الأحد، 26 يناير 2014

فتوى : في بيان قضية مقتل جلال بايرلي / قتلته عصابة البغدادي

فتوى : في بيان قضية مقتل جلال بايرلي

د. يوسف بن عبدالله الأحمد

بسم الله الرحمن الرحيم

السؤال : صدر بيان نشر عبر الشبكة العنكبوتية باسم الهيئة الشرعية بولاية اللاذقية التابع للدولة الإسلامية في العراق والشام، وجاء فيه أسباب مقتل الشيخ جلال بايرلي رحمه الله، والبيان من ورقتين كما في المرفقات، ومما جاء فيه هذا النص:

"بعدما علم جنود الدولة بمقتل إخوانهم الذين نقلوا إلى المشفى رجعوا إلى مكان الحادثة وعندما اقتربوا من مسجد الروضة بمنطقة ربيعة أطلق عليهم النار من منارة المسجد حيث كان أحد الأشخاص متترساً فيها ومعه سلاح البيكا فنزل أحد جنود الدولة من السيارة قائلاً لهم "تمهلوا" ولكنهم استمروا في إطلاق النار حتى أصيب بعض جنود الدولة كانت إصابة أحدهم بليغه فمات على إثرها، فلما رأى جنود الدولة أن عناصر الكتيبة المذكورة لا تريد التفاهم ولا الحوار بدؤوا بالدفاع عن أنفسهم وتمكنوا من السيطرة على الموقف ولله الحمد وأنزل جنود الدولة الشخص الذي كان في المنارة ومن معه وبدؤوا بالتحقيق معهم، وسألوهم من أي جماعة أنتم فقالوا : نحن من جماعة الشيخ جلال وهو اتصل بنا في الصباح وأتى بنا إلى هنا !!
وقال لنا : ستأتي سيارة فيها شباب اقتلوهم ولا تدعوهم يهربوا فلما سمع جلال هذا الكلام بُهت وحاول أن يتظاهر بأنه إنما جاء للصلح وقال "يوجد محكمة للمجلس العسكري التابع للائتلاف الوطني" وأنه سيأخذ أفراده الذين جاء بهم ويسجنهم فقال الأفراد "أنت من أمرنا بذلك" فلما سمع جنود الدولة هذا الكلام أخذوه وقتلوه جزاءًا وفاقا على ماتسبب فيه من قتل مجاهدي الدولة وإصابة آخرين.."اهـ.
والسؤال / هل هذا الحكم صحيح؟ وهل هو حكم بشرع الله؟ نأمل التوضيح.


الجواب: تضمن البيان جملة من المخالفات الشرعية، ويمكن ذكر أهمها في الآتي:


أولاً: أثبت البيان أن قتل الشيخ جلال رحمه الله لم يكن بحكم قضائي، وإنما هو عمل بعض جنود الدولة قبل النظر القضائي، إلا أن الهيئة الشرعية ترى صحة ما فعله الجنود، وهذا التأييد بالغ الخطورة؛ لأنه يعني تشجيع وإقرار الجنود على استيفاء القصاص والحقوق بأيديهم بقوة السلاح بدون محاكمات شرعية، ومن مفاسد هذا المسلك: تجريء الجنود على الدماء الأموال، فيُحصن عدوانهم، ويشيع الظلم، ويُمنع المتهم من حقوقه الشرعية في الدفاع عن نفسه.. الخ.

ثانياً: لم يوضح البيان سبب قتل الشيخ جلال؛ هل قتل قصاصاً؟ أو حرابةً؟ أو حداً؟ أو تعزيراً؟ أو غير ذلك، ولكل سببٍ أحكامه التي تختلف عن الآخر؛ فإن كان قصاصاً فأولياء الدم "الورثة" هم أصحاب الحق في القصاص أو العفو عنه إلى الدية، أو العفو عن الدية ..الخ، ولا يجوز لأحد أن يتعدى حدود الله، قال الله تعالى :"وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا" (الإسراء33). فذِكرُ الحكم بالقتل دون ذِكر سببه القضائي خلل كبير.

ثالثاً: لم يوضح البيان البيِّنة الشرعية التي أدانوه بها. أما إقرار القتلة فلا عبرة به؛ لأن الإقرار حجة قاصرة كما ثبت في السنَّة، وقرره الفقهاء، ولا يصح اعتبار قولهم شهادة؛ لقيام أسباب رد الشهادة؛ فشهادة المتهمين بعضهم على بعض غير معتبرة لمظنة التهمة بينهم، لأن كلاً يريد دفع التهمة عن نفسه، فكيف والعداوة بينهم قائمة كما جاء في البيان بأنه جاء ليسجنهم. ومن موانع قبول شهادتهم أيضاً أن القاتل فاسق لا تقبل شهادته، قال الله تعالى: "وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ".
ولو سلمنا تنزلاً بقبول الشهادة، فإن الشهادة المقيدة في البيان لا تُثبت أنه أمر بقتل جنود الدولة.

رابعاً: أثبت البيان أن المقتول رحمه الله لم يقرَّ لهم بما اتهموه به، بل أثبت البيانُ أنه أظهر لهم أنه إنما جاء للإصلاح، والعبرة شرعاً بما أظهر، أما ما أبطن فأمره إلى الله، ولا سبيل إلى إثباته إلا بالبينة الشرعية.

خامساً: لو سلمنا جدلاً بثبوت الإدانة فقد نص البيان بأن الشيخ جلال قُتل لأنه تسبب في قتل جنود الدولة، والتسبب له أحكام تختلف عن المباشر ؛كما هو مقرر عند الفقهاء، والبيان لم يوضح وجه التسبب؛ هل تسبب في قتلهم خطأً أو عمداً، ولو سلمنا بالعمدية في التسبب؛ فكيف يُقتل المتسبب ويُترك المباشر؟!.

سادساً: ظهور البيان بعد حادثة القتل وكأنها تنفيذ لحكم قضائي شرعي، هي محاولة لتحصين جريمة القتل بغطاء البيان الشرعي، وهذا تحايل محرم شرعاً، وهو من لبس الحق بالباطل، وهو أمر معهود من الظلمة ولا يليق بأهل العدل التورط فيه، والصواب صدور القرار القضائي قبل تنفيذ الحكم.

وعليه فإن ما صدر من الجنود في هذه الواقعة إنما هو عمل جنائي وليس تنفيذاً لحكم قضائي، فيحق لولي الدم أن يدعي على مَن قتله بأن فعلهم قتلُ عمد، وله الحق بعد ثبوت الإدانة أن يطالب بالقصاص أو يعفو عنه، ولا يجوز شرعاً أن يقوم أولياء القتيل، أو جماعته الجهادية، بقتل من قتله أخذاً بالثأر كما فعل الجنود في هذه القضية؛ وإنما الواجب الشرعي الآن أن يخضع الجميع إلى محكمة شرعية مستقلة علنية، يؤخذ فيها حق المظلوم من الظالم، والقضاة فيها مستقلون، ليسوا من جماعة القاتل أو القتيل، منعاً للمحاباة والانحياز، ولا يجوز منع أولياء الدم من حقهم القضائي، أو جعل الموافقة عليها خاضعة لأمير الجماعة.

وعليه فإن بيان ولاية اللاذقية هو حكم بغير ما أنزل الله تعالى، والواجب شرعاً أن يُعلن مُصدِرُه التوبةَ إلى الله منه، وتصحيحَ الأمر وفق شرع الله تعالى، وهذا الظن بإخواننا إن شاء الله تعالى، وإن كان البيان منسوباً إلى الدولة كذباً بُيِّن ذلك.
وأختم هذه المسألة بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" متفق عليه.
والحمد لله رب العالمين.

قاله وكتبه:

يوسف بن عبدالله الأحمد.

عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة بجامعة الإمام

29/1/1435هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق