الاثنين، 29 فبراير 2016

الدكتور طه الدليمي: الصراع بين الشيعة والسنة صراع ديني وليس طائفيا


قصة الإسلام


الصراع الديني آخذ بالتصاعد في الآونة الأخيرة، وتنوعت صوره وأشكاله؛ فمنه على شكل احتلال إقصائي استيطاني إجلائي، ومنه نفوذ في شرايين الحياة يرمي إلى إبادة وتصفية دموية وفكرية وسياسية واجتماعية تهدد الوجود مثلما تهدد الهوية العربية والإسلامية.. ويسرُّ مجلة البيان أن تستضيف عَلَمًا من أعلام هذا الصراع تجمعت فيه فروسية المنافحة بالحجة والبرهان، إنه الشيخ الدكتور (طه حامد الدليمي)، المشرف العام على موقع القادسية، الذي بادرنا بالتعبير عن سعادته وحبه قائلاً: "يسعدني أن ألتقيكم في مجلتكم الرائدة".

** يصنف بعض المتابعين التصعيد الطائفي على أنه مخالف لسنة الله تعالى في التعايش والتعارف، كيف توفِّقون بين هذا التصعيد وسُنة التعايش والتعارف؟ وهل تصنفونه ضمن سُنَن التدافُع؟

- هذا يؤكد الحاجة إلى مراجعة المفاهيم. يبدو أننا نتحرك في ركامٍ منها ما أحوجه إلى تصفية وتنحية وإضافة لإعادة البناء على عناصر سليمة. فتسمية التصعيد أو الصراع بين الشيعة والسنة بـ(الطائفي)، هو برأيي خطأ فكري وعقائدي مِفْصَلي أو أصولي، والصحيح تسميته بـ(الصراع الديني)؛ فما بين الشيعة والسنة (عقيدةً ودينًا وعلاقةً) أشد وأبعد مما بين اليهود والعرب. وتسمية الأشياء بمسمياتها ليست فنًّا إنشائيًّا ولا ترفًا فكريًّا، بل هو في صلب الأمر (مفهومًا وبناءً). فما يُبنى على مسمى (الصراع الطائفي) يدخل ضمن ما يبنى على مفهوم (الفتنة). أما ما يبنى على مسمى (الصراع الديني) فيدخل في باب (الجهاد). وهذا كله متفرع عن: هل التشيع والتسنن دين واحد أم دينان؟

أما (التعايش) الشيعي السني فنفهمه على أنه عَقْد اجتماعي له طرفان، هما: (الشيعة والسنة). وإذا كان العقد -أيُّ عقدٍ بين اثنين- يبنى على موافقة الطرفين شرطًا أو ركنًا، فإن تخلُّف موافقةِ أيٍّ منهما ناقض لماهية العقد. والآن نسأل: هل لدى الشيعي استعداد للتعايش مع (الآخر)؟ أم أن الشيعي كـ(اليهودي) لا ينظر إلى علاقته بالآخر إلا على أنها علاقة وجود لا حدود؟ وما حصل في العراق ولبنان وسورية والبحرين والكويت وإيران شاهد على أن التعايش لم يكن إلا من طرف السُّنَّة فقط؛ فحين يحكم السُّنة ينمو الشيعة في ظلهم ليكوِّنوا (دولة داخل دولة)؛ حتى إذا سيطروا بدءوا باجتثاث السُّنة!!

إن الشيعي ملغوم بشيئين: عقدة وعقيدة، وثالثة أخرى: مرجعية إيرانية تقوده باتجاهين: مخالفة وإلغاء الآخر، والتوجه نحو إيران قبلةً وانتماءً وخدمة. فعقيدة الشيعي توجب عليه -بعد تكفير السُّنة- وجوبَ قتلهم وسلبَ مالهم متى ما قدروا على ذلك. وأما العِرض فيؤجل إلى حين مجيء المهدي المزعوم، غير أنهم يمارسون انتهاكه عمليًّا. كيف إذن يمكن تحقيق التعايش مع فصيل من الناس بهذه العقائد المتخلِّفة؟ فإذا أضفتَ العُقَد النفسية الجمعية -ومنها المظلومية والحقد والشك والغدر واللؤم ضمن عشرين عقدة أحصيتها في كتابي "التشيع عقيدة دينية أم عقدة نفسية؟"- تبين أن سنة الله تعالى في التعارف والتعايش قد عطلها الشيعة بأنفسهم.

إن السنن كلها مشروطة بشروط ومقيدة بقيود، إن لم تتوفر باتت لوازمها لاغية من الأصل؛ فوثيقة التعايش التي كتبت بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود لم يلتزم بها الطرف المسلم من جانب واحد بعد أن نقضها الجانب الآخر. والله تعالى يقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 60-62].

هذه هي (سنة الله) في التعايش مع السفهاء الذين لا يردعهم رادع من عهد أو خُلُق أو رعاية لمصلحة. وهم ثلاثة أصناف: (منافقون، ومرضى قلوب، ومرجفون). وعندما نرجع إلى الآيتين اللتين سبقتا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 57-59]؛ نفهم أن هذه (سُنة الله) التي لا تتبدل في التعامل مع من آذى النبي في أهله (أزواجًا وبناتٍ)، وآذى المؤمنين في مثل ذلك. فأين تضع الشيعة بالنسبة لحكم هذه الآيات؟

أرى أن المسلمين في حاجة إلى (قراءة) مفاهيمهم.

أما التدافع فهناك عدوَّان للمسلمين: الكفار والمنافقون، وكلاهما يجاهَدون بإحدى الوسيلتين (السلمية والعسكرية) حسب الحال. وما يُعرَف من الحكم للمنافقين بأحكام المسلمين، فهذا إنما في حال ما لم يظهروا نفاقًا، أو يحدِثوا حدثًا. والآيات السابقة دليل. وليس السِّلم مع المنافقين حُكْمًا مُطلَقًا في كل حال. ولذلك تفصيل ربما يخرجنا عن السياق.

** إن مواجهة الصراع العقائدي مسوَّغ شرعًا وعقلاً. أما كون الصراع الطائفي أساسه عقدة وليس عقيدة، فهذا أمر يقتضي التفصيل والتأصيل؟

- العراق (مطبخ التشيع)؛ فمركز وبؤرة التحدي الإيراني والشيعي في هذا البلد المبتلى على مرِّ التاريخ بهذا التحدي منذ عصور ما قبل الإسلام وإلى اليوم. وعليه فإن (التجربة العراقية) غنية، بل هي أغنى التجارب طرًّا، وأنضجها. مما أضافته التجربة العراقية -بسبب حدة التحدي وضراوته- البعدُ النفسي الجمعي للصراع الشيعي السُّني. التشيع ليس مشكلة فكرية حتى يعالَج بتصحيح الفكر وحده. ليس هو (سوء فهم) إنما هو (سوء قصد)، كما يقول الأستاذ علاء الدين البصير. خذ مثلاً الكذب عند الشيعة: ليس هو رذيلة يشعر بها صاحبها ويتألم منها حتى يكون ثمة أملٌ في أن يدعها يومًا. إن الشيعي يمارس الكذب على أنه فضيلة دينية يؤجر عليها، وحالة اجتماعية صحية ينتفع من ورائها.

انظر إلى وجه السُّني حين يكذب، ترى وجهه يتغير، ولسانه يتلعثم، وحركات يده تختلج. لكن جرّب أن تنظر إلى وجه شيعي عندما يعبر عن هذه الطبيعة النفسية المتأصلة فيه: لا شيء من ذلك تراه! ثم إن كذب الشيعة من النوع الذي قيل عنه: إن رجلاً قال: إن لأبي قِدْرًا عثر به ثور هائج فضاع في جنباته، وظلوا يبحثون عنه فلم يجدوه إلا بعد ثلاثة أيام رابضًا في زاوية من زواياه. فقال آخر: وأبي غرس بذرة يقطين على شاطئ بحر فخرجت منها ثمرة كبرت وكبرت حتى غطت سطح البحر، وعبرت إلى شاطئه الآخر فاتخذها الناس جسرًا يعبرون عليه. فأجابه الأول: ألا ما أكذبك! هلا أخبرتنا في أي قدر يمكن أن توضع وتطبخ؟ فقال: في قدر أبيك الذي ضاع فيه الثور فلم يجدوه إلا بعد ثلاثة أيام!

عندما يقول معمَّم مثل هادي المدرِّسي (والمقطع في اليوتيوب): إن اليمن شيعية، والسعودية أغلبية شيعية، نعم أغلبية شيعية وأقولها بالفم المليان. وعندما تعلن قناة (العالم) الإيرانية أن ثمانية ملايين سيارة (شيعية) خرجت للتظاهر في شوارع البحرين في ما أسموه بـ(طوق الكرامة)، والحقيقة أنه ولا سيارة واحدة (وقد شهدت ذلك بنفسي). ماذا نسمِّي هذا؟ إنَّ هذا -حسب الوصف الطبي، وأنا طبيب- عقدة متأصلة وليس خَصلة طارئة. عقدة نتجت عنها عقائد وسلوكيات لا تعالج بالوسيلة الطبيعية التي تجنح إلى ملاحظة الفكر وتصحيحه. إنها عميقة الغور في التركيبة النفسية الجمعية؛ بحيث تمارَس طِبقًا للاوعي الجمعي.

صراعنا مع الشيعة ليس من النوع البسيط؛ إنه من النوع المعقَّد لابتنائه على عُقَد قبل أن يبنى على عقائد. إن هذا يحتاج إلى عقد ندوات لمناقشته ومدارسته وإقراره منهجيًّا لإضافته إلى منظومة المواجهة. وقِسْ عليه بقية العُقَد. التشيع عُقَد أنتجت عقيدة وفكرًا وسلوكًا، وليس العكس. التشيع عصيٌّ على الفهم والتفسير، بَلْهَ (المعالجة) دون فهم هذه المعادلة. وقد أتيت عليها في كتابي (التشيع عقيدة دينية أم عقدة نفسية؟).

** لقد كانت لكم مساهمات رائدة في مسألة الأغلبية والأقلية في المجتمع العراقي، كيف توفِّقون بين النظرة القرآنية لهذين المفهومين، والنظرة الواقعية وتداعياتها لا سيما السياسية؟ وهل نحن نعمل على أساس الكم أم النوع؟

- احتُل العراق في سنة 2003م بحجة إنقاذ مكوناته من اضطهاد (الأقلية السنية الحاكمة). مع دعوى عريضة بأن الشيعة يمثلون أغلبية المكونات في العراق، وجاء على لسان جورج بوش الابن أن نسبتهم 65%! وذكر الحاكم المدني بول بريمر في أكثر من موضع في كتابه (عامي في العراق) أن نسبة السنة العرب 19%، بينما أعطى لإخواننا الكرد نسبة 20%، بينما الحقيقة أن السُّنَّة العرب ينوف على عدد الكرد بأكثر من ثلاثة أضعاف. فتصور مدى الصفاقة!

وهي النسبة التي اعتادت عليها جميع التقارير الأمريكية التي تُرفَع لمراكز القرار! وأصل هذه الدعوى إحصائية مبتسرة قام بها الإنجليز سنة 1919م لا تصلح أن تسمى إحصائية؛ إنما هي عبارة عن (تخمين ورد في تقارير الحكام السياسيين البريطانيين عن إدارة مناطقهم في وادي الرافدين)[1]. وقد أشاع الإنجليز أثناء احتلالهم العراق هذه الأكذوبة؛ كي يثيرواالشيعة ضد السنة طبقًا لمبدأ (فرق تسد)، وتلقَّفها الشيعة منهم ليبنوا عليها أصل (مظلوميتهم). بينما الحقيقة هي أن الشيعة العرب لا يتجاوزون نسبة 35% من العراقيين.

وعندما تُحرَّف الحقائق وتزوَّر وتغطَّى إلى هذه الدرجة، ويكون الكذب من هذا العيار، ويُحتَل وطن على أساسه، ويُجتَث أهل العراق الحقيقيون تبعًا لذلك: لا بد من البيان مقارعة لدعاوى الباطل بدلائل الحق؛ وذلك باستعمال السلاح الذي شهروه نفسه. وقد استعمل أسلافنا هذا الأسلوب، فكثيرًا ما يرد شيخ الإسلام ابن تيمية على المبطلين مستعملاً من الحجج ما هو من جنس حججهم.

أما إذا أردت المقياس الشرعي للأغلبية والأقلية فليس هو هذا على وجه الدقة. إن الكثرة والقلة ليست هي المعيار في ترجيح كفة على كفة إلا في مسائل محددة، يقول تعالى: {إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]. ويقول أحد السلف: "الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدَك". فالأغلبية الحقيقية للحق وأهله مهما قلُّوا، والأقلية والصَّغار للباطل وأهله مهما كثروا، كما قال سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. وهذا هو مقياس المنطق والعقل، حتى إن نيتشه يقول: "أنا والحقيقة أغلبية"!

ونحن نقول: (البلد لمن يبنيه لا لمن يبغيه، وهو لمن يحميه لا لمن يشريه). نحن الذين بنيناه، ونحن الذين حميناه. أما الشيعة فشروه للأجنبي وخربوه من قبل أن يحكموه ومن بعد أن حكموه، إلا قلة قليلة منهم.

** يشير بعض المتابعين أن ما تقوم به بعض القنوات الفضائية إنما هو رد فعل على ما تبثه وسائل الإعلام الشيعية، ومعلوم أن ردَّ الفعل عادة يكون ضعيفًا ومحكومًا لا حاكمًا، كيف يمكن أن نكون مبادرين في صراعنا مع الصفويين؟

- قال لي صديق منذ عشر سنوات: يتهمك البعض بأن موقفك من الشيعة هو رد فعل على ما تعرضَّت له من أذاهم؟ فأجبته: وما الغرابة في ذلك؟ الميت هو الوحيد الذي لا ردة فعل له، وأنا حيٌّ بحمد الله. ليس المهم أن يكون دافع الحركة فعلاً أم ردَّ فعل؛ إنما المهم هو: هل إن حركتي في الاتجاه المضبوط وبالمدى المنضبط؟ أم تريد مني أن أظل جامدًا إزاء ما يجترحه الشيعة بحقنا من أذى قبل أن أحسم وصف حركتي: هل هي فعل أم رد فعل؟ هذا منطق غريب؛ فكيف وهم يحاربوننا وجودًا ودينًا وموقفًا؟ فكيف وهم يحاربون الله -جل في علاه- جهارًا نهارًا!

هذا إن كان ما نفعله ردُّ فعل. أما الواقع فبعض ما يصدر عنا ردُّ فعل على فعلٍ مقابل، وبعضه فعل يوجبه الدين، ويستدعيه الأهل والوطن. وهذا إنما يكون حين نعمل ضمن مشروع مبنيٍّ على فكرة صحيحة، وهدف واضح، ووسيلة صالحة للوصول، آخذين بنظر الاعتبار الإمكانات المتاحة، والظروف المحيطة. وبذلك نكون فاعلين مبادرين.

** الصراع الطائفي في العراق محطُّ جدل؛ فمنهم من يراه صراعًا سياسيًّا يوظف الدين والطائفة لكسبه، ومنهم من يراه صراعًا دينيًّا ومذهبيًّا يوظف السياسة لتغذيته وتصعيده حتى تتحقق الأهداف الدينية القائمة عليه؟ كيف تصنِّفونه في مشروعكم؟

- نحتاج إلى تحرير المعنى المراد بوصف (الطائفي) قبل الجواب؛ حتى نصل إلى النتيجة بعيدًا عن الخلط والضبابية:

فإن كان هذا الوصف تعبيرًا عن طائفة من البشر، فيبقى السؤال هو: ما الخصائص التي تميز طائفة عن أُخرى؟ ومن المقطوع به أن هذا غير مقصود.

وإن كان معنى (الطائفي) يعبِّر عن المذهبية الفقهية بمعنى أن الخلاف (الشيعي السُّني) خلاف فقهي فهذا باطل.

وإن كان للتعبير عن خلاف في العقيدة ضمن دائرة الإسلام الواسعة كالخلاف مع المعتزلة والأشاعرة وعموم المتصوفة فهذا غير دقيق؛ إذ التشيع دين كامل مناقض بالكامل لدين الإسلام بالكامل، وأوَّله تكفير المسلمين وأوَّلهم الصحابة، وقد أجمع علماء الأمة من المذاهب الأربعة دون مخالف على تكفير من كفَّر جمهور الصحابة؛ فكيف إذا أضفتَ إليه بقية الموبقات المكفِّرات؟!

هذا ما يتعلق بالتشيُّع دِينًا، فإذا أضفنا إليه ما يتعلق بالشيعة طائفةً معبأةً بهذه العقائد والشعائر والسلوكيات والعُقَد النفسية، وما يصدر عنها لذلك من عداوة واعتداء متعدد الأصناف والأوصاف، اكتملت الصورة وتبينَّ أن ذلك الوصف بعيد كل البعد عن التعبير عنها؛ فوصف (الطائفي) لا ينطبق على الصراع الشيعي السُّني، فليس صحيحًا إذن أن يقال عما هو حاصل في العراق: إنه صراع طائفي؛ فلا هو مستنِد على خلافات فقهية، ولا خلافات عقائدية محدودة. ولا يصدقه الواقع.

إن الفرق بين التشيع والإسلام هو فرق بين دين ودين. والصراع بين الشيعة والسُّنة قائم على هذا الأساس، وليس على أساس آخر. إنه صراع ديني حقيقي، يستند إلى عقيدة دينية تختلف عن عقيدة الإسلام جذريًّا؛ سوى أنها تتخذ من مصطلحاته وأسمائه غطاءً لها. أمَّا أن هناك من يستثمر الدين لأغراض سياسية فهذا لا يغير من الحقيقة شيئًا. وإذا كان هذا هو المعيار السياسي للصراع فالشيء نفسه يمكن أن يقال عن الصراع (الإسرائيلي الفلسطيني)، فيوصف بأنه صراع سياسي، لا ديني؛ لأن السياسيين يوظفون الدين أو الخلاف بين الدينين اليهودي والإسلامي لمكاسب سياسية.

على أنك إذا أردتَ وصف الصراع على وجه الدقة وجدتَه أعمق من سياسي، وأكبر من طائفي، وأوسع من ديني. إن الخلاف بين الشيعة والسنة هو خلاف بين ثقافتين، وصورة من صور الصراع بين حضارتين: حضارة عربية وحضارة فارسية أنتجت التشيع ليعبِّر عنها في مضامينه، ويحقق أغراضها في أهدافه. فكما استطاع الغرب أن يهضم المسيحية ويتمثلها في شخصيته، لتظهر في صورة الصليب (صليبيةً) تمثل الحضارة الغربية وتعبِّر عنها في كل عناصرها الأساسية في صراعها مع حضارتنا العربية الإسلامية، كذلك تمكَّن الشرق من أن يهضم الإسلام ويتمثله في شخصيته ليظهر في صورة العمامة (تشيعًا فارسيًّا) يمثل الحضارة الفارسية، ويعبِّر عنها في كل عناصرها الأساسية في صراعها مع ديننا وحضارتنا.

والصراع الحضاري صراع معقَّد وعميق، صراع تحاول فيه كل حضارة أن تجتاح الأخرى أو تزيحها لتحُل محلها في كل عناصرها ومقومَاتها: في دينها وعقيدتها، وقوميتها وأصالتها، ولغتها وآدابها، وثقافتها وتراثها، وقيمها وأخلاقها، وتقاليدها وعاداتها، وتاريخها وأمجادها، وتطلعاتها وأهدافها، وحاضرها ومستقبلها. هذا هو صراعنا مع الشيعة.

وهو صراع قديم، بدأ مع فجر التاريخ قبل أكثر من سبعة آلاف عام، واستمر طيلة هذه الحقب المتطاولة من الزمان، وسيستمر ما دام هناك ثقافتان مختلفتان، وحضارتان متناقضتان متصارعتان.

** في الشأن العراقي يبدو أن المشروع الصفوي يُلقي بظلاله على المشهد السياسي والأمني، ولكن آثاره الاقتصادية والثقافية والتعليمية غير جلية، هل لكم رصد لهذه الجوانب؟

- لدينا دراسات في الجانب الثقافي على شكل كتب ومقالات رصدت بعض مظاهر التزوير في التاريخ والفكر والعقيدة. كما أن لنا دراسة علمية ميدانية رصدنا فيها ما استطعنا من التغيير في المناهج التعليمية خصوصًا في مادة الدين عقيدة وفقهًا، وفي مادة التاريخ. أما الجانب الاقتصادي فتقارير الجهات والمنظمات المتخصصة داخل العراق وخارجه كثيرة جدًّا، أغنتنا عن المتابعة المركزة.

** ما تداعيات تولِّي التشيع السياسي الحكم العراق على مناهج التعليم سواء للمراحل الأولية أو التعليم الجامعي لا سيما في الكليات والجامعات الإسلامية؟ هل قمتم بعملية رصد وتحليل لهذا الأمر؟ وهل يمكن عرض نماذج منه؟

- بدأ الشيعة بتغيير المناهج الدراسية منذ وقت مبكر بعد الاحتلال، ودخل التشيع في عقائده وفقهه وتاريخه كل بيت سني عربي تقريبًا. وقد رصدنا هذا التغيير منذ سنوات. وإذا كانت الصورة تتضح بالأمثلة فإليكم آخر الأخبار عن بعض ما فعله علي الأديب -وهو الرجل الثاني في حزب الدعوة، إيراني الجنسية- بوزارة التعليم العالي، فبمجرد أن تولى منصبه وزيرًا للتعليم باشر بحملة علنية ومباشرة باجتثاث من تبقى من السُّنة من مناصبهم ووظائفهم في الوزارة. هذا بعد زجِّه سبعة من موظفي مكتب الوزير السابق (السنِّي) في السجن، ووضعهم جميعًا تحت طائلة القانون المعروف بـ(4 إرهاب) وعقوبتها الإعدام، مصرحًا بأن قانون اجتثاث البعث لم يطبَّق في الوزارة، وعلينا اليوم أن نعمل على تفعيل هذا القانون. علمًا بأن عملية التطهير لم تشمل أيًّا من الشيعة حتى الذين ثابت عليهم انتماؤهم لحزب البعث وآخرها شمول (140) أستاذًا جامعيًّا في (جامعة تكريت) بالطرد الاجتثاثي، وقبلها تم تنحية نحو 30 كفاءة سُنية من مناصبهم (معاوني رؤساء الجامعات، وعمداء الكليات، ومديري المراكز) وتم استبدالهم بشيعة.

ثم أصدر الوزير المذكور أوامر رسمية للاعتراف بعدد من الجامعات والكليات الأهلية العائدة لعدد من الأحزاب الشيعية والمراجع الدينية، التي ازدادت بنسبة كبيرة بعد الاحتلال. وفي الوقت نفسه قام بإلغاء أو أصدر قرارات بإلغاء الاعتراف ببعض الجامعات والكليات والمعاهد العربية مثل (معهد البحوث العربي) التابع إلى الجامعة العربية والكائن في منطقة المنصور وسط بغداد ومعهد الدراسات والبحوث، والمعهد العربي العالي للدراسات التربوية والنفسية وغيرها. فضلاً عن فتح الباب واسعًا أمام الطلبة الشيعة للقبول في الجامعة الإسلامية، وهي من الجامعات القليلة السنية في بغداد. كما أصدر قرارًا بإغلاق الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) فيها. ووصل التغيير إلى اسم الجامعة الذي تحول إلى (الجامعة العراقية) بدلاً من (الجامعة الإسلامية).

هذه أمثلة قليلة جدًّا على حملة تشييع التعليم الجارية على قدم وساق في العراق، وفي قطاع واحد هو وزارة التعليم العالي! والموضع لا يتسع لأكثر من ذلك.

** تصنفون مشروع التشيع الصفوي على أنه تحدٍّ للأمة وليس لبلد أو طائفة، وما دام الأمر كذلك فإنه يستلزم أن يقابله مشروع أمة وليس أفرادًا أو مؤسسة أو دولة؟ هل لديكم تصور لمشروع بهذا المستوى؟

- نعم، مشروع التشيع الصفوي أو الفارسي هو التحدي الأول للأمة، وهو قضيتها المركزية المعجَّلة الأولى، على الأقل بالنسبة للعراق والخليج والشام (سوى فلسطين فالتحدي الأول فيها يهودي)، وهؤلاء يمثلون -تقريبًا- ثلاثة أخماس الأمة إذا أخذنا بنظر الاعتبار مقياس التأثير في الأحداث العالمية. وقارن بين السعودية (22 مليون نسمة) وإندونيسيا (220 مليون نسمة).

والأحداث ستسوق المنطقة إلى هذه النتيجة. وستفصح عن مشروع جماعي للمواجهة عاجلاً أم آجلاً. أما رؤيتنا للمشروع فواضحة ومكتوبة ومعلَنة ومنشورة على موقعنا (القادسية) في محور (منهجنا في التغيير). والمشروع في أساسه وخطوته الأُولَى من مرحلته الأُولَى يقوم على ركنين: (المنهج والبرنامج).

أما المنهج فأساسه (الهوية السُّنية) القائمة على العقيدة بمنهجها القرآني العابر للتسميات، ووسيلتها التجديد والإبداع مستفيدين من علم النفس والاجتماع والتاريخ وغيرها من العلوم الحديثة. وأما البرنامج فأساسه التخطيط طبقًا للعلم الحديث في علمي الإدارة والقيادة.



هذا -باختصار- هو المنهج، الذي يتكامل مع البرنامج لتحويله إلى مفردات عمل في ساحة الواقع. وهذا كله يمثل بداية الطريق لتحقيق المرحلة الأولى وهي مرحلة (التحصين)، انتقالاً إلى مرحلة الثانية وهي (التكوين)، وصولاً إلى المرحلة الثالثة وهي (التمكين).

وهو منفتح على كل المشاريع الأخرى (دينية وغير دينية)، يتعامل معها، ويتفاعل ويتعاون مع أصحابها على البر والتقوى؛ ما لم يتعارض ذلك مع منهجيته الإسلامية، أو هويته العروبية، أو خصوصيته العراقية. من هنا ننطلق لتأسيس مشروع عربي جماعي لمواجهة المشروع الشعوبي الإيراني.

** بدأت دعاوى التقريب تظهر من جديد. كيف تقيِّمون مسألة التقريب سابقًا ولاحقًا؟ وهل لكم أن تصوغوا مشروعًا أو إطارًا تنسيقيًّا لمسألة التقريب؟

- كل محاولات التقريب بين السنة والشيعة فشلت بلا استثناء. وهي محكوم عليها بالفشل ابتداءً وانتهاءً؛ لأسباب جوهرية لا يمكن عبورها: فإن كان المقصود بالتقريب صنع دينٍ وسط فهذا غير ممكن؛ لأن الخلاف في أساس الدين وأصوله. وإن كان المقصود به التقريب السياسي فهذا غير ممكن لعدم وجود نية صادقة لدى الشيعة لهذا التقريب.

كما أنه ليس في مقدورهم امتلاك هذه النية؛ إذ دينهم يفرض عليهم -بعد تكفير السنة- وجوب قتلهم وسلب أموالهم، وعقدهم النفسية تدفعهم لخدمة أغراض دينهم دفعًا ليس بمَلْكهم مقاومته. الشيعي لا يؤمن بحق السُّني في الحياة ولا في التملُّك، وهذان هما أساس السلم الاجتماعي الذي نحتاجه للبدء بأي مشروع. حالة واحدة يمكن أن تلتقي فيها مع الشيعة سياسيًّا فقط وليس دينيًّا قط، هي أن تكون قويًّا لتفرض عليهم الوفاء بالعهد والالتزام بتنفيذ بنود العقد، كما فعل ربنا مع بني إسرائيل، وهو ما أخبر عنه بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 63، 64]. امتلاك القوة هي المنطلَق لبناء مشروع تقريب سياسي (لا ديني) مع الشيعة، ومن دون ذلك فالمشروع فاقد لأساسه.

المصدر: مجلة البيان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق