرسل لي الكتاب وأمرني أن أكتب في جوابه ما ملخصه: إن ابني ومن معه أبعدوا في سبيل القضية العراقية، فلا ينسينكم إبعادهم قضيتكم، ولا تشتغلوا بطلب عودتهم عن المطالبة بحقوقكم، ولا تجعلوا القبض عليهم سبباً لحمل السلاح، فتلهيكم القضايا الشخصية عن المطالب العامة، وإياكم أن تجردوا سيفاً ولو رأيتموني بيد الانكليز إلا أن يسوق الانكليز جيشاً لمحاربتكم بسبب إصراركم على المطالبة بحقكم المغصوب، فهناك يجب الدفاع).
الشعوب لا تتغير طبائعها وثقافتها بسرعة، بل لا بد لذلك من قرون من الزمان. فإذا كانت هذه الطبائع مسندة بالعقيدة الدينية والفتوى الشرعية صعب أو استحال تغييرها. "وطن الشيعي طائفته"، وولاؤه ووجهته لإيران.
الجهاد عند الشيعة معطل حتى ظهور المهدي المزعوم، إلا دفاعاً عن النفس. وأي بلد تحت حكم السنة لا تجيز عقيدة الشيعة حتى الدفاع عنه. هكذا والى الشيعة الغزاة، وهكذا قاتلوهم؛ لا دفاعاً عن وطن وإنما ولاء لطائفة قلبها وقبلتها إيران. فكل نبض تجسه فيها فارجع به إلى قلبه يكن التشخيص، وكل توجه لها إذا تتبعته إلى نهايته أوصلك إلى قبلته. والتاريخ له فلسفة وقواعد لا يمكن فهمه وتفسيره بمعزل عنها. فمن أراد معرفة موقف الشيعة من الاحتلال الانجليزي فلينظر إلى موقفهم من الاحتلال الأمريكي. وهكذا هم في كل زمان. ولكن "الوطنيين" لا يفقهون.
كبار المراجع في النجف يحتفلون بنصر الانجليز
يقول د. الوردي (ص335) ما ملخصه : في عصر اليوم نفسه الذي تم الشنق في صباحه (أي شنق نجم البقال وأصحابه) أقيمت في دار السيد عباس الكليدار في النجف حفلة فخمة لتكريم بلفور (الذي قمع الثورة) حضرها ويلسون بالطائرة من بغداد، كما حضرها بعض الملائية والوجهاء والشيوخ، قدم فيها الكليدار أو حافظ مفاتيح المرقد العلوي سيف الشرف إلى بلفور، وخاتماً ضخماً من الذهب للحاكم العام ويلسن ومفتاحاً من الفضة، لكي يكون رمزاً، كما قال الكليدار، لرغبة أهل النجف في أن تبقى مفاتيح بلدتهم وقلوبهم مفتوحة دائماً تجاه ممثلي الإدارة المدنية، على حد تعبير ويلسون في مذكراته. التي عبر فيها عن دهشته وإثارته للمفارقة! وخطب فيها الكليدار مثنياً على الانجليز معبراً عن رضى أهل النجف بالخلاص من أيدي الأشرار (أي الثوار). وكان أبرز الخطباء الحاج عبد المحسن شلاش (أصبح فيما بعد من وجوه ثورة العشرين) أثنى على بلفور ورجال الحكومة، وأظهر امتنان النجفيين من أعمالهم الفذة في النجف، وتطهيرها من أركان الفساد وأهل العناد الذين شوهوا المدينة بسوء أفعالهم. وقام هو والخازن بتقليد بلفور سيفاً مرصعاً بالذهب دليلاً على ما أودعه في النفوس من الحب والارتباط المتين. وكان الحاضرون يهتفون ويصفقون تصفيقاً حاداً.
ووصف الشيخ رضا الشبيبي الحفلة في مذكراته – كما يذكر الوردي (ص336) – قائلاً: (حضرها العلماء وأولاد المجتهدين والتجار وأركان الحكومة في النجف ونائب الحاكم الملكي... ونظمت صفوف المجتمعين على نظام حسن، وكان للعلماء صف وللأشراف صف، وهكذا ترتبت الطبقات). وفي جريدة (العرب) الناطقة بلسان الانكليز وردت أسماء كثير من الأعيان حضروا الحفلة بعضهم كان لهم ذكر بارز في ثورة العشرين، منهم السيد محسن أبو طبيخ. كما حضرها الحاج محمود أغا الهندي ممثل المرجع كاظم اليزدي والشيخ جواد الجواهري والسيد هادي النقيب والسيد مهدي السيد سلمان والشيخ علوان الحاج سعدون والشيخ عبادي الحسين. ومنهم مراجع دينيون كبار كالشيخ عبد الكريم الجزائري، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. وقد أناب المرجع الشيعي الأكبر في حينها محمد كاظم اليزدي عنه محمود أغا الهندي لحضور الاحتفال. وقد استبعد الوردي (ص338) حضور هؤلاء المراجع مستشهداً بقول أحد النجفيين سأله فأجاب: بأن من الممكن أن يحضر الحفلة علماء "الحفيز" أو بعض صغار الملائية، أما هؤلاء فمن رابع المستحيلات حضورهم. والوردي ذكر هذا ربما خوفاً على نفسه من رعونة المتحمسين وتهم المزايدين، الذين يريدون أن يكتب الحدث كما يشتهون لا كما وقع بالفعل. ولو سألت اليوم أي شيعي عن علاقة السيستاني بالمحتل الأمريكي، والمراسلات التي تمت بينه وبين بريمر كما أثبتها الأخير في مذكراته (عام في العراق): لأجابك أن حصول هذا (من رابع المستحيلات)، بينما هي قد وقعت في تاريخهم للمرة الأربعمئة!
أما كاظم اليزدي مرجع الشيعة آنذاك فقد كان ضد الثورة ومستنكراً لها، وقد امتنع حتى عن واجب التشفع للمحكوم عليهم بالإعدام على الرغم من الضغط الذي وجه إليه من قبل الرأي العام في النجف، رغم قدرته على التشفع والتوسط لدى أصدقائه الانجليز.
ألا تشعر وأنت تقرأ السطور السابقة كأنها تحدثك عن أفعال الشيعة ومواقفهم نفسها التي صدرت عنهم تجاه الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 وخدمتهم له وقتالهم معه ضد المجاهدين السنة، ثم هم اليوم يدّعون مقاومته وحدهم منكرين أن المقاومة قام بها السنة دونهم. ولا أستبعد فيما لو استمر الفكر الوطني البائس على حاله أن يأتي يوم يقال فيه للناس ويقرأون في كتب التاريخ الدراسية وغيرها أن الشيعة قاوموا المحتل، ولن يعوزهم أن يجدوا لهم من كبار رؤوس الوطنية السنية الخائبة من يوقع لهم على هذه الأكاذيب.
أرأيت كيف يكتب التاريخ؟ هكذا كتب تاريخ ثورة العشرين!
مقدمات ثورة العشرين
الدور الإيراني والدافع الطائفي
من الباحثين العراقيين الذين شخصوا الأسباب الحقيقية وراء قتال الشيعة الانجليز في ثورة العشرين الأستاذ عبد العزيز بن صالح المحمود، في بحثه الموسوم بـ(جُهود علماء العِراق ومفكريهم ودعاتهم في الردّ على الشيعة)، والذي نشره على موقع مجلة (الراصد) الإلكترونية. أجابفيهعنالأسئلة والإشكالات المتعلقة، وذلك بالأدلة العلمية الموضوعية، بعيداً عن المزايدات (الوطنية)، والحماسيات العاطفية، والمجاملات والنفاق السياسي.
جاء في أحد هوامش الموضوع الأول للبحث قول الأستاذ المحمود يختصر به فكرة البحث: "وسنتكلم عن حقيقة ثورة العشرين وكيف أنها ثورة شيعية لإقامة دولة تحكم من قبل مجتهدي الشيعة، وكيف خدعوا العراقيين وصوروها على أنها ثورة للتخلص من الاحتلال، واليوم يخدع فصيل مقاتل كامل فيسمّي نفسه (كتائب ثورة العشرين). وهي ثورة لا يفخر بها أهل السنة البتة، رغم أن كثيراً من أهل السنة شارك فيها بدوافع ونوايا مختلفة. وسيرى أهل السنة لطف الله بهم وكيف حفظهم الله سبحانه بوعي بعض أهل العلم الوعاة والذين سبروا وخبروا أحوال الأمم". وأظن أن مقصوده بـ"بعض أهل العلم" الشيخ عبد الرحمن النقيب، الذي يرجح أنه قبل برئاسة الوزراء - وكان رافضاً للمنصب، عازفاً عن الدنيا - بعد أن خيره، أو حيره، الانجليز بينها وبين تسليم قيادة البلد إلى الشيعة. الذين كان يطلق عليهم وصف (الرعاع)، كما يبدو من بعض عباراته؛ وذلك لافتقارهم إلى الخبرة السياسية والعلمية في القيادة. وقد أثبت الشيعة صدق حدسه فيهم بما لا يقبل الشك بعد (82) سنة يوم تولوا الحكم بمساعدة الأمريكان فحولوا العراق إلى أكبر دولة في الفساد والتخلف وفقدان الأمن في العالم.
وفي الصفحات التالية محاولة لعرض وتلخيص هذا المبحث القيم، وإبراز أهم ما جاء فيه من حقائق وأفكار يمكن بها أن نفهم تلك الثورة فهماً هو الأقرب إلى حقيقتها التي هي عليها، لا ما ينبغي أن تكون عليه عند كثير ممن تحدث أو كتب عنها.
مقدمات الثورة
كان العراق محكوماً وقتها من قبل الدولة العثمانية، وكانت الظروف متشابهة بينها وبين إيران فكلتاهما تعرضت لمشكلة الدستور، وكلتاهما كانت تواجهها حركات تغيير حضاري.
وكانت تجربة سيطرة رجال الدين المجتهدين الشيعة داخل إيران يراد نقلها وتطبيقها في العراق حيث أن كلاً من العراق وإيران واقع تحت الاحتلال البريطاني. بالإضافة إلى أن الدولة العثمانية تعرضت لهزة دستورية سنة 1908 وأصبحت أجواء العراق يسودها حديث الحرية في كل شيء، في التعليم والنشر والتنظيم السياسي وغيره. وبدأ كثير من شيعة العراق ينخرط في العمل السياسي بعد أن فتحت بعض المدارس العلمانية([8])في المناطق الشيعية كمدينة الكاظمية داخل مدينة بغداد، وفي مدن النجف والحلة. كل ذلك ساهم في فك عزلة المدن الشيعية.
وظهرت دعوات لتوحد السنة والشيعة ولكنها بقيادة شيعية، بمعنى آخر بقيادة المراجع الإيرانيين. وكان الطرح الشيعي آنذاك هو المواجهة بين الغرب وأفكار الإلحاد والمدنية الأوربية، وبين الإسلام والفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية. إن تحدي أوربا للعالم الإسلامي وبداية نهاية الدولة العثمانية – الرجل المريض – أيقظ الجميع لمواجهته. بدا هذا واضحا عندما بدأت روسيا القيصرية بالتوغل في إيران وبالتحديد في شمالها لتأمين مصالحها الاقتصادية، وكان ثمة تعاون بريطاني روسي للسيطرة الاقتصادية على إيران.
لمّعت هذه التوجهات والتصرفات حينها صورة المجتهدين الشيعة على أنهم قادة للمعارضة السياسية؛ لهذا بدأت بواكير ظهور قوة شيعية. ومع الزيادة العددية للسكان الشيعة في جنوب العراق، فقد أصبح ممهداً ظهور شبه دولة فيها مجتهد يأمر وينهى ويقترح، كما هو الحال في إيران. وكان المجتهدون يخاطبون القنصل البريطاني والروسي والفرنسي حول شؤون العراق، بل حتى شؤون إيران دون الرجوع لوالي بغداد العثماني! وكانوا أحيانا يعلنون التعبئة المحلية في المدن الشيعية كما حصل سنة 1905. بل وصل الأمر سنة 1909 إلى أن يجتمع نجل محمد كاظم الخراساني مع القنصل البريطاني ليوصل رسالة من خلاله لروسيا مُفادها أن الشيعة سيعلنون الجهاد ضدها إذا لم تنسحب من إيران، وفي العام القابل أرسل إلى القنصل الروسي تهديداً مباشراً([9]).
فانظر كيف يكون (الجهاد) الشيعي ضد دول الكفر لا في سبيل الوطن وإنما خدمة لإيران! وانظر إلى العلاقة العضوية بين شيعة العراق وإيران، وكيف أن تحرك الشارع الشيعي في العراق هو انعكاس عضوي مباشر لنبض الشريان في الشارع الإيراني. فشيعة العراق مستعدون تمام الاستعداد للقتال – بحجة الجهاد – دفاعاً عن إيران! لكن الحدث عندما يفوت زمانه تختفي تعلقاته وحيثياته، وتغيب عن البال الأحداث المحركة له؛ فيمكن لكل أحد تطويعه لرغبته، وتفسيره بما يتوافق وغايته. فيمسي من السهل جداً أن يدعي الساسة والكتّاب - بدوافع طائفية أو وطنية - أن مراجع الشيعة كانوا مجاهدين ووطنيين من الطراز الأول! ألا ترون أنهم قاتلوا الانجليز مع العثمانيين في الحرب العالمية الأولى متناسين الخلاف (المذهبي) بينهم وبين السنة؟ كما يشاع عن الحبوبي وأمثاله عند احتلال العراق من قبل الانجليز. بل هذه قناعة الأستاذ المحمود نفسه أفضى بها إلي وناقشته فيها. ولا غرابة فإن هذا وأمثاله شائع ومنتشر. والذي لا يدرك جذور الحدث، ولا يمكنه استحضار الظروف السياسية المحيطة به آنذاك، تفوته علاقة إيران الصميمية به؛ فإما يقف حائراً لا يدري ما يقول، وإما يستسلم لما يقال لكثرة الضخ الإعلامي، وصياغته بطريقة تبدو مقنعة سيما في غياب البعد الخلفي للحدث عن دائرة النظر.
الشيعة يؤسسون جيشاً قبل الحرب العالمية الأُولى حفاظاً على كيانهم الطائفي
مع اقتراب الحرب العالمية الأولى ازدادت المخاوف العثمانية وشرعوا بتشجيع علماء الشيعة بالتوحد مع السنة لإيجاد معارضة في إيران والعراق تُمكن السنة والشيعة من مقاومة الأوربيين. بينما كان الشيعة يشعرون بخوف من أن يُحتلوا من قبل الأوربيين في إيران والعراق، ويضيع كيانهم في ايران وهو الكيان الأم لكل الشيعة في العالم والذي أسس منذ الدولة الصفوية؛ وأيضاً لأن أكبر وجود للشيعة هو في هذين البلدين.
ومع بواكير الحرب العالمية الأولى وشروع أوربا باقتسام تركة الرجل المريض شكّل المراجع الشيعة جيشاً كبيراً من سكان جنوب العراق لمواجهة أي غزو. ودخلت القوات البريطانية العراق سنة 1914، لكن هذا الجيش لم يفعل شيئاً إلى سنة 1918؛ حتى يكتمل احتلال العراق على يد الإنكليز، وانتهى حكم الدولة العثمانية في العراق وغيره إلى الأبد.
وهذا يعني التقاء مصلحة الشيعة مع العثمانيين من حيث الخوف من الاحتلال الأوربي للعراق وإيران، مع وجود مصلحة أخرى للشيعة معارضة للمصلحة السابقة من حيث أن زوال الدولة العثمانية يمنح الشيعة فرصة إقامة دولة لهم في العراق. وقد تغلبت المصلحة الثانية على الأولى، لكن لم تلغ تلك العمل على أساس هذه كلياً. وهو يفسر ما يقال عن مقاومة بعض الشيعة للبريطانيين قبل احتلالهم البلد، إضافة إلى أسباب أخرى أقلأهمية من حيث التأثير عند البعض مثل دوافع النخوة العربية، وبقايا الرواسب الدينية. وهنا يختلف الناس في قناعتهم وما تقتضيه من عمل يناسبها، فيظهر تباين ما قد يفهم على ظاهره.
في النهاية استطاع الشيعة إيجاد توازن بين المصلحتين: إذ تركوا الانجليز يحتلون البلد، وفي الوقت نفسه كونوا لهم جيشاً يمكن استخدامه في سبيل هدفهم في تكوين دولة لهم.
هل أدركت سر تصرفات الشيعة، والبواعث الحقيقية لها؟ ولكن ما زلنا في البداية، تمهل قليلاً لترى المشهد بكل شواهده وشواخصه. وذلك في الحلقات القادمة إن شاء الله.
العراق خارج دائرة حكم العثمانيين
أصبح العراق بعد الحرب العالمية الأولى خارج دائرة حكم السُنة (العثمانيين). وهو ما ينتظره الشيعة منذ قرون! إذ استطاعوا الاقتراب من حلم دولة شيعية في العراق يقودها المراجع الشيعة، ولكنه انتقل من حكم سني إلى حكم نصراني بريطاني، وليس إلى يد الشيعة. ولكون إيران محتلة أيضاً من قبل بريطانيا فقد التقت المصلحة بين شيعة العراق وإيران للعمل معاً ضد بريطانيا من أجل التخلص منها تمهيداً لقيام دولة شيعية في العراق تكون ظلاً وتابعاً لدولة إيران الصفوية القاجارية التي تكون قد تحررت أيضاً من الاحتلال البريطاني.
لا يفوتنك ما ذكرناه سابقاً من أن مراجع الشيعة قد جهزوا أنفسهم منذ فترة للعمل السياسي ولقيادة العراقيين سنة وشيعة. لهذا كله سعوا لمعارضة الاحتلال والظهور بروح الوطنية من أجل تلك الغاية العظمى؛ ألا وهي قيام دولة شيعية في العراق، بقيادة المراجع، وظهر للجميع (السنة والشيعة) قوة المجتهد الشيعي وصلاحياته في تعبئة أصحابه في الجنوب والوسط .أما السنة فقد فقدوا مرجعيتهم الرسمية الحامية لهم بانهيار الدولة العثمانية. ويبدو أن وضعهم السياسي صار أشبه بوضعهم الذي أدركناه بعد الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003، وفقدانهم مرجعيتهم الرسمية بانهيار الدولة العراقية.
جناية التثقيف الوطني في طمس الحقيقة
ثمة محاولات جرت للتقريب بين السنة والشيعة على المستوى السياسي ولم يسلط عليها الضوء من قِبَـل من كتب في مسألة التقريب، وهي محاولات لو نجحت لكان لها نتائج خطيرة - يواصل الأستاذ المحمود كلامه قائلاً - هي أخطر بكثير من الدعوات الدينية للتقريب؛ فهذه المحاولات جرت باسم الوحدة الوطنية ومصلحة البلاد. ونتيجة هذا الإهمال لهذا الطرح خدعت أجيال كثيرة معاصرة بالأسلوب نفسه. إن هذا يضع الدراسات الدينية أمام مسؤولية شرعية وتاريخية؛ فتوسع مداركها في دراسة التاريخ السياسي والاجتماعي للدول الإسلامية لمعرفة حقيقة كثير من الأحداث والوقائع.
كما لم يذكر أحد أنه كانت هناك عدة محاولات معاصرة لقيام دولة شيعية سبقت ثورة الخميني. في حين اعترف بذلك أحمد الكاتب في كتابه (تجربة الثورة الإسلامية في العراق 1920- 1980) والمطبوع في إيران سنة 1980.
هذه الأحداث لم تدرّس لأي جيل لأخذ العظة والعبرة منها؛ ولذلك تتكرر كل مرة هذه الأخطاء ولا يستفاد منها للمستقبل. ومثال ذلك: الانتفاضة الشيعية في جنوب العراق بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت (1991)، وظهور شعور شيعي باقتراب سقوط الحكومة؛ فقام الشيعة في الجنوب بالانتفاضة للسيطرة على الحكم. هذا هو ما فعله الشيعة نفسه بعد دخول الإنكليز وسقوط الدولة العثمانية، وما فعلوه بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط الدولة العراقية. فلو قرأ العراقي ذو النهج الإسلامي أو القومي حقيقة التحركات السياسية الشيعية لما تكرر الخطأ نفسه.
شيعة العراق بعد الاحتلال البريطاني
أربع قوى كانت تتصارع على حكم العراق بعد زوال الحكم العثماني هي:
السنة: الذين فقدوا المرجع الرسمي لهم، ألا وهو الدولة العثمانية. وفرح بعضهم لأن حال الدولة العثمانية لا يسر فهي دولة ظالمة ضعيفة غير متحضرة كسائر الأمم، تفرض على الشعوب العربية اللغة التركية، ومتعلقة بالدين شكلياً.
الشيعة: تخلصوا من الدولة العثمانية السنية، واستطاعوا الاقتراب من حلم دولة شيعية في العراق يقودها المراجع، كما أنهم يريدون إبعاد الإنكليز ليصفو لهم العراق وإيران؛ لذلك كان الإنكليز معوقاً لحلمهم. هذه الأحلام دفعت الشيعة – فيما بعد – باتجاه التوافق مع حلم الأشراف ليكونوا دولة سنية الظاهر شيعية المضمون، إذ اتفقوا مع عبد الله بن الحسين أن يعيَّن ملكاً بدستور يضعه مجتهدو الشيعة. وهكذا يضمنون عدم انقلاب الملك السني عليهم.
الأشراف: وقد فقدوا أملهم بوعود الإنكليز لذلك كانوا في حاجة إلى جهة قوية للتحالف معها تخلصاً من الإنكليز في العراق، فوجدوا الشيعة خير معين لهم، بعد ضمان الولاء السني.
الإنكليز: وهؤلاء محتلون: حلمهم السيطرة على العراق وإيران وقد تعارضت مصالحهم مع الشيعة؛ لأن كليهما يريد العراق له، وأحسوا أنهم لا يستطيعون البقاء في العراق إلى الأبد، ولا بد من السيطرة على العراق وإيران. وأن الشيعة تقووا بإعلان الرئيس الأمريكي ولسن حول منح الشعوب حق تقرير المصير، وهذا ما جعل الشيعة يراسلون الرئيس الأمريكي لإحراج الإنكليز.
طالب الشريف حسين بالعراق سنة 1917 باعتباره دولة عربية، وهو موعود بدولة عربية بدل الدولة العثمانية، وعضده الشيعة على ذلك للتخلص من الإنكليز والحصول على وضع يجعلهم قريبين من قيادة البلد الذي كان منذ أيام الفتح الإسلامي بيد أهل السنة والجماعة، وقد حان الوقت لتحقيق الحلم الشيعي بقيادة العراق أرض المقدسات الشيعية. كما كان العثمانيون المنهزمون في العراق يؤيدون الشيعة ضد بريطانيا للثورة عليهم.
أدرك الإنكليز من مراسلات الشريف حسين وبعض علماء الشيعة مراد الشيعة من هذه المراسلات وأنها مقدمة لسيطرة شيعية على العراق وإيران وهذا يعارض مصالحهم.
يعلق الأستاذ المحمود في هامش البحث تعليقاً مهما جاء فيه([10]): "وهذا ما يحصل اليوم بالضبط: فعندما أحس الشيعة بخطورة وجود أمريكا التي احتلت العراق بالقرب من دولتهم إيران عملوا بشتى الوسائل للتخلص من النفوذ الأمريكي؛ لا كرهاً بالاستعمار، بل سعياً وراء حماية إيران ومذهبهم، وما حققوه من مكاسب في العراق.
ليفهم أهل السنة ذلك، ولتفهم هذا هيئة علماء المسلمين التي فشلت في تمثيل أهل السنة ووقعت في أخطاء عميقة، وليفهم المتطرفون السنة كيف أن تعاونهم مع الشيعة وإيران ضد أمريكا إنما يصب هذا في مصلحة إيران والشيعة، لا في مصلحة العراق وأهل السنة، وأن من مصلحة إيران اليوم ذهاب أمريكا من المنطقة لا حباً بطرد المستعمر فهي من ساعده، ولكن لتترك المنطقة فريسة لها خالصة؛ إذ فلا منافس لها بعد ذهاب صدام حسين، وقبل تشكل إجماع سني قادر على صد أطماع وعدوان إيران وأعوانها من شيعة العراق".
نتوءات مصلحية خارج السياق الإيراني
لا يلزم مما سبق أن يكون الصف الشيعي كله محكوماً بنوايا متشابهة، وموحداً باتجاه واحد، وأنه ليس من خطوط باتجاهات أخرى نظراً لاختلاف اتجاهات المصالح: فردية كانت أم طبقية أو فئوية.
فبعض أثرياء الشيعة وشيوخ العشائر لتحسن أوضاعهم المالية بعد الاحتلال حبذوا حكم العراق من بريطانيا مباشرة. بل إن بعض رجال الدين الشيعة أرسلوا برقيات يطلبون بقاء الإنكليز مثل هادي الرفيعي وهو سادن الروضة العلوية في النجف، كما أيد ذلك ستة من المراجع الكبار، ثلاثة منهم هنود وهم هاشم الهندي النجفي، ومحمود الهندي النجفي، ومحمد مهدي الكشميري، وواحد من أصل فارسي هو جعفر بحر العلوم، واثنان من العرب هما حسن بن صاحب الجواهري (يحمل الجنسية الإيرانية) وعلي بن محمد كاشف الغطاء عميد عائلة كاشف الغطاء؛ فقد كان الإنكليز يوزعون عليهم أوقاف أودة الخيرية الهندية([11]). كما شاطرهم هذا الرأي بعض السنة خوفا من توافق شيعي مع (الأشراف) مما قد يسمح بتشيع العراق أجمعه بخدعة ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب.
بل توافق بعض المراجع في مدينة الكاظمية بعد توقيع أربعين من وجهاء التجار الشيعة على اختيار شخصية برسي كوكس لحكم العراق، والذي كان وزيراً ممثلا لبريطانيا في إيران.
المرجع الشيعي في العراق يوحد الخط باتجاه إيران
هنا تصرف مرجع الشيعة الأكبر الإيراني محمد تقي الشيرازي بذكاء فأصدر فتوى بتحريم وجود حاكم للعراق غير مسلم. وأعلن عن رغبته بأن يكون العراق تحت حكم ملك عربي، ويقصد بذلك ملكاً أو أميراً من الأشراف، وكانت مراسلات سرية جرت بينهما([12]). كانت هذه الفتوى الذكية المقدمة لثورة العشرين. وقد استثارت عواطف السُنة الذين لا يدرون - وما زالوا - كيف تجري المياه من تحت أرجلهم، فقاموا بتأييدها، وصار للمرجع الشيعي بينهم قبول ونفوذ واسع.
الطائفة لا الوطن هو المحرك
هذا هو دأب الشيعة دائماً وأبداً: فعندما يُحكمون من قبل غيرهم: يتآمرون مع كل أحد ضد حكامهم ودولهم، فإذا تمكنوا من الحصول على هدفهم بإقامة الدولة الشيعية أظهروا الوطنية وصاروا يلتمسون سبل الخلاص من أصدقائهم. وهذا ما فعلوه بالعراق اليوم: تآمروا على العراق مع كل المخابرات العالمية وأدخلوا الأمريكان إليه، فلما تهيأت لهم الظروف عبر تغلغلهم في الدولة وتسهيل تسلل إيران لمفاصل البلد، طالبوا برحيل المحتل ليكون الأمر لهم خالصاً، ويبيدوا أهل السنة.
وهذا ما سبق أن حصل في لبنان اشتركوا بذبح الفلسطينيين، ونثروا الورود لدخول إسرائيل، وعندما خرج الفلسطينيون وصفا لهم الجو، وأصبح لهم نفوذ تنافسهم عليه إسرائيل ادعوا الوطنية وتحرير الأرض.
النوايا الحقيقية للشيعة من وراء ثورة العشرين
لم يتفق الباحثون على أهداف ثورة العشرين الحقيقية، وعن الدوافع الخفية وراء التحركات لجميع الشرائح والفصائل المساهمة بها.
كان عامة المشاركين فيها هم أناس بسطاء وفلاحون كان هدفهم العام سامياً، ألا وهو التخلص من الإنكليز كمحتل بغيض، سواء كانوا سنة أم شيعة، فالشعور الفطري لكل البشر - فضلاً عن المسلمين - لا يتقبل المحتل. وبالرغم من أن العراقيين جميعاً تحملوا ظلم واستبداد العثمانيين وسياسة التتريك الظالمة وإهمال العثمانيين لأمم الإسلام حتى صارت أمم العرب والمسلمين أمماً متخلفة. إلا أن هذا لا يحمل العامة على قبول المحتل.
كانت البوصلة المحركة للشيعة ممثلين بمراجعهم، خصوصاً بعد موت كاظم اليزدي، هي مخاطر نفوذ بريطانيا في إيران؛ فإن الأمور الاقتصادية والاجتماعية لمجتهدي الشيعة في كربلاء والنجف كانت تدار من قبل إيران.
لقد تعاظم النفوذ البريطاني في إيران حتى أحس المراجع الثلاث الكبار (الشيرازي، الأصفهاني، إسماعيل الصدر) بالقلق من مستقبل التشيع وحاضنته إيران فهي البلد الوحيد الذي تشيع منذ قيام الدولة الصفوية إلى يومنا، كما أنه يهدد كيانهم كمراجع ويزعزع مكانتهم ونفوذهم على التشيع، وبوصلة التشيع كلها تدور مع إيران سلباً وإيجاباً([13]). اتخذ هذا النفوذ المتزايد اتجاهات شتى خاصة على الصعيد الاقتصادي، ففي عام 1919 نشرت تفاصيل اتفاقية الإنكلو– إيرانية المقترحة التي وعد البريطانيون بمقتضاها منح إيران قرضاً بمليون جنيه إسترليني، كما منحت إيران بريطانيا حق احتكار تزويد السلاح لإيران.
كان البريطانيون يدركون مكمن قوة المراجع؛ ولذلك سعوا بالفعل للسيطرة على مصادر تمويلهم، وكان عدد كبير من السادة (المنتمين بنسبهم لآل البيت) يعتاشون على أعطيات العشائر العراقية مرتزقة باسم الدين؟!
فأحس هؤلاء المراجع والسادة أن النفوذ البريطاني يشكل خطراً على تواجدهم، وأن محاولة بريطانيا تمدين العشائر وتحضيرهم سيؤدي بمواردهم إلى النفاد.
اجتمعت عندها مصلحة السادة العرب (المرتزقة)، ومصلحة المجتهدين الإيرانيين (مصلحة إيران) ضد مصالح الإنكليز فحرضوا على الثورة من أجل بقاء مكانتهم كما هي([14]). فكتب هؤلاء الثلاثة رسالة إلى رئيس وزراء إيران يحثونه على عدم توقيع اتفاقية مع بريطانيا، ما يظهر حجم تأثير مراجع الشيعة داخل إيران فدبروا نقل المشكلة للعراق، عبر تحريض الناس ضد الوجود البريطاني في العراق؛ وظف هؤلاء الدين ضد بريطانيا باعتبارها مسيحية وباعتبارها مستعمرة، وحركوا عواطف الشيعة لحماية المراقد – مع أن البريطانيين لم يقتربوا منها – كما وظفوا دخول بريطانيا لفلسطين وغيرها من بلدان العرب([15]).
وثمة هدف وحلم كبير كان يراود الشيعة في العراق وهو استغلال الفراغ الناجم عن نهاية الدولة العثمانية، لظهور دولة شيعية دينية في العراق.
وفعلاً تم عقد مؤتمر في النجف للعديد من شيوخ العشائر وعلماء الشيعة لتحقيق إنشاء (حكومة دينية تقوم على أحد المبادئ الأساسية للمذهب الشيعي) على غرار ما نادى به المجتهدون المؤيدون للدستورية خلال الثورة الإيرانية ([16]). فكيف بعد ذلك يدعي المتحذلقون من أمثال حسن العلوي وغيره أن الشيعة ما كانوا يريدون قيام دولة شيعية؟!
مشروعان للشيعة في وقت واحد
ثمت حركة أخرى نشأت داخل الشيعة تساند الأشراف سواء عبد الله بن الحسين أو فيصل بن الحسين. لكن مشروع الأشراف كان هدفه أوسع من الطائفية. فالأشراف سُنة ولا بد من أن يكسبوا العراقيين جميعاً فدعوا إلى الوحدة بين السنة والشيعة من أجل استقلال العراق لا من أجل دولة شيعية. وكان مؤيدو الأشراف من الشيعة جلهم من أدباء وأمثالهم، ونشاطهم كان في بغداد والنجف وكربلاء، ولعل حداثة عهدهم بالتشيع أبقى شيئاً من العروبة في جذورهم مالت بهم شيئاً ما إلى الأشراف، هذا مع ضغوط الانجليز، والطمع في الاستفادة من الوضع، ووجود استقطابات داخل الشيعة حول عدة شخصيات رشحت للمُلكطك شيعية وسنية. المشكلة أن الكثير يجنح إلى النظرة الأحادية فيحصر الخيار في سبب واحد.
كانت لهجة العروبة أعلى من الصوت الإسلامي عند جماعة الأشراف، وكان الشعراء والخطباء هم من يروج لهؤلاء، مستغلين المناسبات الدينية كرمضان والمولد النبوي أو العزاء الحسيني، والتهب العراق بأسره ضد بريطانيا، ولم تستطع بريطانيا إيقاف الهيجان الجماهيري في العراق، وبدأ الهيجان ينتشر من مكان لآخر في مناطق السنة والشيعة كالنار في الهشيم. وكانت كل الأمور في البداية هي مظاهرات سلمية لتحقيق مطالب قيام حكومة جديدة بقيادة ملك عربي.
استغل الشيرازي هذا التوجه فسعى بطرقه الخفية لتحريض العشائر للثورة. لكن الاستجابة له كانت ضعيفة. فالعشائر الصغيرة التي أحست أن مصالحها المعيشية ستضرب بسبب الثورة، حثوا الإنكليز على إخمادها، بيد أن شيوخ العشائر الكبيرة استغلوا ضعف الإنكليز الذين سلبوا كثيراً من سلطاتهم عند احتلالهم للعراق فانضموا للثورة نكاية بالإنكليز.
اندلعت الشرارة الأولى في الجنوب في 30 حزيران وانتشرت لكن الشيرازي مات بعد شهرين، فتلاه شيخ الشريعة الأصفهاني الساكن في النجف وأصبحت الثورة تدار من النجف ولكن بعد ثلاثة شهور استطاع الإنكليز إيقاف الثورة بذكاء بالفصل بين مطالب فيصل والشيعة .
نتائج الثورة
قرر الإنكليز تتويج فيصل ملكا على العراق ولكن بعيدا عن الشيعة، ورضي فيصل بهذا فقد حقق هدفه، وفشل مخطط المراجع لطرد الإنكليز وتولي أمر العراق بيدهم من النجف. قال مسؤول بريطاني معلقاً على ذلك: (إن للأجيال اللاحقة من ساسة العراق أن يقدروا الجميل الذي يدينون به للبريطانيين في إنقاذهم من النجف)([17]).
لقد كان هدف الشيعة هو السيطرة على الحكم في العراق بواسطة المرجعية، ولكنهم بلطف الله فشلوا في ذلك، ولو حاولت أن تتخيل الشيعة وهم يسيطرون على مقاليد الحكم في العراق آنذاك ماذا كانت ستكون أحوال اليوم في المنطقة! إذن لكان همهم وهدفهم تشيع كل العراق بكل الوسائل، بالتهجير والقتل والذبح، كما فعلوا عندما سلمهم الأمريكان مقاليد الحكومة بعد الاحتلال.
هذه هي حقيقة الشيعة إذا تمكنوا: لا يستطيعون العيش مع الآخرين. وها هي إيران فيها أكثر من 20-35% من أهل السنة فأين هم؟ وأين حقوقهم؟ لكن الله سبحانه حمى العراق وأهله من كيد المراجع الذين اتخذوا من ثورة زعموا أنها للعراق ولكنها في الحقيقة لمصالحهم.
لم يكن هدف الإنكليز إقصاء الشيعة كشعب بل إقصاء المراجع الدينية فهم أصل البلاء. ومن لم يصدق ما أقول فلينظر ماذا فعلوا بالعراق اليوم، وقفوا حجر عثرة أمام استقلاله، وأحاطوا حتى العشائر الشيعية بعصابات بدر والمهدي حتى تكتمل السيطرة لهم!
اختار الإنكليز عبد الرحمن النقيب كرئيس للوزراء تحت حكم المندوب السامي بعد أن عرضوا ذلك على المجتهد اليزدي عند أول احتلالهم للعراق فرفض[18]!
وقد كان النقيب رافضاً بشدة تسلم رئاسة الوزارة، ولم تنفع معه الوساطات العديدة. لكن برسي كوكس اجتمع به فأقنعه. ولا أحد يدري كيف. إلا أن الوردي يشير إلى أنه تقبل أهون الضررين بالنسبة له: فإما يكون هو على رأس الوزارة، وإما تسلم إلى جهات لا يرضى بها النقيب مطلقاً.
المقاطعة التامة للحكومة استراتيجية الشيعة لتكوين دولة شيعية في العراق
عندما توج فيصل ملكا للعراق كان عليه أن يشكل وزارة وكان هوى فيصل مع الشيعة. فطلب من الشيخ عبد الواحد سكر الذهاب للنجف لحث المراجع وعلماء الشيعة على تولي تشكيل الوزارة الجديدة قطعاً للطريق على الانجليز أن يولوها النقيب. إلا أن العلماء قابلوا دعوة الملك وعبد الواحد سكر بالاستهجان والرفض، إلى الحد الذي أحرج الحاج سكر نفسه، فلم يعد الحاج إلى الملك، بل بعث له رسالة مجاملة يبلغه فيها اعتذار العلماء عن المشاركة في الحكم؛ لإنهم يريدون تكوين حكومة عراقية لينسقوا دورهم الجديد بعيدا عن سيطرة الإنتداب. لقد كان قادة الشيعة يظنون أن أمر العراق لا يسير إلا بهم فاستغلوا ذلك وحرموا على الشيعة التوظف في دوائر الدولة ولسان حالهم يقول: هذا أو الطوفان! أو كما قال الشاعر : إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
قام الشيخ الخالصي بعد سنة من مبايعة الملك بسحب البيعة منه علناً ومعارضته بقوة، وأصدر في عام 1921 فتوى حرم فيها قبول أي منصب حكومي معتبراً ذلك عملاً من أعمال التعاون مع الكفار. وفي الوقت الذي أفتى علماء الشيعة بتحريم الدخول في وظائف الدولة والتطوع جنوداً في جيشها كان الخالصي يفتي بدفع أموال (الخمس والحقوق الشرعية) إلى الجيش الإيراني!
لم يتوقف جهد المراجع عند رفض المشاركة أو المساهمة في تشكيل الوزارة، بل تعدت جهودهم إلى حد أنهم حرموا التعامل مع البنوك والمصارف العامة والمحاكم، على اعتبار أنها دولة غير إسلامية، وأن أموالها التي تقدمها كرواتب هي أموال محرمة؛ لأنها بالأصل من ضرائب غير شرعية، خاصة تلك التي تستوفى كضرائب من أماكن اللهو، والمكوس على الخمر. كما حرموا الدخول في مدارس الدولة، وهي المفتاح للعمل في مؤسساتها المختلفة؛ على أساس أنها تعلم العلوم غير الشرعية التي يمكن أن تؤثر على إيمان الطفل وتبعده عن دينه. وظلت بعض هذه التحريمات قائمة وسارية المفعول إلى نهايات الخمسينيات وأواسط الستينيات من القرن المنصرم، بعد أن خرج الأمر عن طوع المراجع، وتوجه الشباب من الشيعة نحو الوظائف الحكومية غير آبهين بتلك الفتاوى، فتم تجاوز تحريم الراتب، وذلك بحيلة شرعية تستند إلى أن هذه الأموال مجهولة المالك، بما يعني جواز استلام الراتب الشهري. ويبدو أن بعض المراجع لا يريد أن يمرر هذه الفرصة دون الاستفادة منها، فأفتوا بوجوب تطهير هذه الأموال أو الرواتب المستلمة من الحكومة عبر تخميسها وتقديم ما يسمونه بـ(الحقوق الشرعية) منها للمراجع!
لا نعتقد أن اعتماد رجال الدين والمراجع على الهبات العامة من أنصارهم ومؤيديهم هو العامل الوحيد الذي يقف وراء محاولة عزل الشيعة عن الدولة القائمة آنذاك، بل هوية المراجع الشيعية التي كانت في الغالب تنحدر من أصول ايرانية سبب أصيل في ذلك.
وهي إما أنها تعكس سياسة عامة متفقاً عليها لاستلاب شيعة العراق من هويتهم العربية، أو أنها تعود إلى عامل سيكولوجي خاص يعود إلى حالة الشعور بالغربة من قبل المرجع في بيئة بعيدة عن بيئته (إيران)، فيمضي لا شعورياً وراء عملية العزل هذه في اندفاعة مستبطنة للامتزاج بما حوله بعيداً عن محيطه العربي، تخلصاً من مشاعر الغربة هذه. وبما يحقق لهم السيطرة على أبناء الطائفة، والاستقواء بهم على الحكومة([19]).
وفي أول انتخابات نيابية أجريت في العراق أصدر الشيخ مهدي الخالصي وعلماء النجف وكربلاء بتاريخ 8 تشرين الثاني 1922 بياناً يقول: "إن المساهمة في الانتخابات أو أية عملية تماثلها مما قد يعرض ازدهار العراق في المستقبل للخطر فحكمه حرام بموجب الشرع الإسلامي والقرار الإجماعي للمسلمين"([20]).
وأكد العلماء الكبار الثلاثة الأصفهاني والخالصي والنائيني موقفهم في بيان آخر يقول: "نعم قد صدر منا تحريم الانتخاب في الوقت الحاضر لما هو غير خفي على كل باد وحاضر، فمن دخل فيه أو ساعد عليه فهو كمن حارب الله ورسوله وأولياءه"([21]).
[1]- شركة دار الوراق للنشر المحدودة، الطبعة الأولى، 2007. أما الاقتباسات المصورة فاعتمدت فيها على نسخة سحبتها من الانترنت، واعتمدت في ترقيمها على نسخة دار الوراق المطبوعة .
[2]- السياسي هو الأستاذ طارق الهاشمي، والقائل بوطنية عائلة الحكيم هو الدكتور محسن عبد الحميد.
[3]- للحديث صلة. وقد هيأته من بحث كتبته قبل أربع سنوات.
[4]- جريدة (الشرق الأوسط) ، لقاء مع الأمين العام الأسبق لـ"حزب الله" الشيخ صبحي الطفيلي في (7/2/2004).
[5]- عراق بلا قيادة ، عادل رؤوف (شيعي من حزب الدعوة من أتباع الصدر) ص266-267. نقل المؤلف هذه العبارات عن خطاب لحسن نصر الله منشور في كتاب باسم (سجل النور) ص227 صادر عن الوحدة الإعلامية في حزب الله .
-[6] شيعة العراق ، ص170-171 ، إسحاق نقاش ، ترجمة عبد الإله النعيمي ، دار المدى للثقافة والنشر ، الطبعة العربية الأُولى ، 1991 ، دمشق ، بيروت.
[7]- في الحلقات الماضية ذكرنا سر تحرك مراجع الشيعة ضد الانجليز في العراق؛ وذلك لسببين هما: 1. تخفيف الضغط عن إيران التي كانت تحت هيمنة الانجليز 2. وتوصلاً لتكوين دولة شيعية في العراق يحكمها المراجع. وقد سلكوا لذلك الخطين المعروفين في السياسة الشيعية والإيرانية: خط يوالي وخط يعارض بناءً على قاعدة (تعدد أدوار ووحدة هدف).
[8]- الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية لعلي البزركان (44-48)، تاريخ الحلة ليوسف كركوش الحلي (1/160).
[9]- شيعة العراق، إسحاق نقاش ص108.
[10]- وذلك في 9/3/2008 إذا اعتمدنا تاريخ نشر البحث في مجلة الراصد. انظر الرابط التالي:
http://alrased.net/main/articles.aspx?selected_article_no=4762
[11]- الكاتب الشيعي حسن الأسدي في كتابه "ثورة النجف" (ص223). وصف هؤلاء المراجع بقوله: "إن هؤلاء عمائم عملاء لشدة ولائهم للإنكليز".
[12]- كربلاء في التاريخ لعبد الرزاق الوهاب ( 48-51 ).
[13]- لمحات اجتماعية، علي الوردي ( 5/110-111)
[14]- حنا بطاطو
[15]- تجربة الثورة الإسلامية في العراق لأحمد الكاتب (12-20-21-24 )
[16]- شيعة العراق لإسحاق نقاش (121)
[17]- شيعة العراق (127 )
[18]- المرجعية الشيعية والسياسة في العراق، 2004.
[19]- انظر مقال الشيعة والحكم في الدولة العراقية الحديثة للدكتور موسى الحسيني
[20]- خالد التميمي، محمد جعفر أبو التمن ، ص 188.
[21]- حسين الشامي، المرجعية الدينية ، ص 102.
لاحظت - من خلال قراءتي المبكرة لكتابات الوردي - التطابق التام بين موقف المرجع الشيعي محمد تقي الشيرازي من الاحتلال البريطاني وموقف علي السيستاني من الاحتلال الأمريكاني، رغم وجود فترة طويلة تفصل بينهما تمتد إلى حوالي قرن من الزمان. وهذا يكشف عن استراتيجية أو منهجية شيعية واحدة تحكم تحركاتهم، هي وراء (قابلية الاستعمار) هذه التي يلاحظها كل متابع لتاريخهم في جميع أدواره وعصوره. ابن العلقمي الوزير العباسي الفارسي الشيعي، ومعه العالم أو (المرجع) الديني الإيراني نصير الدين الطوسي مثالان مشابهان، وإن اختلف الزمان.
كان محمد رضا ابن الشيرازي يحرض الناس ضد الانجليز([7]) وكان يراسل القوميين في سوريا والحجاز ويثيرهم في رسائله، ما أدى إلى اعتقاله في (21 حزيران/1920) ونفيه إلى جزيرة هنجام في الهند. وبعد حوالي شهر أفرج عنه بوساطة من شاه إيران – وهذا يشير إلى العلاقة الخفية بين الطرفين في تحريك الثورة - ومن هناك ذهب إلى أرض الميعاد طهران ليعيش فيها بقية حياته. يظهر أن مهمته في العراق انتهت فما عاد يهمه من أمره شيء.
إن الذي يعرف النفسية (الفارسية) في كرهها للعرب وللعراقيين على وجه الخصوص، والنفسية الشيعية في عدم انتمائها إلى غير طائفتها، ولديه أدنى علم بالفقه الشيعي وموقفه من الجهاد في زمن (الغيبة): يدرك سر تحركات شخص إيراني مثل الميرزا محمد رضا في العراق وعلاقتها بإيران.
يقول الدكتور علي الوردي (ص236): كان الانكليز يعتقدون أن الشيرازي لم يكن راضياً عن أعمال ابنه. وينقل (ص237) عن مذكرات ويلسون بقوله:
كان رد فعل الشيرازي على تحركات الانجليز قبيل اعتقال ابنه أن أرسل كتاباً إلى حاكم الحلة الميجر بولي يدعوه لملاقاته من أجل شرح الأمور جاء فيه (ص248): (وإذا امتنعتم عن المجيء في هذه المرة أيضاً فتصبح وصيتي للأمة بخصوص مراعاة السلم ملغاة من ذاتها، وأترك الأمة وشأنها). إذن هناك اتفاق مسبق بين المرجع والانجليز بوصية الناس بمراعاة السلم وعدم الحرب، كما هو الحال مع السيستاني واتفاقه مع الأمريكان، وعلاقته غير المعلنة مع الحاكم المدني بول بريمر، التي ذكرها في كتابه (عام في العراق).
موقف مرجع الشيعة محمد تقي الشيرازي من الثورة
من خلال كتاب (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، الجزء الخامس المخصص لثورة العشرين، للأستاذ علي الوردي تمكنت من الوصول إلى بعض الحقائق، لكنها ظلت ناقصة تبحث عن سطور تكملها.
يقول الوردي في مقدمة الكتاب:
تبدو من خلال صفحات الكتاب والوثائق المنشورة فيها صورة المرجع الشيعي محمد تقي الشيرازي في موقفه من المحتل البريطاني مطابقة تماماً لصورة مثيله المرجع الشيعي الحالي علي السيستاني في موقفه من المحتل الأمريكي. كان الشيرازي يشدد في فتاواه على عدم مقاومة المحتل حتى لو رأوه معتقلاً بين أيديهم، وينهاهم عن القتال نهياً جازماً إلا في حالة الدفاع عن النفس حين يكون الجندي البريطاني هو البادئ. وكأن الدفاع عن البلد ليس دفاعاً عن النفس. وبهذا يتبين العزل الديني الشيعي بين الوطن و(المستوطن) الشيعي، وقتل الحس الوطني عند الشيعة؛ فلا يشعر بوطن خارج نطاق الطائفة. ولهذا وغيره نقول: (وطن الشيعي طائفته). أما المرجع السابق كاظم اليزدي فلم تكن عمالته للمحتل محل نقاش؛ إذ كان واضحاً في علاقته معه، وتأييده له، وخذلانه لمن قاومه لأي سبب كان. وهكذا تجد الموقف المزدوج عند الشيعة في كل زمانومكان كاليهود تماماً.
لم يؤيد الشيرازي الثورة حين قيامها، كما يذكر الوردي، على العكس مما يقوله الشيعة عنه من أنه من قادة الثورة، رغم مراجعة الثوار من رؤساء القبائل وغيرهم له، بينما كان ابنه محمد رضا من المتحمسين لها والداعين إليها، إضافة إلى رموز دينية أخرى مؤيدة أقل منزلة من الشيرازي. ويرجح الوردي أن الفتوى التي يعرضها الشيعة على أنها صادرة منه إنما كانت بعد أكثر من شهر من اندلاع الثورة، مستشهداً بأنها خالية من ذكر التاريخ، في حين تشير المصادر الانجليزية أن الفتوى صدرت في تاريخ متأخر، هو 6 آب 1920. أي بعد أكثر من شهرين ونصف الشهر من اندلاع شرارة الثورة في الموصل (تلعفر).
أما الخروج من هذا الإشكال الظاهري في تأييد وعدم تأييد الثورة بين الأطراف الدينية الشيعية إلى حد انقسام بيت المرجع على نفسه: فسهل على من أدرك الطريقة أو القاعدة القديمة الجديدة التي يتبعها الشيعة في التمويه على الخصم، وهي: (تعدد أدوار ووحدة هدف). وذلك خدمة للطائفة وليس الوطن، حتى إن بدا أحياناً تطابق المطلب الوطني مع المطلب الطائفي، فإن هذا التطابق يكون فيه مطلب الوطن تابعاً وليس متبوعاً، وفرعاً وليس أصلاً بالنسبة لمطلب الطائفة. وانقسام الشيعة أخيراً حيال (الاتفاقية الأمنية) مع الأمريكان أوضح مثال على هذه اللعبة. مثله مثل موقفهم من كركوك. كل المواقف تحكمها هذه القاعدة من جهة، والتناغم مع مطالب إيران وأهدافها من جهة أخرى.
قاعدة (تعدد أدوار ووحدة هدف) يمكن بها تفسير المواقف الشيعية التي تبدو مناقضة للخط العام في ارتباطه بإيران من جهة، والمحركات الطائفية الذاتية من جهة أخرى.
عظم الشيعة من شأن هذه الثورة ليكتسبوا بها الهوية الوطنية أولاً، ولأنها أعطتهم الأمل بتكوين دولة خاصة بهم ثانياً، وثالثاً لأنه لم يكن في تاريخهم سواها ما يمكن لهم أن يفخروا به طيلة عهد الاحتلال البريطاني الذي دام أكثر من أربعين سنة.
حركة عشائرية لا فتوى مرجعية
المعروف في الذاكرة العراقية عامة أن ثورة العشرين انطلقت بفتوى من المرجع الشيعي محمد تقي الشيرازي، ويلقبه الشيعة، وقوميو السنة ووطنيوهم أيضاً، بـ(قائد ثورة العشرين). لكن البحث يظهر أمراً مغايراً تماماً. إذ اندلعت شرارة الثورة في الجنوب على يد قبيلة الظوالم في الرميثة على إثر اعتقال شيخهم شعلان أبو الچون، وليست على أساس فتوى من الشيرازي. يقول د. علي الوردي (ص273):
يواصل د. علي الوردي الحديث فيقول (ص274): (عثرت في كتاب مخطوط للشيخ محمد الخالصي - الذي كان حينذاك بمثابة الكاتب للشيرازي – ما يلقي شيئاً من الضوء على هذا الموضوع. وهذا نص ما قاله الخالصي: (... وكانت ترد كتب رؤساء القبائل إلى آية الله الشيرازي فكان مواضباً على اتخاذ خطة السلم وإخماد نار الفتنة في أجوبته، حتى إن بعض رؤساء القبائل كتب إليه بعد القبض على ولده: إن أعمال الانكليز في القبض على ولدك قد بلغت الغاية من القسوة والظلم وهتك الحرمات فمرنا أن ندافع عن أنفسنا بالسلاح. فأرسل لي الكتاب وأمرني أن أكتب في جوابه ما ملخصه: إن ابني ومن معه أبعدوا في سبيل القضية العراقية، فلا ينسينكم إبعادهم قضيتكم، ولا تشتغلوا بطلب عودتهم عن المطالبة بحقوقكم، ولا تجعلوا القبض عليهم سبباً لحمل السلاح، فتلهيكم القضايا الشخصية عن المطالب العامة، وإياكم أن تجردوا سيفاً ولو رأيتموني بيد الانكليز إلا أن يسوق الانكليز جيشاً لمحاربتكم بسبب إصراركم على المطالبة بحقكم المغصوب، فهناك يجب الدفاع).
الشعوب لا تتغير طبائعها وثقافتها بسرعة، بل لا بد لذلك من قرون من الزمان. فإذا كانت هذه الطبائع مسندة بالعقيدة الدينية والفتوى الشرعية صعب أو استحال تغييرها. "وطن الشيعي طائفته"، وولاؤه ووجهته لإيران.
الجهاد عند الشيعة معطل حتى ظهور المهدي المزعوم، إلا دفاعاً عن النفس. وأي بلد تحت حكم السنة لا تجيز عقيدة الشيعة حتى الدفاع عنه. هكذا والى الشيعة الغزاة، وهكذا قاتلوهم؛ لا دفاعاً عن وطن وإنما ولاء لطائفة قلبها وقبلتها إيران. فكل نبض تجسه فيها فارجع به إلى قلبه يكن التشخيص، وكل توجه لها إذا تتبعته إلى نهايته أوصلك إلى قبلته. والتاريخ له فلسفة وقواعد لا يمكن فهمه وتفسيره بمعزل عنها. فمن أراد معرفة موقف الشيعة من الاحتلال الانجليزي فلينظر إلى موقفهم من الاحتلال الأمريكي. وهكذا هم في كل زمان. ولكن "الوطنيين" لا يفقهون.
كبار المراجع في النجف يحتفلون بنصر الانجليز
يقول د. الوردي (ص335) ما ملخصه : في عصر اليوم نفسه الذي تم الشنق في صباحه (أي شنق نجم البقال وأصحابه) أقيمت في دار السيد عباس الكليدار في النجف حفلة فخمة لتكريم بلفور (الذي قمع الثورة) حضرها ويلسون بالطائرة من بغداد، كما حضرها بعض الملائية والوجهاء والشيوخ، قدم فيها الكليدار أو حافظ مفاتيح المرقد العلوي سيف الشرف إلى بلفور، وخاتماً ضخماً من الذهب للحاكم العام ويلسن ومفتاحاً من الفضة، لكي يكون رمزاً، كما قال الكليدار، لرغبة أهل النجف في أن تبقى مفاتيح بلدتهم وقلوبهم مفتوحة دائماً تجاه ممثلي الإدارة المدنية، على حد تعبير ويلسون في مذكراته. التي عبر فيها عن دهشته وإثارته للمفارقة! وخطب فيها الكليدار مثنياً على الانجليز معبراً عن رضى أهل النجف بالخلاص من أيدي الأشرار (أي الثوار). وكان أبرز الخطباء الحاج عبد المحسن شلاش (أصبح فيما بعد من وجوه ثورة العشرين) أثنى على بلفور ورجال الحكومة، وأظهر امتنان النجفيين من أعمالهم الفذة في النجف، وتطهيرها من أركان الفساد وأهل العناد الذين شوهوا المدينة بسوء أفعالهم. وقام هو والخازن بتقليد بلفور سيفاً مرصعاً بالذهب دليلاً على ما أودعه في النفوس من الحب والارتباط المتين. وكان الحاضرون يهتفون ويصفقون تصفيقاً حاداً.
ووصف الشيخ رضا الشبيبي الحفلة في مذكراته – كما يذكر الوردي (ص336) – قائلاً: (حضرها العلماء وأولاد المجتهدين والتجار وأركان الحكومة في النجف ونائب الحاكم الملكي... ونظمت صفوف المجتمعين على نظام حسن، وكان للعلماء صف وللأشراف صف، وهكذا ترتبت الطبقات). وفي جريدة (العرب) الناطقة بلسان الانكليز وردت أسماء كثير من الأعيان حضروا الحفلة بعضهم كان لهم ذكر بارز في ثورة العشرين، منهم السيد محسن أبو طبيخ. كما حضرها الحاج محمود أغا الهندي ممثل المرجع كاظم اليزدي والشيخ جواد الجواهري والسيد هادي النقيب والسيد مهدي السيد سلمان والشيخ علوان الحاج سعدون والشيخ عبادي الحسين. ومنهم مراجع دينيون كبار كالشيخ عبد الكريم الجزائري، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. وقد أناب المرجع الشيعي الأكبر في حينها محمد كاظم اليزدي عنه محمود أغا الهندي لحضور الاحتفال. وقد استبعد الوردي (ص338) حضور هؤلاء المراجع مستشهداً بقول أحد النجفيين سأله فأجاب: بأن من الممكن أن يحضر الحفلة علماء "الحفيز" أو بعض صغار الملائية، أما هؤلاء فمن رابع المستحيلات حضورهم. والوردي ذكر هذا ربما خوفاً على نفسه من رعونة المتحمسين وتهم المزايدين، الذين يريدون أن يكتب الحدث كما يشتهون لا كما وقع بالفعل. ولو سألت اليوم أي شيعي عن علاقة السيستاني بالمحتل الأمريكي، والمراسلات التي تمت بينه وبين بريمر كما أثبتها الأخير في مذكراته (عام في العراق): لأجابك أن حصول هذا (من رابع المستحيلات)، بينما هي قد وقعت في تاريخهم للمرة الأربعمئة!
أما كاظم اليزدي مرجع الشيعة آنذاك فقد كان ضد الثورة ومستنكراً لها، وقد امتنع حتى عن واجب التشفع للمحكوم عليهم بالإعدام على الرغم من الضغط الذي وجه إليه من قبل الرأي العام في النجف، رغم قدرته على التشفع والتوسط لدى أصدقائه الانجليز.
ألا تشعر وأنت تقرأ السطور السابقة كأنها تحدثك عن أفعال الشيعة ومواقفهم نفسها التي صدرت عنهم تجاه الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 وخدمتهم له وقتالهم معه ضد المجاهدين السنة، ثم هم اليوم يدّعون مقاومته وحدهم منكرين أن المقاومة قام بها السنة دونهم. ولا أستبعد فيما لو استمر الفكر الوطني البائس على حاله أن يأتي يوم يقال فيه للناس ويقرأون في كتب التاريخ الدراسية وغيرها أن الشيعة قاوموا المحتل، ولن يعوزهم أن يجدوا لهم من كبار رؤوس الوطنية السنية الخائبة من يوقع لهم على هذه الأكاذيب.
أرأيت كيف يكتب التاريخ؟ هكذا كتب تاريخ ثورة العشرين!
مقدمات ثورة العشرين
الدور الإيراني والدافع الطائفي
من الباحثين العراقيين الذين شخصوا الأسباب الحقيقية وراء قتال الشيعة الانجليز في ثورة العشرين الأستاذ عبد العزيز بن صالح المحمود، في بحثه الموسوم بـ(جُهود علماء العِراق ومفكريهم ودعاتهم في الردّ على الشيعة)، والذي نشره على موقع مجلة (الراصد) الإلكترونية. أجابفيهعنالأسئلة والإشكالات المتعلقة، وذلك بالأدلة العلمية الموضوعية، بعيداً عن المزايدات (الوطنية)، والحماسيات العاطفية، والمجاملات والنفاق السياسي.
جاء في أحد هوامش الموضوع الأول للبحث قول الأستاذ المحمود يختصر به فكرة البحث: "وسنتكلم عن حقيقة ثورة العشرين وكيف أنها ثورة شيعية لإقامة دولة تحكم من قبل مجتهدي الشيعة، وكيف خدعوا العراقيين وصوروها على أنها ثورة للتخلص من الاحتلال، واليوم يخدع فصيل مقاتل كامل فيسمّي نفسه (كتائب ثورة العشرين). وهي ثورة لا يفخر بها أهل السنة البتة، رغم أن كثيراً من أهل السنة شارك فيها بدوافع ونوايا مختلفة. وسيرى أهل السنة لطف الله بهم وكيف حفظهم الله سبحانه بوعي بعض أهل العلم الوعاة والذين سبروا وخبروا أحوال الأمم". وأظن أن مقصوده بـ"بعض أهل العلم" الشيخ عبد الرحمن النقيب، الذي يرجح أنه قبل برئاسة الوزراء - وكان رافضاً للمنصب، عازفاً عن الدنيا - بعد أن خيره، أو حيره، الانجليز بينها وبين تسليم قيادة البلد إلى الشيعة. الذين كان يطلق عليهم وصف (الرعاع)، كما يبدو من بعض عباراته؛ وذلك لافتقارهم إلى الخبرة السياسية والعلمية في القيادة. وقد أثبت الشيعة صدق حدسه فيهم بما لا يقبل الشك بعد (82) سنة يوم تولوا الحكم بمساعدة الأمريكان فحولوا العراق إلى أكبر دولة في الفساد والتخلف وفقدان الأمن في العالم.
وفي الصفحات التالية محاولة لعرض وتلخيص هذا المبحث القيم، وإبراز أهم ما جاء فيه من حقائق وأفكار يمكن بها أن نفهم تلك الثورة فهماً هو الأقرب إلى حقيقتها التي هي عليها، لا ما ينبغي أن تكون عليه عند كثير ممن تحدث أو كتب عنها.
مقدمات الثورة
كان العراق محكوماً وقتها من قبل الدولة العثمانية، وكانت الظروف متشابهة بينها وبين إيران فكلتاهما تعرضت لمشكلة الدستور، وكلتاهما كانت تواجهها حركات تغيير حضاري.
وكانت تجربة سيطرة رجال الدين المجتهدين الشيعة داخل إيران يراد نقلها وتطبيقها في العراق حيث أن كلاً من العراق وإيران واقع تحت الاحتلال البريطاني. بالإضافة إلى أن الدولة العثمانية تعرضت لهزة دستورية سنة 1908 وأصبحت أجواء العراق يسودها حديث الحرية في كل شيء، في التعليم والنشر والتنظيم السياسي وغيره. وبدأ كثير من شيعة العراق ينخرط في العمل السياسي بعد أن فتحت بعض المدارس العلمانية([8])في المناطق الشيعية كمدينة الكاظمية داخل مدينة بغداد، وفي مدن النجف والحلة. كل ذلك ساهم في فك عزلة المدن الشيعية.
وظهرت دعوات لتوحد السنة والشيعة ولكنها بقيادة شيعية، بمعنى آخر بقيادة المراجع الإيرانيين. وكان الطرح الشيعي آنذاك هو المواجهة بين الغرب وأفكار الإلحاد والمدنية الأوربية، وبين الإسلام والفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية. إن تحدي أوربا للعالم الإسلامي وبداية نهاية الدولة العثمانية – الرجل المريض – أيقظ الجميع لمواجهته. بدا هذا واضحا عندما بدأت روسيا القيصرية بالتوغل في إيران وبالتحديد في شمالها لتأمين مصالحها الاقتصادية، وكان ثمة تعاون بريطاني روسي للسيطرة الاقتصادية على إيران.
لمّعت هذه التوجهات والتصرفات حينها صورة المجتهدين الشيعة على أنهم قادة للمعارضة السياسية؛ لهذا بدأت بواكير ظهور قوة شيعية. ومع الزيادة العددية للسكان الشيعة في جنوب العراق، فقد أصبح ممهداً ظهور شبه دولة فيها مجتهد يأمر وينهى ويقترح، كما هو الحال في إيران. وكان المجتهدون يخاطبون القنصل البريطاني والروسي والفرنسي حول شؤون العراق، بل حتى شؤون إيران دون الرجوع لوالي بغداد العثماني! وكانوا أحيانا يعلنون التعبئة المحلية في المدن الشيعية كما حصل سنة 1905. بل وصل الأمر سنة 1909 إلى أن يجتمع نجل محمد كاظم الخراساني مع القنصل البريطاني ليوصل رسالة من خلاله لروسيا مُفادها أن الشيعة سيعلنون الجهاد ضدها إذا لم تنسحب من إيران، وفي العام القابل أرسل إلى القنصل الروسي تهديداً مباشراً([9]).
فانظر كيف يكون (الجهاد) الشيعي ضد دول الكفر لا في سبيل الوطن وإنما خدمة لإيران! وانظر إلى العلاقة العضوية بين شيعة العراق وإيران، وكيف أن تحرك الشارع الشيعي في العراق هو انعكاس عضوي مباشر لنبض الشريان في الشارع الإيراني. فشيعة العراق مستعدون تمام الاستعداد للقتال – بحجة الجهاد – دفاعاً عن إيران! لكن الحدث عندما يفوت زمانه تختفي تعلقاته وحيثياته، وتغيب عن البال الأحداث المحركة له؛ فيمكن لكل أحد تطويعه لرغبته، وتفسيره بما يتوافق وغايته. فيمسي من السهل جداً أن يدعي الساسة والكتّاب - بدوافع طائفية أو وطنية - أن مراجع الشيعة كانوا مجاهدين ووطنيين من الطراز الأول! ألا ترون أنهم قاتلوا الانجليز مع العثمانيين في الحرب العالمية الأولى متناسين الخلاف (المذهبي) بينهم وبين السنة؟ كما يشاع عن الحبوبي وأمثاله عند احتلال العراق من قبل الانجليز. بل هذه قناعة الأستاذ المحمود نفسه أفضى بها إلي وناقشته فيها. ولا غرابة فإن هذا وأمثاله شائع ومنتشر. والذي لا يدرك جذور الحدث، ولا يمكنه استحضار الظروف السياسية المحيطة به آنذاك، تفوته علاقة إيران الصميمية به؛ فإما يقف حائراً لا يدري ما يقول، وإما يستسلم لما يقال لكثرة الضخ الإعلامي، وصياغته بطريقة تبدو مقنعة سيما في غياب البعد الخلفي للحدث عن دائرة النظر.
الشيعة يؤسسون جيشاً قبل الحرب العالمية الأُولى حفاظاً على كيانهم الطائفي
مع اقتراب الحرب العالمية الأولى ازدادت المخاوف العثمانية وشرعوا بتشجيع علماء الشيعة بالتوحد مع السنة لإيجاد معارضة في إيران والعراق تُمكن السنة والشيعة من مقاومة الأوربيين. بينما كان الشيعة يشعرون بخوف من أن يُحتلوا من قبل الأوربيين في إيران والعراق، ويضيع كيانهم في ايران وهو الكيان الأم لكل الشيعة في العالم والذي أسس منذ الدولة الصفوية؛ وأيضاً لأن أكبر وجود للشيعة هو في هذين البلدين.
ومع بواكير الحرب العالمية الأولى وشروع أوربا باقتسام تركة الرجل المريض شكّل المراجع الشيعة جيشاً كبيراً من سكان جنوب العراق لمواجهة أي غزو. ودخلت القوات البريطانية العراق سنة 1914، لكن هذا الجيش لم يفعل شيئاً إلى سنة 1918؛ حتى يكتمل احتلال العراق على يد الإنكليز، وانتهى حكم الدولة العثمانية في العراق وغيره إلى الأبد.
وهذا يعني التقاء مصلحة الشيعة مع العثمانيين من حيث الخوف من الاحتلال الأوربي للعراق وإيران، مع وجود مصلحة أخرى للشيعة معارضة للمصلحة السابقة من حيث أن زوال الدولة العثمانية يمنح الشيعة فرصة إقامة دولة لهم في العراق. وقد تغلبت المصلحة الثانية على الأولى، لكن لم تلغ تلك العمل على أساس هذه كلياً. وهو يفسر ما يقال عن مقاومة بعض الشيعة للبريطانيين قبل احتلالهم البلد، إضافة إلى أسباب أخرى أقلأهمية من حيث التأثير عند البعض مثل دوافع النخوة العربية، وبقايا الرواسب الدينية. وهنا يختلف الناس في قناعتهم وما تقتضيه من عمل يناسبها، فيظهر تباين ما قد يفهم على ظاهره.
في النهاية استطاع الشيعة إيجاد توازن بين المصلحتين: إذ تركوا الانجليز يحتلون البلد، وفي الوقت نفسه كونوا لهم جيشاً يمكن استخدامه في سبيل هدفهم في تكوين دولة لهم.
هل أدركت سر تصرفات الشيعة، والبواعث الحقيقية لها؟ ولكن ما زلنا في البداية، تمهل قليلاً لترى المشهد بكل شواهده وشواخصه. وذلك في الحلقات القادمة إن شاء الله.
العراق خارج دائرة حكم العثمانيين
أصبح العراق بعد الحرب العالمية الأولى خارج دائرة حكم السُنة (العثمانيين). وهو ما ينتظره الشيعة منذ قرون! إذ استطاعوا الاقتراب من حلم دولة شيعية في العراق يقودها المراجع الشيعة، ولكنه انتقل من حكم سني إلى حكم نصراني بريطاني، وليس إلى يد الشيعة. ولكون إيران محتلة أيضاً من قبل بريطانيا فقد التقت المصلحة بين شيعة العراق وإيران للعمل معاً ضد بريطانيا من أجل التخلص منها تمهيداً لقيام دولة شيعية في العراق تكون ظلاً وتابعاً لدولة إيران الصفوية القاجارية التي تكون قد تحررت أيضاً من الاحتلال البريطاني.
لا يفوتنك ما ذكرناه سابقاً من أن مراجع الشيعة قد جهزوا أنفسهم منذ فترة للعمل السياسي ولقيادة العراقيين سنة وشيعة. لهذا كله سعوا لمعارضة الاحتلال والظهور بروح الوطنية من أجل تلك الغاية العظمى؛ ألا وهي قيام دولة شيعية في العراق، بقيادة المراجع، وظهر للجميع (السنة والشيعة) قوة المجتهد الشيعي وصلاحياته في تعبئة أصحابه في الجنوب والوسط .أما السنة فقد فقدوا مرجعيتهم الرسمية الحامية لهم بانهيار الدولة العثمانية. ويبدو أن وضعهم السياسي صار أشبه بوضعهم الذي أدركناه بعد الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003، وفقدانهم مرجعيتهم الرسمية بانهيار الدولة العراقية.
جناية التثقيف الوطني في طمس الحقيقة
ثمة محاولات جرت للتقريب بين السنة والشيعة على المستوى السياسي ولم يسلط عليها الضوء من قِبَـل من كتب في مسألة التقريب، وهي محاولات لو نجحت لكان لها نتائج خطيرة - يواصل الأستاذ المحمود كلامه قائلاً - هي أخطر بكثير من الدعوات الدينية للتقريب؛ فهذه المحاولات جرت باسم الوحدة الوطنية ومصلحة البلاد. ونتيجة هذا الإهمال لهذا الطرح خدعت أجيال كثيرة معاصرة بالأسلوب نفسه. إن هذا يضع الدراسات الدينية أمام مسؤولية شرعية وتاريخية؛ فتوسع مداركها في دراسة التاريخ السياسي والاجتماعي للدول الإسلامية لمعرفة حقيقة كثير من الأحداث والوقائع.
كما لم يذكر أحد أنه كانت هناك عدة محاولات معاصرة لقيام دولة شيعية سبقت ثورة الخميني. في حين اعترف بذلك أحمد الكاتب في كتابه (تجربة الثورة الإسلامية في العراق 1920- 1980) والمطبوع في إيران سنة 1980.
هذه الأحداث لم تدرّس لأي جيل لأخذ العظة والعبرة منها؛ ولذلك تتكرر كل مرة هذه الأخطاء ولا يستفاد منها للمستقبل. ومثال ذلك: الانتفاضة الشيعية في جنوب العراق بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت (1991)، وظهور شعور شيعي باقتراب سقوط الحكومة؛ فقام الشيعة في الجنوب بالانتفاضة للسيطرة على الحكم. هذا هو ما فعله الشيعة نفسه بعد دخول الإنكليز وسقوط الدولة العثمانية، وما فعلوه بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط الدولة العراقية. فلو قرأ العراقي ذو النهج الإسلامي أو القومي حقيقة التحركات السياسية الشيعية لما تكرر الخطأ نفسه.
شيعة العراق بعد الاحتلال البريطاني
أربع قوى كانت تتصارع على حكم العراق بعد زوال الحكم العثماني هي:
السنة: الذين فقدوا المرجع الرسمي لهم، ألا وهو الدولة العثمانية. وفرح بعضهم لأن حال الدولة العثمانية لا يسر فهي دولة ظالمة ضعيفة غير متحضرة كسائر الأمم، تفرض على الشعوب العربية اللغة التركية، ومتعلقة بالدين شكلياً.
الشيعة: تخلصوا من الدولة العثمانية السنية، واستطاعوا الاقتراب من حلم دولة شيعية في العراق يقودها المراجع، كما أنهم يريدون إبعاد الإنكليز ليصفو لهم العراق وإيران؛ لذلك كان الإنكليز معوقاً لحلمهم. هذه الأحلام دفعت الشيعة – فيما بعد – باتجاه التوافق مع حلم الأشراف ليكونوا دولة سنية الظاهر شيعية المضمون، إذ اتفقوا مع عبد الله بن الحسين أن يعيَّن ملكاً بدستور يضعه مجتهدو الشيعة. وهكذا يضمنون عدم انقلاب الملك السني عليهم.
الأشراف: وقد فقدوا أملهم بوعود الإنكليز لذلك كانوا في حاجة إلى جهة قوية للتحالف معها تخلصاً من الإنكليز في العراق، فوجدوا الشيعة خير معين لهم، بعد ضمان الولاء السني.
الإنكليز: وهؤلاء محتلون: حلمهم السيطرة على العراق وإيران وقد تعارضت مصالحهم مع الشيعة؛ لأن كليهما يريد العراق له، وأحسوا أنهم لا يستطيعون البقاء في العراق إلى الأبد، ولا بد من السيطرة على العراق وإيران. وأن الشيعة تقووا بإعلان الرئيس الأمريكي ولسن حول منح الشعوب حق تقرير المصير، وهذا ما جعل الشيعة يراسلون الرئيس الأمريكي لإحراج الإنكليز.
طالب الشريف حسين بالعراق سنة 1917 باعتباره دولة عربية، وهو موعود بدولة عربية بدل الدولة العثمانية، وعضده الشيعة على ذلك للتخلص من الإنكليز والحصول على وضع يجعلهم قريبين من قيادة البلد الذي كان منذ أيام الفتح الإسلامي بيد أهل السنة والجماعة، وقد حان الوقت لتحقيق الحلم الشيعي بقيادة العراق أرض المقدسات الشيعية. كما كان العثمانيون المنهزمون في العراق يؤيدون الشيعة ضد بريطانيا للثورة عليهم.
أدرك الإنكليز من مراسلات الشريف حسين وبعض علماء الشيعة مراد الشيعة من هذه المراسلات وأنها مقدمة لسيطرة شيعية على العراق وإيران وهذا يعارض مصالحهم.
يعلق الأستاذ المحمود في هامش البحث تعليقاً مهما جاء فيه([10]): "وهذا ما يحصل اليوم بالضبط: فعندما أحس الشيعة بخطورة وجود أمريكا التي احتلت العراق بالقرب من دولتهم إيران عملوا بشتى الوسائل للتخلص من النفوذ الأمريكي؛ لا كرهاً بالاستعمار، بل سعياً وراء حماية إيران ومذهبهم، وما حققوه من مكاسب في العراق.
ليفهم أهل السنة ذلك، ولتفهم هذا هيئة علماء المسلمين التي فشلت في تمثيل أهل السنة ووقعت في أخطاء عميقة، وليفهم المتطرفون السنة كيف أن تعاونهم مع الشيعة وإيران ضد أمريكا إنما يصب هذا في مصلحة إيران والشيعة، لا في مصلحة العراق وأهل السنة، وأن من مصلحة إيران اليوم ذهاب أمريكا من المنطقة لا حباً بطرد المستعمر فهي من ساعده، ولكن لتترك المنطقة فريسة لها خالصة؛ إذ فلا منافس لها بعد ذهاب صدام حسين، وقبل تشكل إجماع سني قادر على صد أطماع وعدوان إيران وأعوانها من شيعة العراق".
نتوءات مصلحية خارج السياق الإيراني
لا يلزم مما سبق أن يكون الصف الشيعي كله محكوماً بنوايا متشابهة، وموحداً باتجاه واحد، وأنه ليس من خطوط باتجاهات أخرى نظراً لاختلاف اتجاهات المصالح: فردية كانت أم طبقية أو فئوية.
فبعض أثرياء الشيعة وشيوخ العشائر لتحسن أوضاعهم المالية بعد الاحتلال حبذوا حكم العراق من بريطانيا مباشرة. بل إن بعض رجال الدين الشيعة أرسلوا برقيات يطلبون بقاء الإنكليز مثل هادي الرفيعي وهو سادن الروضة العلوية في النجف، كما أيد ذلك ستة من المراجع الكبار، ثلاثة منهم هنود وهم هاشم الهندي النجفي، ومحمود الهندي النجفي، ومحمد مهدي الكشميري، وواحد من أصل فارسي هو جعفر بحر العلوم، واثنان من العرب هما حسن بن صاحب الجواهري (يحمل الجنسية الإيرانية) وعلي بن محمد كاشف الغطاء عميد عائلة كاشف الغطاء؛ فقد كان الإنكليز يوزعون عليهم أوقاف أودة الخيرية الهندية([11]). كما شاطرهم هذا الرأي بعض السنة خوفا من توافق شيعي مع (الأشراف) مما قد يسمح بتشيع العراق أجمعه بخدعة ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب.
بل توافق بعض المراجع في مدينة الكاظمية بعد توقيع أربعين من وجهاء التجار الشيعة على اختيار شخصية برسي كوكس لحكم العراق، والذي كان وزيراً ممثلا لبريطانيا في إيران.
المرجع الشيعي في العراق يوحد الخط باتجاه إيران
هنا تصرف مرجع الشيعة الأكبر الإيراني محمد تقي الشيرازي بذكاء فأصدر فتوى بتحريم وجود حاكم للعراق غير مسلم. وأعلن عن رغبته بأن يكون العراق تحت حكم ملك عربي، ويقصد بذلك ملكاً أو أميراً من الأشراف، وكانت مراسلات سرية جرت بينهما([12]). كانت هذه الفتوى الذكية المقدمة لثورة العشرين. وقد استثارت عواطف السُنة الذين لا يدرون - وما زالوا - كيف تجري المياه من تحت أرجلهم، فقاموا بتأييدها، وصار للمرجع الشيعي بينهم قبول ونفوذ واسع.
الطائفة لا الوطن هو المحرك
هذا هو دأب الشيعة دائماً وأبداً: فعندما يُحكمون من قبل غيرهم: يتآمرون مع كل أحد ضد حكامهم ودولهم، فإذا تمكنوا من الحصول على هدفهم بإقامة الدولة الشيعية أظهروا الوطنية وصاروا يلتمسون سبل الخلاص من أصدقائهم. وهذا ما فعلوه بالعراق اليوم: تآمروا على العراق مع كل المخابرات العالمية وأدخلوا الأمريكان إليه، فلما تهيأت لهم الظروف عبر تغلغلهم في الدولة وتسهيل تسلل إيران لمفاصل البلد، طالبوا برحيل المحتل ليكون الأمر لهم خالصاً، ويبيدوا أهل السنة.
وهذا ما سبق أن حصل في لبنان اشتركوا بذبح الفلسطينيين، ونثروا الورود لدخول إسرائيل، وعندما خرج الفلسطينيون وصفا لهم الجو، وأصبح لهم نفوذ تنافسهم عليه إسرائيل ادعوا الوطنية وتحرير الأرض.
النوايا الحقيقية للشيعة من وراء ثورة العشرين
لم يتفق الباحثون على أهداف ثورة العشرين الحقيقية، وعن الدوافع الخفية وراء التحركات لجميع الشرائح والفصائل المساهمة بها.
كان عامة المشاركين فيها هم أناس بسطاء وفلاحون كان هدفهم العام سامياً، ألا وهو التخلص من الإنكليز كمحتل بغيض، سواء كانوا سنة أم شيعة، فالشعور الفطري لكل البشر - فضلاً عن المسلمين - لا يتقبل المحتل. وبالرغم من أن العراقيين جميعاً تحملوا ظلم واستبداد العثمانيين وسياسة التتريك الظالمة وإهمال العثمانيين لأمم الإسلام حتى صارت أمم العرب والمسلمين أمماً متخلفة. إلا أن هذا لا يحمل العامة على قبول المحتل.
كانت البوصلة المحركة للشيعة ممثلين بمراجعهم، خصوصاً بعد موت كاظم اليزدي، هي مخاطر نفوذ بريطانيا في إيران؛ فإن الأمور الاقتصادية والاجتماعية لمجتهدي الشيعة في كربلاء والنجف كانت تدار من قبل إيران.
لقد تعاظم النفوذ البريطاني في إيران حتى أحس المراجع الثلاث الكبار (الشيرازي، الأصفهاني، إسماعيل الصدر) بالقلق من مستقبل التشيع وحاضنته إيران فهي البلد الوحيد الذي تشيع منذ قيام الدولة الصفوية إلى يومنا، كما أنه يهدد كيانهم كمراجع ويزعزع مكانتهم ونفوذهم على التشيع، وبوصلة التشيع كلها تدور مع إيران سلباً وإيجاباً([13]). اتخذ هذا النفوذ المتزايد اتجاهات شتى خاصة على الصعيد الاقتصادي، ففي عام 1919 نشرت تفاصيل اتفاقية الإنكلو– إيرانية المقترحة التي وعد البريطانيون بمقتضاها منح إيران قرضاً بمليون جنيه إسترليني، كما منحت إيران بريطانيا حق احتكار تزويد السلاح لإيران.
كان البريطانيون يدركون مكمن قوة المراجع؛ ولذلك سعوا بالفعل للسيطرة على مصادر تمويلهم، وكان عدد كبير من السادة (المنتمين بنسبهم لآل البيت) يعتاشون على أعطيات العشائر العراقية مرتزقة باسم الدين؟!
فأحس هؤلاء المراجع والسادة أن النفوذ البريطاني يشكل خطراً على تواجدهم، وأن محاولة بريطانيا تمدين العشائر وتحضيرهم سيؤدي بمواردهم إلى النفاد.
اجتمعت عندها مصلحة السادة العرب (المرتزقة)، ومصلحة المجتهدين الإيرانيين (مصلحة إيران) ضد مصالح الإنكليز فحرضوا على الثورة من أجل بقاء مكانتهم كما هي([14]). فكتب هؤلاء الثلاثة رسالة إلى رئيس وزراء إيران يحثونه على عدم توقيع اتفاقية مع بريطانيا، ما يظهر حجم تأثير مراجع الشيعة داخل إيران فدبروا نقل المشكلة للعراق، عبر تحريض الناس ضد الوجود البريطاني في العراق؛ وظف هؤلاء الدين ضد بريطانيا باعتبارها مسيحية وباعتبارها مستعمرة، وحركوا عواطف الشيعة لحماية المراقد – مع أن البريطانيين لم يقتربوا منها – كما وظفوا دخول بريطانيا لفلسطين وغيرها من بلدان العرب([15]).
وثمة هدف وحلم كبير كان يراود الشيعة في العراق وهو استغلال الفراغ الناجم عن نهاية الدولة العثمانية، لظهور دولة شيعية دينية في العراق.
وفعلاً تم عقد مؤتمر في النجف للعديد من شيوخ العشائر وعلماء الشيعة لتحقيق إنشاء (حكومة دينية تقوم على أحد المبادئ الأساسية للمذهب الشيعي) على غرار ما نادى به المجتهدون المؤيدون للدستورية خلال الثورة الإيرانية ([16]). فكيف بعد ذلك يدعي المتحذلقون من أمثال حسن العلوي وغيره أن الشيعة ما كانوا يريدون قيام دولة شيعية؟!
مشروعان للشيعة في وقت واحد
ثمت حركة أخرى نشأت داخل الشيعة تساند الأشراف سواء عبد الله بن الحسين أو فيصل بن الحسين. لكن مشروع الأشراف كان هدفه أوسع من الطائفية. فالأشراف سُنة ولا بد من أن يكسبوا العراقيين جميعاً فدعوا إلى الوحدة بين السنة والشيعة من أجل استقلال العراق لا من أجل دولة شيعية. وكان مؤيدو الأشراف من الشيعة جلهم من أدباء وأمثالهم، ونشاطهم كان في بغداد والنجف وكربلاء، ولعل حداثة عهدهم بالتشيع أبقى شيئاً من العروبة في جذورهم مالت بهم شيئاً ما إلى الأشراف، هذا مع ضغوط الانجليز، والطمع في الاستفادة من الوضع، ووجود استقطابات داخل الشيعة حول عدة شخصيات رشحت للمُلكطك شيعية وسنية. المشكلة أن الكثير يجنح إلى النظرة الأحادية فيحصر الخيار في سبب واحد.
كانت لهجة العروبة أعلى من الصوت الإسلامي عند جماعة الأشراف، وكان الشعراء والخطباء هم من يروج لهؤلاء، مستغلين المناسبات الدينية كرمضان والمولد النبوي أو العزاء الحسيني، والتهب العراق بأسره ضد بريطانيا، ولم تستطع بريطانيا إيقاف الهيجان الجماهيري في العراق، وبدأ الهيجان ينتشر من مكان لآخر في مناطق السنة والشيعة كالنار في الهشيم. وكانت كل الأمور في البداية هي مظاهرات سلمية لتحقيق مطالب قيام حكومة جديدة بقيادة ملك عربي.
استغل الشيرازي هذا التوجه فسعى بطرقه الخفية لتحريض العشائر للثورة. لكن الاستجابة له كانت ضعيفة. فالعشائر الصغيرة التي أحست أن مصالحها المعيشية ستضرب بسبب الثورة، حثوا الإنكليز على إخمادها، بيد أن شيوخ العشائر الكبيرة استغلوا ضعف الإنكليز الذين سلبوا كثيراً من سلطاتهم عند احتلالهم للعراق فانضموا للثورة نكاية بالإنكليز.
اندلعت الشرارة الأولى في الجنوب في 30 حزيران وانتشرت لكن الشيرازي مات بعد شهرين، فتلاه شيخ الشريعة الأصفهاني الساكن في النجف وأصبحت الثورة تدار من النجف ولكن بعد ثلاثة شهور استطاع الإنكليز إيقاف الثورة بذكاء بالفصل بين مطالب فيصل والشيعة .
نتائج الثورة
قرر الإنكليز تتويج فيصل ملكا على العراق ولكن بعيدا عن الشيعة، ورضي فيصل بهذا فقد حقق هدفه، وفشل مخطط المراجع لطرد الإنكليز وتولي أمر العراق بيدهم من النجف. قال مسؤول بريطاني معلقاً على ذلك: (إن للأجيال اللاحقة من ساسة العراق أن يقدروا الجميل الذي يدينون به للبريطانيين في إنقاذهم من النجف)([17]).
لقد كان هدف الشيعة هو السيطرة على الحكم في العراق بواسطة المرجعية، ولكنهم بلطف الله فشلوا في ذلك، ولو حاولت أن تتخيل الشيعة وهم يسيطرون على مقاليد الحكم في العراق آنذاك ماذا كانت ستكون أحوال اليوم في المنطقة! إذن لكان همهم وهدفهم تشيع كل العراق بكل الوسائل، بالتهجير والقتل والذبح، كما فعلوا عندما سلمهم الأمريكان مقاليد الحكومة بعد الاحتلال.
هذه هي حقيقة الشيعة إذا تمكنوا: لا يستطيعون العيش مع الآخرين. وها هي إيران فيها أكثر من 20-35% من أهل السنة فأين هم؟ وأين حقوقهم؟ لكن الله سبحانه حمى العراق وأهله من كيد المراجع الذين اتخذوا من ثورة زعموا أنها للعراق ولكنها في الحقيقة لمصالحهم.
لم يكن هدف الإنكليز إقصاء الشيعة كشعب بل إقصاء المراجع الدينية فهم أصل البلاء. ومن لم يصدق ما أقول فلينظر ماذا فعلوا بالعراق اليوم، وقفوا حجر عثرة أمام استقلاله، وأحاطوا حتى العشائر الشيعية بعصابات بدر والمهدي حتى تكتمل السيطرة لهم!
اختار الإنكليز عبد الرحمن النقيب كرئيس للوزراء تحت حكم المندوب السامي بعد أن عرضوا ذلك على المجتهد اليزدي عند أول احتلالهم للعراق فرفض[18]!
وقد كان النقيب رافضاً بشدة تسلم رئاسة الوزارة، ولم تنفع معه الوساطات العديدة. لكن برسي كوكس اجتمع به فأقنعه. ولا أحد يدري كيف. إلا أن الوردي يشير إلى أنه تقبل أهون الضررين بالنسبة له: فإما يكون هو على رأس الوزارة، وإما تسلم إلى جهات لا يرضى بها النقيب مطلقاً.
المقاطعة التامة للحكومة استراتيجية الشيعة لتكوين دولة شيعية في العراق
عندما توج فيصل ملكا للعراق كان عليه أن يشكل وزارة وكان هوى فيصل مع الشيعة. فطلب من الشيخ عبد الواحد سكر الذهاب للنجف لحث المراجع وعلماء الشيعة على تولي تشكيل الوزارة الجديدة قطعاً للطريق على الانجليز أن يولوها النقيب. إلا أن العلماء قابلوا دعوة الملك وعبد الواحد سكر بالاستهجان والرفض، إلى الحد الذي أحرج الحاج سكر نفسه، فلم يعد الحاج إلى الملك، بل بعث له رسالة مجاملة يبلغه فيها اعتذار العلماء عن المشاركة في الحكم؛ لإنهم يريدون تكوين حكومة عراقية لينسقوا دورهم الجديد بعيدا عن سيطرة الإنتداب. لقد كان قادة الشيعة يظنون أن أمر العراق لا يسير إلا بهم فاستغلوا ذلك وحرموا على الشيعة التوظف في دوائر الدولة ولسان حالهم يقول: هذا أو الطوفان! أو كما قال الشاعر : إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
قام الشيخ الخالصي بعد سنة من مبايعة الملك بسحب البيعة منه علناً ومعارضته بقوة، وأصدر في عام 1921 فتوى حرم فيها قبول أي منصب حكومي معتبراً ذلك عملاً من أعمال التعاون مع الكفار. وفي الوقت الذي أفتى علماء الشيعة بتحريم الدخول في وظائف الدولة والتطوع جنوداً في جيشها كان الخالصي يفتي بدفع أموال (الخمس والحقوق الشرعية) إلى الجيش الإيراني!
لم يتوقف جهد المراجع عند رفض المشاركة أو المساهمة في تشكيل الوزارة، بل تعدت جهودهم إلى حد أنهم حرموا التعامل مع البنوك والمصارف العامة والمحاكم، على اعتبار أنها دولة غير إسلامية، وأن أموالها التي تقدمها كرواتب هي أموال محرمة؛ لأنها بالأصل من ضرائب غير شرعية، خاصة تلك التي تستوفى كضرائب من أماكن اللهو، والمكوس على الخمر. كما حرموا الدخول في مدارس الدولة، وهي المفتاح للعمل في مؤسساتها المختلفة؛ على أساس أنها تعلم العلوم غير الشرعية التي يمكن أن تؤثر على إيمان الطفل وتبعده عن دينه. وظلت بعض هذه التحريمات قائمة وسارية المفعول إلى نهايات الخمسينيات وأواسط الستينيات من القرن المنصرم، بعد أن خرج الأمر عن طوع المراجع، وتوجه الشباب من الشيعة نحو الوظائف الحكومية غير آبهين بتلك الفتاوى، فتم تجاوز تحريم الراتب، وذلك بحيلة شرعية تستند إلى أن هذه الأموال مجهولة المالك، بما يعني جواز استلام الراتب الشهري. ويبدو أن بعض المراجع لا يريد أن يمرر هذه الفرصة دون الاستفادة منها، فأفتوا بوجوب تطهير هذه الأموال أو الرواتب المستلمة من الحكومة عبر تخميسها وتقديم ما يسمونه بـ(الحقوق الشرعية) منها للمراجع!
لا نعتقد أن اعتماد رجال الدين والمراجع على الهبات العامة من أنصارهم ومؤيديهم هو العامل الوحيد الذي يقف وراء محاولة عزل الشيعة عن الدولة القائمة آنذاك، بل هوية المراجع الشيعية التي كانت في الغالب تنحدر من أصول ايرانية سبب أصيل في ذلك.
وهي إما أنها تعكس سياسة عامة متفقاً عليها لاستلاب شيعة العراق من هويتهم العربية، أو أنها تعود إلى عامل سيكولوجي خاص يعود إلى حالة الشعور بالغربة من قبل المرجع في بيئة بعيدة عن بيئته (إيران)، فيمضي لا شعورياً وراء عملية العزل هذه في اندفاعة مستبطنة للامتزاج بما حوله بعيداً عن محيطه العربي، تخلصاً من مشاعر الغربة هذه. وبما يحقق لهم السيطرة على أبناء الطائفة، والاستقواء بهم على الحكومة([19]).
وفي أول انتخابات نيابية أجريت في العراق أصدر الشيخ مهدي الخالصي وعلماء النجف وكربلاء بتاريخ 8 تشرين الثاني 1922 بياناً يقول: "إن المساهمة في الانتخابات أو أية عملية تماثلها مما قد يعرض ازدهار العراق في المستقبل للخطر فحكمه حرام بموجب الشرع الإسلامي والقرار الإجماعي للمسلمين"([20]).
وأكد العلماء الكبار الثلاثة الأصفهاني والخالصي والنائيني موقفهم في بيان آخر يقول: "نعم قد صدر منا تحريم الانتخاب في الوقت الحاضر لما هو غير خفي على كل باد وحاضر، فمن دخل فيه أو ساعد عليه فهو كمن حارب الله ورسوله وأولياءه"([21]).
[1]- شركة دار الوراق للنشر المحدودة، الطبعة الأولى، 2007. أما الاقتباسات المصورة فاعتمدت فيها على نسخة سحبتها من الانترنت، واعتمدت في ترقيمها على نسخة دار الوراق المطبوعة .
[2]- السياسي هو الأستاذ طارق الهاشمي، والقائل بوطنية عائلة الحكيم هو الدكتور محسن عبد الحميد.
[3]- للحديث صلة. وقد هيأته من بحث كتبته قبل أربع سنوات.
[4]- جريدة (الشرق الأوسط) ، لقاء مع الأمين العام الأسبق لـ"حزب الله" الشيخ صبحي الطفيلي في (7/2/2004).
[5]- عراق بلا قيادة ، عادل رؤوف (شيعي من حزب الدعوة من أتباع الصدر) ص266-267. نقل المؤلف هذه العبارات عن خطاب لحسن نصر الله منشور في كتاب باسم (سجل النور) ص227 صادر عن الوحدة الإعلامية في حزب الله .
-[6] شيعة العراق ، ص170-171 ، إسحاق نقاش ، ترجمة عبد الإله النعيمي ، دار المدى للثقافة والنشر ، الطبعة العربية الأُولى ، 1991 ، دمشق ، بيروت.
[7]- في الحلقات الماضية ذكرنا سر تحرك مراجع الشيعة ضد الانجليز في العراق؛ وذلك لسببين هما: 1. تخفيف الضغط عن إيران التي كانت تحت هيمنة الانجليز 2. وتوصلاً لتكوين دولة شيعية في العراق يحكمها المراجع. وقد سلكوا لذلك الخطين المعروفين في السياسة الشيعية والإيرانية: خط يوالي وخط يعارض بناءً على قاعدة (تعدد أدوار ووحدة هدف).
[8]- الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية لعلي البزركان (44-48)، تاريخ الحلة ليوسف كركوش الحلي (1/160).
[9]- شيعة العراق، إسحاق نقاش ص108.
[10]- وذلك في 9/3/2008 إذا اعتمدنا تاريخ نشر البحث في مجلة الراصد. انظر الرابط التالي:
http://alrased.net/main/articles.aspx?selected_article_no=4762
[11]- الكاتب الشيعي حسن الأسدي في كتابه "ثورة النجف" (ص223). وصف هؤلاء المراجع بقوله: "إن هؤلاء عمائم عملاء لشدة ولائهم للإنكليز".
[12]- كربلاء في التاريخ لعبد الرزاق الوهاب ( 48-51 ).
[13]- لمحات اجتماعية، علي الوردي ( 5/110-111)
[14]- حنا بطاطو
[15]- تجربة الثورة الإسلامية في العراق لأحمد الكاتب (12-20-21-24 )
[16]- شيعة العراق لإسحاق نقاش (121)
[17]- شيعة العراق (127 )
[18]- المرجعية الشيعية والسياسة في العراق، 2004.
[19]- انظر مقال الشيعة والحكم في الدولة العراقية الحديثة للدكتور موسى الحسيني
[20]- خالد التميمي، محمد جعفر أبو التمن ، ص 188.
[21]- حسين الشامي، المرجعية الدينية ، ص 102.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق