الاثنين، 29 فبراير 2016

الهوية الخاصة والهوية العامة



تعدد الهويات
يرى كثيرون أن الانتساب للسنة والاحتماء بالهوية السنية نوع من الطائفية يتناقض مع الهويةالعراقية. وهذاكلام غيردقيق، لا يستند إلى أساس علمي سوى الثقافة القديمة التي ما عادت تلبي حاجة التطورات الجديدة والتغيرات والتبدلات السياسية والاجتماعية. بل تحولت إلى عبء ثقيل، علينا أن نبادر إلى مراجعته والنظر فيه كي نطرح جانباً الضار منه، وما لم يعد نافعاً، وما لسنا في حاجة إليه، ونبقي على ما سوى ذلك، ثم نضيف إليه ما يتطلبه الواقع الجديد بمتغيراته وتبدلاته.
إنالهوية العامة أو الأكبر - متى ما روعيت الضوابط المطلوبة - ليست في حاجة إلىإلغاءالهوية الخاصة أو الأصغر: فالهوية الشخصية لا تتعارض مع الهوية العائلية، والتحدث باسم العائلة لا يتناقض والانتسابَ إلى العشيرة، والهوية العشائرية لا تقف بالضد من الهوية الوطنية، إلا إذا خالفنا الضوابط المرعية. أي إن الأمر من حيث الأصل لا إشكال فيه. وهكذا يمكن أن تتعدد الهويات ما دامت ماضية في نسق متجانس باتجاه واحد: فالهوية العراقية لا تتضارب مع الهوية العربية، وكذلك الهوية العربية مع الهوية الإسلامية.
والناظر في الواقع يجدنا نؤمن بكل هذه الهويات ولا نشعر بالحرج من الجمع بينها، حتى إذا وصلنا إلى (الهوية السنية) بدأ مؤشر التناقض مع الهوية العراقية بالظهور على لوحة الأمان! ولا علة لهذه المفارقة الغريبة سوى الموروث الثقافي الجمعي أو الثقافة الجمعية القديمة.
حين يعمل أبناء العراق لمصلحة العراق، ويتكلمون باسمه، ويرفعون علماً خاصاً به، ويسنون دستوراً له، ويؤسسون المشاريع المختلفة لخدمته: لا يمكن لأحد أن يدعي أن هذا يتناقض مع الهوية العربية.. إلا إذا كان القصد مبيتاً لجعل الهوية القطرية عوضاً عن الهوية القومية. وكذلك العمل لأجل الأمة العربية وباسمها لا يقف حائلاً أمام العمل للأمة الإسلامية. بل إن هذا هو السياق الصحيح والتسلسل الطبيعي للأمور خصوصاً ما تعلق منها بالحركة والعمل. وهكذا الشأن مع العراقي غير العربي في ارتباطه بهويته القومية الخاصة به، والإسلامية التي تجمعه مع بقية المسلمين. كل ذلك لا حرج فيه.
صحيح أن الهوية الإسلامية أعلى مرتبة من الهوية القومية، وهذه أعلى من الهوية الوطنية. ولكن هذا من الناحية الاعتبارية الذهنية. أما من العملية فالبدء لا يكون إلا من المحلية باتجاه العالمية، فالله تعالى يقول: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال:75). فما كل أول في المرتبة أول في الترتيب، ولا كل أول في المنزلة أول في التنزيل.
ولذلك قيل: (فكّر عالمياً وتصرّف محلياً). فالمحلية لا تتناقض مع العالمية، وإنما تُسندها وتساندها. بل إن نجاحك عالمياً لا يمكن تحقيقه قبل نجاحك محلياً. والقطر الضعيف المجزأ لا يمكن له العمل على توحيد الأمة - خارج نطاق الفكر والحلم - قبل لملمة أجزائه وإعادة تكوين ذاته واستعادة قوته. وفي مثل هذه الحالة يكون التوفيق بين الهويتين باتباع قاعدة: (فكر عربياً وتصرف قطرياً) هو الحل.

فكّر عراقياً وتصرّف سنياً
كذلك الحال بالنسبة لنا نحن (السنة العرب): علينا أن نتصرف سنياً أولاً إن كنا جادين في التفكير عراقياً. بذلك نجمع بين الأمرين. وهكذا نتجنب ما يبدو لأصحاب الثقافة القديمة من تناقض بين (السنية) و(العراقية). بل لا تناقض من الأساس كما أنه لا تناقض بين العراقية والعربية، ولا العربية والإسلامية، ولا هذه مع الإنسانية. بل لا يمكننا أن نشارك في تدعيم وحدة العراق المهددة قبل أن نلتفت إلى داخلنا السني نلملمه ونكونه ونقويه. هذا مع ملاحظة أن الشيعة لا يمكن التعايش معهم حتى وإن كانت القوة بأيدينا؛ فإن دوام الحال من المحال، فلا بد من عزلهم فدرالياً على الأقل. هذا في الوقت الحاضر. ثم لكل حال ما يناسبه.

بين السنية والوطنية
جمعتناليلة رمضانيةمع بعض القوميين، وكان اعتراضهم أن السنية تحجيم للعراقية، كيف نهتم بشأن السنة ونترك العراق كله؟ قلت لهم: منذ زمن طويل ونحن لا نسمع منكم غير كلمة "العراق العراق"! فأين الأمة العربية من اهتمامكم؟ فلنا أن نقول لكم بالمنطق نفسه: إن العراقية تحجيم للعربية، كيف نهتم بشأن العراق ونترك العرب كلهم؟ فأجاب أحدهم: ألا ترى حال العراق من التمزق والضياع؛ لا بد من علاج وضع العراق أولاً ثم نلتفت إلى الأمة. فأجبته: وكذلك الأمر مع أهل السنة؛ لا يمكن لنا أن نعالج وضع العراق أو نكون مشاركين فاعلين فيه ما لم نصحح وضعنا نحن السنة أولاً، ثم من بعد ذلك نلتفت إلى العراق.
لقد ضيع الإسلاميون العرب، وضيع القوميون العراق! أتدرون لماذا؟ لأنهم يعملون ضد منطق الاجتماع، فينطلقون من العالمية إلى المحلية، بينما المنطق يقتضي العكس من ذلك. عملياً لا يكون الانطلاق مجدياً ما لم يكن من المحلية إلى العالمية. ثبّت قدمك أولاً ثم انقل خطوتك. وهكذا ضيع الطرفان المحلية والعالمية. فالإسلاميون لا يهمهم شأن العرب بقدر ما يهمهم شأن المسلمين، فضيعوا العرب والمسلمين معاً. وأما القوميون فلا يهمهم شأن العراقيين بقدر العرب فشغلوا أنفسهم وغيرهم بقضايا لم يأن أوانها بعد فضيعوا العراق والعرب معاً. ويأتي الوطنيون اليوم ليضيعوا السنة باسم الوطن! هذه مهزلة ما عادت مقبولة، ولن نتسامح معها قط. إنهم يقعون في المأزق نفسه: لا يهمهم شأن السنة بقدر العراق، فتكون الوطنية على حساب السنية، والنتيجة تضييع الجهتين. يكفينا تجربة القوميين والإسلاميين أيها الوطنيون! يكفينا مئة عام من الضياع.
وكان معي صاحب لي فأضاف: إذا كنتم كعلمانيين لا يهمكم أمر الدين وتعتبرون السنية طائفية، فهذا شأنكم. أما نحن فناس إسلاميون سنة فلا نسمح بالاستهانة بديننا وسنيتنا تحت أي حجة أو ذريعة.

حين تكون الهوية الخاصة مهددة من الهوية العامة
هناك عامل آخر في غاية الأهمية، هو أن الشعور بالهوية الخاصة والتحدث باسمها والتصرف على أساسها، يصبح ضرورة كضرورة الحياة حين تكون الهوية الأكبر نافية ومهدِّدة للهوية الأصغر. فلو افترضنا أن عائلة ما اجتمعت على ظلم أحد أفرادها، وكانت تتوزع خيراتها - التي تحصل عليها باسم العائلة - فيما بينها دونه، ففي هذه الحالة يصبح من حق ذلك الفرد أن يعلن عن نفسه ويتكلم باسمه، ويطالب الآخرين أن يفرزوا له باسمه الخاص حصته من الخيرات التي ما عاد يحصل عليها باسم العائلة العام. وكذلك لو اجتمعت عشيرة على ظلم بيت منها. والشيء نفسه مطلوب لو اجتمع مكون أكبر على ظلم عشيرة ومطاردتها ومحاولة محوها.. عند ذاك يصبح ترك الدفاع عن المكون الأصغر بحجة احترام المكون الأكبر نوعاً من الهبل والخبل والسذاجة التي لا يستحق صاحبها الاحترام، بل لا يستحق الحياة! ولو افترضنا أن العشيرة الظالمة لتلك العائلة وقع عليها ظلم وتعرضت لغزو أصابها بالضرر وطالبت بتعويض لها باسم العشيرة، وزعته على بيوتها دون ذلك البيت، وأن أفراد ذلك البيت طالبوا بتعويض العشيرة الظالمة لهم دون المطالبة بما لبيتهم من حصة باسمه، ثم لم يحصلوا على شيء، ومع ذلك ظلوا ملتزمين بالاسم الأكبر مع استمرار الظلم والسحق: فإن هؤلاء ليسوا أكثر من قطيع حمقى لا محل لهم إلا في الهامش السفلي من الحياة.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق