الدولة الإسلامية
بين
الحقيقة والوهم
أبو عبد الله محمد المنصور
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فلا ينبغي لأحد أن يظنَّ أنَّ مسلمًا من المسلمين يكره قيام حكم الله، أو أنَّ المسلمين في حاجة لشيء اليوم حاجتهم لدولة إسلامية، هذا والله من أعظم ما نجاهد في سبيل الله لأجله، ونتمنى أن تقرَّ أعيننا قبل رحيلنا بإقامته، مشهدين الله الذي يرانا سبحانه أننا لا نبتغي بذلك حكمًا لأنفسنا، ولا جزاءً من بشر ولا شكورًا ، ويكفينا ويغنينا أن يسلكنا الله في سلك من قال فيهم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (القصص:83).
ومن ظنَّ أنَّ مسلمًا من المسلمين يجادل في وجوب تحكيم شرع الله، ثم يبقى ذلك المجادل مسلمًا فليراجع هذا الظانُّ إسلامه.
ومن ظنَّ أنَّ ثمَّة حاجة للمسلمين في هذا الزمان، وكل زمان، أعظم من حاجتهم لدولة تقيم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أساء وتعدَّى وظلم!
ومن ظنَّ أنه بقراءة كتاب (إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام) الذي أصدره ما يُسمى بدولة العراق الإسلامية استطاع أن يُكوِّن فكرة صحيحة عن واقع العراق – نعمْ مجرد فكرة – وليس حكمًا صحيحًا! فقد جار؛ لأنه اكتفى بالاستماع لشاهد واحد في قضية ينبغي أن يستمع فيها لجميع الشهود، وينظر في القرائن، ويستفرغ الوسع ثم يصدر حكمه؛ لئلا يظلم نفسه، ويجور في حكمه، ويغرِّر المسلمين، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }(النساء:135).
قال ابن كثير: (يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوَّامين بالقسط، أي: بالعدل فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالاً ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه)( ).
وينبغي أن يعلم القارئ أنَّ خلافنا مع ما يسمى زورًا بدولة العراق الإسلامية ليس مقتصرًا على دعواهم بمشروعية دولتهم الموهومة، وأركان الدولة لم تتحقق بعد كما سيأتي معنا بالأدلة، وإن كان الكتاب مخصصًا للرد على بدعتهم هذه. وإنما خلافنا الأكبر معهم في مسائل التكفير بغير حق، والقتل بغير حق، والكذب، ومسائل كثيرة متعلقة بالسياسة الشرعية، وأساس ذلك كله تأمير الجهلة الأحداث أصحاب الأهواء في المسائل الشرعية.
فأصول خلافنا معهم خمسة أمور: التكفير بغير حق، والقتل بغير حق، والكذب، والجهل، وعدم مراعاة السياسة الشرعية في العمل الجهادي.
ورجائي بالله تبارك وتعالى أن يبارك في كتابنا هذا، ويمضيه إلى غايته، وأن يجعل كلمات هذا الكتاب وأدلته نورًا لنا ولإخواننا الذين طلبوا الحق فأصابوه، أو طلبوا الحق فأخطؤوه، وأن يتقبله، ويكتب له القبول في القلوب.
ونعوذ بالله من المجادلة بالباطل، أو أن نقول في مسلم ما ليس فيه، وإن رمانا بما نحن منه براء كما هو حال أهل الغلو معنا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)( ).
ونعوذ بالله أن يجعل في قلبي طمعًا في ذرة عَرَض، أو قصد علوٍّ في الأرض، أو أن آكل في دنياي من عمل آخرتي، ولو كان شق تمرة، والحمد لله رب العالمين.
وقبل البدء بتفاصيل الرد أودُّ ذكر بعض المحترزات.
وما كنت لأكتب هذه المحترزات لولا جريان الشيطان إلى القلوب والأذهان مجرى الدماء في الإنسان، ولولا تطلب أهل الريب سقط الكلام، ولولا طيران شياطين الإنس بين أهل الجهاد ليحصلوا من بحث نافع على كلمة ينسفون بها كتابًا، أو خطأ في أمر يحتمل الاجتهاد يزيفون به منهاجًا، ويسوِّدون به وجوهًا، ولا يبالون أسقط الجهاد أم سقط المجاهدون، أسقط البلد أم غُيِّر التاريخ كما تغير في إيران قبل بضعة قرون من الزمان.
ولولا هذه التخوفات وأمثالها ما خططنا كلمة في هذا الباب، توفيرًا على القارئ وقته، وعلى المجاهد همه وهمته.
المحترز الأول: أننا قد أتممنا كتابة أصل هذا الكتاب بعد صدور كتاب (إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام) بأشهر قليلة ردًّا على ما جاء في كتابهم هذا.
والسؤال: لِم لَمْ يظهر هذا الكتاب في ذاك الوقت؟ والجواب: أننا تريثنا كثيرًا في إظهاره؛ رجاء أن يفيء القوم، ويرجعوا إلى الحق دون نصيحة العلن، وكنا نظنُّ أنَّ بعض مراجعهم في خارج العراق يصوبهم وينبههم، ولكن للأسف الشديد لم نر من ذلك شيئًا.
فقلنا يكفي هذه المدة الطويلة من الانتظار، حتى عاد الكتاب عند القارئ قديمًا؛ بل ما كانت لنا نية بنشره لولا أنَّ نشره أصبح الآن- كما نراه شرعًا- واجبًا، واجبًا ليبلغ من لم يبلغه عسى أن يكون سبب هداية له، وواجبًا للإعذار بإقامة الحجة، وواجبًا بعد رؤية الجميع كيف استطار شرُّ الغلاة على بلاد الرافدين، وكيف كان لهم أثر سيئ على الجهاد، فقد طعنوا وحدة المجاهدين، وطعنوا عامة المسلمين، فإذا بهم يتحولون إلى طوق محاصر للمجاهدين وعيون راصدة عليهم بعدما كانوا أضلعًا تحميهم وعيونًا تحرسهم.
أليس ذلك واقعًا؟ ألم يكن الغلاة من أسباب هذا التحول؟
لذا فلا أحسب أحدًا يلومنا اليوم على نشر هذا الكتاب، بعد بقاء هذا البحث سنين حبيس الأدراج، وتداول خاصة الخاصة.
وهناك سبب آخر لعله يخفى على أكثر المراقبين للأحداث، هو أنَّ التغير في السياسة العالمية وجنوحها إلى استرضاء عامة الأطراف، وما يلزم هذا الاسترضاء من تنازلات من قبلها وتخفيفات وعطاءات واستمالات كثيرة، وقد أتت ثمارها الخبيثة على كثيرين محسوبين على الإسلام والجهاد، فانجذبوا نحو هذا التوجه الجديد، مما ضخ الحياة مرة أخرى في هذا المنهج العقدي المغالي، لتعود له الحياة من جديد بسبب افتضاح بعض المحسوبين على الدعوة وأحيانًا على الجهاد، وتساقطهم منجذبين لهذا المنهج الجديد، فعادوا يغزون أهل الجهاد ومناهج الجهاد الحقيقية ووحدة المجاهدين وإسناد أمتهم لهم.
المحترز الثاني: يخطئ خطأ عظيمًا لا نعذره فيه في الدنيا ولا في الآخرة من ظنَّ أنَّ هذا الكتاب يضاف في قائمة التاركين للجهاد، وأننا نريد تبرير التخلف أو النكوص أو الاستسلام!
فلا والذي نفسي بيده، لا ننقطع عن الجهاد في سبيل الله، وليس لنا ذلك، فإنَّ بديل ذلك الاستبدال، ونسأله بأسمائه الحسنى أن يثبتنا.
وإننا لنعتقد جازمين أنَّ بيان حقيقة هؤلاء والرد عليهم إنما هو من الجهاد في سبيل الله؛ لأنَّ أكثرهم استباح أخطر أمر في العقيدة، وأخطر أمر في العمل: "كلمة التكفير وقطرة الدم".
من أجل هذا كشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل المظاهر الإسلامية للغلاة الأوائل فقال: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم)( ). ومع هذا كان حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلغاء كل هذه المظاهر والالتجاء إلى الحقيقة العظمى التي غيَّروها في العقيدة وفي العمل، وبناء الحكم عليهم على ما ظهر من ضررهم، وليس ما ظهر من أقوالهم وعبادتهم وأشكالهم أو من الاسقاطات النفسية لأقوالهم ودعاواهم ومظاهرهم.
ومن أجل ذا وجب أن يتخطى ذهن المسلم كل تلك المظاهر إلى الحكم الشرعي المبني على الأدلة من الكتاب والسنة، غير مبالٍ بالأسماء والمظاهر، ولا مبالٍ بردة الفعل وسوء نسبة البعض لك إلى فكر الإرجاء، فهذا طرف مغالاة وذاك طرف ضرار، وهذا ينزع للتكفير وسفك الدماء بغير حق، وذاك ينزع إلى النفاق، وكلاهما يتنافس على تدمير الوسط الحق المستمسك بالكتاب والسنة؛ بل يبقى أمر هؤلاء المرجئة المرجفين في الأمة مفضوحًا عند أهل الجهاد خاصة، ومنذ زمن بعيد، لكنَّ الجهاد ماضٍ وفي تصاعد مهيب مخيف للأعداء، وأمر هؤلاء المرجئة يسير إلى اندثار واندراس، أما هؤلاء الغلاة فإنَّ طعنتهم كانت أسمَّ وأطمَّ، كما كانت في صلب الجهاد وليس في حواشيه، فهل يجوز أن يراعى أهل النفاق لأجل الغلاة أو يراعى الغلاة لأجل أهل النفاق، وضحايا الاثنين الإسلام والجهاد؟
وأرجو أن لا يفهم القارئ أننا نرى أنَّ أصول الكاتب المردود عليه وجماعته كأصول الخوارج تمامًا، ولكن في تطبيقاتهم العملية شبه كبير بهم( ).
وينبغي أن يُعلم أنَّ من ينتسب إلى هذا التنظيم ليسوا على درجة واحدة في الغلو، فكثير من قيادة جماعة "التوحيد والجهاد" التي كان يتزعمها أبو مصعب الزرقاوي رحمه الله أقل غلوًا بكثير جدًّا ممن أتى بعده، وغالبُ خلافاتنا معهم آنذاك في السياسة الشرعية.
أما أبو حمزة المصري فكان ذا عقلية غريبة، وفي عهده توسع الغلو إلى حد كبير، ولمعرفته أروي للقارئ الكريم ما حدثني به نائب مسؤول جيش المجاهدين، وهو من خيار الناس صدقاً وأمانة – في ما أحسب –، فقد التقى هو وأخ آخر بأبي حمزة المصري بعد إعلان دولتهم الموهومة بأيام قليلة، وقد قال أبو حمزة في هذا اللقاء: لقد صنعنا للمهدي منبرًا؛ لأنه سيظهر بعد مدة وجيزة، وأقسَمَ أنه إن لم يكن جنود الدولة الإسلامية هم جيش المهدي فلا جيش للمهدي! والغريب أنه أراهم صورة المنبر! وذكر في هذا اللقاء أمورًا غريبة، منها: أنَّ من أسباب اختيار أبي عمر أميرًا للمؤمنين أنه متزوج بزوجتين! وذكر كذلك أنه لا يمكن له أن يذكر شخصية أمير المؤمنين لأحد إلا بعد البيعة! وقال لإخواننا داعيًا لهم للبيعة: إذا كان أمير المؤمنين لا يعجبكم فبإمكاننا اختيار أمير مؤمنين آخر!
ولن أعلق على ما قاله أبو حمزة المصري، وأترك للقارئ العاقل التأمل في هذه المفاهيم.
أما القيادة الحالية لما يسمى زورًا بدولة العراق الإسلامية، فلا شك عندي أنهم وقعوا في كثير مما وقع به الخوارج من الغلو في التكفير والقتل بغير حق( )، وواقعهم العملي يثبت ذلك دون أدنى شك، وكل طالب علم منصف يعيش في العراق يدرك هذه الحقيقة، ولا يعترض على كلامنا أحد بالقول بأنَّ الخوارج يُكفِّرون بالكبيرة وهؤلاء لا يُكفِّرون بالكبيرة، أقول نعم، هم نظريًا لا يوافقون الخوارج في هذا الأصل، فهم لا يُكفِّرون بالزنا أو شرب الخمر، ولكنهم يُكفِّرون الأعيان بمسائل مختلفٍ فيها بين العلماء هل هي مشروعة أم لا! ويُكفِّرون بالظنون والأوهام، كما كفَّروا بعض مَن منَّ الله عليهم بالخروج من سجون الصليبيين؛ معللين ذلك بأنَّ هؤلاء لا يمكن أن يخرجوا من سجون الصليبيين دون أن يبيعوا دينهم ويوالوا الصليبيين، وهذا الحكم مخصوص بمن كان من غير تنظيمهم!
بل ويحكمون على طلبة علم عُرفوا بسابق علم وجهاد ودعوة بالردة؛ بالأوهام والهوى، كما اتهمونا ظلمًا وزورًا وبهتانًا بالصحوات، ونحن –والفضل لله- ممن كان له جهد في قتال الصحوات، بل نحن –والفضل لله- أول من كتب في الرد على هؤلاء المنافقين، كما في كتاب "من يغسل العار عن العشيرة"، وكتاب "وصفة الصياد"، وواقع حال طلاب العلم المجاهدين هؤلاء يُثبت يقينًا ودون أدنى شك بهتان هذه الافتراءات، فهم ماضون في طريق جهاد الصليبيين والمجوس، ونسأل الله أن يثبت أهل الحق. وسيأتي ذكر بعض المسائل التي يُكفِّرون بها.
وهذه طريقة تكفير قياداتهم لأهل العلم المجاهدين، فهم إما أن يُكفِّروا بأمر لم يقل أحد من أهل العلم بأنه كفر، أو يُكفِّروا بأمر هو كفر لكنه لا يثبت على مَن رموه به، بل من له ذرة عقل يدرك أنَّ هذا افتراء وبهتان. وللأسف فإنَّ الكذب والجهل والقتل والتكفير بغير حق هي أبرز سمات هذا التنظيم، واللهُ على ما أقول شهيد.
أما طريقة تكفير عوامهم للمجاهدين وعموم المسلمين وتعليلاتها، فهذا الكتاب ليس موطنًا له، ولعله إن بقي في العمر بقية أن أجمعها في كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين في سجن بوكا( )"؛ ليرى القارئ الكريم حمقًا وغباء لم يره في كتاب لابن الجوزي بهذا العنوان، ولا شك أنَّ قيادتهم تتحمل ذلك؛ لأنهم في الغالب لا ينكرون غلوَّ عوامهم، بل هم من أرضعوهم الغلو، ومنهجية الجرأة على العقيدة بتكفير المسلم والجرأة بقتل المسلم قتل المستبيح لدمه كفرًا.
وهذا لا يعني عدم وجود أفراد فيهم ذوي نوايا طيبة، ولكنَّ النية الطيبة وحدها لا تكفي، بل لا بد من العلم الصحيح، فالعمل لا يقبل عند الله إلا أن يكون خالصًا لوجهه الكريم وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنَّ من يبصره الله بحقائق الأمور ومآلاتها الخطيرة لا يحاكمها إلى وداعة فرد طيب أو تقي في أهل الغلو، ولا إلى كلامهم الذي لا يتفق مع أعمالهم، فهم ينفون عن أنفسهم الكذب والجهل والقتل بغير حق والتكفير بغير حق وعدم مراعاة السياسة الشرعية في العمل، ولكنَّ كل منصف يعرف أحوالهم من جميع الجماعات الجهادية يشهد عليهم بذلك.
والعاقل الذي يفهم دينه لا ينبغي أن يتعامى عن انحرافاتهم الخطيرة الخطيرة في المعتقد والعمل بسبب بعض العمليات البطولية عندهم، فالشجاعة لا تدل على صحة المنهج، وليقرأ الشاك في ذلك شجاعة الخوارج وسيجد العجب العجاب.
ومعاذ الله من ظنِّ ظانٍّ بنا أنَّ في كتابنا مؤشرًا على جنوح لدنيا أو لمنهجية عالمية جديدة تثبط وتخذل وتثاقل إلى الأرض وتزعم أنها منهجية جهادية، وهي في حقيقتها أخطر وأضرُّ من منهجية بوش على الجهاد؛ لأنها أخبث وأخفى، وأبعد في التأثير والأمد، فإنه لو لم تكن نصوص شرعية قاطعة في وجوب الجهاد اليوم، وفي بلدنا خاصة، وعلينا وعلى أمثالنا خاصة، لما رضينا أن ندنس فكرنا أو سمعتنا أو منهجنا بصحوات النفاق الذين لا يختلفون في كثير من الأمور عن خونة الرافضة، فهم جميعًا في خندق واحد مع العدو ضدَّ المجاهدين.
ولقد أصبح واجبًا على أهل العراق أن يعزلوا هؤلاء المتهالكين على الدنيا على حساب الدين والبلد، يعزلوهم نفسيًا عن المرتبة التي منحت لهم بسكوت الناس، وأن يغلظوا لهم الإنكار، ويبالغوا في إقامة الحجة عليهم؛ كي لا يبقى لهم وهمٌ أنَّ الناس يؤيدونهم، كيف وقد جعلوا تأييد الناس حربة بأيديهم في نحر الجهاد؟!
فلا يفرحنَّ واحد من هذه الجماعات المنحرفة بكلمة واحدة في هذا الكتاب، فما جاء هذا الكتاب إلا بيانًا للحق ونصرًا لمنهج أهل السنة المجاهدين.
فكون هذا الكتاب فاضحًا للغلاة، فإنه ليس للمنافقين الخوالف؛ لأنهم الطرف الآخر الداعي إلى الباطل.
أما القول في حكومة العراق العميلة فإنها جامعةُ السوء كله، فهي محراب الصليب ورأس حربته، وهي نجمةُ التلمود وسمُّ حيته، وهي عجينةُ رفضِ أبي لؤلؤة الأول وحقدُ مجوسيته، وهي معدنُ النفاق ومرجعيتُه، وهي مجمعُ الرذائل الكبرى من هتك ونهب وظلم وعدوان، وعلى أيديهم يراد تغيير هذه البلاد وقلع جذور سنيته.
فهل يمكن أن يُحسب هذا البحث في مصلحة هذه العصابة العميلة، وهم من المنتفعين بأفعال الغلاة هؤلاء بسبب سوء أفعالهم في الناس عامة وفي أهل العلم والجهاد خاصة، والله المستعان؟
وقد ذكرنا في أكثر من كتاب من كتبنا أنَّ التعاون مع الصليبيين أو الحكومة المرتدة ضدَّ هؤلاء الغلاة ردة عن الإسلام، نبرأ إلى الله منه؛ لأننا نعتقد أنَّ الحكومة في العراق حكومة مرتدة، وهؤلاء الغلاة مسلمون.
تحاكمٌ وتقاضٍ بل سلامةٌ وتراضٍ
لستَ- أنت- مرجعًا، ولستُ- أنا- مرجعًا، فإذا اختلفتُ معك فإلى من نرجع؟ أم أنك تفضل أن نبقى مختَلِفين إلى الأبد، أم أَنَّ عندنا مرجعًا نعرف الحق إذا رجعنا إليه، وإذا تشاجرنا تحاكمنا إليه، ورضينا بحكمه؟
نعم، عندنا المرجع، والحمد لله رب العالمين، ذلك المرجع هو: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم يرض بهما فليس له في الإسلام نصيب؛ لقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }(النساء:65). إذًا ليس التحاكم وحده هو المطلوب، وإنما الاستسلام لذلك الحكم، وعدم وجدان ما يخالف الرضا بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، فلنشهد الله تعالى على أنفسنا، على قبولنا بحكمه سبحانه، كما كنا نطالب غيرنا بذلك دائمًا، فقد حلَّ الاختبار، فلنأخذ الأمر بالجدية اللائقة به.
ماذا لو احتكم اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور؟ ثم نزل جبريل عليه السلام بحكم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما، أيكون الحكم ملزمًا لهما؟ ثم ماذا إذا أعرض أحدهما عما أنزل الله تعالى في قضتيهما؟ أيبقى مسلمًا لحظة واحدة بعد إعراضه؟
فأيُّنا يرضى أن يكون هو ذلك المعرِض؟
فإذا انقطع الوحي فإنَّ حكم الله باق، فهذا القرآن يأمرنا بالرجوع لأهل العلم، وذلك ليس من قبيل التخيير ولا الاستحباب؛ بل هو الواجب، فقد قال الله تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } (النساء:83). وقال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }(النحل:43).
قال القرطبي: (لم يختلف العلماء أنَّ العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المراد بقول الله عز وجل: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"... وكذلك لم يختلف العلماء أنَّ العامة لا يجوز لها الفتيا؛ لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم)( ).
فمقتضى عدم الرجوع إلى أهل العلم المعتبرين هو مخالفة أمر الله تعالى.
أخي: لا تقل لا يوجد في الأمة مرجع سواكم! فإنَّ الله عصم هذه الأمة من ذلك، وإنه سبحانه لم يأمرنا بالرجوع إلى مجهول، أو إلى معدوم، أو إلى نادر! فحاجة أفراد الأمة إلى العلم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفَس، وما كان الله ليعطيهم مقوم أبدانهم، ويمنعهم زاد إسعادهم!
بالله عليك أيها الأخ في ساحة الجهاد: هل تعد نفسك اليوم مرجعًا علميًا؟
لا ، لا تلتفت يمينًا ويسارًا... لا تستحفز فلانًا للجواب عنك ولا فلانًا... أنا أسألك عن نفسك أنت: هل تعد نفسك عالمـًا؟
ربما تقول: لا، أقول لك إذًا: فيلزمك الرجوع لأهل العلم، وهو يلزمني ويلزم كل قارئ من كل العصائب كذلك.
وربما تقول: نعم أنا عالم. وعندها أذكرك من أين جاءك هذا العلم؟
ألم تشغلك ساحة الجهاد عن كل شيء، كما شغلت من قبل خالد بن الوليد رضي الله عنه ذاك الذي قاد أعلم العلماء في خير القرون المهاجرين والأنصار, فأحرى بها أن تشغل المجاهدين- وأنعم بها شغلاً- فلا يكون حالهم كما لو تفرغوا للعلم.
فإذا كانت ساحة الجهاد شغلتك عن العلم، وما كنت قبلها عالمـًا ولا طالب علمٍ جادًّا متمكِّنًا، فبالله عليك من أين أتاك العلم حتى أصبحت في عين نفسك عالمـًا، وأصبح فلان الذي كان عالماً ليس بعالم، وأصبحت أغنى الناس- في نفسك- عن العلماء؟!
علَّك تقول لي: معنا رجال هم أكثر الناس في الأرض علمًا، وعملاً، وبصيرة بالأمور.
أقول لك: هل ترضى أن نجعل علمهم في ميزان الكتاب والسنة، وفي ميزان أهل العلم الذي لا يختلف عليه اثنان؟
فإن لم يكونوا علماء قلنا: الحمد لله الذي أيقظنا من غفلتنا ولم يقبضنا عليها، وإن كانوا علماء قلنا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
إذا اتفقنا على هذا- ونحن بإذن الله متفقون- فلننظر في إنتاجٍ من إنتاجهم، ولا أحسب أحدًا منكم سوف يخالفني في اختيار أخطر كتاب لكم، ألا إنه كتاب (إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام).
لـ ( عثمان بن عبدالرحمن التميمي)! كما أنَّ مقدمته كتبت باسم (المتحدث الرسمي لدولة العراق الإسلامية)، وهو مليء بتوجيه خطابات لشباب الأمة وعامتها، فلا مجال للتنصل منه إن تبين خطؤه، ولا مجال لاعتباره جهدًا فرديًا.
كما أنني سوف أعرج خطفًا سريعًا على آخر إنتاجكم وهو كتاب "مد الأيادي لبيعة البغدادي"، في آخر هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
الفصل الأول:
مقدمة الفصل:
عادةً ما يجد الكاتب صعوبة في توصيل الجواب الشافي لقارئ لم يكن قد قرأ البحث المردود عليه، اللهم إلا أن يجعل ذلك الكتاب في أعلى الصفحة ثم يرد عليه كلمة كلمة وجملة جملة، وفي هذا تطويل على القارئ، وضمُّ كتابين في كتاب واحد، ولذا فإنَّ أمنيتي أن يكون قارئ كتابي هذا قد قرأ الأصل، ومع هذا فسوف أنتقي عبارات من ذاك الكتاب تمثل محتواه، وأكثر ما فيه أهمية، وأردُّ عليها ردًّا تفصيليًّا يغني عن الرد على كل كلمة من كلماته، وبودِّي لو ركَّز القارئ على ما ننقله هنا من كتاب (إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام) تركيزًا جيدًا حتى يستطيع فهم الرد عليه جيدًا، ومن ثم كان حرصي الشديد على النقل من كلام الكاتب نقلاً يستوفي المعنى الذي يريده.
من أجل ذا كانت الطريقة المتبعة في هذا الفصل هي أن أذكُرَ كلام الكاتب ثم أذكر مالي عليه من ملاحظات، متجنبًا أيَّ تجريح أو إسفاف، فإن وَقَع في الكلام نوع إغلاظ فأحسبه من ضرورة الجواب، لبيان الخطأ من الصواب، وليس في النفس إلا الدعاء: اللهم اهدِ إخواني ليقبلوا الحق ويرجعوا إلى الصواب... اللهم آمين.
الملاحظات العامة:
هذه ملاحظات عامة على كتاب (إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام)، تعطي القارئ فكرة عامة عن مستوى الكتاب من الناحية العلمية من غير تدقيق كبير يُظهر كل ما في الكتاب من أخطاء.
الملاحظة الأولى: استدلاله بحديث ضعيف جدًّا
قال المؤلف ص58: (وهو القائل: "أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم" صلى الله عليه وسلم...).
هكذا قال الكاتب، فانظر: ماذا قال العلماء في هذا الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هذا لم يروه أحد من علماء المسلمين الذين يُعتمد عليهم في الرواية، وليس في شيء من كتبهم، وخطاب الله ورسوله للناس عام يتناول جميع المكلفين)( ).
وقال المناوي: (وسنده كما قال ابن حجر ضعيف جدًّا لا موضوع)( ).
وقال الكاتب ص61: (ويؤكد هذه الحقيقة ما رواه القرطبي في تفسيره 12/272 عن أبي العالية قال: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفًا هو وأصحابه يدعون إلى الله سرًّا وجهرًا، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح، فقال رجل: يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: لا تلبثون إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليس عليه حديدة، ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنوا". فهذا ما يؤكد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لم يكونوا آمنين تمامًا في العهد المدني).اهـ.
وأقول: هل تفسير القرطبي من مراجع الحديث؟! وهل يكفي أن تنسب الحديث لتفسير القرطبي دون تحقيق لتقول: "فهذا ما يؤكد..."؟! ومع أني لم أقف على إسناد الحديث، إلا أنه أقل ما يقال فيه أنه مرسل لو صح الإسناد إلى أبي العالية، فأبو العالية كما قال ابن حجر: (ثقة كثير الإرسال)( ). فإذا كان هذا مستوى التأكيدات فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا ترانا سنقول فيما يؤكده المؤلف من غير الحديث والعلم الشرعي مثل قوله بعد هذه بأسطر عن محافظة الأنبار ص61-62: (والقاصي والداني يعلم أنَّ المحافظة تقع تحت سيطرة المجاهدين، فكيف إذا انضم إليها عدد لا يستهان به من مناطق العراق ومساحاته مما هو تحت السلطة والنفوذ الجهادي، فالأمر واضح لا مرية فيه).
أقول: واليوم يشهد كل أحد أنَّ وجودهم في الأنبار انحسر بشكل كبير جدًّا بسبب صحوات النفاق، فلم يبق لهم إلا أفراد معدودون ليس لهم تمكين، والله المستعان.
وفي وقت صدور كتابهم لا شك أنَّ قوتهم في الأنبار أكبر بكثير، ولكنه لا يسمى تمكينًا بالمصطلح الشرعي، فالقواعد الأمريكية منتشرة( )، والبلد محتل كما لا يخفى، وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله.
الملاحظة الثانية: التكرار لفظًا وموضوعًا
هاك عناوين الفصل الأول:
الفصل الأول: أهمية الدولة وحاجة الأمة إليها ثم ساق الأدلة.
العنوان الثاني: أهمية الدولة الإسلامية ثم ساق الأدلة.
ثم انتقل للفصل الثاني وكان عنوانه: مشروعية قيام دولة العراق الإسلامية. ثم وضع عنوانًا آخر بعد هذه العناوين وهو: الدواعي الشرعية لقيام دولة العراق الإسلامية، فأيُّ فارق معتبر تجده بين هذه العناوين؟
ومثلما صارت العناوين مكررة سارت وراءها الأدلة مكررة.
الملاحظة الثالثة: انفكاك جهة التأصيل عن جهة التنـزيل
عند مقارنة الأدلة التأصيلية في البحث بالموضوع الذي سيقت لأجله نَصِل إلى نتيجة واحدة، تلك هي: أنَّ الأدلة في جهة والدولة في جهة أخرى!
فمن ذا الذي يخالف في وجوب إقامة الدولة التي يحكم فيها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن أهذه هي الدولة التي دلت عليها تلك الأدلة؟ وهل أركانها المؤصلة في مراجع الشرع هي أركانها الموجودة على الأرض اليوم؟ لا أحد يخالف في وجوب وجود أهل الحل والعقد لكن لِمَ تُنَزِّل صفات أهل الحل والعقد على صحبك هؤلاء؟
لا شك أنَّ ثمة طائفة منصورة، لكن لِمَ تثبت أنَّ طائفتك هذه هي المقصودة تحديدًا، وأنَّ الطوائف الأخرى ليست بمنصورة مالم تنضم لطائفتك؟
لِم تثبت أنَّ البيعة واجبة لكم على جميع الفصائل؟
وهكذا تثبت حكم السمع والطاعة بالأدلة، وتحول الوجوب لكم؟ وتثبت حكم الزكاة، وتحول وجوب أدائها لكم؟ وتثبت حكم الهجرة، وتحول وجوب الهجرة لكم... ومن لا يرى هذا الرأي، ويلتزم بمقتضاه، تجري عليه الأحكام الشرعية الدنيوية عندهم متى قدروا والآخروية عند الله... تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهم عندما يقولون ذلك فإننا نعرف جيدًا المستوى العلمي والتربوي لقياداتهم في العراق، والله المستعان، وهذا لا ينفي وجود أهل خير فيهم، مغرر بهم( ).
والناظر في كتب هؤلاء الغلاة يجد أنهم يستدلون بالكتاب والسنة وأقوال العلماء لكنهم ينزلونها في غير محلها، وهذا مزلق بدعي خطير، ويقول الشاطبي في هذا: (فصل: ومنها: تحريف الأدلة عن مواضعها، بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر، موهما أنَّ المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه، والعياذ بالله، ويغلب على الظن أنَّ من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحًا إلا مع اشتباه يعرض له أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه، فيكون بذلك السبب مبتدعًا)( ).
الملاحظة الرابعة: عدم التوثق لانعدام التوثيق
إنَّ من أصعب الأمور على النفس أن يُكذِّب المرءُ مسلمًا أو يشكِّك في مصداقيته.
ولكن ما هو أصعب منه أن يعرف الناصحُ الحقَّ ثم لا يبينه في أمر عام قد شاع بين الناس، حيث إنَّ الأمر تحول من كونه شخصيًّا إلى شرعي, ومن حق أيِّ مسلم أن ينصح إخوانه المسلمين, فمن هذا الباب يجب أن يعذرنا الأخوة الغيارى، ولا يظنوا بنا أنا نريد فتنةً بهذا الكتاب، فالغيرة على العلم والدين ينبغي أن تكون عظيمة. ومن كان محبًّا للحق كان أعظم ما يُهدى إليه أن يُنصح في منع الناس من تقليده في باطل.
يقول الكاتب ص29: (والشاهد من الكلام أنَّ المجلس قد دعا الوجهاء ومن يصلحوا أن يكونوا في موضع الشورى من أهل العراق للانضمام والتوحد، وكان آخر الخطوات المباركة الإعلان عن تشكيل حلف المطيبين، والذي دعا الوجهاء والفضلاء من أهل العراق من العلماء ورؤساء العشائر وقادة الجهاد، واستجاب من استجاب وكانوا خيرًا وبركة، ومن لم يفعل فوزره بين كتفيه ليس له من الحمل نصيب، وليس له مساغ مقبول في تأخره وانكفائه عن الاجتماع والتآلف الذي يطلبه الشرع ويحث عليه بكل سبيل، مع وجود ما يمكن أن يكون رابطة يلتحم من خلالها أهل الحل والعقد وتلتئم صفوفهم).
إنَّ الذي يعرف واقع العراق يعلم جيدًا أنَّ معظم أهل العلم ورؤساء العشائر وقادة الجهاد والوجهاء والفضلاء يرفضون الغلو، ويعتقدون أنه السبب الأكبر في فقدان المجاهدين حاضنتهم الاجتماعية التي أثمرت قلة العمليات الجهادية! وذلك بسبب أفعال هؤلاء الغلاة السيئة التي ولَّدت ردود أفعال أسوأ وصلت إلى أن يقع كثير من العوام في أمور خطيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
علمًا أنَّ أكثر الجماعات الإسلامية الجهادية الكبرى لم تسمع بما أسموه بحلف المطيبين إلا من وسائل الإعلام.
الملاحظة الخامسة: أخطاء علمية
يقول الكاتب ص9: (مشروع الدولة الإسلامية بصفته واجبًا من الواجبات الإسلامية المناط( ) بأعناق المسلمين، وفرض كفائي متعلق بالذمة حتى يؤدى في الواقع على الوجه المطلوب شرعًا، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقاعدة الفقهية القائلة:الحكم على الشيء فرع عن تصوره).
لا يعنيني هنا بيان الأخطاء النحوية مثل: (فرض كفائي متعلق بالذمة) والصحيح (فرضًا كفائيًا متعلقًا).
ولكن ما يعنيني هو قوله: "بالقاعدة الفقهية القائلة". وهذه ليست قاعدة فقهية، إنما هي قاعدة منطقية!
فهل من يجهل تمييز القواعد الفقهية من غيرها يصلح أن يكتب في موضوع شرعي عظيم وخطير مثل هذا؟ أم يصلح أن يضع مناهج الإمامة الكبرى، ويطلق الأحكام العقدية والفقهية فيها؟
أما المآخذ اللغوية في الكتاب، فلا أذكرها حصرًا لكن أذكر منها ما يبين وجوب عدم التسليم لما في الكتاب حتى في العبارات اللغوية، فقد جمع الكاتب كلمة "أسلوب" على أسلوبيات، فيقول: (مع دُربة ميدانية على أسلوبيات متمرسة) فما معنى أسلوبيات؟ ومَن مِن علماء اللغة يعرف هذا الجمع؟!
أم أنه اجتهاد مطلق حتى في اللغة العربية؟
وأخيرًا نقول: إذا كانت هذه أخطاؤكم فيما له مراجع وكتب معروفة، ينبغي للكاتب أن يكون قد راجعها، فكيف يوثق بأخباركم التي تذكرونها عن أنفسكم، ونحن نعلم عدم صدقها؟
الملاحظة السادسة: مجازفات فقهية
يقول الكاتب ص39: (والشاهد أنَّ الزكاة كالحج والصلاة عبادة لا تصح إلا بجماعة وإمام، وكذلك الصوم لا بد فيه من إمام يحدد بدء الشهور ونهايتها، ويجب على المسلم أن يلتزم برأي الإمام وجمهور الناس، وألا يشذ عنهم في فطر أو صوم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون" أخرجه الترمذي عن أبي هريرة، وهذا كله يدل على أنَّ هذه العبادات العظيمة أركان الإسلام لا تصح إلا بجماعة والتزام رأي الإمام والعمل فيها بنظام، وأنَّ الشذوذ في شيء منها مع قدرته عليها فلا صلاة له، ومن أخرج زكاته بعيدًا عن السلطان القائم فلا زكاة له، ومن شذَّ عن صوم الناس فصام وحده وأفطر وحده فقد شذَّ وأثم، ومن حج وحده فجعل لنفسه يومًا يقف بعرفة دون الناس فلا حج له، وهكذا نعلم أنَّ الجماعة لازمة في هذه الأركان).
فهذا الكاتب يتكلم عن موضوع الأحكام الشرعية الفقهية، فهل هذه العبارات المطاطية تصلح لتثبيت حكم واحد منها؟ ثم لاحظه وهو يتناول الأحكام، وكيف يجعل من قوله هو- بحد ذاته- دليلاً، وإن لم يذكر دليلاً! تأمل قوله: (والشاهد أنَّ الزكاة والصلاة والحج عبادات لا تصح إلا بجماعة وإمام).
والكاتب لا يتحدث هنا عن وجوب، وإنما يتحدث عن صحة العبادة. وإليك ما ذكره العلماء في هذه المسائل:
اشتراط الجماعة لصحة الصلاة:
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (وإلى القول بأنها فرض عين ذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان، وبالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطًا في صحة الصلاة...، وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وقال به كثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة)( ).
وقال ابن قدامة: (حديثهم يدل على أنَّ الجماعة غير مشترطة، ولا نزاع بيننا فيه، ولا يلزم من الوجوب الاشتراط)( ).
وقال المرداوي الحنبلي: (وهي واجبة للصلوات الخمس على الرجال لا بشرط، هذا المذهب بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، ونص عليه)( ).
وفي المذهب رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية أنها شرط لصحة الصلاة.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها سنة. وهذا ما رجحه الشوكاني في "نيل الأوطار".
فتحصَّل مما سبق أنَّ في المسألة أربعة أقوال:
1. فرض عين، لكنها ليست شرطًا لصحة الصلاة، وهذا قول أحمد وآخرين.
2. فرض كفاية، وهذا قول الشافعي وآخرين.
3. سنة، وهذا قول أبي حنيفة ومالك، والمشهور عند كثير من الشافعية.
4. فرض عين، وهي شرط لصحة الصلاة، وهذا قول داود وشيخ الإسلام.
وقد ضعَّف كثير من المحققين القول الرابع، ونحن لا نرى هذا القول شاذًّا، لكنه قول مرجوح ضعيف لم يقل به جماهير علماء الأمة، وتأمل ما قال الشيخ ابن عثيمين عن هذا القول: (وهذا القول ضعيف، ويضعفه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". والمفاضلة تدل على أنَّ المفضَّل عليه فيه فضل، ويلزم من وجود الفضل فيه أن يكون صحيحًا؛ لأنَّ غير الصحيح ليس فيه فضل؛ بل فيه إثم، وهذا دليل واضح على أنَّ صلاة الفذ صحيحة ضرورة أنَّ فيها فضلاً، إذ لو لم تكن صحيحة لم يكن فيها فضل، لكنه آثم، لكنَّ شيخ الإسلام رحمه الله أجاب بأنَّ هذا الحديث في حق المعذور، أي من صلى منفردًا لعذر فصلاة الجماعة أفضل من صلاته بسبع وعشرين مرة.
قال: ولا مانع من وجود النقص مع العذر، فهذه المرأة وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ناقصة دين لتركها الصلاة أيام الحيض، مع أنَّ تركها للصلاة أيام الحيض لعذر شرعي، ومع ذلك صارت ناقصة عن الرجل، وهي لم تأثم بهذا الترك. قال: فالمعذور إذا صلى في بيته فإنَّ صلاة الجماعة أفضل من صلاته بسبع وعشرين درجة. ولكن يرد عليه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا) أخرجه البخاري. فهذا دليل على أنَّ من ترك الطاعة لعذر المرض كتبت له.
ويمكن أن يجيب عنه بأنَّ المراد مَن كان مِن عادته أن يفعل؛ لأنه قال: "كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا". ولكن مع كل هذا فإَّن مأخذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة ضعيف. والصواب ما عليه الجمهور( )، وهو أنَّ الصلاة صحيحة، ولكنه آثم؛ لترك الواجب)( ).
وقال الجد ابن تيمية في المنتقى بعد أن ساق حديث أبي هريرة المتفق عليه: (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة). قال رحمه الله: (وهذا الحديث يردُّ على من أبطل صلاة المنفرد لغير عذر، وجعل الجماعة شرطًا؛ لأنَّ المفاضلة بينهما تستدعي صحتهما، وحمل النص على المنفرد لعذر لا يصح؛ لأنَّ الأحاديث قد دلت على أنَّ أجره لاينقص عما يفعله لولا العذر. فروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا" رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله عز وجل مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا". رواه أحمد وأبو داود والنسائي)( ).
أما صحة الصوم فما علاقته بالإمامة حتى لو كان ثمة إمام؟! وأين المؤلف من حديث كريب؟
فعن كُريب أنَّ أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها. واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة. ثم قدمت المدينة في آخر الشهر. فسألني عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا. هكذا أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ( ).
وإليك ما قاله الفقهاء في هذه المسألة؛ لتعرف مجازفات الكاتب ومخالفته لأئمة الإسلام:
قال ابن عبد البر: (لم يختلف العلماء فيمن رأى هلال رمضان وحده فلم تقبل شهادته أنه يصوم؛ لأنه متعبد بنفسه لا بغيره، وعلى هذا أكثر العلماء لا خلاف في ذلك إلا شذوذ لا يشتغل به. ومن رأى هلال شوال وحده أفطر عند الشافعي والحسن بن حي, وروي عن مالك أنه لا يفطر( )؛ للتهمة، وهو قول أبي حنيفة والثوري أنه لا يفطر، ومثله قول الليث وأحمد لا يفطر من رآه وحده، واستحب الشافعي أن يخفي فطره)( ).
وقال النووي: (من رأى هلال رمضان وحده لزمه الصوم، ومن رأى هلال شوال وحده لزمه الفطر، وهذا لاخلاف فيه عندنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". رواه البخاري ومسلم. بيانه قال أصحابنا: ويفطر لرؤية هلال شوال سرًّا؛ لئلا يتعرض للتهمة في دينه وعقوبة السلطان.
قال أصحابنا: وإذا رأى هلال رمضان وحده ولم يقبل القاضي شهادته فالصوم واجب عليه كما ذكرنا، فلو صام وجامع في ذلك اليوم لزمته الكفارة بلا خلاف؛ لأنه من رمضان في حقه, هذا تفصيل مذهبنا في المسألتين، وهذا الذي ذكرناه من لزوم الصوم برؤيته هلال رمضان وحده ووجوب الكفارة لو جامع فيه مذهب عامة العلماء. وقال عطاء والحسن وابن سيرين وأبو ثور واسحاق بن راهوية: لا يلزمه. وقال أبو حنيفة: يلزمه الصوم، ولكن إن جامع فيه فلا كفارة. وما ذكرناه من لزوم الفطر لمن رأى هلال شوال قال به أكثر العلماء. وقال مالك والليث وأحمد: لا يجوز له الأكل فيه. دليلنا في المسألتين الحديث، ولأنَّ يقين نفسه أبلغ من الظن الحاصل بالبينة)( ).
وقال ابن حزم: (ومن صح عنده بخبر من يصدقه من رجل واحد ففرض عليه الصوم، صام الناس أو لم يصوموا، وكذلك لو رآه هو وحده. ولو صح عنده بخبر واحد أيضًا كما ذكرنا فصاعدًا أنَّ هلال شوال قد رؤى فليفطر، أفطر الناس أو صاموا، وكذلك لو رآه هو وحده، فإن خشي في ذلك أذى فليستتر بذلك)( ). ثم ساق رحمه الله الأدلة على ما قال.
أما قول الكاتب: (ومن أخرج زكاته بعيدًا عن السلطان فلا زكاة له). فتعميم باطل لم يقل به أحد من أهل العلم، فإنَّ الأموال عند الفقهاء نوعان: باطنة (وهي الذهب والفضة والركاز وعروض التجارة)، وظاهرة (وهي الزروع والمواشي والثمار والمعادن). فالباطنة لم يختلف الفقهاء في جواز أن يفرقها المالك بنفسه.
قال النووي: (قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى: للمالك أن يفرِّق زكاة ماله الباطن بنفسه. وهذا لا خلاف فيه، ونقل أصحابنا فيه إجماع المسلمين)( ).
والأموال الظاهرة قال عنها النووي: (ففي جواز تفريقها بنفسه قولان مشهوران ... أصحهما وهو الجديد جوازه، والقديم منعه)( ).
وبقول الشافعي القديم قال أبو حنيفة ومالك.
أما الحنابلة فأجازوا، بل استحبوا أن يفرق المالك زكاته بنفسه في الأموال الظاهرة والباطنة. وإليك ما قاله ابن قدامة: (ويستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه؛ ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها، سواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة. قال الإمام أحمد: "أعجب اليَّ أن يخرجها وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز")( ).
ثم ذكر ابن قدامة أدلتهم على الجواز، فقال رحمه الله: (ولنا على جواز دفعها بنفسه أنه دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه فأجزأه، كما لو دفع الدَّين إلى غريمه، وكزكاة الأموال الباطنة؛ ولأنه أحد نوعي الزكاة فأشبه النوع الآخر، والآية تدل على أنَّ للإمام أخذها، ولا خلاف فيه، ومطالبة أبي بكر لهم لكونهم لم يؤدوها إلى أهلها، ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها؛ لأنَّ ذلك مختلف في إجزائه، فلا تجوز المقاتلة من أجله، وإنما يطالب الإمام بحكم الولاية والنيابة عن مستحقيها، فإذا دفعها إليهم جاز؛ لأنهم أهل رشد فجاز الدفع إليهم بخلاف اليتيم. وأما وجه فضيلة دفعها بنفسه؛ فلأنه إيصال الحق إلى مستحقه مع توفير أهل العمالة، وصيانة حقهم عن خطر الخيانة، ومباشرة تفريج كربة مستحقها، وإغنائه بها، مع إعطائها للأولى بها من محاويج أقاربه وذوي رحمه وصلة رحمه بها، فكان أفضل كما لو لم يكن أخذها من أهل العدل. فإن قيل: فالكلام في الإمام العادل إذ الخيانة مأمونة في حقه. قلنا: الإمام لا يتولى ذلك بنفسه، وإنما يفوضه إلى سعاته، ولا تؤمن منهما الخيانة، ثم ربما لا يصل إلى المستحق الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه شيء منها، وهم أحق الناس بصلته وصدقته ومواساته. وقولهم إنَّ أخذ الإمام ليبرئه ظاهرًا وباطنًا. قلنا: يبطل هذا بدفعه إلى غير العادل فإنه يبرئه أيضًا. وقد سلموا أنه ليس بأفضل، ثم إنَّ البراءة الظاهرة تكفي. وقولهم: إنه تزول به التهمة. قلنا: متى أظهرها زالت التهمة سواء أخرجها بنفسه أو دفعها إلى الإمام، ولا يختلف المذهب إن دفعها إلى الإمام سواء كان عادلًا أو غير عادل، وسواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة، ويبرأ بدفعها سواء تلفت في يد الإمام أو لم تتلف أو صرفها في مصارفها أو لم يصرفها؛ لما ذكرنا عن الصحابة ولأنَّ الإمام نائب عنهم شرعًا فيبرأ بدفعها إليه كولي اليتيم إذا قبضها له. ولا يختلف المذهب أيضا في أنَّ صاحب المال يجوز أن يفرقها بنفسه)( ).
أقول: إذا كانت كل هذه النقولات المستفيضة في الكتب، ومثلها عشرات الأضعاف من النقولات لم نذكرها اختصارًا، وإذا كان من قالها هم هؤلاء العلماء الأعلام الذين لا ينازع في إمامتهم أحد من أهل العلم والسنة، وأمثالهم عشرات الأضعاف من العلماء، ثم لم يعرفهم الكاتب، أو عرفهم لكنه لم يلتفت إليهم ولا إلى أدلتهم، فيا ترى من أين يستقي هذا الكاتب حكمه؟! وما هي مراجعه في إطلاقاته هذه التي يجعلها مُسلَّمات؟! والخشية أن يتلقاها الأتباع مسلَّمات، ويصبحوا أشد منافحة عنها من صاحبها، وهم لا يعرفون من خالفهم من أئمة الإسلام الأعلام، ولا يعلمون أنهم إنما ينافحون عن شذوذ أو عن باطل!
ونختم هذا الفصل بقول نفيس للشيخ محمد بن عبد الوهاب، يقول رحمه الله: (ولا يعرفون أحدًا من العلماء ذكر أنَّ شيئًا من الأحكام لا تصح إلا بالإمام الأعظم)( ).
الفصل الثاني: الملاحظات التفصيلية
ذكر الكاتب في الفصل الثاني والذي حمل عنوان: (مشروعية قيام دولة العراق الإسلامية) الطرق الشرعية في تعيين الإمام، فقال في أوله: (اتفق أهل العلم على أنَّ الإمامة تنصَّب وفقًا لطرق ثلاثة:
الأول: عن طريق بيعة أهل الحل والعقد من المسلمين لرجل يختارونه، اكتملت في حقه صفات الأهلية المطلوبة للإمامة.
الثاني: عن طريق عهد الإمام لرجل من المسلمين من بعده، أو لعددٍ منهم، يختار منهم أهل الحل والعقد إمامًا.
الثالث: عن طريق الغلبة والقهر بالسيف، عند حلول الفتن وخلو الزمان عن الإمام، وتباطؤ أهل الحل والعقد عن تنصيبه، فيشرع وقتها لمن تغلب بسيفه من المسلمين ودعا للبيعة وأظهر الشوكة والأتباع أن يصير أميرًا للمؤمنين، تجب طاعته وبيعته، ولا يحل لأحد منازعته...
ثم يقول ص 13: (فالناظر في كتبهم يجد أنَّ أغلب كلامهم يدور عن الطريقين الأوليين، أي حول طريقة بيعة أهل الحل والعقد، وطريق العهد من إمام سابق، وأما الطريق الثالث فهو ليس جادة أصلية تطرق عند تنصيب الأمير وإقامة الدولة، ولكن صورتها تتأتى بمقتضى الحاجة ودواعيها التي تلح عليها الوقائع والأحداث، فيصبح هذا الطريق أي الإعلان بالمظاهرة والغلبة مما لابد منه شرعًا، بل يتعين في كثير من الأحيان، والملابسات والوقائع التي شكلت إرهاصًا لقيام الدولة الإسلامية في العراق، ستكشف لنا المزيد لفهم هذه الحقيقة، حسبما يأتي بيانه...).
وقال ص14: (وفي الحالة العامة يتضح أنَّ الطريقين الأوليين هما الأليق في الشرع لتنصيب الإمارة إن توفرت الظروف بوجود أهل الحل والعقد وتمكنهم من الاختيار، أو بوجود إمام سابق يعهد لغيره، ولكن ثمة صورة أخرى تختلف عن سابقاتها، تتكشف في أوقات النكبات والأزمات القاسية حيث تفقد الأمة السلطة والقيادة وتصبح بلا سائس ولا مرشد، ويكون ذلك في الغالب عند استيلاء الأعداء على بلاد المسلمين ووقوعها تحت سلطتهم، فعند ذلك تتحول صفة الدار إلى الكفر الطارئ المتمثل بهيمنة العدو على الأرض وتسلطه عليها كما هو الحال عند تسلط الكفار الأصليين على البلاد كما حدث في فلسطين وأفغانستان والعراق أو بتسلط المرتدين كما هو واقع باقي بلاد المسلمين، وفي هذه الصورة تمتنع الشروط والأوصاف التي تلزم حال سلوك أحد الطريقين السابقين، لفقدان الإمامة أصلاً، ولعدم توافر الظرف على وجود معين لأهل الحل والعقد بصفتهم المشروطة أو لتأخرهم عن الحل والمبادرة مع تواجدهم الضعيف والمتفكك.
والأصح أن نقول إنَّ الطائفة العاملة والناشطة في التغيير والتي تحمل لواء المنهاج الشرعي الصحيح وتجاهد في سبيل إقامة الدين وتحكيمه هي التي تستحق بالفعل صفة أهل الحل والعقد وقتها؛ لأنها أحق الناس بوصف العدالة الدينية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صفات طائفة الحق في أوقات الغربة، قال: ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك) رواه مسلم.
فعند ذلك يتعذر اجتياز الطريقين الأوليين كحل لقيام الدولة، ويتعين المضي في الطريق الذي يعالج واقع الحال ويستوفي حقوقه، موائمة للظرف الذي تعيشه الأمة من فقدان الخلافة والإمارة، وعدم توافر أهل الحل والعقد على القيام بمثل هذا المشروع المبارك، كما أنَّ الإمام الذي يقوم بعهد الإمامة من بعده لشخص ما ليس موجود أصلاً، وعليه فصورة الواقع الحالي في بلدان المسلمين لا تتنزل في أغلب الأحيان على المسلكين الأوليين، إذ لا يعرف اجتماع وتوافر معين لأهل الحل والعقد إلا على ندرة من خيارهم وفضلائهم مع غياب الإمام العام، وفي مثل هذا الحال يُفرض حل الضرورة بتنصيب من تظاهر وغلب بقوته مراعاة للمصالح الهامة التي لا يمكن تأخيرها، ودفعًا للشرور والمفاسد المتأكد حصولها).اهـ.
وإليك بعض الملاحظات حول ما ذكر الكاتب.
الملاحظة الأولى: سابقة في تعيين إمام الأمة!
ذكر الكاتب تقسيم العلماء طرق تعيين الإمام إلى ثلاثة أقسام، ولأول مرة في تاريخ تنصيب الإمام يتم تعيينه بطريقتين مختلفتين...
فقد أشار الكاتب إلى أنَّ إمامهم قد تم تعيينه بطريقة القهر والغلبة، وبطريقة بيعة أهل الحل والعقد، وهذا هو الجمع بين النقيضين في وقت واحد، وهو ما لم يحصل في التاريخ كله، إذ كيف يكون ببيعة أهل الحل والعقد ويكون قهرًا وغلبة؟! أيجتمع الاختيار والإكراه معًا؟!
ألم تقولوا إنه أمير المؤمنين؟ فأين الأمة المؤمنة التي بايعته؟! وأين ممثلوا الأمة المؤمنة؟! اللهم إلا أن تكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم اختزلت في أهل الحل والعقد الذين ذكرهم الكاتب!
لك أن تقول: تم تولية الإمامة بطريق القهر والغلبة. بغض النظر عن مصداقيتها أو عدمه، وسوف نناقشها إن شاء الله، أما ما ذكره الكاتب فمن الناحية العملية هو عين المستحيل؛ فإنَّ المعتاد في كل تاريخ دول الدنيا وتاريخ الخلافة الإسلامية سواء كان تولي السلطة بالغلبة والإكراه، أو توليها بالتعيين والعهد، فإنَّ الحاكم بعدما يأخذ السلطة بالإكراه، أو بالاستخلاف والعهد الشخصي تأتي الأمة لتقر بيعته أو لا تقر.
أيمكن أن تسبق بيعة الأمة تعيينه بالغلبة والقهر كما هو الأمر هنا؟!
بمعنى أن تقول: إنَّ الأمة بايعت الإمام ثم هو تولى بالغلبة والقهر!
ولك أن تقول: إنَّ هذا أمر راجع لنا أو نحو ذلك، وتشق لك طريقًا جديدًا! لكن ليس لك أن تؤصِّل المسألة شرعيًّا وتبين أنَّ بيعتكم لم تخرج عما قرره أهل العلم في ذلك!
فأنت في واد وأهل العلم في واد...!
وأنت في واد وأهل الدول طوال التاريخ في واد! بل أنت في واد وقواعد تأسيس الدولة في واد آخر! وقولك هذا يدل أنك لا تعرف ماذكره أهل العلم من شروط أهل الحل والعقد، فإنَّ أهل الحل والعقد لو بايعوا إمامك فعلاً لما احتجتم للقهر والغلبة.
ولذا فإنَّ خلاف العلماء في إمامة المتغلِّب الذي تغلب فعلاً ثم طلب من الناس بيعته: هل تنعقد إمامته بالغلبة أم لا تنعقد؟ وهل يلزم أهل الحل والعقد بيعته أم لا يلزموا؟ وهل يأثمون إذا لم يبايعوه- وقد استوفى شروطها- أم لا يأثمون؟
كل هذا وغيره يكون بعد تغلبه فعليًّا، ولا تكون البيعة قبل التغلب كما ذكر كاتبنا عن خليفته وإمامه!
قال الماوردي: (اختلف أهل العلم في ثبوت إمامة المتغلِّب، وانعقاد ولايته بغير عقدٍ ولا اختيار، فذهب فقهاء العراق إلى ثبوت ولايته، وانعقاد إمامته، وحمل الأمة على طاعته وإن لم يعقدها أهل الاختيار؛ لأنَّ مقصود الاختيار تمييز المُوَلَّى، وقد تميز هذا بصفته.
وذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنَّ إمامته لا تنعقد إلا بالرضى والاختيار، لكن يلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له، فإن توقفوا أثموا؛ لأنَّ الإمامة عقد لا يتم إلا بعاقد)( ).
ونقطة أخرى مهمة ينبغي الوقوف عندها، وهي أنَّ الإمامة لا تنعقد بالاستخلاف كما تصورها الكاتب؛ بل تنعقد بموافقة أهل الحل والعقد على مَن استُخلِف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكذلك عمر لما عهد إليه أبوبكر إنما صار إمامًا لما بايعوه وأطاعوه، ولو قدِّر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إمامًا)( ).
وقال أبو يعلى الفراء الحنبلي: (الإمامة لا تنعقد للمعهود له بنفس العهد، وإنما تنعقد له لعهد المسلمين)( ).
ولو أننا قلنا إنَّ البيعة منعقدة بنفس الاستخلاف لما كان لبيعة أهل الحل والعقد لمستخلف قيمة، ولم يكن لبيعة الأمة من بعدهم قيمة، إذ أصبح دورهم مجرد الموافقة، وموافقتهم وعدمها سواء.
ومن العجيب حقًا أن تُعيِّن أنت أهل الحل والعقد! وتعيِّن أمير المؤمنين! ثم تجبر الناس على البيعة!
وتعاقِب أحيانًا من لم يبايع كما سيأتي معنا، وكل هذا وأنتم لم تتمكنوا من الأرض تمكنًا بالمفهوم الشرعي الذي يبيح لكم إعلان الدولة الإسلامية كما سيتبين لنا لاحقًا إن شاء الله.
الملاحظة الثانية: مَنْ أهل الحل والعقد؟
لم يُجب الكاتب على هذا السؤال، مع أنَّ عمدة تولي أميره هو أمران: الأول: التغلب، والثاني: بيعة أهل الحل والعقد، والعجيب أنَّ الكاتب لم يبين لا هذا ولا هذا، فلا أدري لِم هذا البحث أساسًا؟ وما قيمته العلمية؟
وسوف نبين في ملاحظات قادمة ما يتعلق بالإمام، أما ما يتعلق بأهل الحل والعقد فلم يذكر أيَّ صفة من صفاتهم الشرعية التي اشترطها العلماء في كل واحد منهم، اللهم إلا عبارة عامة فضفاضة كعادته في كتابه كله إذا ما حاول أن يعبر بنفسه تاركًا أقوال العلماء، وما أكثر ما يفعل ذلك حيث تفضحه عبارته بالتكلف الغريب. ارجع إلى عباراته وانظر فيها، لا يكاد يخرج من مُنْخلك شيء من اللب النافع، وبعد هذا فإنك لا تجد في الكتاب ترتيبًا للأفكار ترتيبًا علميًّا منطقيًّا.
قال الكاتب: (والأصح أن نقول إنَّ الطائفة العاملة والناشطة في التغيير والتي تحمل لواء المنهاج الشرعي الصحيح وتجاهد في سبيل إقامة الدِّيْن وتحكيمه هي التي تستحق بالفعل صفة أهل الحل والعقد وقتها، لأنها أحق الناس بوصف العدالة الدينية).
فمن هم أهل الحل والعقد، وما هي صفاتهم؟ لِم تخطاها الكاتب وهي عماد بحثه، وبيعة إمامه؟ أتراه لا يعرفها؟ أم تراه يعرفها لكنه لم يذكرها؛ لأنها غير متوفرة في أصحابه؟
وإليك ماذكره أهل العلم في تعريف أهل الحل والعقد وشروطهم. فقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 7/115: يطلق لفظ "أهل الحل والعقد" على أهل الشوكة من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يحصل بهم مقصود الولاية، وهو القدرة والتمكن، وهو مأخوذ من حل الأمور وعقدها( ).
وشروطهم:
أ - العدالة الجامعة لشروطها الواجبة في الشهادات من الإسلام والعقل والبلوغ وعدم الفسق واكتمال المروءة.
قال الجويني: (ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة، فخروج هؤلاء عن منصب الحل والعقد ليس به خفاء)( ).
وقال أيضًا: (ولم نغفل عن ذكر الورع صدرًا في الفصل عن ذهول، بل رأيناه أوضح من أن يحتاج إلى الاهتمام بالتنصيص عليه، فمن لا يوثق به في باقة بقل، كيف يرى أهلاً للحل والعقد؟)( ).
ب - العلم الذي يوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها.
ج - الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح( ).
د - أن يكون من ذوي الشوكة الذين يتبعهم الناس، ويصدرون عن رأيهم؛ ليحصل بهم مقصود الولاية( ).
هـ - الإخلاص والنصيحة للمسلمين( ).
و- الذكورة: قال الجويني: (فلتقع البداية بمجال الإجماع في صفة أهل الاختيار... فما نعلمه قطعًا أنَّ النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة، فإنهن ما روجعن قط)( ).
- والعدالة شرط مختلف فيه في أهل الحل والعقد، فهي عند جمهور الفقهاء من مالكية وشافعية وحنابلة وبعض الحنفية شرط، وهذا هو الراجح، بينما لم يجعل الحنفية العدالة شرط صحة( ).
- أما اشتراط الاجتهاد فهو قول لبعض أهل العلم، ولعل الأقرب ما ذكره الإمام الجويني: (ذهب طوائف من أئمة أهل السنة إلى أنه لا يصلح لعقد الإمامة إلا المجتهد المستجمع لشرائط الفتوى. وذهب القاضي الباقلاني في عصب من المحققين إلى أنا لا نشترط بلوغ العاقد مبلغ المجتهدين؛ بل يكفي أن يكون ذا عقل وكيس وفضل وتهدٍّ إلى عظائم الأمور، وبصيرة متقدة بمن يصلح للإمامة، وبما يُشترط استجماع الإمام له من الصفات. فأما من لم يستجمع خصال المفتين، فنقول: الغرض تعيين قدوة وتخير أسوة، وعقد الزعامة لمستقل بها، ولو لم يكن المعيِّن المتخيِّر عالماً بصفات من يصلح لهذا الشأن لأوشك أن يضعه في غير محله، ويجرَّ إلى المسلمين ضرارًا بسوء اختياره، ولهذا لم يدخل في ذلك العوام، ومن لا يعد من أهل البصائر... فأما الأفاضل المستقلون، الذين حنكتهم التجارب، وهذبتهم المذاهب، وعرفوا الصفات المرعية فيمن يُناط به أمر الرعية فهذا المبلغ كاف في بصائرهم، والزائد عليه في حكم ما لا تمس الحاجة إليه في هذا المنصب. وقد تمهد في قواعد الشرع أنا نكتفي في كل مقام بما يليق به من العلم... فالفاضل الفطن المطلع على مراتب الأئمة، البصير بالإيلات والسياسات، ومن يصل لها متصف بما يليق بمنصبه في تخير الإمام... فقد ظهر أنَّ الأقرب إلى التحقيق مسلك القاضي ومتبعيه)( ).
ثم قال رحمه الله: (فلا أرى لاشتراط كون العاقد مجتهدًا وجهًا لائحًا، ولكني أشترط أن يكون المبايع ممن تفيد مبايعته منَّة واقتهارًا) ( ).
وهنا أقول: لا حاجة لنا أن تخرج أهل حلك وعقدك لنعرف إن كانوا كما اشترط العلماء أم لا، وذلك لمعرفتنا بهم جيدًا...!
الملاحظة الثالثة: التغلب على من؟!
وثمة تساؤلات ضرورية لفهم المراد الحقيقي بهذا التأصيل الشرعي الذي ذكره الكاتب، فقد ذكر الكاتب أنَّ الطريق الثالث والذي أشار لاختيار جماعته له هو طريق الغلبة والقهر بالسيف، هنا يتبادر لذهن القارئ مباشرة أنَّ الغلبة التي يريدها الكاتب هي الغلبة على العدو في الاستيلاء على السلطة والإمامة، بينما الحقيقة أنَّ الغلبة التي حققها كانت هي الغلبة على إخوانهم في فصائل الجهاد الأخرى بسبقهم في الإعلان عن تنصيب أنفسهم منزلة الإمامة، وهل كان صعبًا على أيِّ مجموعة من تلك المجاميع أن تعلن أميرها أميرًا للمؤمنين؟ ولو أنَّ أحدًا منهم فعل ذلك لأثبت على نفسه الجهل؛ لأنَّ أركان الدولة لم تتوفر بعد.
ثم من يتأمل الحقيقة يجد أنَّ الغلبة كانت في الإعلان ليس إلا! وإلا فلم يتغير على أرض الواقع شيء يمنح هؤلاء على هؤلاء مزية معينة، لا أريد أنَّ الجماعات كانت متساوية من حيث القوة والأرض والسيطرة والعدد وما إلى ذلك، فهذا ليس موضوعنا، إنما ما يعنينا هو أنَّ تلك الغلبة لا وجود لها إلا بالتصريح على الورق الذي كتبت عليه، فهذه المجموعة أو تلك لم تفعل أيَّ شيء يزيد من سيطرتها أو غلبتها كما تفعل الحركات التحررية بالسيطرة على العاصمة مثلاً، أو ما يفعله أصحاب الانقلابات العسكرية عند السيطرة على مبنى وزارة الإعلام والتلفزيون، أو حتى قصر الحاكم ونحو ذلك.
فإذا كانت الدول تتحقق بمجرد هذا النوع من الإعلان، فما أكثر الدول الساقطة، وما أكثر الدول القادمة، وما أكثر دول المنفى، ودول الأوراق! نعم إنها دول الأوراق!
حقًا إنها غلبة الإعلان عن الدولة الورقية( ) على الأرض العراقية!
الملاحظة الرابعة: سبق الزور
وهل مثل هذا العمل وهو إعلان هؤلاء تنصيب أمير للمؤمنين وقيام دولة إسلامية عمل يمدح شرعًا أم يذم؟
والإجابة على هذا السؤال على فرض احتمالين، احتمال الصدق في هذه الدعوى، وأنها حقيقة واقعية، واحتمال أنها مجرد دعوى لا رصيد لها من الواقع، فإن كانت دعوى صادقة فالعمل مشروع؛ بل واجب، وأما إن كانت دعوى ورقية لا رصيد لها من الواقع كما هو معلوم لدى عقلاء المجاهدين على أرض العراق فإنَّ هذه الدعوى من الكبائر.
فعن أسماء رضي الله عنها، جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنَّ لي ضرة، فهل عليَّ جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟ فقال رسول الله: (المتشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور)( ).
"ثوبي زور": فيمن زعمت شيئًا لم تعطه، ثوبًا أو غيره، فما أعظم الزور فيمن تسربل بسربال الإمامة العظمى، والله يعلم أنها ليست بحقيقة؟! إنه ليس قول زور فحسب، وإنما هو مطالبات بحقوق الإمامة( )، وعمل بمقتضى تلك الدعوى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه)( ).
وعن ربيعة بن أبي عبدالرحمن قال: قدم رجل من العراق على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: جئتك لأمر ما له رأس ولا ذنَب، فقال عمر: وما ذاك؟ قال: شهادة الزور ظهرت بأرضنا، قال: وقد كان ذلك؟ قال: نعم ، فقال عمر بن الخطاب: (والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول)( ).
قال الزرقاني: (والأسر: الحبس، أو لا يملك مال الأسير لإقامة الحقوق عليه إلا بالصحابة الذين جميعهم عدول، وبالعدول من غيرهم، فمن لم يكن صحابيًّا ولم تعرف عدالته لم تقبل شهادته حتى تعرف عدالته من فسقه)( ).
أين شهادة الزور؟ أفي أخذ أسير وأخذ ماله أم حبس رجل من الزور الكُبَّار بدعوى الإمامة العظمى كذبًا وبهتانًا؟!
الملاحظة الخامسة: المنهجية القسرية في الاستدلال، وفي الفهم، والتطبيق، والتعامل مع المخالفين!
ليس العجب أن يسوق الكاتب الأدلة الشرعية تترا ويوظفها قسرًا؛ ليفهم القارئ أنها أدلة على مشروعية دولة العراق هذه!
وليس العجب أن يسوق على مشروعية دولة العراق قوله تعالى للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }(البقرة:30) ، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } (النساء:105) ، وآيات { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ... } (المائدة).
وإنه لعجب! لكنَّ العجب حقيقة في أن أحاول استثمار مجموع تلك النصوص لتسخير الناس لبيعتي أنا، وبيعة أميري وجماعتي علمًا بأنَّ الجماعات الأخرى لا تسلِّم لي!
إنها طريقة عجيبة وبدعة جديدة! أن تُعيِّن أنت أهل الحل والعقد! وتعيِّن أمير المؤمنين! ثم تجبر المسلمين على البيعة! ثم تحكم على من لم يبايع بالعصيان والخروج! كل ذلك وأنت لم تتمكن بعد.
جرأةٌ أن اعتَبَرَها أمرًا قطعيًّا قائمًا، لا مجال للنقاش في شرعيته ولا في واقعيته!
جرأة أن ألغى رأي المجاهدين الآخرين- ولو مجاملة على الورق- وبطريقة: لا تناقشوا هذه المسألة فهذه لا تعنيكم، ونحن أعلم بمصالحكم، ونحن أصحاب القرار وقد قررنا!
يقول الكاتب ص11: (ولكن ما الذي يدعونا للإعلان عن الدولة الإسلامية في العراق، فهل آن الآوان لذلك؟ وهل وصل المجاهدون للمستوى المطلوب الذي يؤهلهم للقيام بأعباء التمكين ومسؤولياته؟
نقول: جوابنا لا ينعكس عن رؤى تنظيرية بحتة كما هي العادة في أبحاث المنتسبين للعلم والدعوة والفكر، فنحن تيار عامل، يتحرك في الواقع بقوة، وينخرط في مواجهة مع كل تحدياته ومعتركاته، ويتشعب في برامجه ومشاريعه بحسب ما تمليه مصالح المشروع الجهادي، ويمتلك الجرأة الكافية لتحمل الأعباء والمسؤوليات مهما كانت ولا بد، فقد بذل أبناء هذا المنهج الكثير من دمائهم ومهجهم حتى وصل بهم الحال إلى ما يراه الناس من العز والتمكين بفضل الله ومنته، وإجابتنا على أي تساؤلات تثار حول خططنا وبرامجنا سينبع بالتأكيد من ظروفنا الواقعية والموقف الذي يناسب المصلحة الجهادية في المقام الأول ويخدم استمرار الجهاد وزيادة مكاسبه وثمراته، فالإجابة ليست بحثًا شرعيًا بقدر ما هي رؤية تعكس نظرة القيادة الجهادية للواقع وتحمل في طياتها الحلول الأنسب لمشروع الجهاد ضمن حقول الألغام التي يسير فيها والعوائق والصعاب التي يتخطاها.
ونقول لمن استزلتهم أنفسهم فسارعوا للطعن والتشغيب على بادرة الدولة المباركة بإذن الله، نقول نحن على علم بملابسات الواقع وظروفه القاسية والصعبة، والقرار الجهادي الذي يفصل في أي معركة هو قرار صعب ومصيري ولا شك، ونحن نؤمن بذلك ونستيقنه، ولكن المعركة لأصحابها ولمن يخوض غمارها، وقد منَّ الله على الطائفة المجاهدة من أبناء مجلس شورى المجاهدين، أن ينبروا بجرأة منقطعة النظير لصد العدوان الصليبي على العراق، وإحباط الكثير الكثير من المؤامرات والدسائس التي تستهدف الإسلام والمسلمين، وكان ذلك سببًا واضحًا لإمساكهم زمام المبادرة في كثير من الأمور، ومع صعوبة الظرف وقسوة المعركة تبقى القرارت المصيرية راجعة لمن انتهت إليه معاقد الأمور وأزمتها، وإن كان الأليق والأنسب في الشرع والعقل أن تكون الأمور على غير هذا الوجه، كما سيظهر في طريقة تنصيب الإمارة، ولكن ظروف المعركة تملي سلوكًا اضطراريًا في كثير من الصعد والاتجاهات، ويتحتم على قادة الجهاد وأعيان الطائفة المجاهدة في أرض الميدان أن يتخذوا دورًا حاسمًا ومؤثرًا لكونهم هم الأكثر حركة وقوة، وهم الأجدر في صناعة القرار وتوجيه الساحة، وبمعنى أكثر صراحة هم أهل السلطة في الواقع العملي، وهذا فضل من الله حباهم به، لذا فلا عجب أن تتشكل القرارت وفقًا لرؤاهم وخططهم، وهم يصدرون في ذلك عن قواعد المصلحة، التي ترجع في موازينها ومعاييرها لأهل الخبرة في الميدان وأصحاب القوة والشوكة الذين تنتهي إليهم الأمور).اهـ.
إنَّ العقلاء يعلمون أنَّ قيمة هذا الكلام بالحبر الذي خطه، والورق الذي خُط عليه، وإلا فلا دولة تُرى، ولا أرض، ولا حدود، ولا شعب، ولا ولاء، ولا منعة، ولا حكم بشريعة الله!
وليس من شك أنَّ إقامة بعض الحدود هنا وهناك، أو وجود بعض مظاهر المنعة في بعض المناطق في وقت ما ليس دليلاً على التمكين بمفهومه الشرعي، ولا أدري هل يرون أنفسهم الآن دولة ممكَّنة؟! نسأل الله أن يمكِّن للمجاهدين، ويخسف بالصليبيين واليهود والرافضة المجوس والمرتدين.
ومما ينبغي أن يلاحظ هو المنهجية القسرية التي تنبيك عن تصرف أرباب هذا المنهج لو أنهم حَكَموا- فعليًّا-، وتصرفهم لو عورضوا من قبل إخوانهم، فضلاً عن عامة الشعب! ثم إذا كنتم أعلم من عامة المسلمين الذين هم خارج أرض الجهاد لأنكم كما تقولون: "أهل الخبرة في الميدان..." فما بال المجاهدين الآخرين الذين هم أهل العلم الشرعي وأهل الميدان كذلك، أم أنها عبارات بغير دلالات؟!
الملاحظة السادسة: تصفيف التوصيف
قال الكاتب: الدواعي الشرعية لقيام دولة الإسلام في العراق. وقد ذكر ثمانية دواع نذكر بعضها بالرد إن شاء الله تعالى.
وقال أيضًا: (أولاً: مجلس شورى المجاهدين متظاهر بقوة وشوكة عظيمة تسيطر على الأرض:
هذا هو واقع الحال الذي فرضته المعركة مع الصليبين والمرتدين في العراق، فبعد أن وفق الله عز وجل عباده المجاهدين لحمل السلاح والتباري في ميدان الجهاد والنزال، أكرمهم بعطية التمكين ورسوخ الأقدام في كثير من المناطق والبقاع، وكان هذا نتيجة طبيعية كاستحقاق ناله المجاهدون إثر قتالهم وثباتهم، فخلا لهم الميدان في مساحات واسعة من الأرض كما أسلفنا، وتحقق مفهوم الشوكة والمنعة لهم في بقاع مختلفة متفرقة، وبالتبع فزمام السلطة قد آل إليهم في مناطق السيطرة، وصاروا هم أصحاب القرار الأول، وحصلت لهم الشوكة والمنعة التي بها قوام الدولة والإمارة، فالمعلم الأساس في قيام الدولة الإسلامية هو ظهور التمكين واعتلاء مظاهر السيادة والشوكة).
حين يكون توصيف الواقع دقيقًا بهذه الطريقة التي خطها قلم الكاتب في قالب لا يكون الجواب إلا كما صُبَّ له قالبه في توصيف السؤال صبًّا...! وخصوصًا عند من لا يتبادر لذهنه التوقف لحظة واحدة ليقول: هل هذا الوصف المذكور حقيقي على أرض الواقع أم غير حقيقي؟ إنني لأتحاشى أيَّ عبارة خدشٍ أو اتهام، وأرجع للموضوع بعد كتابته مرارًا لأستل منه كل حرف فيه تجريح أو اتهام لردة فعل سريعة بدرت مني فخط قلمي إنكاره سريعًا بعبارة قوية؛ لئلا يقول الناس: انظروا إلى الافتراق في الصف الذي أحب الله له أن يكون كالبنيان المرصوص ... ولكنك لن تتمكن من بيان الحقيقة ما لم تكن واضحًا في موطنها، فماذا تقول عمن يكذب ويكذب ويكذب حتى يخدع من لايعرف الواقع؟! ومع هذا فلن أحيد إن شاء الله عن منهج الصف المرصوص، والدليل الصحيح المنصوص، وملاطفة المنصوح، وتفويت الفرصة على منتهزي الفرص من اللصوص...
أيها القارئ: لو كنت حَكَمًا في قضية محددة اختصم فيها خصمان، أحدهما أثبتها والآخر نفاها، فإنَّ حكمك الشرعي سيكون: البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، فإذا لم يأت من ادعى ببينة، وحلف من أنكر على صدق دعواه، ألا تحكم له؟ الجواب قطعًا: بلى. إذًا: فكيف إذا ثبت لديك أنَّ من ادعى كان له مصلحة عاجلة في دعواه، ومن أنكر لم تكن له مصلحة في إنكاره؟ إلا أنه يريد أن يبين للناس الحكم الشرعي الصحيح، وحقيقة الواقع في بلدنا الجريح.
إنَّ القارئ العارف بأوضاع العراق ليتساءل: أين هذه الدولة التي يتحدث عنها الكاتب؟! أين أدنى معالم السيادة والاستقلال على أيِّ محافظة أو مدينة في العراق؟ إنها- والله الذي لا إله إلا هو- لا وجود لها إلا على هذه الورقة التي أمامه!
الملاحظة السابعة: رفض فرض الأرض
قال الكاتب ص36: (والمجاهدون في العراق اليوم يسيطرون على بقاع من الأرض هي بفضل الله أضعاف أضعاف البقعة التي أقام عليها النبي صلى الله عليه وسلم دولته الأولى، فالمناط الشرعي في قيام الدولة متحقق لوجود المعنى الذي قامت بها الدولة الأولى، وهو التمكين على بقاع هي أكبر من تلك التي ترعرعت عليها الدولة الأولى).
قول الكاتب: والمجاهدون في العراق يسيطرون على بقاع من الأرض... إلخ.
يا ترى ما مراد الكاتب بالسيطرة على الأرض؟ هل هو الجلوس عليها، والنوم عليها، والأكل عليها ونحو ذلك، وبهذا أصبحوا مسيطرين؟! فلعمري إذا كان التمكين بهذه الأمور فكل مؤمن في الدنيا أينما كان في البلاد- مسلمة وكافرة- فهو مسيطر عليها متمكن فيها ومنها! وكيف لو شاهد الكاتب الأحياء الكبيرة في دول العالم المخصصة للمسلمين؟! وما يقال عن المسلمين يقال عن الكافرين في بلادهم وفي بلاد المسلمين!
أم ترى قصد الكاتب ما جاء في الداعي الثاني من دواعي تأسيس الدولة حيث قال ص36: (فصار المجاهدون- بفضل من الله- ينظمون مجالس القضاء وإقامة بعض الحدود وتسيير الأمور العامة في المناطق... الإدارية منها والاقتصادية والاجتماعية، فوقع لهم بذلك قبولٌ حسنٌ وموطئٌ راسخٌ على تلك الأرض بتوفيق الله، وهو ما يدعو بكل إلحاح لإعلان الدولة الموجودة في الخفاء، وإبرازها للناس ليعم الخير وتندفع مخاطر الإرباك السياسي الحاصل).
ولا يقتصر الكاتب على هذا بل يوسع السيطرة أكثر وأكثر فيقول ص28: (بات المجلس من خلاله بفضل الله له الكلمة الأولى على الأرض في معظم!!! مناطق العراق وساحاته الملتهبة).
ويقول ص44: (ولقد منَّ الله على مجاهدي دولة الإسلام بإقامة المحاكم الشرعية في أنحاء بلاد الرافدين، لإقامة حكم الله في الأرض، من إقامة الحدود والقصاص كما أمر الله عز وجل، ومارس القضاة دورهم في القضاء بالذي يدينون الله به).
قلت: فهل يمكن أن تكون كل هذه السيطرة على الأرض وعلى الدوائر وعلى الأقضية وعلى القضاء والمال والأمن... والعراقيون في العراق لا يرونها؟! ونحن نعرف العراق- بحمد لله- شرقًا وغربًا شمالاً وجنوبًا ومع هذا فإنا لا نرى لدولتهم أثرًا!
ولا أدري لماذا يقول الكاتب: (... وإقامة بعض الحدود...)، فإذا كنتم مُمكَّنين كما تزعمون فلماذا لا تقيمون جميع الحدود؟ أليس هذا هو الواجب الشرعي؟
ولأول مرة يحدد الكاتب- في كتابه- موقع أرض الدولة المذكورة التي يسيطرون عليها من أرض العراق فيقول ص61-62: (فكيف بالمجاهدين على أرض العراق، وقد منَّ الله عليهم بالسيطرة على مساحات هي أضعاف ما لو قيس بمساحة المدينة النبوية... فخذ مثلاً محافظة الأنبار السنية، وهي أكبر المحافظات السنية، وتشتمل على عدد من المدن والمرافق الحيوية هي أكبر بكل تأكيد مما يعرف بدولة لبنان مثلاً أو الحكومة الفلسطينية المنتخبة "بحسب زعمهم"، والقاصي والداني يعلم أنَّ المحافظة تقع تحت سيطرة المجاهدين، فكيف إذا انضم إليها عدد لا يستهان به من مناطق العراق ومساحاته، مما هو تحت السلطة والنفوذ الجهادي، فالأمر واضح لا مرية فيه، وعنصر الأرض إن اعتبرناه المقوم الأول في قيام الدولة فهو أكثر من متوفر في حالة الدولة الإسلامية على أرض العراق).
الحمد لله أن حدَّد الكاتبُ الأرض التي يسيطرون عليها في العراق، فإذا بها أكثر من ثلث أرض العراق، لكنه زاد عليها فقال: ومساحات أخرى ...! فليرنا الكاتب أيَّ أرضٍ من الأنبار يسيطرون عليها السيطرة التي تؤهلهم لإعلان الدولة؟ ونحن لا ننكر أنَّ لهم نوع سيطرة في بعض المناطق- قبل سنوات وقد انتهت الآن تمامًا- كما لغيرهم من الفصائل، ولكنها ليست تمكينًا بالمفهوم الشرعي الذي يجيز لهم إعلان دولة تجب بيعتها؛ لأنَّ القواعد الأمريكية في كل مكان( )، والبلد محتل مستباح.
إنَّ الشرع لم يدع هذه المسألة عائمةً بطريقةٍ يتمكن فيها من يشاء أن يدَّعي ما يشاء، فلقد وصف الله تعالى السيطرة على الأرض والتي من خلالها تصبح تلك السيطرة شرعية بصفة "التمكين"، فقال سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج:41) ، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }(النور:55).
فهل يُسمى من لم يستطع حماية أهله وعرضه وماله متمكنًا من الأرض؟!
وهل يُسمى من لم يستطع الخروج إذا أُعلن حظر التجول كما لا يستطيع رفع الحظر ولا ردِّه متمكنًا من الأرض؟!
وهل يُسمى من لم يستطع أن يجتمع بأخيه أو جماعته إذا أراده إلا بعد جهدٍ جهيد، وتخف شديد حيث يخرج كل واحد منهم خائفًا يترقب متمكنًا من الأرض؟!
وهل يُسمى من أخفى مظاهر دينه، ولبس لباس الفرنجة، وتشبه بهم متمكنًا من الأرض؟!
وهل يُسمى من رحل بأهله إلى مناطق بعيدة عن مسكنه الأصلي، وشتتهم في مناطق العراق؛ خوفًا على العرض والنفس والمال متمكنًا في الأرض؟!
وهل يُسمى من أخفى وجهه، وغيَّر اسمه، وبدَّل هويته، متمكنًا في الأرض؟!
وهل يُسمى من يغير منطقة سكنه مرارًا، ويغير عناوينه وهواتفه وهوياته دائمًا، فلا يقر له قرار في بقعة أو في مكان متمكنًا في الأرض؟!
وهل يُسمى من لم يستطع حماية مساجده من الاختراق والهدم والتخريب والتدنيس... متمكنًا في الأرض؟!
وهل يُسمى من لم يستطع حماية الضرورات الخمس من دين ونفس ومال ونسل وعقل متمكنًا في الأرض؟!
أليس هذا هو الوضع الحقيقي لأهل الجهاد في العراق؟
أليست المنعة ركنًا من أركان الدولة الإسلامية كما هو معلوم، فقد جاء في الموسوعة الفقهية 21/37: (لفظ المنعة أو عبارة أمن الرعية بأمن المسلمين، يستخدمها الفقهاء بما يقابل لفظ السيادة لما يحصل بذلك من حفظ حقوق الدولة من الانتقاص)( ).
ولنرجع الآن إلى علماء اللغة؛ لننظر ماذا يقولون في معنى "التمكين":
قال ابن منظور في معنى "تمكَّن": (تقول العرب: إنَّ ابن فلان لذو مكنة من السلطان، أي: تمكن، فيقول: أقروا الطير على كل مكنة ترونها ودعوا التطير منها... قال ابن سيده: وتمكن من الشيء واستمكن ظفر)( ).
فهل نستطيع أن نقول إنَّ المجاهدين ظفروا بالأرض أم أنَّ الأرض على أحسن الأحوال وفي مناطق قليلة( )متنازع عليها، لم يتمكن منها هؤلاء ولا هؤلاء؟ أما الغالبية العظمى من المناطق فالجهاد فيها على نظام حرب العصابات، وليس فيها أدنى تمكين، نسأل الله باسمه الأعظم أن يمكِّن المجاهدين للحكم بشريعته سبحانه.
أما أهل التفسير، فيقول الإمام الطبري عند قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ }: (إنْ وطَّنَّا لهم في البلاد، فقهروا المشركين، وغلبوهم عليها، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إن نصرناهم على أعدائهم، وقهروا مشركي مكة، أطاعوا الله)( ).
لاحظ كلمة "وطنَّا"، وكلمة "غلبوهم عليها"، فلم يقل: غلبوهم فيها، وإنما "غلبوهم عليها" بمعنى أجْلوهم عنها، وقال: "وطَّنَّا" أي أصبحت لهم وطنًا كالبيت، قال ابن منظور: (الوطن : المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله)( ). وقال أيضًا: (وتغلَّب على بلد كذا : استولى عليها قهرًا)( ).
ولذا قال الآلوسي عند قوله تعالى: { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ }: (وأصل التمكين جعل الشيء مكانًا لآخر، والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين، ورصانة أحكامه، وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار)( ).
وتأمل أقوال أئمة التفسير عند قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ }:
قال الرازي: (والمراد من هذا التمكن السلطنة، ونفاذ القول على الخلق؛ لأنَّ المتبادر إلى الفهم من قوله {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ } ليس إلا هذا؛ ولأنا لو حملناه على أصل القدرة لكان كل العباد كذلك)( ).
وقال ابن كثير: (قال عثمان بن عفان: فينا نزلت {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ }: فأُخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا: "ربنا الله" ثم مُكِّنا في الأرض فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهي لي ولأصحابي)( ).
وقال الواحدي: (يعني هذه الأمة إذا فتح الله عليهم الأرض)( ).
وقال البغوي: (قال الزجاج: هذا من صفة ناصريه. ومعنى مكناهم نصرناهم على عدوهم حتى يتمكنوا في البلاد)( ).
وقال ابن جزي: (قيل: يعني أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الصحابة، وقيل: الخلفاء الأربعة؛ لأنهم الذين مكنوا في الأرض بالخلافة ففعلوا ما وصفهم الله به)( ).
وقال النسفي: (هو إخبار من الله عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إن مكنهم في الأرض، وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين)( ).
وقال أبو السعود: (وصْف من الله عز وجل للذين أُخرجوا من ديارهم بما سيكون منهم من حسن السيرة عند تمكينه تعالى إياهم في الأرض وإعطائه إياهم زمام الأحكام)( ).
وقال الشوكاني: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ } (أرض المدينة)( ).
وقال الآلوسي: (والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر)( ).
وقال السعدي: (أي ملَّكناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها من غير منازع ينازعهم ولا معارض)( ).
وقال الشعراوي: (جعلنا لهم سلطانًا وقوة وغلبة، فلا يتجرأ أحد عليهم أو يزحزحهم، وعليهم أن يعلموا أنَّ الله ما مكنهم ونصرهم لذاتهم، وإنما ليقوموا بمهمة الإصلاح... والمـُمَكَّن في الأرض الذي أعطاه الله البأس والقوة والسلطان، يستطيع أن يفرض على مجتمعه ما يشاء، حتى إن مكن في الأرض بباطل يستطيع أن يفرض باطله ويخضع الناس له، ولو إلى حين)( ).
إذًا فمجموع المفسرين من مختلف العصور الإسلامية كما ترى، يثبتون أنَّ التمكين جامع ما بين التمكن من الأرض والسلطنة عليها بحكم الله، وأيُّ عبارة أوضح في بيان مقداره واستحكامه من قوله تعالى: "في الأرض"؟
وأيُّ مثل أوضح في بيان المقصود من التمكين للمسلمين من قول الصحابة والمفسرين: "في المدينة"؟
وتتضح معالم التمكين أكثر، ويفهم أكثر، بقصة واقعية للتمكين عقَّب عليها القرآن الكريم مقارنًا بين ما قبل حالة التمكين وما بعدها، تلك هي قصة يوسف، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }(يوسف:56).
قال الإمام الطبري: (يقول تعالى ذكره: وهكذا وطنَّا ليوسف في الأرض، يعني أرض مصر { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ }، يقول: يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث يشاء بعد الحبس والضيق {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ} من خلقنا، كما أصبنا يوسف بها، فمكنا له في الأرض بعد العبودية والإسار وبعد الإلقاء في الجب)( ).
وقال الرازي: (واعلم أنَّ قوله: { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } يدل على أنه صار بحيث لا يدافعه أحد، ولا ينازعه منازع؛ بل صار مستقلاً بكل ما شاء وأراد، ثم بين تعالى ما يؤكد ذلك من قبله فقال: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ})( ).
وقال الشوكاني: (وهو عبارة عن كمال قدرته، ونفوذ أمره ونهيه حتى صار المـَلِك يصدر عن رأيه، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه... وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما يتصرف الرجل في منـزله)( ).
وأخيرًا فهل هذا النزاع المحتدم- على أرض العراق- في كثير من المناطق يسمى تمكنًا؟! وهل جَمَع المجاهدون –وأعني جميع الفصائل- فيه ما بين الثبات على الأرض بعدما أخذوا مكان غيرهم مع قوة السلطنة ونفاذ الأمر؟!
ثم هل ذكر الكاتب مرجعًا واحدًا يبين أنَّ معنى التمكين الشرعي هو ما يريده هو علمًا بأنَّ هذه الكلمة هي عماد بحثه؟!
الملاحظة الثامنة: شروط الإمام وواجباته
شروط الإمام: للإمام شروط، بعضها اتفق عليها العلماء، وبعضها اختلفوا فيها، فالشروط التي اتفقوا عليها هي:
1-الإسلام.
2-التكليف: ويشمل العقل والبلوغ.
3-الذكورة.
4- الكفاية ولو بغيره، والكفاية هي الجرأة والشجاعة والنجدة، بحيث يكون قيِّما بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود والذب عن الأمة.
قال ابن خلدون: (وأما الكفاية فهو أن يكون جريئًا على إقامة الحدود، واقتحام الحروب، بصيرًا بها، كفيلاً بحمل الناس عليها، عارفًا بالعصبية وأحوال الدهاء، قويًا على معاناة السياسة؛ ليصح له ما جعل إليه من حماية الدين، وجهاد العدو، وإقامة الأحكام، وتدبير المصالح)( ).
وبتعبير الآمدي: (نافذ الحكم مطاعًا قادرًا على من خرج عن طاعته)( ).
وقال الحصكفي في الدر المختار: (والإمام يصير إمامًا بأمرين: بالمبايعة من الأشراف والأعيان، وبأن ينفذ حكمه في رعيته خوفًا من قهره)( ).
5-الحرية ( ).
7- القرشية: وقد نقل الإجماع على ذلك عدد من العلماء، منهم القاضي عياض والماوردي والغزالي والنووي والإيجي وابن خلدون( ). وللباقلاني في المسألة قولان، ومال إمام الحرمين إلى عدم اشتراطه( ).
أما المختلف فيه من الشروط فهو:
1- العدالة والاجتهاد. ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنَّ العدالة والاجتهاد شرطا صحة، وقد نقل بعض أهل العلم الاتفاق على اشتراط الاجتهاد في الإمام، قال الشاطبي: (إنَّ العلماء نقلوا الاتفاق على أنَّ الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع)( ).
وقال الجويني: (فالشرط أن يكون الإمام مجتهدًا بالغًا مبلغ المجتهدين، مستجمعًا صفات المفتين، ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف)( ).
وذهب الحنفية إلى أنهما شرطا أولوية ( ).
ومما ينبغي ذكره أنَّ اشتراط الجمهور للعدالة والاجتهاد هو في حالة الاختيار والعهد فقط، أما في حالة التغلب فلا يشترط( ).
2- السمع والبصر والنطق وسلامة اليدين والرجلين. ذهب جمهور الفقهاء إلى أنها شروط انعقاد، فلا تصح إمامة الأعمى والأصم والأخرس ومقطوع اليدين والرجلين ابتداء، وينعزل إذا طرأت عليه؛ لأنه غير قادر على القيام بمصالح المسلمين، ويخرج بها عن أهلية الإمامة إذا طرأت عليه.
وذهب ابن حزم إلى أنه لا يشترط ذلك، فلا يضر الإمام عنده أن يكون في خلقه عيب جسدي أو مرض منفِّر، كالعمى والصمم وقطع اليدين والرجلين والجدع والجذام( ).
واجبات الإمام: يحدد الفقهاء واجبات الإمام تحديدًا دقيقًا، ولهم في ذلك أقوال كثيرة، منها ما ذكره الماوردي:
(الذي يلزم الإمام من الأمور العامة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة، وبيَّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين، حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة، والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار، آمنين من تغرير بنفس أو مال.
الرابع: إقامة الحدود؛ لتصان محارم اللَّه تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم، أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق اللَّه تعالى في إظهاره على الدين كله.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف.
الثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء، فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويوكل إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر: أن يباشر بنفسِه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلًا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح)( ).
وذكر البهوتي الحنبلي ألفاظ الماوردي الشافعي فقال: (ويلزم الإمام عشرة أشياء، حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه بيَّن له بالحجة، وأخذه بما يلزمه من الحقوق؛ ليكون الدين محروسًا من الخلل، وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع ما بينهم من الخصومات، وحماية البيضة والذب عن الحوزة؛ لينصرف الناس في معايشهم ويسِيروا في الأسفار آمنين، وإقامة الحدود؛ لتصان محارم اللَّه عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلاف أو استهلاك، وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرمًا أو يسفكون بها دما معصومًا، وجهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة، وجباية الخراج والصدقات على الوجه المشروع، وتقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقته من غير تقديم ولا تأخير، واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال والأموال؛ لتكون مضبوطة محفوظة، وأن يباشر بنفسه مشارفة الأمور ويتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ولا يعول على التفويض تشاغلاً فقد يخون الأمين ويغش الناصح)( ).
وقال الشوكاني في وبل الغمام: (ملاك أمر الإمامة وأعظم شروطها وأجل أركانها، أن يكون قادرًا على تأمين السبل، وإنصاف المظلومين من الظالمين، ومتمكنًا من الدفع عن المسلمين إذا دهمهم أمر يخافونه كجيش كافر أو باغ، فإذا كان السلطان بهذه المثابة فهو السلطان الذي أوجب الله طاعته وحرَّم مخالفته؛ بل هذا الأمر هو الذي شرع الله له نصب الأئمة، وجعل ذلك من أعظم مهمات الدين)( ).
هذه هي واجبات الإمام- يا من سميت نفسك زورًا أمير المؤمنين- فهل تستطيع القيام بها حتى تطالب الناس بحقوق الإمام من الطاعة والنصرة؟!
وقال الشيخ محمد الجذبتي: (وينبغي للسلطان أولاً أن يعرف قدر الولاية، ويعلم خطرها، فإنَّ الولاية نعمة من نعم الله تعالى، من قام بحقها نال من السعادة ما لا نهاية له، ولا سعادة بعده، ومن قصَّر عن النهوض بحقها حصل في شقاوة لا شقاوة بعدها إلا الكفر بالله تعالى)( ).
ولزيادة الإيضاح في هذه المسألة سنبحث- باختصار- ثلاث مسائل:
الأولى: كلام العلماء في تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الإمام جنة...)( ).
والثانية: بيان شيخ الإسلام ابن تيمية لاشتراط الشوكة في الإمام التي تتحقق بها مقاصد الإمامة، ولينتبه القارئ إلى هذا القيد، فليست كل شوكة تتحقق بها مقاصد الإمامة، فيجب أن تحقق شوكة الإمام مقاصد الإمامة، وإلا فلا يسمى إمامًا كما سيأتي معنا عن شيخ الإسلام.
والثالثة: متى تسقط ولاية الإمام.
أولاً: أقوال العلماء في معنى حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الإمام جُنَّة...).
ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (إنما الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه ويُتقى به...). وإليك ما قاله أهل العلم في معنى هذا الحديث:
قال الحافظ ابن حجر: (وقوله "إنما الإمام جُنة" بضم الجيم، أي: سترة؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويكف أذى بعضهم عن بعض، والمراد بالإمام: كل قائم بأمور الناس، واللَّه أعلم)( ).
وقال ابن بطال: (قال المهلب:... وقوله: "يتقى به"، أي: يُرجع إليه فى الرأي والفعل وغير ذلك مما لا يجب أن يقضى فيه إلا برأي الإمام وحكمه، ويُتقى به الخطأ في الدين والعمل من الشبهات وغيرها، والإمام جنة بين الناس بعضهم من بعض؛ لأنَّ بالسلطان يزع الله تعالى عن المستضعفين من الناس، فهو ستر لهم، وحرز الأموال، وسائر حرمات المؤمنين أن تنتهك)( ).
وقال النووي: (قوله صلى اللَّه عليه وسلم : "الإمام جُنَّة"، أي: كالستر؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس، ويخافون سطوته)( ).
وقال المناوي: ("إنما الإمام" الأعظم "جنة" بضم الجيم، أي: وقاية وساتر وترس تحمى به بيضة الإسلام)( ).
وقال العيني: (قوله "ويتقي به" أيضًا على صيغة المجهول عطف على يقاتل، أي: يتقي بالإمام شر العدو، وأهل الفساد والظلم، وكيف لا؟ وإنه يمنع المسلمين من أيدي الأعداء، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقي منه الناس، ويخافون سطوته)( ).
وقال في موطن آخر: (قوله: "وإنما الإمام جُنَّة" بضم الجيم وتشديد النون، أي: سترة؛ لأنه يمنع المسلمين من أذى العدو، ويمنع الناس بعضهم من بعض، والجُنَّة الدرع، وسمي المجن مجنًا؛ لأنه يستر به عند القتال، والإمام كالساتر)( ).
وقال علي القاري: (لأنَّ الإمام يكون ملجأ للمسلمين في حوائجهم دائمًا)( ).
فهل إمامكم يا كاتب "إعلام الأنام" جُنَّة؟! بل أنتم لا تذكرون اسمه الحقيقي، بل قد تكفِّرون مَن يذكر اسمه الحقيقي معللين ذلك أنَّ في هذا وشاية بأمير المؤمنين!!!
ثانيًا:كلام شيخ الإسلام عن الشوكة التي تتحقق بها مقاصد الإمامة:
لشيخ الإسلام ابن تيمية كلام علمي رصين- كعادته رحمه الله- عن الشوكة المشترطة في الإمام، والتي يجب أن تُحقق مقاصد الإمامة، سننقله على طوله؛ لعظيم أهميته، والمنصف العاقل العارف بوضع العراق، إذا قرأ كلام شيخ الإسلام، سيدرك بوضوح لا خفاء فيه أنَّ تلبس القوم بلباس الإمامة العظمى كذبة كبرى وجهل مركب، يجب عليهم أن يتوبوا منه، فلا يجوز الإحداث في الدين، ولا يجوز خداع المسلمين.
يقول رحمه الله تعالى: (وأما قول الرافضي: إنهم يقولون: إنَّ الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر بمبايعة عمر برضا أربعة. فيقال له: ليس هذا قول أئمة أهل السنة، وإن كان بعض أهل الكلام يقولون: إنَّ الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنة؛ بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة؛ فإنَّ المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إمامًا، ولهذا قال أئمة السلف من صار له قدرة وسلطان، يفعل بهما مقصود الولاية، فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، مالم يأمروا بمعصية الله. فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكًا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم، بحيث يصير ملكًا بذلك، وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه، ولهذا لما بويع علي رضي الله عنه، وصار معه شوكة، صار إمامًا.
ولو كان جماعة في سفر فالسنة أن يؤمروا أحدهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أن يؤمروا واحدًا منهم"، فإذا أمَّره أهل القدرة منهم صار أميرًا، فكون الرجل أميرًا وقاضيًا وواليًا وغير ذلك من الأمور التي مبناها على القدرة والسلطان، متى حصل ما يحصل به من القدرة والسلطان حصلت، وإلا فلا، إذ المقصود بها عمل أعمال لا تحصل إلا بقدرة، فمتى حصلت القدرة التي بها يمكن تلك الأعمال كانت حاصلة، وإلا فلا، وهذا مثل كون الرجل راعيًا للماشية متى سلمت إليه بحيث يقدر أن يرعاها كان راعيًا لها، وإلا فلا، فلا عمل إلا بقدرة عليه، فمن لم يحصل له القدرة على العمل لم يكن عاملاً، والقدرة على سياسة الناس إما بطاعتهم له وإما بقهره لهم، فمتى صار قادرًا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره فهو ذو سلطان مطاع، إذا أمر بطاعة الله، ولهذا قال أحمد في رسالة عبدوس بن مالك العطار: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى أن قال: ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فدفْعُ الصدقات إليه جائز برًّا كان أو فاجرًا. وقال في رواية إسحاق بن منصور وقد سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية"( ) ما معناه؟ فقال: تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا إمام. فهذا معناه.
والكلام هنا في مقامين: أحدهما: في كون أبي بكر كان هو المستحق للإمامة، وأنَّ مبايعتهم له مما يحبه الله ورسوله، فهذا ثابت بالنصوص والإجماع.
والثاني: أنه متى صار إمامًا فذلك بمبايعة أهل القدرة له، وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه، ولو قُدِّر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما سواء كان ذلك جائزًا أو غير جائز.
فالحل والحرمة متعلق بالأفعال، وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية كسلطان الظالمين.
ولو قُدِّر أنَّ عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يصر إمامًا بذلك، وإنما صار إمامًا بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة، ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة؛ لأنَّ ذلك لا يقدح في مقصود الولاية، فإنَّ المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك، فمن قال: إنه يصير إمامًا بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة، وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط، كما أنَّ من ظنَّ أنَّ تخلف الواحد أو الاثنين والعشرة يضره فقد غلط. وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة، وبهم قُهر المشركون، وبهم فتحت جزيرة العرب، فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر، وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة فلا بد في كل بيعة من سابق، ولو قُدِّر أنَّ بعض الناس كان كارهًا للبيعة لم يقدح ذلك في مقصودها، فإنَّ نفس الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية الدالة على أنه أحقهم بها، ومع قيام الأدلة الشرعية لا يضر من خالفها، ونفس حصولها ووجودها ثابت بحصول القدرة والسلطان بمطاوعة ذوي الشوكة، فالدين الحق لا بد فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (الحديد:25)، فالكتاب يبين ما أمر الله به وما نهى عنه، والسيف ينصر ذلك ويؤيده، وأبو بكر ثبت بالكتاب والسنة أنَّ الله أمر بمبايعته، والذين بايعوه كانوا أهل السيف المطيعين لله في ذلك، فانعقدت خلافة النبوة في حقه بالكتاب والحديد.
وأما عمر فإنَّ أبا بكر عهد إليه، وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر، فصار إمامًا لمـَّا حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم له.
وأما قوله: ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم.
فيقال أيضًا: عثمان لم يصر إمامًا باختيار بعضهم؛ بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان، ولم يتخلف عن بيعته أحد. قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي: ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان، كانت بإجماعهم. فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إمامًا، وإلا فلو قُدِّر أنَّ عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إمامًا)( ).
ثم قال رحمه الله: (والناس لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور؛ بل كانت تفسد أمورهم فكيف تصلح أمورهم إذا لم يكن لهم إمام إلا من لا يُعرف( )، ولا يدري ما يقول، ولا يقدر على شيء من أمور الإمامة؛ بل هو معدوم؟! وأما آباؤه فلم يكن لهم قدرة ولا سلطان الإمامة؛ بل كان لأهل العلم والدين منهم إمامة أمثالهم من جنس الحديث والفتيا ونحو ذلك، لم يكن لهم سلطان الشوكة، فكانوا عاجزين عن الإمامة سواء كانوا أولى بالإمامة أو لم يكونوا أولى، فبكل حال ما مُكنوا، ولا كان ولوا يحصل لهم المطلوب من الولاية لعدم القدرة والسلطان، ولو أطاعهم المؤمن لم يحصل له بطاعتهم المصالح التي تحصل بطاعة الأئمة من جهاد الأعداء وإيصال الحقوق إلى مستحقيها أو بعضهم وإقامة الحدود.
فإن قال القائل: إنَّ الواحد من هؤلاء أو من غيرهم إمام. أي: ذو سلطان وقدرة يحصل بهما مقاصد الإمامة. كان هذا مكابرة للحس، ولو كان ذلك كذلك لم يكن هناك متول يزاحمهم، ولا يستبد بالأمر دونهم، وهذا لا يقوله أحد)( ).
ثم قال رحمه الله: (أفليس قول أهل السنة في الإمامة خيرًا من قول من يأمر بطاعة معدوم أو عاجز لا يمكنه الإعانة المطلوبة من الأئمة)( ).
وقال رحمه الله: (فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة)( ).
ثم قال رحمه الله: (أما الإجماع على الإمامة، فإن أريد به الإجماع الذي ينعقد به الإمامة، فهذا يعتبر فيه موافقة أهل الشوكة، بحيث يكون متمكنًا بهم من تنفيذ مقاصد الإمامة حتى إذا كان رؤوس الشوكة عددًا قليلاً ومن سواهم موافق لهم حصلت الإمامة بمبايعتهم له، هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة، وهو مذهب الأئمة كأحمد وغيره، وأما أهل الكلام فقدرها كل منهم بعدد، وهي تقديرات باطلة)( ). انتهى كلام شيخ الإسلام.
وقال الشنقيطي: (ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية- رحمه الله- في "المنهاج" أنها إنما تنعقد بمبايعة من تقوى به شوكته، ويقدر به على تنفيذ أحكام الإمامة؛ لأنَّ من لا قدرة له على ذلك كآحاد الناس ليس بإمام)( ).
فبالله عليك- يا من سميت نفسك زورًا أمير المؤمنين في بلاد الرافدين- هل تقدر على تنفيذ أحكام الإمامة كما اشترط العلماء للإمام؟! فلِمَ المكابرةُ للحسِّ؟! ولم تخدعون أمةَ الإسلام؟!
ثالثًا: متى تسقط ولاية الإمام: قد يقول البعض: إنَّ القوم قبل سنوات كان لهم نوع ظهور في بعض المناطق، ولذلك أعلنوا الدولة الإسلامية. ونقول: لكنه لا يسمى تمكينًا بالمفهوم الشرعي كما بينا، وبقية أركان الدولة لم تتوفر، وستأتي معنا، ولكن لو سلمنا جدلاً أنها تسمى تمكينًا- ونحن لا نسلِّم بذلك- فماذا يقولون الآن، هل بقي لهم شيء من ذلك؟! نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمكِّن للمجاهدين الصادقين، ويهلك الكفرة من اليهود والصليبيين والمجوس والمرتدين.
وسنذكر الحالات التي تسقط بها ولاية الإمام مما له علاقة بموضوعنا:
قال إمام الحرمين: (قلت: لو سقطت طاعة الإمام فينا، ورثَّت شوكته، ووهنت عدته، ووهت منته، ونفرت منه القلوب، من غير سبب فيه يقتضيه، وكان في ذلك على فكر ثاقب، ورأي صائب، لا يؤتى عن خلل في عقل، أو عته وخبل، أو زلل في قول أو فعل، أو تقاعدٍ من نبل ونضل، ولكن خذله الأنصار، ولم تواته الأقدار، بعد تقدم العهد إليه أو صحيح الاختيار، ولم نجد لهذه الحالة مستدركًا، ولا في تثبيت منصب الإمامة له مستمسكًا، وقد يقع مثل ذلك من ملل، أنتجه طول مهل، وتراخي أجل، فإذا اتفق ذلك، فقد حيل بين المسلمين وبين وزرٍ يستقل بالأمر، فالوجه نصب إمام مطاع، ولو بذل الإمام المحقق أقصى ما يستطاع.
وينزل هذه المنزلة ما لو أُسر الإمام وانقطع نظره عن الأنام وأهل الإٍسلام، فلا يصل إلى مظان الحاجات أثر رأي الإمام، إذ لم تكن يده الطولى، ولم تنبسط طاعته على خطة الإسلام عرضًا وطولاً، ولم يصل إلى المارقين صوله، ولم ينته إلى المستحقين طوله، والإمام لا يعنى لعينه، ولا يقتصر انقطاع نظره على موافاته حين حينه)( ).
وفي حاشية ابن عابدين: (قال في شرح المقاصد: ينحل عقد الإمامة بما يزول به مقصود الإمامة كالردة والجنون المطبق، وصيرورته أسيرًا لا يرجى خلاصه، وكذا بالمرض الذي ينسيه المعلوم، وبالعمي والصمم والخرس، وكذا بخلعه نفسه لعجزه عن القيام بمصالح المسلمين، وإن لم يكن ظاهرًا؛ بل استشعره من نفسه)( ).
وقال ابن مفلح الحنبلي: (ومن ثبتت ولايته قهرًا، زالت به)( ).
وبعد كلام العلماء هذا، نريد أن نتساءل، هل يكفي أن يدعي فلان الإمامة العظمى ثم يدعي أنه قائم بواجبات الإمامة على الورق دون النظر في قيامه بتلك الواجبات على الواقع؟!
أليس من أسوأ أنواع الاغتصاب أن يدعي رجل دعوى؛ ليستلب من وراء دعواه حقًا من الحقوق الشرعية؟ وهل من حق أعظم مما يسميه العلماء "الإمامة العظمى"؟
وبناء على هذا فما جزاء من زعم أنه أمير المؤمنين في هذا الزمان، وأنه قائم بحقوقها وواجباتها الشرعية، والمسلمون في العراق يعلمون يقينًا أنه لا رصيد لها على أرض الواقع؟!
وأهل الغلو قد شابهوا الخوارج حتى في تلقيب أميرهم بأمير المؤمنين، فالمطلع على كتب التاريخ يعلم أنَّ الخوارج لقَّبوا "قطري بن فجاءة"، و"شبيب بن يزيد" و"المستورد بن علفة" وغيرهم بأمير المؤمنين.
الملاحظة التاسعة: سياحة مع الأساطير!
لا ينبغي أن نبقي عقول القراء لأوهام هذا الكاتب مرخية عنانها، سارحة معه في أحلامها وخيالاتها، يتنقل بها حيث يشاء، على غمامة بيضاء، يحل في أرض التمكين أيَّ مكان يشاء حيث أجواء العراق التي أصبحت بفضل قلم الكاتب كالمدينة المنورة في أول عهدها؛ بل آمن!
وتمادى في ذلك كثيرًا حتى قال ص48: (ولقد فتح إخوانكم في دولة الإسلام في كل منطقة لتحصيل الزكاة وقبض الصدقات، ولذا نهيب بكل المسلمين، الأتقياء منهم والعصاة بتحري دفع الزكاة عند بلوغها النصاب، وليعلموا أنَّ دولة الإسلام هي المعني الوحيد بقبض الصدقات، وأنه لا يحل لمسلم دفعها إلى غيرهم).
تأمل جيدًا هذا الإطلاق في قوله: (في كل منطقة)، لتعرف حجم التضليل الذي يمارسونه.
أما قوله: (نهيب بكل المسلمين)، فلعله يقصد المسلمين في العراق، أما إذا عنى المسلمين بكل مكان فهذا أقبح وأشنع.
ولا ندري أين هذه المراكز المعدة لقبض الزكوات؟ هل يعرف مكانها أحد من المسلمين، فالنداء موجه لكل المسلمين.
ولا ندري هل هذه المراكز الموجودة في كل المناطق العراقية كما صرح مؤلفهم (في كل منطقة)، تعني أنَّ أصحاب الكاتب قد أتموا سيطرتهم على جميع مناطق العراق؟!
وهل أصبحت هذه المراكز معلنة لا تخاف ولا تخفى؟! وإلا كيف سيذهب إليها المتبرعون؟
وهل تتوقعون أنَّ لهذه الأسئلة عند الكاتب من جواب؟ أم أنه الإغراق في الاستغفال والتضليل؟
ألا فليذكر لنا الكاتب مركزًا واحدًا في بغداد؛ بل ليذكر لنا موقع مركز الزكوات في الأنبار؟
ولا يستطيع الكاتب أن يقول: إنَّ ذلك يضر بالدولة الإسلامية؛ لأنه بقلمه أعلن أنَّ الدولة قد أصبحت آمنة مطمئنة، والسيطرة فيها للمجاهدين، وأنه لا داعي للخفاء بعد اليوم كما قال ص36: (فوقع لهم في ذلك قبولٌ حسنٌ وموطنٌ راسخٌ على تلك الأرض بتوفيق الله، وهو ما يدعو بكل إلحاح لإعلان الدولة الموجودة في الخفاء، وإبرازها للناس ليعم الخير).
وأذكِّر الكاتب وأتباعه بأنَّ خداع المؤمنين من الكبائر. وقد ذكرها الذهبي في كتابه "الكبائر" (الكبيرة الثامنة والستون: المكر والخديعة).
الملاحظة العاشرة: الجرأة على الفتيا
قال الكاتب ص48: (وليعلموا أنَّ دولة الإسلام هي المعني الوحيد بقبض الصدقات، وأنه لا يحل لمسلم دفعها إلى غيرهم).
وأقول: في هذا جرأة ظاهرة في قضية التحليل والتحريم، فقوله: (لا يحل) أمر في غاية الخطورة! ورب العالمين يقول: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } (النحل:116). لكنه في المقابل في غاية السهولة عند الكاتب وصحبه!
قال ابن القيم: (وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين، ثم أفتى. وقال عبدالله بن المبارك: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال في المسجد، فما كان منهم محدِّث إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ودَّ أخاه كفاه الفتيا... وقال مالك عن يحيى بن سعيد قال: قال ابن عباس: إنَّ كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون... وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أنَّ الحق كله فيه.
قلت (القائل ابن القيم): الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، ومن غزارته وسعته، فإذا قلَّ علمه أفتى عن كل ما يُسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه، ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا, وقد تقدم أنَّ فتاواه جمعت في عشرين سفرًا، وكان سعيد بن المسيب أيضًا واسع الفتيا... وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريء)( ).
وقال مرعي الكرمي الحنبلي: (وكان السلف رحمهم الله تعالى يهابون الفتيا، ويشددون فيها، ويتدافعونها)( ).
وقال ابن الحاج: (قال ابن هانئ: سألت أبا عبد الله عن الذي جاء في الحديث "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار"، قال أبو عبد الله: يفتي بما لم يسمع)( ).
وقال ابن مفلح: (وقال في رواية المروذي: إنَّ الذي يفتي الناس يتقلد أمرًا عظيمًا أو قال: يقدم على أمر عظيم, ينبغي لمن أفتى أن يكون عالمـًا بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي. وقال في رواية الميموني: من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه من الخطأ... وقال الثوري: لانزال نتعلم ما وجدنا من يعلمنا. وقال أحمد: نحن إلى الساعة نتعلم... وقال محمد بن أبي حرب: سمعت أبا عبدالله، وسئل عن الرجل يفتي بغير علم. قال: يروى عن أبي موسى، قال: يمرق من دينه)( ).
ثم أيُّ مشقة أعظم من حصر أداء الزكاة بمختلف أصنافها في مكان واحد، وأيُّ مشقة أعظم من تحصيل زكاة المسلمين أينما كانوا لمكان واحد، إذ يقول كاتبهم: (وليعلموا أنَّ دولة الإسلام هي المعنى الوحيد بقبض الصدقات، وأنه لا يحل لمسلم دفعها إلى غيرهم).
وسبق أن ذكرنا قول الشيخ محمد بن عبدالوهاب- رحمه الله-: (ولا يعرفون أحدًا من العلماء ذكر أنَّ شيئًا من الأحكام لا تصح إلا بالإمام الأعظم)( ).
وأيُّ إلغاء لاعتبار فقر فقراء الأمة في بلدانهم لتُعطى لمكان واحد؟!
بل أيُّ نشر للردة بين فقراء الأمة الذين ملؤوا السهل والجبال إذا انسحبت الزكوات من عندهم، وحولت لمكان واحد؟!
وأيُّ قدرة لهذه الحكومة التي تعيش لا أقول على الورق، ولكن لنقل تعيش في بعض مناطق العراق تنـزلاً عند قول الكاتب، أيُّ قدرة لها على توزيع الزكاة على فقراء الأمة ومحتاجيها؟
أم أنَّ الزكاة سوف تصادر بالكامل لصالح الدولة الإسلامية الموهومة؟
الملاحظة الحادية عشرة: الخوف والأمان
يقول الكاتب: (والمرتد الآن( ) شريعته غير نافذة، وشوكته مكسورة بحمد الله، بل إنها تكاد تكون محصورة في المنطقة الخضراء، وهو مضيق عليه فيه، والدولة الإسلامية قد كسرت شوكة أعوانهم من الشرطة وغيرهم في مواضع كثيرة، والمحتل لم يجد بابًا لسيطرته ونفوذه إلا عن طريق هؤلاء المرتدين، وحالهم ما علمت، فالدار ليست جميعها دار حرب لا يتأتى إقامة شرع الله فيها من كل وجه، بل حال الدولة الإسلامية في كثير من المواضع أقل خوفًا مما جرى لدولة الاسلام النبوية بإمامها محمد صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب).
قوله: (أقل خوفًا مما جرى لدولة الإسلام النبوية) أقل خوفًا أو أكثر خوفًا... فماذا يريد أن يبني الكاتب على تقرير هذا الأمر؟! ومع هذا فسوف أسايره على ما قال، فأقول:
هل الخوف الذي طرأ على المسلمين أو غير المسلمين في معركة من المعارك يصلح أن يكون أصلاً يقاس عليه حالة بلدٍ عامة، ومع هذا قد قال الله تعالى عن المؤمنين في هذه المعركة واصفًا ثباتهم وتمكنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } (الأحزاب:22).
ألم ينزل الله تعالى للخوف أحكامه بعد قيام الدولة، فهل كان الخوف مبطلاً للدولة؟ قال سبحانه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } (النساء:101).
وهل إذا شاب بعض الخوف التمكين في الأرض قدح ذلك في التمكين؟
وهل كان ثمة قرار واستقرار في داخل المدينة للعدو؟
وهل خوف أيام معدودات- وهو كل عمر الحصار الفعلي للمدينة في الخندق- يجعل ذلك الحصار أصلاً يقاس عليه لإنشاء دولة أو إزالة دولة؟
وهل المدينة التي كان أهلها- إذ ذاك- فيها، ونساؤها فيها، والعدو لم يتجاوز إلى داخلها شبرًا واحدًا يمكن أن تقاس على حياة العراق اليوم وحالته التي تجاوز العدو فيها كل حد، وتجاوز فيها الخوف كل أحد، وكل وقت، وكل مكان، بما في ذلك المساجد؟
وكأنَّ الكاتب يريد أن يقول بلسان صريح: ليست المدينة بأحق من "دولة الإسلام في العراق" باسم الدولة في كل حال، إذ دولة الإسلام الموهومة في العراق أكثر أمانًا من المدينة المنورة في بعض الحالات كغزوة الخندق!
بل يستدل الكاتب لهذا، فيقول ص60-61: (ومع هذا كان يصدق على الحال الجديد أن يأخذ اسم الدولة الإسلامية الأولى، ويؤكد هذه الحقيقة ما رواه القرطبي في تفسيره!!! 12 /272 عن أبي العالية، قال: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفًا هو وأصحابه يدعون إلى الله سرًا وجهرًا، ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح، فقال رجل: يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: لا تلبثون إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليس عليه حديدة. ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فوضعوا السلاح وأمنوا". فهذا ما يؤكد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لم يكونوا آمنين تمامًا في العهد المدني الأول؛ بل كانوا يحملون السلاح وهم خائفون، أي أنَّ سيطرتهم على المجتمع الجديد كانت ناقصة في بداية الأمر، ومع هذا كانت تسمى دولة إسلامية بإجماع أهل العلم. أضف إلى ذلك أنَّ هذه الدولة تعرضت في نشأتها الأولى إلى هزات قاسية، تمثلت بالحروب الأولى التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ففي معركة الأحزاب توافد أعداء الإسلام على المدينة من كل جانب، وأحاطوها إحاطة السوار بالمعصم حتى خرجت الأحياء والمناطق اليهودية عن السيطرة). انتهى.
أما استدلاله: بما ذكره القرطبي في تفسيره, فهل كونهم كانوا خائفين في دولتهم يجيز مساواة علة قيام دولة النبي صلى الله عليه وسلم وبقائها بدولة ورقية بأوهامها؟!
وهل من دولة- في الدنيا- تقوم أول ما تقوم وتكون تامة الأمان أو يكون أمانها مثلما لو مرَّ عليها أعوام من السيطرة؟ أما الكاتب وصحبه فيزدادون انحسارًا بمرور الأيام، والله المستعان.
وهل الأمن إلا مثل الاقتصاد والتعليم ونحو ذلك يزداد تكاملاً بمرور الأيام؟
ثم ماذا ترى الكاتب سيصنع وهو يريد إثبات دولته الوهمية من خلال إثبات زعزعة الأمن في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا عرف أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في رؤياه المدينة قبيل خروجه لغزوة أحد: (رأيت كأني في درع حصينة... فأولت أنَّ الدرع الحصينة المدينة)( ). فهل العراق درع حصينة للمجاهدين؟ نسأل الله العظيم أنَّ يمكن للمجاهدين ليحكموا بشرعه العظيم.
وهنا تعود لتتساءل وأنت في غاية الاستغراب: هل هذا الكاتب يعيش في العراق؟!
إنك أيها القارئ بمجرد أن تعرف الواقع العراقي تتساءل ألف ألف مرة وزيادة: لِمَ يا ترى هذا التشبيه الذي لا رصيد له على أرض الواقع؟ لِمَ؟
وعلى فرض واقعية ما ذكر الكاتب، فالسؤال هو: ألم يأمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد الخوف بوصولهم المدينة أم أنَّ حالهم في المدينة كان كحالهم قبل المدينة، أيقول هذا عاقل؟
ألم يكن الخوف قبل المدينة خوفًا على النفس؟ بينما الخوف بعد الهجرة كان خوفًا على الدولة.
الخوف قبل المدينة كان خوف المستضعفين، أما بعد المدينة فقد كان خوف الممكنين أن يذهب تمكينهم، ولذا كان الجميع حراسًا، وكانوا يباتون في السلاح.
كانوا قبل المدينة يذهبون ذات اليمين وذات الشمال بحثًا عن مأوى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل، أما بعد الهجرة فقد توقف البحث، وأصبحت الهجرة إلى أرض التمكين، والجميع يشتركون في حمايتها والدفاع عنها، وزيادة نفوذها، لذلك كان البدء بتشريع الجهاد بعد التمكين، ولم يكن قبلها، ثم أين العراق من المدينة، وقد كان الهجوم على المدينة من خارجها في أساسه، أما في العراق فقد أصبح الهجوم عليه من داخله؟ ولذا فمن مستلزمات التمكين أن توقف الهجوم الداخلي الذي يمنع كل التمكين، فإذا ما منعته، واستقر الأمن داخليًا لك، أعلنت عندها التمكين بالشروط الشرعية، أما إذا قامت الدولة، وأصبحت تلك الزعزعة كمؤامرات ونحوها فهذا أمر معتاد؛ لأنك أنت الأصل، أما في مثل حالنا فالهجوم المعادي هو الأصل، والمجاهدون هم المطلوبون المطاردون، وبهذا يتضح كيف أنَّ وضع العراق معاكس لوضع المدينة من هذه الحيثية، كما كان مخالفًا من الحيثيات التي ذكرنا من قبل، فالتمكين هناك قائم، وانطلق الجهاد من أرض التمكين، والجهاد في العراق قائم لإخراج العدو من الأرض لتصبح أرض التمكين، نسأل الله أن يمكن للمجاهدين، ولذا فلا ينبغي أن نتكلف ونقول: إنَّ الحال شبيه بحال المدينة، فما من أحدٍ قال: إنَّ التمكين لا يقبل في الأرض إلا أن يكون شبيهًا بالحال الأول حتى نتكلف لإثبات الشبه.
الملاحظة الثانية عشرة: الدولة الإسلامية عند الكاتب
كرَّر الكاتب كثيرًا في كتابه لفظ "الدولة الإسلامية"، وبحثه كله عن الدولة الإسلامية! فهل يصح أن يكتب الكاتب كتابًا بأكمله عن هذا الموضوع ثم لا يعرِّف فيه " الدولة " لغة ولا شرعًا؟ إذًا فما قيمة البحث العلمية؟ وهل المصطلح الإسلامي للدولة كالمصطلح العلماني أو المصطلح العرفي القائم؟
نعم لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن يجب أن تعرِّف اصطلاحك أنت حتى يعرف القارئ معناه، ثم كيف يكون اصطلاح الدولة هو اسمك وهو شعارك وتبقيه بدون تعريف ولا تذكر أصله، ولا دليله، ثم تنسبه للنبي صلى الله عليه وسلم مرارًا عديدة في بحثك فتقول : (دولة النبي صلى الله عليه وسلم)، أو تقول كما قلت هنا: (الدولة النبوية بإمامها محمد)، وتقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في المدينة: (أي أنَّ سيطرتهم على المجتمع الجديد كانت ناقصة في بداية الأمر، ومع هذا كانت تسمى دولة بإجماع أهل العلم).
الملاحظة الثالثة عشرة: الدولة الإسلامية وأركانها
قد ذكرنا أنَّ الكاتب لم يعرِّف الدولة، وهو أحوج ما يكون لهذا التعريف، إذ هو عنوان بحثه "إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام"، وإليك ما ذكره ابن منظور في معنى الدولة لغة، قال رحمه الله: (الدَّولةُ والدُّولةُ العُقبة في المال والحرب سواء، وقيل: الدُّولةُ بالضم في المال، والدَّولةُ بالفتح في الحرب. وقيل: هما سواء فيهما يضمان ويفتحان. وقيل: بالضم في الآخرة، وبالفتح في الدنيا. وقيل: هما لغتان فيهما. والجمع دُوَلٌ ودِوَلٌ... الليث: الدَّوْلة والدُّولة لغتان، ومنه الإدالة الغَلَبة، وأدالنا الله من عدونا من الدولة، يقال: اللهم أدِلْني على فلان وانصرني عليه، وفي حديث وفد ثقيف: نُدالُ عليهم ويُدالون علينا. الإدالةُ الغلبة، يقال: أُديل لنا على أَعدائنا، أي: نُصرنا عليهم وكانت الدَّوْلة لنا، والدَّوْلة الانتقال من حال الشدَّة إلى الرخاء، ومنه حديث أبي سفيان وهرقل: ندال عليه ويدال علينا، أي: نغلبه مرة ويغلبنا أخرى، وقال الحجاج: يوشك أن تُدال الأرض منا كما أُدلْنا منها، أي: يُجعل لها الكَرَّةُ والدَّوْلة علينا فتأكل لحومنا كما أكلنا ثمارها وتشرب دماءنا كما شربنا مياهها)( ).
أما فقهاء السياسة الشرعية فإنهم يعرِّفونها بأنها: (مجموعة من الإيالات- أي السياسات- تجتمع لتحقيق السيادة على أقاليم معينة، لها حدودها ومستوطنها بتكوين الحاكم أو الخليفة أو أمير المؤمنين على رأس هذه السلطات)( ).
وما يعنينا أكثر هو أنَّ الفقهاء يذكرون أنَّ للدولة أركانًا، وهي: الدار، والرعية، والمنعة( ).
ولو أنَّ الكاتب عرَّف كل ركن وبيَّن معناه لعرف الحق!
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 21/37: (ولقد بحث الفقهاء أركان الدولة عند بحثهم عن أحكام دار الإسلام، يتضح هذا من تعريفاتهم لدار الإسلام:
التعريف الأول: كل دار ظهرت فيها دعوة الإسلام من أهله، بلا خفير، ولا مجير، ولا بذل جزية، وقد نفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة، إن كان فيهم ذمي، ولم يقهر أهلُ البدعة فيها أهلَ السنة( ).
والتعريف الثاني: كل أرض سكنها مسلمون، وإن كان معهم فيها غيرهم، أو تظهر فيها أحكام الإسلام( ).
فالدار هي البلاد الإسلامية، وما تشمله من أقاليم داخلة تحت حكم المسلمين.
والرعية هم المقيمون في حدود الدولة من المسلمين وأهل الذمة.
والسيادة هي ظهور حكم الإسلام ونفاذه، وعدم الخروج عن طاعة ولي الأمر، وعدم الافتيات عليه، أو على أيِّ ولاية من ولايات الدولة).
وبيان هذه الأركان الثلاثة كاف وحده لنسف كتاب المؤلف برمته من غير نظر ولا تفصيل، فإنك كلما أمعنت النظر، وأوغلت في التفاصيل، ظهرت جهالات وتناقضات لا يكفي الرد عليها تفصيلاً عشرة أضعاف هذا الكتاب دون مبالغة.
- زوال الدولة: جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية 21/42: تزول الدولة بزوال أحد أركانها: الشعب، أو الإقليم، أو المنعة (السيادة)، أو بتحولها من دار إسلام إلى دار حرب.
- إذا خلا الزمان عن الإمام: قال الخطيب الشربيني: (لو شغر الزمان عن الإمام انتقلت أحكامه إلى أعلم أهل ذلك الزمان)( ).
الملاحظة الرابعة عشرة: الأكثرية والأقلية
يقول الكاتب ص7: (مع التنبيه إلى أنَّ السيادة الإسلامية في المدينة لم تكن كاملة، فقد كانت المدينة آنذاك موطنًا كبيرًا لتجمعات اليهود، اليهود الذين يحظون بقدرة عسكرية واقتصادية لا يستهان بها في المنطقة، بالإضافة لوجود الأعداء والمتربصين بالدعوة وأصحابها داخل المدينة وخارجها، إلا أنَّ هذه السيادة بدأت بالتكامل والامتداد بعد تشريع الجهاد الذي أعطى الدولة الفتية زخمًا متزايدًا في القوة والنفوذ مما حدا بها لتوطيد الأركان واستقرار القواعد).
هنا قال عن السيادة على المدينة بأنها:(لم تكن كاملة)، وفي موضع سابق قال: (منقوصة)!
يقول هذا الكاتب بأنَّ السيادة على المدينة (لم تكن كاملة) بدليل أنَّ فيها يهودًا، ولها أعداء من خارجها، وقد صرح بهذا في موضع آخر، فقال: (وأضرب مثالاً للتوضيح: وهو أقرب ما يكون للاستدلال منه للتمثيل، فعند دخول النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة وإقامته للدولة الإسلامية الأولى، لم تكن سيطرته على الأرض بالمفهوم الذي يقصده الكثير ممن يعيش في الدول المعاصرة، فمع ابتداء عهد الدولة الجديدة، كان أصحاب الدعوة ربما لا يشكلون الأكثرية في المدينة، فكان هناك المنافقون واليهود ومن يتربص حتى يرى مآلات الأمور، وكل هؤلاء حسبما تفيدنا مصادر التاريخ والسيرة كانوا من المسلحين من أبناء المدينة وما حولها، وخاصة اليهود الذين كانوا يشكلون تجمعات منفصلة تحظى بترتيب عسكري ومدني منفصل، ضمن بقعة المدينة النبوية، ومع هذا لم يمنع ذلك من إعلان الدولة المسلمة على أرض المدينة، مع أنها تشكل نطاقًا ضيقًا بالنسبة للمساحات الواسعة على أرض جزيرة العرب، أي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أعلن الدولة في حدود ضيقة يقيم عليها جمع من الناس يتفاوتون في مستوى الدعم والولاء للدولة الناشئة، فمنهم المعادي لها في الباطن كالمنافقين واليهود، ومنهم المتريث الذي لم يحسم أمره، ومنهم المتعاطف، ومنهم الموالي والمناصر، كل هذه الشرائح كانت متواجدة على تلك البقعة الصغيرة، وهي مسلحة بالتأكيد).
أقول: ماذا ترى يريد الكاتب هنا بقوله: (فعند دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وإقامته للدولة الإسلامية الأولى لم تكن سيطرته بالمفهوم الذي يقصده الكثير ممن يعيش في الدولة المعاصرة).
أتراه يريد أن يقيس دولتهم على الدولة النبوية؟
أم تراه مقتنعًا بهذا الذي يقوله كحقيقة على أرض الواقع؟
ثم يقول مدللاً على رأيه: (كان أصحاب الدعوة ربما لا يشكلون الأكثرية).
ومن قال إنَّ من شروط إقامة الدولة أن يكون أصحاب الحكم من الأكثرية؟ فضلاً عن أن يكونوا في بداية الأمر كذلك؟
ومع كل ما ذكره الكاتب، فليس من شك أنَّ السيطرة والقوة الأكبر في المدينة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك واقع المجاهدين مجتمعين في العراق- وليس دولة الكاتب المزعومة فقط- كما لا يخفى على صادق يعيش في العراق! ونسأله تعالى باسمه الأعظم أن يُمكِّن للمجاهدين.
الملاحظة الخامسة عشرة: حجم الأرض
يقول الكاتب ص61: (وهذا لم يمنع من إعلان الدولة الإسلامية على أرض المدينة، مع أنها تشكل نطاقاً ضيقًا بالنسبة للمساحات الواسعة على أرض جزيرة العرب).
وما علاقة كونها (تشكل نطاقًا ضيقًا بالنسبة للمساحات الواسعة على أرض جزيرة العرب) بقيامها كدولة؟ ولِمَ يطرح الكاتب أساسًا هذا الموضوع؟ يقول: (مع أنها...)؟ إنه كما لو قال قائل مكملاً على نفس الطريقة: مع أنَّ الجزيرة العربية تشكل نطاقًا ضيقًا بالنسبة للقارة، والقارة تشكل نطاقًا ضيقًا بالنسبة للكرة الأرضية!
إنَّ اصطناع مسألة لم يقل بها أحد، ولم يقم عليها دليل، أو تكبير مسألة شاذة لا تكاد تجد لها ذكرًا، ولا يعرف لها من دليل، ثم الهجوم عليها بالرد والإبطال، كي يوحي للقارئ بالانتصار العلمي وضعف الخصم الآخر، ترتد عند التأمل على مصطنعها بما أراد أن يصف به الآخرين، والجزاء من جنس العمل، كمثل مسألة: "حجم الأرض التي يشترط أن تقام عليها الدولة"، فقد ذكر هذه المسألة هنا، وذكرها في موضع آخر ووسعها، انظر ص 25من كتابه.
الملاحظة السادسة عشرة: مجموعات عسكرية داخل الدولة النبوية
قال الكاتب ص58: (فمع ابتداء عهد الدولة الجديدة، كان أصحاب الدعوة ربما لا يشكلون الأكثرية في المدينة، فكان هناك المنافقون واليهود ومن يتربص حتى يرى مآلات الأمور، وكل هؤلاء حسبما تفيدنا مصادر التاريخ والسيرة كانوا من المسلحين من أبناء المدينة وما حولها، وخاصة اليهود الذين كانوا يشكلون تجمعات منفصلة تحظى بترتيب عسكري ومدني منفصل، ضمن بقعة المدينة النبوية، ومع هذا لم يمنع ذلك من إعلان الدولة المسلمة على أرض المدينة).
ماذا يضرُّ إذا كان في الدولة مجموعات عسكرية؟ فهذه أكبر بلاد الدنيا وأقواها اليوم : "أمريكا" فيها أكثر من أربعين جيشًا منفصلاً، فما من ولاية إلا ولها جيش مستقل تتحمل الولاية تكاليفه، ويمثل خط الرجعة للولاية عند التمزق، مزقها الله كل ممزق، وهذا العراق قبل الاحتلال ألم تكن دولة باعتراف العالم كله؟ فهل ضرَّ وجود الأكراد كقوة عسكرية من كون العراق دولة؟ وهذه تركيا وباكستان والهند والفلبين وبنغلادش وإنجلترا وغيرها من الدول التي فيها مجاميع عسكرية علنية، مجاميع تطالب بالاستقلال، وتقاتل للانفصال، ومع هذا لم يقدح هذا بقول أحد باستقلاليتها، فكيف تقاس الدولة الموهومة هذه على دولة النبي صلى الله عليه وسلم؟
ومع هذا فثمة مسألة في غاية الدقة والأهمية تلك هي: هل كانت ثمة دولة في الجزيرة العربية حين أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولته؟ أم كانت الجزيرة عبارة عن مجموعة من القبائل المتناثرة في أرجاء الجزيرة؟ بمعنى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقامها في فراغ سياسي حقيقي، أما العراق فهو باعترافكم واعتراف العالم وعرفه كان دولة كأيِّ دولة في العالم، تحمل أوصافها المتفق عليها، أليس كذلك؟ إذًا فهذا العراق ما زال يحمل وصف الدولة لكنه باعتراف العالم ثبت اسمها كدولة، وزيد عليه وصف "المحتلة" فأصبح الاسم: "دولة العراق المحتلة" وعليه فإنَّ القياس على دولة النبي صلى الله عليه وسلم غير صحيح من هذا الجانب، بالإضافة للجوانب الأخرى.
معاذ الله أن يظن أحد أنني لا أقول بوجوب إقامة خلافة إسلامية، فهذه أول كلماتي في مقدمة الكتاب، وهو هدفنا من الجهاد بعد إرضاء الله تعالى، لكن ماذا نصنع إذا كان المطلوب شيئًا والقياس شيئًا آخر؟
وثمة أمر آخر وهو أنَّ قياس وجود اليهود في دولة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الدولة أمر فيه تنقيص لاستقلالية دولة النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك أنَّ دولة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أعظم استقلالاً من أكثر هذه الدول من هذه الحيثية، فكيف ذلك؟
إنَّ الحركات العسكرية في جل هذه الدول حركات منشقة على الدولة، وغير معترف بها، ولا هي معترفة بالدولة في كثير من الأحيان، وهي إما تطالب بالحكم كله، أو تطالب بالاستقلال عن الدولة، أو تطالب بحكم ذاتي.
أما اليهود في الدولة الإسلامية الأولى فقد كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة تنظم التعامل وتحدد الموقف كرعايا في الدولة الإسلامية، ولم يقدح حيازتهم أو حيازة غيرهم للسلاح باستقلالية الدولة النبوية، لكنهم لما خالفوا بعض البنود التي وقعوها، ومن غير أن يرفعوا السلاح الذي عندهم، كان أخف عقوبة واجهوها هي الطرد من حصونهم ومناطقهم.
وهل من استطاع أن ينظم حياة مجتمعه أفرادًا وجماعات في وثيقة تحدد الحقوق والواجبات كانت استقلاليته ضعيفة، أو يصبح مضرب المثل في الضعف، لا والله بل هو مضرب المثل في القوة، فهذه دول العالم الحديثة ما زالت ومنذ عقود طويلة من السنين تنام على ألغام تلك الجماعات المتفجرة في بطنها غير قادرة على حل إشكالاتها، بينما النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يتمم هذه المسألة في أول أيام الهجرة، بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه.
الملاحظة السابعة عشرة: مثل الصحابة!
يقول الكاتب ص 61-62: (فكيف بالمجاهدين على أرض العراق، وقد منَّ الله عليهم بالسيطرة على مساحات هي أضعاف ما لو قيس بمساحة المدينة النبوية، فخذ مثلاً محافظة الأنبار السنية، وهي أكبر المحافظات السنية، وتشتمل على عدد من المدن والمرافق الحيوية هي أكبر بكل تأكيد مما يعرف بدولة لبنان مثلاً أو الحكومة الفلسطينية المنتخبة (بحسب زعمهم)، والقاصي والداني يعلم أنَّ المحافظة تقع تحت سيطرة المجاهدين!!!، فكيف إذا انضم إليها عدد لا يستهان به من مناطق العراق ومساحاته، مما هو تحت السلطة والنفوذ الجهادي، فالأمر واضح لا مرية فيه، وعنصر الأرض إن اعتبرناه المقوم الأول في قيام الدولة فهو أكثر من متوفر في حالة الدولة الإسلامية على أرض العراق).
إنَّ الكاتب يريد أن يخلص إلى نتيجة واحدة واضحة، هي أنهم أحق باسم الدولة من الدولة النبوية الأولى باعتبار قياس الأولى!
فإذا كانت العبرة بحجم الأرض، فإنَّ أرضنا أكبر من أرض المدينة بأضعاف مضاعفة!
وإذا كانت العبرة بمستوى أفراد مجلس الشورى، فإنَّ أغلب من قامت عليهم الدولة الإسلامية الأولى أحداث، بينما أغلب من عندنا وجهاء! (هذه عبارة الكاتب سامحه الله وغفر له، وإلى الله المشتكى).
وإذا كانت العبرة بتنوع التخصصات في مجلس الحل والعقد، فتخصصاتنا أكثر!
وإذا كانت العبرة بالسيطرة على الأرض، فإنَّ سيطرتنا أكثر بالمفهوم المعاصر!
وإذا كانت العبرة بالأمان، فإننا أكثر أمانًا من دولة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مراحلها الأولى!
وإذا كانت العبرة بالتكامل، فإنَّ دولتنا أكثر تكاملاً لمكونات الدولة المعاصرة من الدولة الإسلامية الأولى!
فتكون بحسب هذه المعطيات أحق.
ويقع المؤلف في مقارنة غير محسوبة لديه ما بين أهل الحل والعقد من الصحابة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة من جهة، وبين أهل الحل والعقد في دولته الموهومة من جهة أخرى، فيقول عن أصحاب بيعة العقبة ص26: (مع ملاحظة أنهم لم يكونوا من الوجهاء المعروفين في أغلبهم، فقول العباس عنهم وهو الخبير بأهل يثرب وزعمائها: يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب ... فلما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث. فليس شرطًا أن تكون القوة والغلبة في أناس معينين ولا وجهاء معروفين، فالطائفة التي أقامت الدولة الإسلامية الأولى كان معظمها من الأحداث الغير معروفين كما قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم).
لقد عبر العباس رضي الله عنه عن معرفته، ووصفهم بأنهم "أحداث" يعني صغارًا بالنسبة لغيرهم، وذلك حين كان على الشرك، لكن من ينكر أنَّ منهم وجهاء ووجيهات.
فلا علاقة للصغر في السن بالوجاهة التي جعلها الكاتب مقابل صغر السن، حسب ما فهمه من كلام العباس، ولكن أيجوز لمسلم أن يتجرأ على وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّ معظمهم أحداث، فيقول: "فالطائفة التي أقامت الدولة الإسلامية الأولى كان معظمها من الأحداث"؟!
وهل هكذا يكون التأدب مع مقام خير الخلق بعد الأنبياء، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي مقابل ذلك يصف الكاتبُ مجلسَ الشورى في دولتهم المزعزمة، فيقول: (فصفوف المجلس جمعت وجهاء كبار من أفاضل المسلمين من أصحاب الكلمة المسموعة، وممن يمتلك تأثيرًا واسعًا في محيط عشائره وأتباعه، إلى جانب أهل الخبرة العسكرية والحنكة الميدانية، مع صف الشيوخ والقضاة وطلبة العلم والدعاة وأصحاب الكفاءات المختلفة، فكان المجلس بحق صورة لامعة لما يعرف بمجلس أهل الحل والعقد).
وقد أخطأ والله في أغلب ما قال، أو اعتمد على نقل كذبة، ونحن أعرف الناس بمجلس حلك وعقدك، فقل لي بربك: من هم الشيوخ والقضاة وطلبة العلم؟ وأين وجهاؤكم الكبار؟ إنَّ عدم صحة ما قاله الكاتب يعرفه كل مجاهد نبيه يعرف واقع العراق وواقع الجماعات الجهادية، ولكنَّ كلامه قد يُسوَّق على المخلصين الذين يعيشون خارج العراق، ولا يعرفون الواقع أدنى معرفة.
فأين وصف الكاتب لهؤلاء الوجهاء الكبار، من وصفه لأغلب من قامت عليهم الدولة الإسلامية الأولى بقوله: (مع ملاحظة أنهم لم يكونوا من الوجهاء المعروفين في أغلبهم)؟
أين "الوجهاء الكبار ، أفاضل المسلمين ، أصحاب الصورة اللامعة" في دولة العراق الإسلامية من "الأحداث الذين قامت على معظمهم الدولة الإسلامية الأولى"؟!
والله لو كان هذا الكلام صحيحًا- وهو والله غير صحيح- لما كان ينبغي أن يقال؛ تأدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع صحبه رضي الله عنهم أجمعين.
أيها الكاتب: اجمع أمرك ومجلس حلك وعقدك وانثر عليهم من المواصفات ما تشاء، وضعه في كفة، ثم ضع واحدًا من أولئك الصحابة في كفة، لا أقول في الفضل، ولكن في الخصائص فسوف تطيش كفتك بمجلس عقدك... أتدري لماذا؟ لأنَّ كل واحدٍ من أولئك بأمة.
إنَّ تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيم حرمات الله، ومن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ أدنى مساس بهم بأقل عبارة وأبعد إشارة ينبيك عن جرأة عظيمة، موروثة من سلف قد اعترضوا يومًا من الأيام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم، كما قاتلوا ابن عمه عليًا رضي الله عنه، وقتلوا من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتلوا!
ينبيك عن خطر عقدي كبير، ينذر بعدوان كبير على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، فما ترى سيقول هؤلاء في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إذا ما تمكنوا فعلاً مادام هذا كلامهم وَهُمْ في هذه الحال؟
وحتى لو لم يقصد الكاتبُ الإساءة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الظن به، فينبغي إنتقاء أرقى العبارات عند الحديث عن أسيادنا صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الملاحظة الثامنة عشرة: أشباه الدولة في الماضي والحاضر
قال الكاتب ص69: (أما على مدار تاريخنا الإسلامي ففي حالات خاصة عديدة، حال الفترات العصيبة عند سقوط خلافة وقيام أخرى أو خلال تعرض الأمة لهجمات خارجية كالهجمة التتارية والهجمات الصليبية، خلال مثل هذه الفترات العصيبة قامت مثل هذه الإدارات وارتقى بعضها بإقامة دويلات صغيرة ثم تجمع لإقامة خلافة أو دولة، وأوضح مثال لذلك هو فترة الحروب الصليبية، فالقارئ المتمعن لتلك الفترة الزمنية يرى أنَّ المسلمين عالجوا أمر الصليبيين عن طريق تجمعات صغيرة، وتنظيمات متوزعة متفرقة، فهذه قلعة حكمتها عائلة من العائلات جمعت تحت إمرتها طائفة من الناس، وهذه قرية ارتضوا حكم قائد عالم منهم وجاهدوا معه، وهذا عالم انتظم معه جماعة من تلاميذه وارتضوا إمامته وهكذا، وكان دور القادة الكبار أمثال آل زنكي والأيوبيين هو تجميع هذه التكتلات والتنظيمات في تجمع واحد وتنظيم واحد... تجلى فيما بعد في صورة الدولة التي بدأت تتوسع وتقوى).
هل كانت الدولة الإسلامية تُعلن في تلك الإمارة أو الدولة بعد سقوطها بيد العدو أم بعد تطهيرها من الصليبيين وغيرهم؟
هل أعلن أحد منهم وجوب بيعته وبيعة إمامه كإمام عام للمسلمين كما فعلتم، وأعلن أنه يجب على المسلمين السمع والطاعة له، والجهاد تحت إمارته ووجوب انضمام الفصائل الأخرى لإمرته، ووجوب أداء زكاة أموالهم إلى عماله ومكاتبه، وما إلى ذلك مما هو حق لخليفة المسلمين؟
هل تجرأ أحد من هؤلاء، وقال إنَّ دولته كدولة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشاهم؟
وهل يريد الكاتب أن يتحول العراق إلى دويلات هنا وهناك؟ وهل يتمنى العدو أمنية لتمزيقه أحسن مما ذكر الكاتب؟ وهل سيقبل الكاتب الآن إعلان دولة إسلامية أخرى على أرض العراق أم أنه وصحبه سيكونون أول المقاتلين لها؟ بدليل أنه طالب جميع الفصائل والمناطق بالبيعة لإمامه، بل طالب المسلمين بالبيعة وبالزكاة ووعدهم بالفتح المبين!
ثم يستمر الكاتب بالبحث عن شبيه لدولتهم في التاريخ، فيتحول للتاريخ المعاصر، فيقول ص70: (هناك أمثلة عديدة لتجمعات معاصرة سواء إسلامية أو غير ذلك منها:
الفصائل المقاتلة في أفغانستان في المراحل الأولى للجهاد والمراحل الأولى لحركة طالبان حتى شروعها بإقامة دولتها، وقد كان ذلك عبر مراحل زمنية متناوبة تصاعد فيها نفوذ الحركة وسلطانها تدريجيًا على بقاع وأقاليم متزايدة. الحكومة الفلسطينية التي شكلتها حركة حماس على أراضي غزة الفلسطينية، وهي لا تشكل مظهرًا سياديًا واضحًا لدولة معاصرة، كما أنه ينقصها الكثير من الترتيب الإداري المقارن للدول المعاصرة وحكوماتها. كذلك فصائل المحاكم الشرعية والفصائل الإسلامية الأخرى التي تحركت قريبًا في الصومال وأسقطت الحكومة الحالية، تعيش الآن في حالة شبه الدولة وتفتقد الكثير مما تجهز به مرافق الدول المعاصرة الإدارية والسياسية والإعلامية. كذلك بعض المراحل الزمنية لبعض المناطق في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وعلى رأسها جمهورية الشيشان التي لم تحظ بدعم إسلامي قبل أن يكون دولي. حركة جون جارنج بجنوب السودان المسماة (الجبهة الشعبية لتحرير السودان). حركات اليساريين في أمريكا الوسطى والجنوبية، التي تمثل حالاً أقرب للدول التي نتحدث عنها، بل بعضهم أقام دولاً بالفعل.
وآخرًا تشهد الساحة السياسية العالمية، صورًا مختلفة لما يعرف بحكومات المنفى وحكومات الظل، التي تمارس أدوارها بعيدًا عن معالم الدولة الكاملة، وهي منقوصة أو معدومة السيادة والقرار، ومع هذا تلقى قبولاً وترحيبًا من جهات فكرية وسياسية متعددة).
وأقول: وما رأيت مثالاً واحدًا من هذه الأمثلة إلا وهو حجة على الكاتب.
فالمثل الأول طالبان، والسؤال الذي يرد على التمثيل بطالبان هو: هل أقامت طالبان دولتها أثناء المقاومة أم بعدما طهرت المناطق تلو المناطق حتى تساقطت أمامها مثل أوراق الخريف، وأتمت سيطرتها على معظم أفغانستان بعد سيطرتها على كابل، ومن هناك أعلنت إمارة أفغانستان الإسلامية؟ وذهبت الإمارة بعد الضربات الأمريكية، ولو أنها اليوم أعلنت أنها الإمارة الإسلامية- وهي في هذا الحال- لكان لها في ذلك حق لما لها من مناطق كاملة تحت سيطرتها لا تصلها إلا الطائرات الأمريكية، ولأنها كانت هي الحكومة الشرعية وسقطت بأيدي المحتل وما تزال شرعيتها قائمة، وأرضها قائمة، وأميرها الأول قائم، ومجلسه الحقيقي قائم، ومجاهدوها متوافرون، وولاء مناطقها التي تحتلها لها- فهي دولة ولكنها محتلة-! فأين هذا من هذا؟
أما المجاهدون في الصومال فحالهم فيه شبه بطالبان، ومع هذا فقد أعلنت المحاكم( ) انخراطها مع الشعب في مقاومة المحتل والحكومة العميلة بعد دخول القوات الأثيوبية أراضيها.
أما استشهاده بجمهورية الشيشان، فليقل لنا الكاتب أين هي دولة الشيشان الإسلامية اليوم؟ أين أرضها؟ أين سماؤها؟ نعم ثمة عمليات جهادية متباعدة، والسيطرة والإدارة والجيش والوزارات للحكومة الشيشانية العميلة، فهل يصح أن نستشهد بها على دولة العراق الإسلامية الموهومة؟ نعم يصح من جهة واحدة فحسب، هي: انعدام الدولة في هذا وهذه!
ولا أدري ما العلة المشتركة ما بين الدولة الإسلامية الموهومة، وبين حركة جون قرنق أو اليساريين في أمريكا الوسطى والجنوبية، أهذه دول مستقلة؟ أم معترف بها؟
وبإمكان أيِّ أحد أن يقول بكل ثقة وبغض النظر عن العقائد: إنَّ وجه الشبه أنَّ كل هؤلاء حركات، نعم حركات ليس إلا... علمًا بأنَّ دولة العراق الموهومة لم تصل إلى مستوى هذه الحركات على الأرض حقيقةً، فهذه حركات لها مناطقها، ولها شعوبها، ولها ولاؤها، ولها ميزانياتها ودوائرها... ومناطقها منفصلة حقيقةً عن الدولة، فهي مناطق غير محتلة من قبل حكومتها، ولذا فإنها إذا أرادت أن تتدخل فيها حرَّكت الجيش وليس الشرطة، والجيش كما هو معلوم للعدوان الخارجي.
الملاحظة التاسعة عشرة: تمزيق العراق وفق الأماني اليهودية
قال الكاتب ذاكرًا الاعتراض قبل الأخير ص75: (إعلانكم للدولة الإسلامية على النحو الذي بينتموه في مناطق محددة من العراق سيؤدي إلى تمزيق العراق وتقسيمه وهو مطلب أمريكي صليبي!!
ونقول: لا شك أنَّ الحديث يدور الآن على مناطق من العراق، ولكننا بيَّنا أنَّ التكليف الشرعي وإقامة أحكام الدين منوط بالمستطاع والممكن، والله يعلم أنَّ المجاهدين يرومون بأهدافهم القريبة والبعيدة تخليص الأراضي الإسلامية من رجس الطواغيت، وتوحيدها تحت راية إسلامية ذات شوكة ومنعة تعيد لهم أمجادهم وأيام عزهم، ولكنَّ الشأن الآن في كيفية بلوغ هذا الهدف؟
المعطيات الحالية على الأرض لا تسمح بإنشاء عراق إسلامي كامل لأسباب سنعرج عليها الآن، فالتدرج سنة ربانية وحكمة نورانية لا تتعثر فيها الخطى ولا تتيه بها الآراء، فلا حرج شرعًا أن تقام الدولة على أجزاء من العراق الحبيب توطدت شوكة المجاهدين فيها وترسخت، ريثما تتهيأ إمكاناتهم لبسط نفوذ الدولة الجديدة على باقي مناطق العراق).
أقول: وهكذا تكشف العبارة حقيقة الدولة الموهومة، فهو يقول: (لا شك أنَّ الحديث يدور حول مناطق محدودة...). إذًا فهو ليس دولة أقيمت فعليًا على مناطق محددة كما زعم مرارًا وتكرارًا، إنما هو حديث يدور! وكم هو الفارق ما بين الحديث الذي يدور، وبين الحديث الجازم أو القرار القاطع؟ ثم كم هو الفارق بين القرار القاطع وبين التطبيق الفعلي؟ إذًا فكم هو الفارق ما بين الحديث الذي يدور حول مناطق وبين قيام دولة على أرض الواقع، وهذا ما يدل على أنَّ الكلام المكتوب هنا لا علاقة له بالواقع كصانع القصص المختلقة أو الملفقة، فإنه يكشف نفسه بنفسه كلما كرر قصته، إذ لا بد أن ينسى فقرة أو فكرة ويضيف فقرة أو فكرة! ولذا زاد هذا المؤلف بعدما ذكر هذه العبارة في صناعة الخيال وتحدث باسم المجاهدين مُشهدًا الله على ما في قلبه قائلاً: (والله يعلم أنَّ المجاهدين يرومون بأهدافهم القريبة والبعيدة تخليص الأراضي الإسلامية من رجس الطواغيت وتوحيدها تحت راية إسلامية ذات شوكة ومنعة تعيد لهم أمجادهم وأيام عزهم، ولكن الشأن الآن في كيفية بلوغ هذا الهدف).
فالكاتب يخاطب القارئ قائلاً: يا أيها القارئ اطمئن! فما تشاهدونه ليس هو منتهى غاياتنا، بل هذا ما أدركتموه أنتم بنظركم القصير من خلال تصريحاتنا، وإلا فإنَّ غايتنا هي تخليصكم وتخليص المسلمين من جميع الطواغيت...! غايتنا توحيد جميع البلاد وهذا ما نخطط له، وهذا ما سيأتي دوره تدريجيًا!
إنَّ بداية الخطورة نحو الوقوع في النتيجة الخاطئة، هي أن تجد نفسك مستسلمًا لمقدمات غير صحيحة كتوصيف غير صحيح، أو مستسلمًا لقاعدة شرعية صادفت غير محلها!
والوقاية بمراجعة صدق التوصيف، ومراجعة صحة تنزيل القاعدة الشرعية.
وتطبيقًا لما ذكرنا يأتي الكاتب ليقدم لك هذه المقدمات فيقول: العمل بالممكن واجب، فهل تخالف في هذا؟ الجواب الوحيد هو أن: لا.
إذًا فهل إقامة دولة الإسلام في العراق مشروع أم ليس بمشروع- على الجزء المتحصل إلى هذه اللحظة في العراق-؟ ولا يمكنك إلا أن تجيب: قطعًا نعم مشروع! وبعد هذا يسوق لك المبررات الأخرى لتؤكد على نفس النتيجة!
دعنا نعود لأول المسألة فنسألكم هل لو كانت لكم أرض، ولم تكن ثمة حرب، وقد اجتمعتم فيها جميعًا ثم حوصرتم فيها، لكن من غير حرب تدمر ولا طائرات تقصف ولا صواريخ ولا دبابات ولا جيوش، وبقيتم على هذا الحال ثلاث سنين، فالأرض موجودة، والمسلمون فيها موجودون، والقيادة موجودة فهل ستعلنون الدولة فيها؟
أجيبوا...
ليس أمامكم إلا واحدٌ من الإجابتين فإما أن تقولوا: لا، وهذا جواب صحيح يناقض ما فعلتموه, وإما أن تقولوا: نعم، فنقول لكم إذًا لِمَ لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام في شعب أبي طالب؟ فالأرض أرضهم، أليس هو شعب أبي طالب وأبو طالبٍ معهم؟ ولِمَ لم يقمها موسى في بني إسرائيل قبل هلاك فرعون وزوال ملكه وكان لبني إسرائيل مساكنهم ومناطقهم المعزولة عن الفراعنة؟
هل ستقولون: إنَّ الدولة ما شرعت في العهد المكي؟ نقول: وما يدريكم أنها ما شرعت؟ إذ كيف لم تشرع والنبي صلى الله عليه وسلم من العهد المكي وهو يعرض نفسه على القبائل يطلب المأوى؟
فلم المأوى أساسًا؟ وحين وجد المأوى فعلى أيِّ شيء أخذ البيعة؟ ومع هذا نقول لكم: أرونا أرضكم الآمنة في العراق، ونحن معكم نعرفها شبرًا شبرًا...؟
أنا لا أقول: أرونا الإعلان عن دولتكم على الورق، ولكن أرونا الأرض الآمنة، أرونا الشَعْب الموالي لكم، أرونا بعض ما تذكرون قبل أن نناقشكم في باقي أموركم!
وليعلم القارئ أنَّ أي مطالبة بدولة سنية داخل العراق السني الكبير إنما هو أعظم تنازل عن أعظم مطلبٍ طال محافظة العراقيين عليه طوال عمر العراق الإسلامي.
فطوال عمر العراق الإسلامي كان سنيًّا، وهذا ما حفظ له مساجده، ومحاكمه الشخصية، وأنظمته الاجتماعية، وعاصمته بغداد، وهو ما حفظه كذلك من ابتلاع إيران له، في جميع المراحل، ومن عسر عليه الإنصاف فلينظر ما هو حال البصرة والمناطق الجنوبية اليوم؟
إنَّ الغريب هو حين توقف الرافضة عن مطالبتهم العلنية بتقسيم العراق ظهرت مطالبة هؤلاء بالتقسيم- حتى لو قالوا إنها مرحلة-!
نعم، مرحلة ثم تكون المرحلة المقابلة، وهي تكوين مملكة الفرس داخل العراق! وإذا كان لمملكة الفرس العراقية الداخلية امتداد جغرافي خارجي قوي، فما هو امتدادكم الجغرافي وأنتم ترون خذلان أهل السنة الخارجيين لأهل السنة في الداخل، أفيمكن- بعد هذا- أن تحدثونا عن فتوح خارجية؟
إنني أرى- في هذه المرحلة- أنَّ القبول بهذه الفكرة أعظم ضررًا على العراق من مشاركة وزير في وزارة- ويالها من مصيبة-، وهي أعظم ضررًا على الأمة كذلك، وأعظم ضررًا على التاريخ، وعلى المستقبل.
فليس مشاركة وزير خائن اليوم، يموت غدًا أو يقتل أو يطرد، كاقتطاع أرض تُفْصل عن العراق السني الكبير إلى ما شاء الله، ويفصل من أهلها من يفصل.
لقد تدرج اليهود في اغتصاب فلسطين، وتدرجنا معهم، فلقد بقي اليهود يتمنون السكن في فلسطين حتى حصلوا عليه، ثم أصبحوا يتمنون وطنًا قوميًا لهم في فلسطين فلم يجدوه ولم يحصلوا عليه حتى اعترف العالم لهم بهذا الوطن وبالأرض التي أقاموا عليها وطنهم المزعوم، لكنهم بقوا طوال تلك الفترة غير شاعرين بالأمان، لماذا؟ لأنهم لم يحصلوا من الفلسطينيين على توقيع لوطن لهم في حدود الـ 67 م، ولأنهم يعلمون أنَّ مجرد توقيع الفلسطينيين على هذه الحدود يعني تنازلهم الرسمي عن سواها للإسرائيليين.
ولذا كان همُّ اليهود هو صناعة الخونة الذين يرضون التوقيع على وطن للفلسطينيين، وثارت الانتفاضة، فجاؤوا بهؤلاء الخونة من الخارج، وأدخلوهم في الداخل، وحاولوا كثيرًا نيابةً عن اليهود، وجاء الانتصار الأكبر لليهود بتوقيع كامب ديفد، ووقَّع من وقَّع، لكنَّ المنظمات الجهادية لم توقع، فلم يهدأ لليهود بال حتى تم التخلص من قادة التيار الجهادي الثابت في فلسطين وألسنته الناطقة به كالأستاذ الرنتيسي رحمه الله وغيره حتى خلص الأمر في الغالب في حماس للتوجه السياسي، وأعلن أخيرًا شبه موافقتها على حدود 67م بضغوطات عالمية وعربية، ومن يدري فلعلهم بعدما يعطون صك الاعتراف الأخير لإسرائيل كدولة تقبله إسرائيل مقدمة أجندة طويلة من الطلبات الجديدة. وهكذا دواليك؟
فيالمصيبة العراق ما أعظمها؟ ويالمصيبة السنة في العراق ما أكبرها؟
كم وفَّر البريطانيون من مواجهةٍ مع الإسلام حين مزقوا بتخطيطهم شبه القارة الهندية بعدما كانت واحدة، وكان المسلمون فيها هم القوة العظمى.
مازال الجميع يظن أنَّ من يطالب بدولة داخل دولة العراق الكبيرة هم الموالون لإيران في الجنوب، لكنَّ أولئك الموالين ما كانوا يجرؤون على الإعلان عنها، فأصبحوا يشيرون إشارات هنا وهناك، فيثبتونها مرة وينفونها مرات حتى جاء أصحابنا هؤلاء ليعلنوا بملء الفم: دولة إسلامية على أجزاء من العراق! واعدينا بتحرير العراق كله، ومن بعده تحرير العالم الإسلامي كله!
إنَّ الموقف المقابل لمثل هذه الخطوة، وأنت بهذا الضعف، هو جمع شتات الفئات العقدية والقومية الأخرى في العراق على عقائدهم أو على قومياتهم؛ ليعلنوا دولاً أخرى داخل هذا الوطن السني العريق!
والخطوة المقابلة وهي الأصعب: قيام تلك الدويلات على عقائد أساسها معاداة الإسلام، وولاؤها لدول خارج العراق الكبير من أعداء الإسلام من نصارى ويهود ومجوس ومرتدين وما إلى ذلك...! ومن تعويق طريق الدعوة قطعُ الحبل المشترك بين جميع أطياف العراقيين، ألا وهو: العراق، فالداعية الناجح هو من يصطنع خيطًا مشتركًا بينه وبين الناس؛ لينفذ من خلاله إلى قلوب الآخرين، وليس مهمته هو تقطيع تلك الحبال والصلات والعلائق، ومن ثم كان الأنبياء يخاطبون أقوامهم برباط القوم أو القومية التي تجمعهم، ويخاطبونهم بخطاب الرحم، ويخاطبونهم أحيانًا بالإنسانية المشتركة...
فهل من المصلحة أن تقطع كل العلاقات، وتنشئ بطريق ردة الفعل على أرض الواقع عداوات؟
هل من الممكن أن تنشئ بفعلك دولاً عدائية، وتحيى في القلوب ولاءات، وتجمع الناس تحت رايات، وتوزع العراق على البلدان إلى مدة لا يعلمها إلا الله؟
ما من شيء كان أضر على الدعوة الإسلامية والدولة الإسلامية أيام النبي صلى الله عليه وسلم من عزلها عن العالم، حتى إذا وقَّع النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية، وفيه الشروط المعروفة قفز المسلمون قفزة لم يقفزوها طول سني الدعوة كلها، إذ بقي النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ثلاث عشرة سنة في مكة ثم ست سنوات في المدينة، وما زاد عدد المسلمين حتى هذا الحين عن أربعة آلاف مسلم، وما أن تمت سنة واحدة من الصلح حتى جاء المشركون يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم يطلبون التحلل منه، فلقد زاد عدد المسلمين في سنة واحدة على الضعف، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعشرة آلاف مقاتل، أضف لهم من تبعهم من غير المقاتلين من نساء وأطفال وشيوخ.
فالمسلم الغيور على دينه، الذي يريد نشر دينه يصطنع القواسم المشتركة بينه وبين الخلق مما لا يخالف دينه؛ ليخدم دينه ويوصل دعوته إلى غايتها، فماذا يمكن أن نقول بمن يصطنع القطيعة، ويغلق أبواب العراق المفتحة، ويجمع الأعداء على عقائد العداء، ويقطع البلد الموصول الواحد، ويوصل أجزاءه بأعدائه، ويجعل للخونة ملاذًا آمنًا، إنها الطريقة المثلى لإنقاذ الخونة والعملاء الذين باعوا وطنهم للأعداء، ذلك حين نتصور لحظة التحرير العام بإذن الله تعالى، إنك- وقتها- لن تستطيع أن تتعدى حدود دولتك الإسلامية الموهومة إلى حدود العراق كلها؛ لأنك إن فعلت ذلك فقد تعديت على حدود دولة أخرى، فهذا بالنسبة لتلك الدويلات احتلال آخر، تعده أشد من الاحتلال الأول؛ لأنه احتلال عقدي معادٍ، وجنوده من أهل البلد، فصاحبه يقاتل عن بلدته وقريته وبيته وأهله، وهذه والله كارثة عظمى على أهل السنة أولاً قبل غيرهم، وعلى مستقبل توحد العراق تحت الكتاب والسنة كله.
لقد بقي أهلُ الإسلام في الهند يبكون أيامًا طويلة بعد انفصال باكستان، حين آلت أمورهم إلى الاستضعاف لدرجة الموت حرقًا للقرى والبيوت والمساجد.
إنَّ العاقل يخشى من بؤرة صغيرة داخل بلده الصغير أن تُشكل عليه خطرًا لا ينتهي أبدًا، فكيف بمن يصطنع بلدًا معاديًا من بلده؟
ربما يقول القائل سوف يسبقنا غيرنا إلى إعلان دولة داخل العراق، كما قال الكاتب في خطة تمزيق العراق ص76: (حتى بدأت تطالعنا الأنباء بأخبار عن فدرالية تقام في المنطقة السنية يتزعمها الحزب الإسلامي، وتدار بنفس الطريقة المأجورة في تبعيتها للحكومة العميلة وانبطاحها للمشاريع الصليبية في المنطقة).
ولا أدري أكان سبقهم بالإعلان عن دولة هو الحل الصحيح، أم كان الواجب هو إفشال المخطط في كل مكان، وذلك هو الحل الصحيح؟
لقد صدق الكاتب في كلماته لو أنه غيَّر كلمة واحدة؛ بل أبدل حرفًا واحدًا حين قال: (أي أنَّ التقسيم أصبح جاهزًا على موائد التآمر والاحتيال، وبات خطرًا داهمًا يهدد المنطقة السنية لإخضاعها للمشروع الصليبي، ومحاصرة المكاسب الجهادية في المنطقة وتقزيمها، وهذا ما لن يكون بعون الله، فمبادرة الدولة الإسلامية المباركة أتت على موائد التآمر فقلبتها).
نعم ليته غيَّر كلمةَ فقلبتها إلى: فقبلتها!
أيها الكاتب: فليذهب منشئوا الدول في العراق بأوزارهم، وليتحملوا خزيها طوال التاريخ الذي لن تزيده الأيام إلا خزيًا...!
نعم ليذهب كل هؤلاء، وسنبقى نحن أصحاب الحق في العراق كله؛ لأننا وحدنا الثابتون على ما كنا عليه ولن نبدل تبديلاً، فإذا استوفيت شروط التمكين الشرعية بتمامها كان العراق ساحة لتطبيقها.
وفي ختام هذا الفصل لابدَّ أن أقرر أمورًا علَّها تفيد أصحاب هذا الفكر أولاً، وتفيد من سواهم ثانيًا، فإنَّ من صحة النتائج أن تصح المقدمات، وإذا استُسلم لمقدمات خاطئة كانت النتائج المبنية كلها خاطئة.
الأمر الأول: عِلْم هذا الإمام الذي بايعوه: لا أريد أن أحلف، ولو حلفت لحلفت غير حانث؛ لمعرفتنا به بأنه ليس بطالب علم( ) فضلاً أن يكون مجتهدًا اجتهادًا مطلقًا كما اشترط جمهور الفقهاء في الإمام الأكبر، فهذه نقطة لا يمكن القفز عليها، كما أننا لا يمكن أن نناقش اشتراط العلم للخليفة كقضية نظرية دون تحقيق المناط، بأن نعرف هل إمامكم الافتراضي داخل في هذا الخلاف أم أنَّ "إمامكم" أبعد ما يكون عن الاجتهاد؛ بل هو بعيد عن مبادىء العلم الشرعي؟ فإذا تحقق هذا الأمر سقطت دولتكم الموهومة برمتها إذ لم ينطبق على خليفتكم الشرط.
يقول الإمام الشاطبي: (إنَّ العلماء نقلوا الاتفاق على أنَّ الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا بمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع)( ).
وقال الدكتور الدميجي: (وإلى هذا القول ذهب الإمام الشافعي والماوردي والقاضي أبو يعلى وعبد القاهر البغدادي والقرطبي وابن خلدون والقلقشندي)( ).
وفي الموسوعة الفقهية 6/216 ذكر أنَّ هذا القول هو قول المالكية والشافعية والحنابلة.
ويقول القلقشندي: (لأنه محتاج لأن يعرف الأمور على النهج القويم، ويجريها على الصراط المستقيم، ولأن يعلم الحدود، ويستوفي الحقوق، ويفصل الخصومات بين الناس، وإذا لم يكن عالـمًا مجتهدًا لم يقدر على ذلك)( ).
ولم يشترط هذا الشرط آخرون، والذي نراه- والله أعلم- أنه لا يشترط للإمام أن يكون مجتهدًا اجتهادًا مطلقًا، لكن لابد أن يكون عالـمًا وحوله علماء مجتهدون في مجموعهم، فإن لم يكن عالـمًا لم يميز الأقوى من آراء العلماء ليقرره على الأمة.
ولو قلنا يشترط أن يكون الإمام مجتهدًا مطلقًا لحملنا الأمة ما لا تحتمل، وخصوصًا في هذا العصر الذي فشا فيها الجهل ورُفع فيه من العلم ما رفع، والله أعلم .
وهنا نرجع إلى تطبيق هذا الشرط على أصحاب الدولة الإسلامية الموهومة، فهل أمير دولتكم الموهومة مجتهد اجتهادًا مطلقًا؟ هل هو عالم؟ هل هو طالب علم متمكن؟ هل درس مبادئ العلوم الشرعية؟ إنه وحسب معرفتنا به رجل من عوام المسلمين. ثم أين العلماء الذين حوله من أهل الاجتهاد؟ بل أروني عالـمًا واحدًا قريبًا منه.
واللهِ إنَّ رضاه بكذبة الإمامة العظمى هذه، وهو ساكت- مع علمه بعلم الله به بأنه ليس بمجتهد ولا عالم ولا طالب علم متمكن، ولم يؤسس في العلوم الشرعية تأسيسًا، وليس بعالم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بفقيه ولا مفسر ولم يتقن أيَّ علم من علوم الشريعة، بل لا يحسب على طلبة العلم أبدًا- إنَّ ذلك لمن أعظم الأدلة على قول الزور وشهادة الزور والقبول بالزور الذي نطالب كل واحد في هذه المجموعة لإعلان التوبة لله وحده قبل أن يلاقوا الله سبحانه وتعالى وقد خَدعوا أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعظم التكاليف الشرعية على الإطلاق، الإمامة الكبرى. نعم الأمر صعب، ولكنه لم يكن صعبًا إلا بعدما ولجتم فيه بأنفسكم، فالتوبة بقدر الذنب الذي ارتكبتموه.
فعن معقل بن يسار المزني رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يَحُطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة)( ).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة)( ).
وعن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المكر والخديعة في النار) لكنت من أمكر الناس( ).
الأمر الثاني: صفات الخوارج:
فلنترك الأسماء، فإنَّ الأسماء ربما صدَّت صاحبها عن الحق، وربما قاتل الشخص لنفي ذلك الوصف عن نفسه، بينما هو أولى الناس بذلك الاسم والوصف.
أرأيت كيف يغضب الكفار حين يقال لهم: كفار، وتأنف الزانية من أن يقال لها: زانية، ويأنف الرافضة من أن يقال لهم: رافضة، وعليه فلا يعتد بنفي الشخص عن نفسه وصفًا ما، إنما العبرة عندنا هي هل أسباب ذلك الوصف منطبقة عليه أو أكثرها أم لا؟
وأنا أدعو كل قائد وتابع لما يسمى دولة العراق الإسلامية أن ينظر إن كانت صفات الخوارج الأُول تنطبق عليه أم لا؟ وإنَّ غرضي الأعظم من هذا هو تنبيه الغافلين منهم، وما أكثرهم، وتخليصهم من وصف يجعل صاحبه مستحقًا لأعظم العقوبات عند الله جل وعلا.
الصفة الأولى: الجهل، بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ صفتهم العامة هي الجهل، ولينظر شبابُ ما يسمى زورًا بدولة العراق الإسلامية إلى أعداد العلماء الذين فيهم، فالساحة تشهد أنَّ أقل جماعة من الجماعات الجهادية في العراق فيها علماء أو طلاب علم هي جماعتكم، ومع هذا فليس لديكم أي منهج علمي معتبر للأتباع، وما ذلك إلا لأنَّ العلم يناقض الغلو، ويكشفه كما يكشف النورُ الظلامَ، وخير شاهد على الجهل فيكم هو هذا الكتاب الذي أجبنا عليه؛ إذ ماذا بعد هذا الكتاب عندكم تظهرونه للناس، وتحتجون به على الطوائف الأخرى، وقد شابهتم الخوارج في قلة التصنيف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة، والرافضة، والزيدية، والكرامية، والأشعرية، والسالمية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة، والصوفية، ونحو هؤلاء)( ).
وما أروع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان)( ).
وإذا كان نصف عالم يفسد الأديان والبلدان، فكيف بمن هو دون ذلك بكثير كثير كما هو حال أهل الغلو؟!
الصفة الثانية: التكفير بغير حق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الخوارج هم أول من كفَّر المسلمين: يُكفِّرون بالذنوب، ويُكفِّرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله)( ).
ويقول رحمه الله: (أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شرًّا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفرين لهم، وكانوا متدينين بذلك؛ لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة)( ).
ويقول رحمه الله: (وقد اتفق الصحابة العلماء بعدهم على قتال هؤلاء؛ فإنهم بغاة على جميع المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع شرهم إلا بالقتال، فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق؛ فإنَّ إولئك إنما مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا، وإنما يتعرضون لبعض الناس، وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن)( ).
وأنا أدعو أفراد ما يسمى زورًا دولة العراق الإسلامية أن ينظر كل واحدٍ منهم إلى نفسه، مقارنًا بين معتقده في المسلمين قبل أن ينتظم مع هذه الجماعة، ومعتقده في المسلمين بعدما انتظم معهم، سيرى أنَّ كثيرًا ممن كان يعتقد إسلامهم أصبحوا في عينه كفارًا، ويرى أنَّ كثيرًا ممن كان يعتقد علمه وقدوته أصبح في عينه من أئمة الكفر، وسيرى إسراعه اليوم إلى تكفير الناس بالظن، فيرتب حكم الكفر على أكثر من يعاديهم بسرعة مخيفة، ويرى أنَّ عماد تكفيره كل هؤلاء هو موقفهم من جماعته بغض النظر عن الشهادتين العظيمتين والتزام أركان الإسلام الأخرى واجتناب النواقض!
وكان ينبغي لكل منتظم أن يسأل نفسه سؤالاً سهلاً وهو: أيعقل أن تحاكم الأمة كلها وتحدد عقيدتها بناءً على موقفها من هذه الجماعة؟ وماذا لو ادعى تنظيم جهادي آخر نفس الدعوى؟
فهل من نص قرآني نزل في هذا التنظيم أو ذاك؟!
لقد أصبح نقد هذا التنظيم بالحق من نواقض الإيمان عند الكثير منهم، أما تفسيق المنتقد بالحق واستباحة دمه فلعلها عند الجميع في هذه المرحلة، وجزمًا هي عند الأكثر، وهذا ما رأيناه بأنفسنا في سجن بوكا وغيره، فأيُّ عالم يرضى بهذا؟! وإذا لم يكن هذا من أجلى صور الغلو، فكيف يكون الغلو؟!
ولشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره كلام نافع في مسألة التكفير، ينبغي تأمله وفهمه حتى لا نشابه الخوارج كلاب أهل النار، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم:
قال رحمه الله: (وكنت أبين لهم أنَّ ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضًا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإنَّ نصوص القرآن في الوعيد مطلقة، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }(النساء:10). وكذلك سائر ما ورد: من فَعَل كذا، فله كذا. فإنَّ هذه مطلقة عامة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال كذا، فهو كذا. ثم الشخص المعيَّن يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة. والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع هذه النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا)( ).
وقال رحمه الله: (إنَّ المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق، فإنَّ الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير، فهو ذنب لا يجب أن يبلغ الكفر، وإن كان يطلق القول بأنَّ هذا الكلام كفر، كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية، مثل القول بخلق القرآن، أو إنكار الرؤية، أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علوِّ الله على الخلق، وأنه فوق العرش، فإنَّ تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور، فإنَّ التكفير المطلق، مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعَّين حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: "إذا أنا مِتُّ فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليمِّ، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العاملين ...".
فهذا الرجل اعتقد أنَّ الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل من هذين الاعتقادين كفر، يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه، ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته. فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد، من أهل الإيمان بالله وبرسوله، وباليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل، فيغفر الله خطأه، أو يعذِّبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه. وأما تكفير شخص عُلم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم)( ).
وقال رحمه الله: (فهذا رجلٌ شكَّ في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرِّي، بل اعتقد أنَّه لا يعادُ، وهذا كفرٌ باتِّفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مُؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك)( ).
وقال رحمه الله: (فهذه المقالات هي كفر، لكنَّ ثبوت التكفير في حق الشخص المعيَّن موقوف على قيام الحجة التي يكفر تاركها، وإن أطلق القول بتكفير من يقول ذلك، فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد، مع أنَّ ثبوت حكم الوعيد في حق الشخص المعين موقوف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه)( ).
وقال رحمه الله: (وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش، والظلم، والكذب، والخمر، ونحو ذلك. وأما من لم تقم عليه الحجة، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الاسلام، ونحو ذلك، أو غلط فظن أنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يُستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصرُّوا كفروا حينئذ، ولا يُحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل)( ).
وقال رحمه الله: (ولهذا أطلق الأئمة القول بالتكفير، مع أنهم لم يحكموا في عين كل قائل بحكم الكفار، بل الذين امتحنوهم، وأمروهم بالقول بخلق القرآن، وعاقبوا من لم يقل بذلك؛ إما بالحبس والضرب، والإخافة وقطع الأرزاق، بل بالتكفير أيضًا، لم يُكفِّروا كلَّ واحد منهم، وأشهر الأئمة بذلك الإمام أحمد، وكلامه في تكفير الجهمية، مع معاملته مع الذين امتحنوه وحبسوه وضربوه مشهور معروف)( ).
وقال رحمه الله: (والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو: تكفير الجهمية والمشبهة، وأمثال هؤلاء. ولم يكفِّر أحمد "الخوارج"، ولا "القدرية" إذا أقرُّوا بالعلم، وأنكروا خلق الأفعال وعموم المشيئة، لكن حُكي عنه في تكفيرهم روايتان. وأما المرجئة فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم، مع أنَّ أحمد لم يكفِّر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: إنه جهمي كفَّره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلَّى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يُكفِّرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الإئتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج، والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة. وينكر ما أحدثوه من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين، وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالاً مبتدعين، وظلمة فاسقين)( ).
وقال رحمه الله: (وإنما كان "أحمد" يُكفِّر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأنَّ مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة، ولأنَّ حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتُلي بهم حتى عُرِف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإنَّ الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يُكفِّر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إنَّ القرآن مخلوق، وإنَّ الله لا يُرى في الآخرة، وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفِّرون من لم يجبهم، حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقرَّ بقول الجهمية: إنَّ القرآن مخلوق وغير ذلك، ولا يولون متوليًا ولا يعطون رزقًا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد، رحمه الله تعالى، ترحم عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يُبَيَّن لهم أنهم مُكذِّبون للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا، وقلَّدوا من قال لهم ذلك. وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد، حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم. بيَّن له أنَّ هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله)( ).
وقول شيخ الإسلام: "مع أنَّ أحمد لم يُكفِّر أعيان الجهمية" وقوله: "لكن ما كان يُكفِّر أعيانهم، أي الجهمية" في المقطعين السابقَين يفسِّره قوله رحمه الله في موطن آخر: (وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أنَّ هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أنَّ التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأنَّ تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يُبيِّن هذا أنَّ الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفِّروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. فإنَّ الإمام أحمد- مثلاً- قد باشر "الجهمية" الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم، بالضرب، والحبس، والقتل، والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة، وغيرهم، يكفِّرون كل من لم يكن جهميًّا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتكُّونه من عدو، ولا يعطونه شيئًا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية، ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر، وغير ذلك. فمن أقرَّ بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه، أو ضربوه وحبسوه. ومعلوم أنَّ هذا من أغلظ التجهم، فإنَّ الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب. ثم إنَّ الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإنَّ الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإنَّ الله لا يُرى في الآخرة. وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفَّر به قومًا معينين، فأما أن يُذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر، أو يُحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفَّره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفِّره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم. والدليل على هذا الأصل: الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار)( ).
وقال رحمه الله: (فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب؛ لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة: "لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها". ولكنَّ لعْن المطلق لا يستلزم لعْن المعين، الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به. وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق، ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطًا بثبوت شروط، وانتفاء موانع)( ).
وقال رحمه الله: (فعُلم الفرق بين العام المطلق والخاص المعين)( ).
وقال رحمه الله: (ولكنَّ المقصود هنا أنَّ مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين)( ).
وقال رحمه الله: (فتكفير المعيَّن من هؤلاء الجهال وأمثالهم، بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه، إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبيَّن بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعيَّنين مع أنَّ بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبيَّن له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة)( ).
وقال رحمه الله: (فإنَّ نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير، والتفسيق، ونحو ذلك، لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعيَّن، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع، هذا في عذاب الآخرة، فإنَّ المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار، أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق، يدخل في هذه القاعدة سواء كان بسبب بدعة اعتقادية، أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا، وهو الفسق بالإعمال. فأما أحكام الدنيا فكذلك أيضًا، فإنَّ جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقًا بدعوتهم، إذ لا عذاب إلا على من بلغته الرسالة، وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلا بعد قيام الحجة)( ).
وقال رحمه الله في دعاء الأموات: (وأنَّ ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبيَّن لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بيَّنت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الدين إلا تفطن، وقال: هذا أصل دين الإسلام. وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينته لنا؛ لعلمه بأنَّ هذا أصل الدين)( ).
وقال رحمه الله: (فكلُّ عبادة غير مأمور بها فلا بد أن ينهى عنها. ثم إنْ علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت من جنس المشروع، فإنه يثاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك، فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به. وهذا لا يكون مجتهدًا؛ لأنَّ المجتهد لا بد أن يتبع دليلاً شرعيًّا، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء، والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع، أو لحديث كذب سمعوه. فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون، وأما الثواب فإنه قد يكون ثوابهم أنهم أرجح من أهل جنسهم، وأما الثواب بالتقرب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الأعمال)( ).
وقال رحمه الله: (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق عرشه لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أنَّ قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم)( ).
وقال رحمه الله: (إنَّ المتأوِّل الذي قَصْدُه متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يكفر ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة، ويكفِّرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة، كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقد يسلكون في التكفير ذلك، فمنهم من يُكفِّر أهل البدع مطلقًا، ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع... وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضًا لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفَّر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد يُنقل عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أنَّ هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كلُّ من قاله مع الجهل والتأويل)( ).
وقال رحمه الله: (من عيوب أهل البدع، تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخطِّئون ولا يكفِّرون)( ).
وقال رحمه الله: (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يُكفِّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يُكفِّرهم، لأنَّ الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله، لأنَّ الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفَّره الله ورسوله)( ).
وقال رحمه الله: (إنه لا يُجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه، ولا ببدعة ابتدعها، ولو دعا الناس إليها، كافرًا في الباطن، إلا إذا كان منافقًا، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول صلى الله عليه وآله وما جاء به، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيرًا لها، ولم يكن في الصحابة من يُكفِّرهم، ولا علي بن أبي طالب ولا غيره؛ بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين)( ).
وتأمل فيما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكأنه يقدَّم البراءة إلى الله من منهج الغلو في التكفير، فيقول: (إني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب مُعَيَّن إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أنَّ الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعمُّ الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية، كما أنكر شريح قراءة من قرأ: "بل عجبتُ ويسخرون"( ) (الصافات 12)، وقال: إنَّ الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي، فقال: إنما شُريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أعلم منه، وكان يقرأ: "بل عجبتُ" ... وكما نازعت عائشةُ رضي الله عنها وغيرها من الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه، وقالت: "من زعم أنَّ محمدًا قد رأى ربَّه فقد أعظم على الله الفرية" . ومع هذا لا تقول لابن عباس رضي الله عنهما ونحوه من المنازعين لها: إنه مفتر على الله. وكما نازعت في سماع الميت كلامَ الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله، وغير ذلك، وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال، مع اتفاق أهل السنة على أنَّ الطائفتين جميعًا مؤمنتان، وأنَّ الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم، لأنَّ المقاتل وإن كان باغيًا فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق)( ).
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يُكفِّر البكري الضال المخرِّف المعروف الذي ألَّف في مشروعية الاستغاثة بغير الله، والذي ردَّ عليه شيخ الإسلام في كتابه "الاستغاثة الكبرى"، فقال رحمه الله: (فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله)( ).
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (وإذا كنا لا نكفِّر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم)( ).
وقال، وقد سئل عن هؤلاء الجهال: (إنَّ من قامت عليه الحجة وتأهل لمعرفتها، يكفر بعبادة القبور، وأما مَن أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلا أدري ما حاله)( ).
وللإمام الذهبي كلمة نفيسة في التحذير من الغلو في التكفير، حيث يقول رحمه الله: (رأيت للأشعري كلمة أعجبتني، وهي ثابتة رواها البيهقي، قال: سمعت أبا حازم العبدوي، قال: سمعت زاهر بن أحمد السرخسي، يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد عليَّ أني لا أُكفِّر أحدًا من أهل القبلة؛ لأنَّ الكل يُشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات.
قلت "القائل الذهبي": (وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أُكفِّر أحدًا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"( )، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم)( ).
وقال ابن حجر العسقلاني: (قال الغزالي: ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإنَّ استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد)( ).
وقال الشوكاني: (اعلم أنَّ الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر، لاينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث المروية من طريق جماعة من الصحابة، أنَّ من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)( ).
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: (وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه، واستحسان عقله، فإنَّ إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه، من أعظم أمور الدين)( ).
فتأمل أيها القارئ الكريم في أقوال علمائنا هذه، وقارن بينها وبين حال ما يسمى زورًا دولة العراق الإسلامية، سترى بوضوح لا خفاء فيه أبدًا أنهم على غير منهج أهل السنة والجماعة في مسألة التكفير.
ولو علم أهل العلم خارج العراق المسائل التي يكفر بها قيادات هؤلاء لذهلوا، ولما خالفنا أحد بأنَّ هؤلاء هم أشباه الخوارج دون أدنى شك! وسوف أذكر صورًا قليلة مما يتفق هؤلاء على أنه كفر، ولن أذكر ما ليس متفقًا عليه عندهم، فإنني ممن عرفهم في ميادين مختلفة.
ولعل هذه النقاط المكفرة مما لم يصرحوا بها في كتبهم، ولا مانع عندهم من أن ينكرونها كذبًا، وإن كان كل من حولهم يشهد عليهم بها، وما من أحد من طلاب العلم وأهله في ميدان الجهاد إلا ويعرفها عنهم عندنا، وأنا قد تحاورت معهم فيها وفي نقاط أكثر منها توسعًا في التكفير، والمسألة لا تحتاج إلى شهود لإثباتها، فكل واحد في العراق يعرفها، بل يعرف أكثر منها.
وما سأذكره للقارئ إنما هو بعض الصور التي يُكفِّرون بها، وسترى إلى أي مدى بلغت الأهواء بهؤلاء، وإلى أين ستسير بهم، وهل لأهوائهم من قعر أو نهاية!
الصورة الأولى: مجرد الجلوس مع الأمريكيين في العراق للهدنة ردة.
المتابع للجهاد في العراق يعرف أننا كتبنا كتاب "الجواب الكافي لمن نوى الهدنة مع العدو ظاهرًا أو خافي أو وصفة الصياد"، وبينا فيه بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم حرمة الهدنة مع الصليبيين في العراق، وأنَّ قتالهم فرض عين حتى يخرجوا من هذا البلد المسلم. ومع قولنا بأنَّ الهدنة من كبائر المحرمات لكنها لا تصل إلى حد الردة كما يقول أهل الغلو. وهذه المسألة من مبادئ العلوم الشرعية التي لا تخفى على طلبة العلم، لكنَّ المصيبة أنَّ أهل الغلو بعيدون عن العلم، ويفتي لهم كلُّ أعرابي بوَّال على عقبيه، كما هو حال أسلافهم من الخوارج. وإلا من قال بهذا من السلف؟!
ثم هل يحسب القارئ أنَّ هؤلاء صادقون فيما يقولون مقتنعون بصدق ما يقولون؟! لا والله إنهم كاذبون وغير مقتنعين بذلك اللهم إلا لغاية واحدة وهي تكفير المسلمين وتكفير الجماعات الجهادية الأخرى، فقد رأينا في سجون الصليبيين أنهم لا يكفرون أصحابهم إذا جلسوا مع الأمريكان ويكفرون غيرهم من الجماعات الجهادية إذا فعلوا نفس الفعل!
الصورة الثانية: يُكفِّرون أي واحد من الإسلاميين بعينه – وليس التكفير المطلق- إذا دخل الانتخابات!
فهل يقول مسلم إنَّ فلانًا من الناس الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وملتزم بأركان الإسلام، وقد دخل الانتخابات باجتهاد خاطئ، وغايته الذب عن أهل السنة، وتخذيل أهل الباطل وتعطيل مشاريعهم في ظنه، هل يقول عالم معتبر إنه كافر بعينه؟!
لا شك أن تكفير أعيان هؤلاء ابتداءً من الغلو، وسبق أن ذكرنا نصوص شيخ الإسلام ابن تيمية في التفريق بين كفر المعيَّن وبين الكفر المطلق.
ولو كفّروا عينه ابتداءً ولم يضيفوا لذلك تكفيرَ مَن يتوقف في تكفير عينه لكانت المصيبة أهون.
إنَّ منهجية هؤلاء الغلاة هي تكفير أعيان المسلمين المخالفبن لهم بكل وسيلة وباب وشبهة وسبيل، ولا يفرقون بين التكفير المطلق وتكفير المعين، وعمليًا ليس عندهم موانع للتكفير.
الصورة الثالثة: إنَّ خروج أي قيادي من سجون الصليبيين يعد ردة عن الإسلام؛ ذلك أنَّ الصليبيين لن يخرجوه إلا إذا باع دينه!
هكذا يغلب الظن اليقين! ويزال اليقين بالشك! وتنقلب كل القواعد المجمع عليها ليبلغ هؤلاء غايتهم وهو تكفير المسلمين عامة والمجاهدين خاصة؛ ليستبيحوا دماءهم بعد تكفيرهم.
قال الشيخ محمد بن محمد الوهاب: (من أظهر الإسلام وظننا أنه أتى بناقض لا نكفره بالظن؛ لأنَّ اليقين لا يرفعه الظن، وكذلك لا نكفر من لا نعرف منه الكفر بسبب ناقض ذُكر عنه، ونحن لم نتحققه)( ).
إنَّ المسلم لا يمل من التماس العذر لأخيه المسلم في أصغر القضايا فضلاً عن أكبرها، أما هؤلاء فإنهم لا يملون من التماس الشبهات التي تخرج المسلم عن دينه.
وهذه هي طريقتهم، فهم بهذه المنهجية الهجومية الاتهامية يجعلون من في ساحة الجهاد في موقف المتهم الذي يطلب البراءة لنفسه والسلامة لدينه، وإلا فوالله لا دليل ولا برهان ولا عقل على ما يقولون.
ولا يدري المسلم ماذا يقول أمام من يقذف بأعظم الأحكام وأخطرها دون أن يقدم أصغر الأدلة ولا حتى رائحتها.
فنحن نسأل هؤلاء هل ضاقت عندكم الاحتمالات في إطلاق سراح مجاهد من المجاهدين إلا على احتمال فتنة في دينه وتنازله عن عقيدته، وتحقق نفاقه، وتآمره وعمله جاسوسًا لدى الصليبيين؟!
أيعقل أنَّ هؤلاء الغلاة يعتقدون هذا المعتقد؟!
فقد كان عندهم أسرى عند الصليبيين وأطلق سراحهم، إذن فلم لم يكفروهم لما عادوا إلى مواقعهم الأولى، بل أرفع مما كانوا؟!
ألا يعرف هؤلاء أنَّ في المجاهدين الأسارى من خرج بمبالغ دفعت لمسؤولين على تنفيذ الأحكام، ومسؤولين على السجون، ولقضاة، ومسؤولين في أحزاب رافضية؟!
ألا يعرفون أنَّ أناسًا تغيرت أحكامهم من الإعدام إلى البراءة بدفع مبلغ مالي؟!
ألا يعرفون أنَّ أناسًا خرجوا بعدما نجحوا في رد كل شبهات العدو في مشاركتهم في عمليات ونحو ذلك؟!
ألا يعرفون أنَّ مجاهدين خرجوا بمخادعتهم للصليبيين، وبعدما خرجوا أوضحوا لإخوانهم الأمر كما جرى؟!
ألا يؤمن هؤلاء بأنَّ الأقدار بيد الله تعالى، وأنَّ الله عز وجل قادر أن يعمي هؤلاء، بل كم أعماهم فسلمت قوافل، وأخرج مساجين، وطال عمر من حكموا عليه بالإعدام.
ألا يؤمن هؤلاء باستجابة الله لدعوات المساجين المضطرين؟! وهل يدعون الله إلا بالفرج، والثبات وعدم دخول العدو من خلالهم، وطمس عيون العدو عنهم وعما عندهم، أم أنهم يعتقدون أنَّ الصليبيين يمنعون دعوات المضطرين أن ترفع، أو أنَّ إجابة الله لن تتحقق لمعارضتها إرادة الصليبيين، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، بل إنَّ المجاهدين يتفاءلون كثيرًا بدعوات إخوانهم المضطرين في السجون.
إنَّ هؤلاء الغلاة يعرفون كل ذلك، ويعرفون أنَّ طرق التخلص وقصصه كثيرة ومعروفة وكل واحد له قصة، ولكنَّ الحقيقة أنهم كاذبون، يريدون في كل مرة بلوغ غايتهم، وهي قتل المجاهدين خاصة بعد تكفيرهم، وبخاصة طلاب العلم منهم؛ لأنهم العقبة الكؤود في نظرهم التي تحد من نشر بدعهم وضلالهم.
ثم هل يستحق هؤلاء الذين أُسروا وضحوا، وابتلوا هذا البلاء أن يستقبلوا بالتكفير؟!
والله لكأنَّ هذه البدعة في التكفير جاءت بإيحاء من العدو نفسه، وعلى كل حال فهي من تلاعب الشيطان بهؤلاء.
فإنَّ أثر هذه الفتنة على نفس السجين من المجاهدين هو التحطيم الكامل، وأي شيء في الدين بقي له بعدما كفَّره رفقاء الدرب، وما من واحد من المجاهدين إلا عاف الدنيا وخالف أهله وأقرب الناس له وأقبل على الجهاد في سبيل الله، والآن يرى النتيجة المخزية بسبب فتوى هؤلاء الغلاة، فأي شماتة مدمرة مثل هذه، وإلى أين يفر وبمن يتعزى؟! بينما كان أمله أنَّ إخوانه في الدرب هم من يدعون له بالفرج القريب!
وأخيرًا أعود لأؤكد أنهم كاذبون في دعواهم لأنهم يطبقون هذا المعتقد حصرًا وقصرًا على أسرى الجماعات الجهادية وأما أسراهم فلا!
الصورة الرابعة: إنَّ الغلاة يحكمون بردة من قال بقتل القتلة منهم فقط (إذا كان القتل عمدًا وتوفرت شروط القصاص)، وذلك بدعوى أنَّ في هذا استباحة قتل المجاهدين.
ولا غرابة في هذا أبدًا، فبينما هم يبيحون دم المسلم بأي شبهة، وينفذون القتل الجماعي في أمة من الناس مجتمعين بدعاوى باطلة وظنون فاسدة، بينما هم في مقابل ذلك يضعون كل الحيطة الشرعية في القتلة منهم بغير حق، وكم من مرة نفذ رجال منهم الغدر بمجاهدين وقتلوهم غيلة، وثبت ذلك القتل عليهم بما لا يدع مجالاً للشك، بل اعترفوا هم به، ومع هذا لم يسلموا القتلة للحكم الشرعي، بل كفَّروا من طالب بالحد الشرعي فيهم.
إنَّ هذا نابع من سجية سيئة عند هؤلاء، تلك هي التعالي على الخلق واحتقار المقابل، فهم يتعالون على من ينكرون عليهم المنكر، ويتعالون على الجماعات الجهادية الأخرى، ويتعالون في جهادهم، ويتعالون في دعوى ثباتهم...
وهذا التعالي وحده كافٍ لإبطال عملهم؛ لأنه متضمن لاحتقار المسلمين، والله سبحانه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (القصص:83)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا، وأشار بيده إلى صدره ثلاث مرات: حسب امرئ مسلم من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)( ).
وعن فضالة بن عبيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع: (ألا أخبركم بالمؤمن: من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)( ).
يجب أن يعلم كل مجاهد أنَّ أذية المؤمن تُذهب أجر الجهاد، فعن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال: غزوت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضيَّق الناس المنازل، وقطعوا الطريق، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي في الناس: (أنَّ من ضيَّق منزلاً أو قطع طريقًا فلا جهاد له)( ). هذا الحديث في الأذية العادية ولأي مسلم، فبالله عليكم كيف إذا كانت الأذية تكفيرًا لمسلم أو قتلاً له؟! وكيف إذا كان هذا المسلم مجاهدًا أو طالب علم؟!
ولو أنَّ هؤلاء كلما قتلوا اقتص منهم لما أقبل عليهم أحد؛ لأنهم سوف يأخذون وصفهم الحقيقي بعدما يقام عليهم حكم الله الواجب في القاتل، ثم إنهم متمالئون على ذلك مشتركون في القتل ما بين مفت ومخطط ومنفذ ومفاخر ومكاثر.
إنَّ تكفيرهم من يطالب بقتل القتلة منهم، ليدل على جهل مركب في مبادئ العلم، فالقاتل بغير حق يُشرع قتله إلا أن يعفو أولياء المقتول، فكيف يكون كافرًا من يقتله أو يدعو لقتله؟!
ثم لماذا قتل المسلم بالشبهات والظنون الفاسدة عندهم حلال، وقتل قاتل المسلم قصاصًا عندهم ردة؟!
لم يسمع الأولون ولا الآخرون بهذا التفريق في الدماء!
أرأيتم إلى أي درجة يجامل بعض أهل العلم والجهاد هؤلاء القتلة، وعلى حساب المجاهد المقتول نفسه، وعلى حساب أهله وشعبه وأمته، وقبل ذلك كله على حساب دينه الذبيح ذبحًا شرعيًا باسم الإسلام على أيدي هؤلاء المجرمين، وذبحًا غير شرعي على أيدي المجوس والصليبيين، المهم أنَّ الإسلام يذبح باسم هؤلاء أو باسم هؤلاء.
ولا أدري كيف يحيى الإسلام بذبح أهله؟!
وليست المسألة بذبح واحد أو اثنين، ولكنها المنهجية القائمة على ذبح المخالف من المسلمين، وذبح عامة المسلمين بالظنون والشبهات، بل تخصيص من زاد نفعه للمسلمين بالذبح قبل غيره كالعلماء المعتبرين وقادة المجاهدين وشواهد هذا كثيرة، وساحة العراق أكبر شاهد على إجرام هؤلاء المجرمين.
وكل من يقول: أنا في مأمن من غدر هؤلاء فهو متوهم!
وما يمنع هؤلاء إلا تناول أيديهم له، ولذا فكلما طالت أيديهم زادت ضحاياهم من أهل الإسلام، ولن يتركوا أحدًا يخالفهم أبدًا فإنَّ حكم التكفير متقدم على حكم القتل ليكون قتل ردة عن الإسلام، ابتداء من العلماء وانتهاء بأصغر طالب علم، وابتداءً من أكبر قادة الجهاد وانتهاء بأصغر الجنود؛ ذلك أنَّ تكفير الأعيان والقتل عندهم لا تحتاج إلى كثير حجج وأدلة، ولا إلى قطع، فتكفي أي شبهة لذلك.
الصورة الخامسة: تكفير جميع أعيان من ينتسب لبعض الأجهزة الحكومية، كتكفير شرطة المرور بدون تفصيل؛ بحجة أنه لو كُلِّف باعتراض المجاهدين لفعل، وقد قلنا لهم بأننا لا نكفره ابتداء إلا إذا عمل عملاً كفريًا.
فبالله عليكم: هل من نهاية لدوائر هؤلاء التكفيرية المتموجة المتوسعة؟!
وهل من ضوابط عندهم للتكفير؟ وهل لهؤلاء من موانع لتكفير المسلم؟
بل قال لي الزرقاوي عليه رحمة الله –وهو أخفهم غلوًا وأحسنهم حالاً، ولا توجد بينه وبين أمير الزور البغدادي مقارنة من كل النواحي( )- إنَّ مناط تكفير الشرطي هو الثوب الأزرق - هكذا قال بالحرف-، فقلت له: لنفرض جدلاً -وفي الفقه يجوز افتراض مسائل وإن لم تقع- أنَّ هناك شرطيًا يحرس مدرسة للبنات في منطقة سنية لكثرة الخطف في ذلك الوقت، وليس له عمل إلا هذا، وقد أخذ هذا العامي فتوى ممن يشاع عند العوام أنه أهل للفتوى، فما تقول في هذا؟ فقال لي رحمه الله: هو مرتد؛ لأنَّ مناط التكفير الثوب الأزرق، ولأنه لو كُلِّف هذا الشرطي بقتال المجاهدين إعانة للصليبيين لفعل، فقلت له: لا يجوز التكفير بالظنون، ولو أنَّ هذا الشخص كلِّف بعمل كفري وفعل لوقع في الكفر، ولا كرامة... لكنه قد يُكلَّف فيرفض. وكان كلامي عن تكفير الأعيان وليس عن الطائفة أو القتال.
ولا نشك بكفر جند الطاغوت، وأنهم طائفة ردة، ولكنَّ تكفير أعيانهم يحتاج إلى توفر شروط وانتفاء موانع.
إنَّ أهل الغلو يعتمدون في تكفيرهم المتوسع المتعاظم على قاعدة التكفير باللازم، ولذا فإذا كفر عندهم الحاكم – وهو لا شك كافر في العراق والشام- كفَّروا أعيان كل من عمل معه ممن يستحق التكفير وممن لا يستحق، دون ملاحظة التفريق بين الكفر المطلق وكفر المعيَّن، ودون ملاحظة موانع التكفير أبدًا، وبما أنَّ التكفير عند هؤلاء لا ضابط له، فقد يتوسعون فيكفِّرون أيَّ موظف في الدولة، وقد يكفرون كل أفراد المجتمع؛ لأنهم راضون بدليل سكوتهم ولازم السكوت الرضا كما فعلت جماعة شكري مصطفى في مصر.
وهؤلاء ملتزمون بأوسع أبواب التكفير وأسهلها وهو التكفير باللازم، أي مادام لازم هذا القول كفر فصاحبه كافر، ومادام لازم هذا الفعل كفر فصاحبه كافر، وهكذا من غير أن يلتزم القائل بلازم قوله، أو لازم فعله، وبسبب ولعهم بتكفير المسلمين فإنهم لا يؤخرون التكفير حتى ينبهوا القائل بأنَّ لازم قوله الكفر، فإن ثبت له كفر وإلا فلا، هذا إذا كان كفرًا فعلاً.
قال شيخ الإسلام عندما سئل هل لازم المذهب مذهب أم لا؟
(... الصواب: أنَّ مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبًا عليه...)( ).
وقال رحمه الله: (... وعلى هذا، فلازم قول الإنسان نوعان:
أحدهما: لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه؛ فإنَّ لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف اليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد ثبت أنَّ التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عُرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له، فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه؛ لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه.
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب أو ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله، وإن كان متناقضًا...)( ).
وقال رحمه الله: (... فلازم المذهب ليس بمذهب، إلا أن يستلزمه صاحب المذهب، فخلق كثير من الناس ينفون ألفاظًا أو يثبتونها، بل ينفون معان أو يثبتونها، ويكون ذلك مستلزمًا لأمور هي كفر، وهم لا يعلمون بالملازمة، بل يتناقضون، وما أكثر تناقض الناس لاسيما في هذا الباب، وليس التناقض كفرًا)( ).
ويقول السخاوي: (وقال أيضًا – أي شيخه ابن حجر العسقلاني-: والذي يظهر أنَّ الذي يحكم عليه بالكفر من كان الكفر صريح قوله، وكذا من كان لازم قوله وعرض عليه فالتزمه، أما من لم يلتزمه وناضل عنه فإنه لا يكون كافرًا، ولو كان اللازم كفرًا)( ).
ويقول السعدي: (والتحقيق الذي يدل عليه أنَّ لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ولم يشر إليه ولم يلتزمه ليس مذهبًا؛ لأنَّ القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان نُلزم القائل ما لم يلتزمه، ونقوِّله ما لم يقل)( ).
ولو وفق الله هؤلاء ونظروا في القرآن والسنة لما فضحوا أنفسهم وقالوا هذا القول الباطل المضاد لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا وهم يحاولون دائمًا إظهار أنهم شديدوا الالتزام بالكتاب والسنة، وأنَّ مشكلتهم مع الآخرين من أهل العلم والجهاد هي شدة التزامهم بالنصوص!
الصورة السادسة: تكفيرهم لجماعات جهادية بأكملها، وهم يعلمون سلفية هذه الجماعات ودعوتها لتحكيم شرع الله، وبعدها الشديد عن الإرجاء، مع أنَّ الإرجاء ليس ردة، ولكنه الهوى والظلم والحسد. بل إنَّ كثيرًا من رؤوس أهل الغلو هؤلاء ومنهم ما يسمى زورًا بأمير المؤمنين تلقوا مفاهيم الحاكمية والولاء والبراء ونحوها من مشايخ، يحكم عليهم أهل الغلو الآن بالردة واستباحة الدم؛ لأنهم ردوا بدعتهم وغلوهم. فحسبنا الله ونعم الوكيل، لا علم ولا خلق ولا مرؤة ولا وفاء.
أما تكفيرهم للجماعات الإسلامية التي نختلف معها في المنهج وبعض مسائل الاعتقاد كجماعة الإخوان المسلمين، فهذا عندهم من المعلوم من الدين بالضرورة، وقد صرَّحوا به في مواطن ومجالس كثيرة، وممن صرَّح بذلك الناطق لما يسمى زورًا بالدولة الإسلامية في العراق والشام، وقد ردَّ عليه أبو محمد المقدسي في مقال له بعنوان "الإنصاف حلة الأشراف".
الصورة السابعة: التوسع الفاحش والفهم البدعي الضال الخاطئ لقاعدة: (من لم يُكفِّر الكافر فقد كفر). فمن المعلوم عند أهل العلم أنَّ المقصود بهذه القاعدة أنَّ من لم يكفر الكافر الأصلي - كاليهودي والنصراني أو مَن ثبت كفره يقينًا بلا خلاف كالملحد - فقد كفر. أما المسلم الذي وقع في ناقض مختلفٍ فيه فهذا لا يجوز تكفيرُ مَن لم يكفره. وكذا لا نكفِّر مَن لم يكفِّر (مَن ثبت كفرُه عندنا)؛ للجهل أو التأويل ونحو ذلك من موانع معتبرة شرعًا.
أما أهل الغلو فيطلقون القول بالتكفير بلا تفصيل. والقاعدة عندهم: (من لم يكفر الكافر - عندهم - فهو كافر).
وما أعرفه عنهم الكثير الكثير من صور تكفيرهم التي تدل على جهلهم وحمقهم، والتي لن تنتهي عند حد، وكل من عاش معهم – وبخاصة في السجن- يُدرك دقة ما أقول.
وهنا لا بد أن أنبه على مسألة مهمة، وهي أنَّ طالب العلم الذي يعيش مع كتب فقهائنا، ويعرف حقيقة هؤلاء الغلاة وما يكفِّرون به، سيرى بونًا شاسعًا هائلاً، ويدرك يقينًا يقينًا أنَّ هؤلاء ليسوا على منهج أهل السنة والجماعة في مسائل التكفير، خذ مثلاً هذا النص الفقهي لإمام من أئمة المسلمين المتفق على جلالته، وهو عز الدين بن عبد السلام الذي قال عنه الذهبي: (وكان أحدَ المجتهدين)( ). يقول العز رحمه الله: (لو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك؛ جلبًا للمصالح العامة، ودفعًا للمفاسد الشاملة، إذ يبعد من رحمة الشرع ورعايته لمصالح العباد تعطيل المصالح العامة، وتحمُّل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن تعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد)( ). وكل منصف يعرف الغلاة في بلدنا يعلم يقينًا أنهم يكفِّرون مَن يفتي بهذه الفتوى ومن يعمل بها. ولست هنا في مقام دراسة فتوى هذا الإمام، وهل هي صحيحة في نظري القاصر أم لا، ولكنَّ الذي أريد أن أقوله أنَّ المسألة التي يتحدث عنها الإمام العز ليست من مسائل الإيمان والكفر، وإنما هي مسألة فقهية تدور بين التحريم والإباحة، أما الغلاة في بلدنا فلشدة جهلهم يندر أن تسمع منهم في كثير من الأمور أنَّ هذا الفعل أو القول حرام، بل لا تسمع إلا "ردة ومرتد"، وكبيرهم لا يتقن متنًا معتمدًا في الفقه أو الأصول.
وتأمل فيما يقوله القرطبي رحمه الله: (قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يُفوِّض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك. وقال قوم: إنَّ هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز، والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه، والله أعلم.
قال الماوردي: فان كان المولي ظالماً، فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين:
أحدهما: جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده؛ لأنَّ يوسف ولي من قبل فرعون، ولأنَّ الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره.
الثاني: أنه لا يجوز ذلك؛ لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم. فأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين: أحدهما: أنَّ فرعون يوسف كان صالحًا، وإنما الطاغي فرعون موسى. الثاني: أنه نظر في أملاكه دون أعماله، فزالت عنه التبعة فيه)( ). ثم ذكر القرطبي تصحيح الماوردي، وواضح أنَّ القولين يدوران بين الجواز وعدمه، ولم يقل أحد من أهل العلم بردة الفاعل كما يقول أهل الغلو.
بل إنَّ الإمام الذهبي – تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية- يقول: (وعن إبراهيم الحربي، قال: قبر معروف الترياق المجرب. يريد إجابة دعاء المضطر عنده؛ لأنَّ البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء، كما أنَّ الدعاء في السحر مرجو، ودبر المكتوبات، وفي المساجد، بل دعاء المضطر مجاب في أيِّ مكان اتفق، اللهم إني مضطر إلى العفو، فاعف عني)( ).
وليس من شك لو أنَّ الغلاة سمعوا هذا الكلام من عالم لقالوا بأنه قبوري مشرك؛ لجهلهم، والصواب أنَّ ما ذكره الإمام الذهبي بدعة وليس شركًا.
والمصيبة أنهم يستدلون بأدلة من الكتاب والسنة وأقول العلماء، وينزلونها في غير بابها.
الصفة الثالثة: الاستخفاف بالدماء "يقتلون أهل الإسلام":
أيها القائد فيما يسمى دولة العراق الإسلامية وأيها التابع لها: لعلك تعرف استهانة الخوارج بالدماء؟ وأرجو أن تتخلى عن جاهلية التنظيمات وتعصبها لذواتها وأسمائها، واستقرئ الشارع العراقي وانظر في آثار إجرام تنظيمك في طرقاته وفي محلاته وفي نفوس الناس، فهل يمكنك أن تُنكر هذا، وأنتم من يفاخر بهذا؟
أرجوك ارجع للتاريخ الحديث، واجمع ما في ذاكرتك من عملياتكم ضد العُزَّل، وسترى كمًّا هائلاً من الدماء وأبراجًا من الرؤوس، وأعدادًا هائلة في مختلف مناطق العراق من اليتامى والثكالى والأرامل!
بل تجرأتم على قتل كثير من طلبة العلم وكثير من المجاهدين بدعاوى باطلة.
أيمكن أن تشك حتى في ذاكرتك؟
إذًا سل جميع العراقيين، سل خلاصة العراقيين؛ بل المجاهدين واستمع لشهادتهم! لن يختلف اثنان والله على نسبة هذا الوصف النبوي القاضي باستهانتكم بالدماء!
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بأنهم: (يقتلون أهل الإسلام)، فهل نظرتم إلى انطباق هذا الوصف عليكم؟
ولو أردت أن أذكر أسماء أفاضل أهل العراق الذين قتلتموهم من طلبة العلم والدعاة والمجاهدين لبلغت قائمة طويلة، وقتلتم كثيرًا من عامة المسلمين بالشبهات والظنون، وقتلتم مسلمين أفاضل؛ لأنهم انتقدوا الغلو في العراق انتقادًا علميًا، وقد حدثني أحد قادتكم عندما كنا في سجون الصليبيين أنكم تستبيحون دم من ينشر كتاب "وقفات مع ثمرات الجهاد" للشيخ أبي محمد المقدسي لأنه انتقدكم في بعض المسائل، فإذا كان نشر مثل هذا الكتاب يبيح القتل عنكم فلا شك أنكم شابهتم الخوارج في الوصف الذي وصفهم به النبي صلى الله عليه وسلم: (يقتلون أهل الإسلام).
إنَّ قتلكم لأهل الإسلام بل لخيار أهل الإسلام أمر لا ينازع فيه أحد ممن يعرف الواقع العراقي، وقد قتلتم خيار المجاهدين ممن أذاقوا الأمريكان والمجوس والمرتدين الويلات، وقد جهد الصليبيون والمجوس وعملاؤهم بالبحث عنهم فلم يتمكنوا منهم، وقد كفيتموهم المؤنة، فقدر الله لهم خير ميتة- نحسبهم كذلك- ألم يقل النبي صلى الله عله وسلم (خير قتلى من قتلوه)( ). وكل الجماعات الجهادية لم تسلم منكم، لقد تلوثت أيديكم بدماء جميع الفصائل المعروفة حتى من وافقكم في بعض أخطائكم، فهل تنكرون هذا؟ أم تنكرون القتل العشوائي وقتل المسلمين بالشبهات والظنون؟ مع أنَّ الأمريكان ومن تيقنت عمالتهم هم الأصل... وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتل منافقين، عنده أسماؤهم بإخبار الله تعالى له!
ألم يكن الأمريكان يتمنون من أول مرة إشعال فتنة في العراق؛ لإشغال أهل العراق بأنفسهم عن المحتل الكافر الأصلي؟ ألم تتكفلوا أنتم بهذه المهمة؟ فأخذتم تقتلون من هبَّ ودبَّ، وما أكثر المسلمين من قتلاكم.
فهل تنكرون هذا الوصف النبوي؟ وهل تنكرون انطباقه عليكم؟ وهل من فصيل عراقي ينافسكم على هذا الوصف؟ تأملوا، واتقوا الله وعودوا.
ألم يقرؤا حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته)( ).
إنَّ المؤمن الحق لا يملك إلا التوقف عند حد ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأي حمى أعظم من هذا الحمى؟! قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } (الأحزاب:36). وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (النساء:65).
أي مسلم في قلبه تقوى الله ومخافته وتعظيم حرماته يقال له هنا ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يتجرأ وينتهكها؟!
أيرجو لله وقارًا من يخفر الله في ذمته ويخفر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في ذمته؟!
إنهم لا يخفرون ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم في المسلم العامي فحسب الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا)، ولكنهم يخفرون ذمة الله جل وعلا وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم في طلاب العلم الذين نشأوا في طاعة الله، وحفظوا القرآن، وطلبوا العلم، ودعوا إلى الله، وجاهدوا في سبيله، واعتقلوا وعذبوا وشُرِّدوا طاعة لله، ورؤوسهم مطلوبة للصليبيين والمجوس والمرتدين، وليس لهم من غاية إلا نصرة دين الله وتحكيم شرعه العظيم – نحسبهم كذلك والله حسيبهم-، ومع كل هذا يخفر أهل الغلو ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء!
أي قسوة وغلظة وفظاظة هذه؟! حقًا إنَّ الإيمان لم يجاوز تراقيهم، لذلك يخفرون ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد بريء النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الذي لا يكترث بقتل المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة: (ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه)( ).
قال الإمام النووي: (ومعناه لا يكترث بما يفعله فيها، ولا يخاف وباله وعقوبته)( ).
الصفة الرابعة : الجمع ما بين القتل والتكفير، فهل من جرأة على التكفير أعظم من تكفير الخوارج لعلي وخباب وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفِّرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأنَّ دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم، فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة، وجعل السيئة كفرًا)( ).
فالخوارج يضيفون للتكفير القتل جامعين بينهما، حيث إنهم بمجرد أن يعادوا أحدًا يكفرونه ويطلقون عليه حكم الردة، ثم يستبيحون دمه بهذا العذر أو ذاك، وإلا فهل تجرأ فصيل واحد على قتل طلبة العلم غيركم؟ وهل قتلتم واحدًا من أهل العلم إلا بعدما أطلقتم عليه حكم الردة؟
وهل تجرأ فصيل واحد على الاستهانة بحرمة المساجد، وعدم مراعاة مشاعر عوام أهل السنة؟
فهلا تساءلتم إلى أين ستصل بكم هذه الاستباحة: استباحة الدين واستباحة الدم؟
الصفة الخامسة: السفاهة والحماقة:
عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة)( ).
وَصَف النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الخوارج بأنهم "حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام". انظروا في الساحة العراقية، وتحققوا بأنفسكم، فهل تجدون في أية جماعة من الجماعات الجهادية تجمعًا لمن يتصفون بالصغر والسفاهة مثل ما في جماعتكم؟
بالله عليكم لا تتعجلوا وتريثوا حتى تتبينوا كم أعداد الكبار فيكم؟
وهل يبقى عندكم طويلاً العالم الرباني أو طالب العلم المتمكن؟
انظروا ستجدون طول اللسان بالسفاهة على العلماء والمجاهدين والصالحين؛ لأنهم من غير جماعتكم، ستجدون أقوال السفهاء، وشتائم السفهاء، وأوصاف السفهاء عندكم، وفي النهاية لن تجدوا فصيلاً جهاديًّا ملتزمًا ينافسكم السفاهة أبدًا.
هذا الشيخ أبو محمد المقدسي( ) الذي تربى شيوخكم على كتبه خالفكم في مسائل فرميتموه بأقبح الأوصاف مما نتحرج من ذكره، وموقفكم من الشيخ حامد العلي ونبزه بألفاظ السوء لم تعد خافية على أحد، ومعظم العلماء وطلبة العلم نالهم الكثير من سوء ألفاظكم حتى من كنتم تعدونه مرجعًا لكم في يوم من الأيام كالشيخ أبي بصير وغيره.
أما تكفيركم للشيخ المحدِّث الألباني رحمه الله وللشيخ ابن باز رحمه الله وللشيخ ابن عثيمين رحمه الله فهي مستشرية في أكثركم، وقد كان من يُحسب على العلم منهم يبدعني( ) عندما كنا في سجن بوكا؛ لأنني لا أكفر هؤلاء المشايخ الأجلاء الأفاضل! مع أني لا أقول بكل ما يقولون، وأخالفهم في مسائل، ولا أعتقد اتفاقهم إجماعًا كما يرى بعض مرجئة العصر.
الصفة السادسة: جهلهم بالسنة، وردهم لها بأصول عامة، وعدم اتباعهم للسنة إذا خالفت أصولهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم، أحدهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة... وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لابد أن يثبت ما نفته السنة وينفي ما أثبتته السنة، ويحسِّن ما قبحته السنة، أويقبِّح ما حسَّنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل من هذين الأصلين، لكنَّ أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة)( ).
ويقول شيخ الإسلام: (والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم)( ).
ولكم أن تنظروا في أمركم وأمر الصحب ممن حولكم، وستجدون أي جهل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يعتوركم؟ وقارنوا بين علم كبرائكم بالسنن وعلم قادة بعض الجماعات الأخرى، وستجدون أن ليس لدى أصحابكم إلا سننًا معينة يكررونها، مما وافقت القواعد التي قرروها، وما وراء ذلك فهي ظلمات الجهل التي تجعل صاحبها في غرور بينما هو يعيش في بعد عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم!
فيا أيها الأتباع ما قيمة الحياة إذا بعدت عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟
وما قيمة الجماعة إذا لم يكن منهجها الذي تلتزمه هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟
وما قيمة القادة إذا لم يقتدوا في كل شؤونهم بسيد القادة صلى الله عليه وسلم؟
ويجب على كل مسلم يرجو لقاء ربه سبحانه أن يحذر أشد الحذر من صفات الخوارج، فهل هناك أعظم من وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقتلهم قتل عاد إن أدركهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)( ). لعلمه صلى الله عليه وسلم أنَّ أهل الحق إن لم يفعلوا ذلك قُتلوا هم قتل عاد ومزقوا شر ممزق. ولا أدري كيف يقرأ مسلم هذا التهديد الخطير من النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقترب من صفات الخوارج.
فائدة: أثر ضعيف يصف أحوال أهل الغلو في واقعنا.
وقفت على حديث موقوف عن علي لكنَّ له حكم الرفع لو صحَّ؛ لأنَّ مثله لا يقال بالرأي، أخرجه نعيم بن حماد في كتابه "الفتن"، والأثر يحكي بعضًا من أحوال الغلاة، وهو ضعيف أو ضعيف جدًّا حسب قواعد المحدثين، لكنه ليس موضوعًا، ولا بأس بروايته مع بيان حاله. وسيجد القارئ تشابها عجيبًا بين ما ورد في هذا الأثر الضعيف الإسناد وبين واقع أهل الغلو.
قال نعيم بن حماد: حدثنا الوليد ورشدين عن ابن لهيعة عن أبي قبيل عن أبي رومان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: (إذا رأيتم الرايات السود فالزموا الأرض، فلا تحركوا أيديكم ولا أرجلكم، ثم يظهر قوم ضعفاء لا يؤبه لهم، قلوبهم كزبر الحديد، هم أصحاب الدولة، لا يفون بعهد ولا ميثاق، يدعون إلى الحق وليسوا من أهله، أسماؤهم الكنى، ونسبتهم القرى، وشعورهم مرخاة كشعور النساء، حتى يختلفوا فيما بينهم ثم يؤتي الله الحق من يشاء)( ).
ترجمة الإسناد:
نعيم بن حماد: قال الذهبي: (أحد الأئمة الاعلام على لين في حديثه... خرَّج له البخاري مقرونًا بغيره. وروى عنه يحيى بن معين، والذهلي، والدارمي وأبو زرعة، وخلق، آخرهم حمزة بن محمد الكاتب. وكان شديدًا على الجهمية... وقال الحسين بن حبان: سمعت يحيى بن معين يقول: نعيم بن حماد أول من سمع صدوق وأنا أعرف الناس به، وكان رفيقي بالبصرة...، وكذا وثقه أحمد، وروى إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ثقة)( ).
وقال عنه أيضًا: (الحافظ أبو عبد الله المروزي الأعور عن أبي حمزة السكري وإبراهيم بن سعد، وعنه البخاري مقرونًا، والدارمي وحمزة الكاتب، مختلف فيه، امتحن فمات محبوسًا بسامراء)( ).
وقال ابن حجر: (وأما نعيم فقد ثبتت عدالته وصدقه، ولكن في حديثه أوهام معروفة)( ).
وقال أيضًا: (صدوق يخطئ كثيرًا، فقيه عارف بالفرائض... وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه، وقال: باقي حديثه مستقيم)( ).
وقد علَّق الذهبي على حديث أخرجه الحاكم، قائلاً - أي الذهبي-: (هذا من أوابد نعيم) أي غرائبه وعجائبه. وأجاب على ذلك الشيخ حمود التويجري فقال: (قلت: لم يكن نعيم بن حماد كذابًا ولا متروكًا حتى يقال: "هذا من أوابده"، وكيف يقال فيه هذا القول، وقد وثقه الإمام أحمد وابن معين والعجلي؟! وحسبك بتوثيق أحمد ويحيى، وقال أبو حاتم: "صدوق"، وروى عنه البخاري في "صحيحه"( )، ومسلم في مقدمة "صحيحه"، وروى عنه أيضًا ابن معين والذهلي وغيرهما من الأئمة، ومن كان بهذه المثابة عند هؤلاء الأئمة؛ فحديثه مقبول. والله أعلم، وقد وقع مصداق هذا الحديث( )، سوى فتنة السفياني؛ فهي لم تقع إلى الآن، ولم يجئ في خروجه حديث صحيح يعتمد عليه)( ).
رشدين بن سعد: قال عنه الذهبي: (قال أبو زرعة: ضعيف... كان صالحًا عابدًا محدثًا سيء الحفظ)( ).
وقال عنه ابن حجر: (ضعيف، رجح أبو حاتم عليه ابن لهيعة، وقال ابن يونس :كان صالحًا في دينه، فأدركته غفلة الصالحين فخلط في الحديث)( ).
ويغني عن رشدين، الوليد بن مسلم، فقد قال فيه الذهبي: (الحافظ أبو العباس عالم أهل الشام ... قال ابن المديني: ما رأيت من الشاميين مثله... قلت: كان مدلسًا فيتقى من حديثه ما قال فيه عن)( ).
وقال فيه ابن حجر: (ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية)( ).
ابن لهيعة: قال عنه الذهبي: (ضعِّف، وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وإتقانه وضبطه. قلت: العمل على تضعيف حديثه)( ).
وقال عنه ابن حجر: (صدوق... خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون)( ).
أبو قبيل (حيي بن هانئ): قال عنه الذهبي: (وثقه جماعة، وقال أبو حاتم صالح الحديث)( ).
وقال عنه أيضًا: (وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وكان له علم بالملاحم والفتن)( ).
وقال عنه ابن حجر: (صدوق يهم)( ).
وقال فيه الألباني: (وفي أبي قبيل كلام يسير لا ينزل به حديثه عن رتبة الحسن)( ).
أبو رومان: قال عنه ابن منده: (أبو رومان حدث عن علي بن أبي طالب في الفتن روى حديثه عبد الله بن لهيعة عن أبي قبيل عن أبي رومان)( ). فالذي يظهر أنه مجهول العين.
ويتضح بعد هذه الدراسة المختصرة لإسناد الحديث أنَّ الحديث لا يصح إسناده حسب قواعد المحدثين، لكنه ليس موضوعًا.
ولم أتحرج من ذكره؛ لأني بيَّنت حاله، وأهل العلم يتساهلون في إيراد هذه الأحاديث ونحوها.
قال الخطيب البغدادي: (قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلا عمن كان بريئًا من التهمة, بعيدًا من الظنة, وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ)( ).
وقال ابن الصلاح: (يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد، ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة، من غير اهتمام ببيان ضعفها، فيما سوى صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرها. وذلك كالمواعظ، والقصص، وفضائل الأعمال، وسائر فنون الترغيب والترهيب، وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعقائد. وممن روينا عنه التنصيص على التساهل في نحو ذلك عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما)( ).
وقال العراقي: (تقدَّم أنه لا يجوز ذكر الموضوع إلا مع البيان، في أي نوع كان. وأما غير الموضوع فجوزوا التساهل في إسناده وروايته من غير بيان لضعفه إذا كان في غير الأحكام والعقائد، بل في الترغيب والترهيب، من المواعظ والقصص، وفضائل الأعمال، ونحوها. أما إذا كان في الأحكام الشرعية من الحلال والحرام وغيرهما، أو في العقائد كصفات الله تعالى، وما يجوز ويستحيل عليه، ونحو ذلك، فلم يروا التساهل في ذلك. وممن نص على ذلك من الأئمة عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم)( ).
وقال ابن تيمية: (وهذا كالإسرائيليات، يجوز أن يروي منها ما لم يعلم أنه كذب للترغيب والترهيب فيما علم أنَّ الله تعالى أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا)( ).
وقد ذكر أهل العلم أنَّ الحديث عندما يضعَّف؛ فهذا على غلبة الظن، لأنه فقد شروط القبول، لا أنه مقطوع بضعفه.
ويقول السخاوي في ذلك: [(و) إذا تم هذا فـ (بالصحيح) في قول أهل هذا الشأن: هذا حديث صحيح (و)بـ (الضعيف) في قولهم: هذا حديث ضعيف (قصدوا) الصحة والضعف (في ظاهر) للحكم بمعنى أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة، أو فقد شرطًا من شروط القبول، لجواز الخطأ والنسيان على الثقة. والضبط والإِتقان، وكذا الصدق على غيره. كما ذهب إليه جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء والأصوليين، ومنهم: الشافعي، مع التقيد بالعمل به متى ظنناه صدقًا، وتجنبه في ضده.
(لا) أنهم قصدوا (القطع) بصحته أو ضعفه؛ إذ القطع إنما يستفاد من التواتر، أو القرائن المحتف بها الخبر، ولو كان آحادًا، كما سيأتي تحقيقه عند حكم الصحيحين...
والحاصل أنَّ الصحة والضعف مرجعهما إلى وجود الشرائط وعدمها بالنسبة إلى غلبة الظن، لا بالنسبة إلى الواقع في الخارج من الصحة وعدمها]( ).
نصيحة وإشفاق على مصير الأمة في العراق
صنفني كما يحلو لك، لكن اصبر على قراءة نصيحتي، فإن شئت بعد قراءتها إحراقها فاحرقها، وإن شئت نشرها فانشرها!
صنفني، وإياك أن تخرجني من الإسلام، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، مجتنبًا كل ناقض من نواقضهما القولية والعملية والاعتقادية.
صنفني كما يحلو لك، ولكن إياك ثم إياك أن تترك نصيحتي بناءً على تصنيفك إياي.
لقد أبقى النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه ثلاث ليالٍ يحرس التمر في جرين الصدقة، ويعاني السهر، ويراقب الموقف في وقت التهجد والوتر، فيرى الصحابي الدابة السارقة، ويمسكها، ويحاسبها، وتعاهده، ثم يطلقها... حتى حظي في الليلة الثالثة بالعلم منها، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أنه كانت له سهْوة( ) فيها تمر، وكانت تجيء الغول فتأخذ منه، قال: فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهب فإذا رأيتها فقل: بسم الله، أجيبي رسول الله)، قال: فأخذها فحَلَفَت أن لا تعود، فأرسلها، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما فعل أسيرك؟) قال: حلفَت أن لا تعود، قال: (كذبت، وهي معاودة للكذب)، قال فأخذها مرة أخرى، فحلفت أن لا تعود، فأرسلها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما فعل أسيرك؟)، قال: حلفت أن لا تعود، فقال: (كذبت، وهي معاودة للكذب)، فأخذها فقال: ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني ذاكرة لك شيئًا: آية الكرسي، اقرأها في بيتك، فلا يقربك شيطان ولا غيره، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما فعل أسيرك؟) قال: فأخبره بما قالت، قال: (صدقت وهي كذوب)( ).
أفيأمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه بقبول النصيحة ممن جمع الأوصاف التالية: شيطان في صورة حيوان، سارق، وسارق الصدقة، وكذاب في كلامه، وغدار في وعده. وأنت لا تقبل من أخيك المسلم نصيحته، وهو يشاركك في جهاد الصليبيين والزنادقة والمرتدين؟
أفينشر هذا الصحابي هذا العلم للصحابة، والتابعين، والأمة من بعدهم تنتفع منه، وتنشره جيلاً بعد جيل، وقد تلقاه عن الشيطان في صورة حيوان، وأنت لا تنشر إلا ما جاءك عن طريق واحد فحسب- وأنت تعلم أنَّ هذا البحث حق وخير- إلا بعد استئذان؟
لكم الحق في العتب إن رأيتمونا تجاوزنا في هذا البحث على بحثكم بكلمة واحدة أو اقتطعنا منه على طريقة من يقتطع من الآية كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } (الماعون:4)، دون قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } (الماعون:5).
أما وإنَّ الأمر كما ترون عدلاً ووضوحًا وحجةً، فلا خيار لكم عند الله إلا العمل بما تعتقدونه حقًا- الآن- وإن خالف قناعاتٍ دافعتم عنها طويلاً، فإنَّ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ومن أبى فليعلم أنَّ عقاب الله العاجل قد أصابه، وذلك بصرفه عن الهدى، وكفاه عقابًا...
فعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قالوا : يا رسول الله إنَّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة ؟! قال: إنَّ الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس)( ).
لا تفكر فيمن كتبه، لا يصرفنك الشيطان عن عظيم الانتفاع بالمكتوب بالتفكير فيمن كتبه ولمِ كتبه ثم تبدأ بالتفكير بالانتقام منه، والعزيمة على قتله، كما جرت العادة مع أكثر من يقف في طريقكم، فتحمل وزر نفسٍ مقتولة- ربما- بنيتك!
خذ المكتوب، ودعك من الكاتب، ولا نعلم أينا يسبق كتاب أجله إلى الله، الناصح أم المنصوح، وعند الله تجتمع الخصوم.
فما أخرجكم من بيوتكم لساح الجهاد- أول ما خرجتم- إلا حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتعظيم حرمات الله تعالى- كما نحسبكم والله حسيبكم-، واليوم لو اجتمعت الحرمات مع المحرمات في مكان واحد، وفي زمان واحد، لانتهكتموها متقربين، وقد فعلتم!
اليوم لو اجتمع الإسلام، والعلم، وحفظ القرآن والسنة في رجل، وكان ذلك الرجل في المسجد يقرأ القرآن، يوم الجمعة، في رمضان ... لتسابقتم لقتله متقربين، ما دام قد صدر أمر أميركم في حقه!
لا أدري متى نعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف)( ) إن لم نعمل بها الآن؟
لا أدري هل لو أمرك أميرك بالزنا تزني؟ ولم لا؟! أليس الزنا أهون من القتل.
أتذكر اشتياقك للجنة أول مرة؟
وما يدريك لعله حيل بينك وبين الجنة، وأنت لا تدري، فعن طريف أبي تميمة، قال: شهدت صفوان وجندبًا وأصحابه، وهو يوصيهم، فقالوا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا؟ قال سمعته يقول: (من سمَّع سمَّع الله به يوم القيامة). قال: (ومن يشاقق يشقق الله عليه يوم القيامة). فقالوا أوصنا. فقال: (إنَّ أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبًا فليفعل، ومن استطاع أن لا يحال بينه وبين الجنة بملء كفه من دم أهراقه فليفعل)( ).
هذا ما يصنعه مقدار ملء الكف من دم امرئ مسلم، فكم ملأتَ من قدور بدماء المسلمين وأشلائهم إلى لحظة قراءة هذه الكلمات، إنها تنتظرك هناك؛ لتحول بينك وبين أعظم أمنية، في أخطر وآخر لحظة.
فإذا حيل بينك وبين دخول باب الجنة بمثل ذلك، فلا تبحث عن باب آخر فليس ثمة إلا أبواب النار مفتحة وهي تنادي، فهناك المنزل وهناك النزل!
إياكم أن تحرمكم قسوة قلوبكم الاتعاظ بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من تهديدات خطيرة في شأن القتل.
فعن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة)( ).
وعن أبي بكرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما في جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعًا)( ), أما القاتل فظاهر، وأما المقتول؛ فلأنه قصد قتل أخيه.
وعن عقبة بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله أبى عليَّ فيمن قتل مؤمنًا ثلاث مرات)( ). أي: سألته أن يقبل توبته فامتنع أشد الامتناع.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الملائكة لتلعن أحدكم إذا أشار إلى أخيه بحديدة، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)( ).
وعن أنس رضي الله عنه، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، أو سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس، وعقوق الوالدين. وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور)( ).
وعن سلمة بن الأكوع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلَّ علينا السيف فليس منا)( ).
وعن بريدة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)( ).
وعن عبدالله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)( ).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)( ).
لعله مرَّ عليكم في التاريخ أنَّ فلانًا قتل فلانًا، وفلانًا قتل أكثر من كذا وكذا، فاستسهلت الأمر واستهنت به، وتقول في نفسك يسعنا ما وسعهم، هؤلاء مجتهدون ونحن مجتهدون. فتتجرؤون على الدماء مرة بعد مرة... لا بل وتجرئون غيركم مرة بعد مرة حتى يصبح الواحد منكم مخططًا بفكره، وحاضًا بقوله وقلمه، وقدوة متقدمًا في ميدان القتل... هنيئًا لك هذه الإمامة، هنيئًا لك تاج إبليس، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح إبليس بثَّ جنوده، فيقول: من أخذل اليوم مسلمًا ألبسته التاج. قال فيجيء هذا، فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته. فيقول: يوشك أن يتزوج. ويجيء هذا، فيقول: لم أزل به حتى عقَّ والديه. فيقول: يوشك أن يبرهما. ويجيء هذا، فيقول: لم أزل به حتى أشرك. فيقول أنت أنت. ويجيء فيقول: لم أزل به حتى زنى. فيقول: أنت أنت. ويجيء هذا، فيقول: لم أزل به حتى قتل. فيقول: أنت أنت. ويلبسه التاج)( ).
أيها الأتباع والأشياع والقادة: لقد تعدَّى بعضكم مرحلة فعل هذه الكبيرة، فلقد بلغ بالبعض الفرح والاغتباط بنجاح قتل كذا وكذا من المسلمين، فهنيئًا لكم هذا الفرح والاغتباط بما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً)( ). قال المنذري: الصرف (النافلة).
قال خالد بن دهقان: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله (فاغتبط بقتل)، قال: الذين يقاتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم فيرى أحدهم أنه على الهدى لا يستغفر الله.
والله لو كانوا شهداء ما حق لكم أن تفرحوا باستشهادهم، كيف وهم قتلى؟ أتمنحون الناس الشهادة وتبوؤون بدمائهم؟ ألم يبك النبي صلى الله عليه وسلم شهداء أحد ومؤتة، وحزن على غيرهم، وهم شهداء معركة... فما الذي أفرحكم بمقتل أناس لا يكفرهم سواكم، والناس شهداء الله على خلقه!
أخِّروا التوبة متى شئتم، فإنَّ ابن مسعود قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)( ).
فيالحزن أسامة رضي الله عنه بعدما تأول فقتل، فعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم فحزن حتى قال: (حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم)( ) ولم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة شيءٍ عند الحساب! إنما هي لا إله إلا الله! وكفى لا إله إلا الله التي لو جُعلت في كفة والسماوات والأرض في كفة لرجحت كفة لا إله إلا الله وطاشت السماوات والأرض.
لعلك اليوم تنظر لها ألفاظًا مجردةً أو أحرفًا مجتمعةً، لكنها عند الله عظيمة، ذاك المسلم الذي قتلته مات، وانطفأت بقتله أعظم كلمة خرجت من لسانه، ذهبت "لا إله إلا الله" معه فأعِدَّ نفسك، واجمع عملك، واستحضر حججك فلا إله إلا الله خصيمك!
ما جامل رسول الله صلى الله عليه وسلم حِبه وابن حِبه، أفتريدني أن أجاملك؟! ما ربَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حين رآه ندم حتى تمنى ما تمنى! بل جعل لا إله إلا الله قدام أسامة تنتظره عند الحساب، لقد ذهب أسامة رضي الله عنه وصوت رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغب عنه لحظة، وإلى آخر لحظة: "فمن لك بلا إله إلا الله"؟
وقد تحول أسامة بعد ذلك إلى قدوة في عظيم حذره حتى جعله بعضُ الصحابة قدوة في الحذر، فقد جاء عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقول: (لا أقاتل مسلمًا حتى يقاتله أسامة)( )، وكأنه يقول ليس بعد حذر أسامة حذر.
أفيزيد أسامةَ القتلُ حذرًا، ويزيدكم إصرارًا وإهدارًا؟!
فإذا كان نطق الكافر بالشهادة في أرض المعركة يُحرِّم قتله، مع أنَّ الظاهر أنه نطق بها خوفًا من القتل. فكيف بمن يتجرأ على قتل مَن جمع بين العلم والجهاد والدعوة وحفظ كتاب الله والسبق، وليس له هم واشتغال إلا بنصرة هذا الدين؟!
لا أشك أنكم على خطر عظيم، إن لم تتوبوا من كبيرة القتل، وكبيرة الكذب، وكبيرة التعالي على الناس، وكبيرة القول على الله بغير علم، وغيرها من الكبائر التي تلبستم بها.
لسان حال الواحد منكم يقول: لكأنك تصفنا كما يصفنا الحكوميون والمرتدون وأهل الإرجاء وأمثالهم بـ "الخوارج" .
أقول: أنا أبرأ إلى الله أن أكون من هؤلاء أو أمثالهم، فضلاً عن أن أكون لسانًا ناطقًا باسمهم، أما الخوارج وغير الخوارج فإنَّ الأسماء لا تعنيني، إنما الذي يعنيني هو أنتم, فإنَّ من فوَّت أثر هذه النصيحة اليوم واستمرأ التجاوز على حرمات الله تعالى، فما الذي يحول بينه وبين أن يصبح من الخوارج بعد أيام؛ بل ويكون شرًّا من الخوارج!
نعم، لا يعنيني من تكون، إنما هو عملك الذي يحدد وصفك، فقد قال ابن حجر: (وأسند- أي الطبري- عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في الخوارج بالكف عنهم ما لم يسفكوا دمًا حرامًا، أو يأخذوا مالاً، فإن فعلوا فاقتلوهم ولو كانوا ولدي)( ).
فإن استمرأت الدماء، وأصررت على استباحتها، فلا تستغربن موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منك.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا، فوالله لأن أخِرَّ من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإنَّ الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة).
وفي رواية أخرى: (يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)( ).
أيجوز لكم أن تتركوا الظاهر المتفق عليه إلى رأي فلان، وأمر الأمير، وبصيرة الأمير ونحو ذلك...!
ما حلَّ لموسى- عليه السلام- أن يترك النهي عما يخالف ما يعلم من شرع الله، وإن كان ممن أرسله الله ليتعلم على يديه، وما حلَّ للخضر- عليه السلام- أن يتجاوز الأمر المعلوم إلا بأمر مخصوص من الله، إذ قال في آخر القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }.
فأين أمر الأمير بتجاوز محرمات، وإباحة دماء مقطوع بحرمتها، وتحكيم أخبار مقطوع بكذبها، وشهادات مقطوع بزورها، فهل يا ترى من خصوصية فيكم كالخضر؟ أم أنكم مُحدَّثون كعمر؟
لا تحسبوا أنني ممن يصف العمليات الاستشهادية بالعمليات الانتحارية... لا، أو تحسبوا أني ممن تغلو عنده النفس فداءً لله تعالى... لا, لكنَّ الواجب أن تغلو نفوس إخواننا في الجهاد وفي الإسلام أكثر من غلاء نفوسنا أو مثلها، الواجب أن نشدد غاية التشديد في فتوى عملية استشهادية... وأن نعيد الفتوى فيها إلى أهلها من أهل العلم، وأهل الخبرة، وأن تكون النية لله وحده، وألا تبقى وسيلة غيرها، وأن تصل درجة الضرورة، وبعدها يبقى من أفتى محاسبًا نفسه مستغفرًا منتظرًا الحساب على وجل من أن يكون وقع في أعظم خطأ، فقد اجتمع في هذه المسألة نص قاطع واجتهاد واسع، فضيِّق الاجتهاد وضيِّق حتى وصل إلى درجة الاستثناء من النص، فمن يقوى على هذا؟
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأمَّر عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم، وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبًا وأوقدتم نارًا ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطبًا فأوقدوا نارًا، فلما هموا بالدخول، فقاموا ينظر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فرارًا من النار أفندخلها؟ فبينا هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف)( ).
فهذا الصحابي رضي الله عنه عنده أمر خاص بوجوب السمع له والطاعة بالإضافة لكل الأوامر العامة، وهؤلاء الجند من الصحابة رضي الله عنهم عندهم أمر خاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب طاعة هذا القائد، ومع هذا فما سوَّغ لهم ذلك كله أن يطيعوه في المعصية، وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على عدم طاعتهم له.
فكم من شابٍّ بايع على السمع والطاعة، فدخل هذه النار بأمر أميره بتفجير نفسه دون الضوابط الشرعية التي ذكرها أهل العلم؛ بل كم من شاب خُدع فأُدخل عملية ليست شرعية فذهبت نفسه غدرًا؟!
فلا عذر لكم عند الله إن سكتم على المنكرات، وأنتم تعلمون، لا عذر لكم!
إنكم حينئذٍ مشتركون في الإثم، ومشتركون في قتل النفس...!
كفى ما مضى، وأنقذوا أنفسكم في ما بقي!
خير لك أن تنكر على أميرك خطأه، ولو كان الذي عيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا رؤيا، وليكن ما يكون، فقد صح عن هشام بن حكيم بن حزام أنه مرَّ بالشام على أناس من الأنباط، وقد أقيموا في الشمس وصبَّ على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذَّبون في الخراج، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الله يعذِّب الذين يعذِّبون الناس في الدنيا)( ).
رضي الله عن أولئك الأمراء الرحماء الأمناء الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
إن لم يرحم المرء أصحابه، ويرحم من يقول: لا إله إلا الله، فمن يرحم؟!
فعن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه أنَّ رجلا قال: يا رسول الله إني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال: (إن رحمتها رحمك الله)( ).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مرَّ بفتيان من قريش قد نصبوا طيرًا أو دجاجة يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا)( ).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه حمار قد وسم في وجهه فقال (لعن الله الذي وسمه)( ).
أيها الأتباع والأشياع والقادة: أما ترون أنكم توسعتم في كل رخصة، أو ظنِّ رخصة، حتى أصبح الخيط المشترك الجامع لكم هو التوسع في الرخص، إلى أن دخلتم في المحرمات الظاهرة؟!
توسع كثير منكم في الترخص في الكذب، فأصبحتم تكذبون حتى على إخوانكم في الجهاد.
توسع كثير منكم في الترخص في أنَّ (الحرب خدعة) إلى أن أصبحت الخدعة تعم حتى أخاكم الذي ترسلونه لبعض العمليات الاستشهادية، وأصبحتم مدرسةً لتعليم فن الخداع لمنتسبيها، وتوسعتم في الجرأة على الفتيا بالتحليل والتحريم، فما أسهل الفتيا باستباحة دم مسلم؛ بل جماعات جهادية لمجرد اختلاف معها، وتوسعتم في الاستسلام للأمراء، وقتلتم بعد التأمين، ونسيتم حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (من أمَّن رجلاً على دمه فقتله، فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة)( ). بل جاء ما هو أشد من ذلك، فعن عمرو بن الحمق قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أمَّن رجلا على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرًا)( ).
ولقد توسعتم كثيرًا في فتوى التترس. وقد جاء عن ابن عباس، أنَّ رجلا أتاه، فقال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً متعمدًا؟ قال: جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا، قال: لقد أنزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أرأيت إن تاب، وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى، قال: وأنى له بالتوبة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (ثكلته أمه، رجل قتل رجلاً متعمدًا، يجيء يوم القيامة آخذًا قاتله بيمينه أو بيساره، وآخذًا رأسه بيمينه أو شماله، تشخب أوداجه دمًا في قبل العرش. يقول: يا رب سل عبدك فيم قتلني)( ).
فأيُّ مجازفةٍ أكبر من هذه...؟!
هذا أبو حامد الغزالي رحمه الله الذي استشهدتم بكلماته في كتابكم (إعلام الأنام ...) يقول: (والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإنَّ استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد)( ).
أيها الأتباع والأشياع والقادة: أيُّ منكر عملي ذُكر في القرآن أكبر من القتل؟ وأيُّ قتل أعظم من قتل نبي من الأنبياء عليهم السلام؟ لقد ذهب الأنبياء وذهب قتلتهم... وورث فينا من يقتل ورثة الأنبياء فيهم... فهل من وراثة أسوأ من هذه الوراثة؟!
هب أنَّ هؤلاء العلماء خالفونا في مسائل، وهذه المسائل لم تصل إلى حد النواقض، فهل الحل هو قتلهم؟!
لقد ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم قتلَ من استحق القتل، ترك قتل الذي تولى كبره منهم، والذي قال ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل، رأس النفاق المارد ابن أُبي بن سلول وغيره؛ لئلا يقول الناس: إنَّ محمدًا يقتل أصحابه ... لئلا يقول الكفار وليس الصحابة؛ لأنَّ الصحابة هم من تسابق لقتل هؤلاء، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (لئلا يقول الناس...)( ).
فإذا كان اعتبار قول الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدرجة، أفلا يكون معتبرًا عندنا؟
وإذا كان قول الكافرين من الناس مؤثرًا في هذا الأمر، أفلا يؤثر قول خيار الناس المسلمين المصلين المتأثرين بقتل أئمتهم وخطبائهم ومعلميهم.
وتأمل فيما قاله الإمام الشنقيطي: (وقد أشرنا فيما تقدم لحكم ساحر أهل الذمة، واختلاف العلماء في قتله، واستدلال من قال بأنه لا يقتل بعدم قتله لبيد بن الأعصم الذي سحره، والقول بأنه قتله ضعيف، ولم يثبت أنه قتله، وأظهر الأقوال عندنا أنه لايكون أشد حرمة من ساحر المسلمين؛ بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين، وأما عدم قتله لابن الأعصم فقد بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة, فدل على أنه لولا ذلك لقتله، وقد ترك المنافقين؛ لئلا يقول الناس: محمد يقتل أصحابه، فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق، وهو عبارة عن المنافق)( ).
أيها الأتباع والأشياع والقادة: هل تتصورون اجتماع فعل كبيرة من الكبائر المنصوص عليها مع محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم... هاكم هذا الحديث: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا، فأُمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله)( ).
قال ابن حجر العسقلاني: (وفيه- أي في هذا الحديث الذي أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب-: الرد على من زعم أنَّ مرتكب الكبيرة كافر؛ لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له. وفيه أنه لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنَّ المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه، وأنَّ من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله. ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم من أنَّ نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية؛ بل كماله كما تقدم)( ).
وليُعلم أنه ليست الشجاعة وحدها ولا العبادة وحدها، ولا الصبر، ولا الثبات ولا أي عمل من الأعمال ممدوحًا مع عظيم الإخلاص إلا بالعلم...
لم يقل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أول الرسالة صل ولا صم ولا جاهد ولا اعمل أيَّ عمل من الأعمال، إنما قال له: {اقْرَأْ}. وكفى العلم شاهدًا وشرفًا {اقْرَأْ}.
وكفى الجهل ظلمة أنه يستبيح دم صاحبه، وإن كان مسلمًا، ويسود وجهه وعمله، وإن كان صوَّامًا قوَّامًا مخلصًا...!
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يصف الخوارج حينما دخل عليهم لمناظرتهم: (وأتيت قومًا لم أرَ قط أشد منهم اجتهادًا، مسهمة- أي متغيرة- وجوههم من السهر كأنَّ أيديهم ثفن- أي ركب- الإبل, عليهم قمص مرحضة- أي مغسولة-)( ).
وعن جندب الأزدي قال: (لما عدلنا إلى الخوارج، ونحن مع علي بن أبي طالب، فانتهينا إلى معسكرهم، فإذا لهم دوي كدويِّ النحل من قراءة القرآن)( ).
ولما أمر زيادُ بن أبيه بضرب عنق عروة بن أذينة، وكان من الخوارج، دعا مولاه، وقال له: صف لي أمره واصدق. فقال : أطنب أم أختصر؟ فقال: بل اختصر. فقال: ما أتيته بطعام في نهار قط، ولا فرشت له فراشًا بليل قط( ).
فإذا كانت هذه عبادتهم، وهذا اجتهادهم في أفضل الأعمال من صلاة وصيام وقيام... فأين الخلل إذًا؟
الخلل أنهم جهلة وأصحاب هوى، وينبغي أن نتأمل في حال الخوارج من حيث شجاعتهم وعبادتهم، فقد بلغوا شأنًا عظيمًا في هذين الأمرين، ومع هذا فقد وصفهم النبي صلى الله عليهم وسلم بكلاب النار( )، وفي هذا دليل قطعي أنَّ الشجاعة والإقدام والعبادة لوحدها لا تدل على صحة المنهج؛ بل لا بد من العلم الصحيح، وهذا ما يفتقده الخوارج.
عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (يخرج ناس من قبل المشرق ويقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه). قيل: ما سيماهم؟ قال: (سيماهم التحليق)( ).
وقد سئل سهل بن حنيف، هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئًا؟ قال: سمعته يقول: -وأهوى بيده قبل العراق- (يخرج منه قوم يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية)( ).
قال ابن حجر: (إنَّ الخوارج لـمَّا حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة، فقالوا نفي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين. وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق منه، وكفى أنَّ رأسهم ردَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ونسبه إلى جور، نسأل الله السلامة)( ).
وذكر ابن الأثير: (أنَّ رجلاً من الخوارج اسمه بسطام بن بني يشكر، خرج في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، ومعه جماعة من أتباعه، فبعث إليه عمر من يقف في وجهه، وكتب عمر إلى بسطام يسأله عن مخرجه، فكان في كتاب عمر: بلغني أنك خرجت غضبًا لله ولرسوله، ولست أولى بذلك مني، فهلم إليَّ أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يديك نظرنا في أمرك.
فكتب بسطام إلى عمر: قد أنصفتَ، وقد بعثتُ إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك. وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشيًّا اسمه عاصم، ورجلاً من بني يشكر، فقدما إلى عمر.
وكان مما جاء في تلك المناظرة أن قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك، وسميتها مظالم، فإن كنت على هدى وهم على الضلالة فالعنهم وابرأ منهم.
فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلبًا للدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، إنَّ الله عز وجل لم يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم لعَّانًا، وقال إبراهيم عليه السلام : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وقال الله عز وجل: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وقد سميتُ أعمالهم ظلمًا، وكفى بذلك ذمًا ونقصًا، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لابد منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنتَ فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنتُه. قال: أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم، ولا يسعني إلا أن ألعن أهل بيتي، وهم مصلون صائمون؟ قال: أما هم كفار بظلمهم؟ قال: لا؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الإيمان فكان من أقر به وبشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثًا أقيم عليه الحد، فقال الخارجي: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده.
قال عمر: فليس أحد منهم يقول: لا أعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنه محرم عليهم، ولكن غلب عليهم الشقاء.
قال عاصم: فابرأ مما خالف عملك، ورد أحكامهم.
قال عمر: أخبرني عن أبي بكر وعمر، أليسا على حق؟ قالا: بلى.
قال: أتعلمان أنَّ أبا بكر حين قاتل أهل الردة، سفك دماءهم، وسبى الذراري، وأخذ الأموال؟
قالا: بلى.
قال: أتعلمون أنَّ عمر رد السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟ قالا: نعم.
قال: فهل برئ عمر من أبي بكر؟ قالا: لا.
قال: أفتبرؤون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا.
قال: فأخبراني عن أهل النهروان وهم أسلافكم، هل تعلمان أنَّ أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دمًا ولم يأخذوا مالاً، وأنَّ من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن خباب وجاريته وهي حامل؟ قالا: نعم.
قال: فهل برئ من لم يقتل ممن قتل واستعرض؟ قالا: لا.
قال: أفيسعكم أن تتولوا أبا بكر وعمر وأهل البصرة وأهل الكوفة، وقد علمتم اختلاف أعمالهم، ولا يسعني إلا البراءة من أهل بيتي، والدين واحد؟ فاتقوا الله، فإنكم جهال، تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتردون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، فإنكم يخاف عندكم من يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عند رسول الله آمنًا وحقن دمه وماله وأنتم تقتلونه، ويأمن عندكم سائر أهل الأديان، فتحرمون دماءهم وأموالهم)( ).
رضي الله عمن أحجم عن الخوض بسيفه أو بلسانه في القتال الذي وقع ما بين علي ومعاوية رضي لله عنهما، ورضي الله عن جميع الصحابة... فرغم قرب العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورغم قرابة علي من النبي صلى الله عليه وسلم، ورغم النصوص الواضحة بأنَّ الحق مع علي إلا أنهم رفضوا الخوض فيها، وأكرموا سيوفهم عن قتل مسلم؛ بل إنَّ الحسن بن علي لم يشارك فيها، والأكبر من هذا أنَّ عليًا رضي الله عنه ندم على ذلك...
وعن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ ابن عمر أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إنَّ الناس صنعوا ما ترى، وأنت ابن عمر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أنَّ الله حرم عليَّ دم أخي المسلم، فقالا: ألم يقل الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ}؟ قال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله( ).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله: أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: (يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار)( ).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: دخلتُ على حفصة ونَوَساتُها تنطف- أي ذوائبها تقطر ماء- قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يُجعل لي من الأمر شيء، فقالت: إلحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعْه حتى ذهب، فلما تفرق الناس، خطب معاوية وقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن سلمة: فهلَّا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك مَن قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرِّق بين الجمع، وتسفك الدم، ويُحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله تعالى في الجنان. قال حبيب: حُفظت وعُصمت)( ).
أيها التابع: لا أدري هل أقول انتهت فسحتك, بعدما أصبت دمًا حرامًا أم لا؟
فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)( ).
وعن أبي الدرداء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن مُعنِّقًا( ) صالحًا مالم يصب دمًا حرامًا، فاذا أصاب دمًا حرامًا بلَّح( ))( ).
لكني أقول لك: توبتك اليوم خير من توبتك غدًا، إنما أخشى أنك سوف تنهي كل فسحة حين لا تزيدك الموعظة إلا إصرارًا، ولا يزيدك النصح إلا استكبارًا، ولا يزيد الدم إلا دمًا، وتموت ونهمك من دم المسلمين لم يشبع!
أيها التابع: إياك ثم إياك أن تشكك في حرمة الدم المسلم، تقول: هؤلاء ليسوا بمسلمين، هؤلاء فعلوا وفعلوا! إن وسعك ذلك فلتُخرج أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها من الإسلام، ولتبق الأمة كلها هي أنت ومن حولك، أتدري لماذا؟ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أنس رضي الله عنه: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته)( ). قال في الفتح: (قوله ذمة الله، أي: أمانته وعهده. قوله: "فلا تخفروا" بالضم من الرباعي، أي: لا تغدروا)( ).
ولعلكم ستقولون: وأين أنت من نواقض الإيمان؟ نقول: نعم إنَّ للإيمان نواقض قولية وعملية واعتقادية، وفي ذلك رسالتان علميتان ننصح بقرائتهما وهما "نواقض الإيمان القولية والعملية" للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف و"نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف" للدكتور محمد الوهيبي. ولكن للتكفير شروط وموانع، وقد حذَّر العلماء من الكلام في مسائل التكفير إلا لعالم متمكن، وننصحكم بدراسة كتاب "منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة التكفير" للشيخ عبد المجيد المشعبي، وإنَّ الدارس لمنهج هذا الإمام الجبل في مسائل التكفير ليدرك البون الشاسع بين منهجه ومنهج أصحاب الدولة الوهمية.
أيها الأتباع والأشياع والقادة: أليس كثير منكم ممن يقتل البر والفاجر ولا يتحاش من المؤمن، وهذا بشهادة جميع المجاهدين من غيركم، فإليكم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقُتل فقِتْلة جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه)( ).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا)( ).
أيها الأتباع والأشياع والقادة: تأكدوا- والله الذي لا إله إلا هو- لو أردت أن آتيكم بتأويلات تستباح بها الدماء أكثر في العراق لزودتكم بتأويلات لا تخطر لكم على بال، ولكن مَن لي بالنصوص الصريحة إذا واجهني الله بها يوم القيامة؟ من لي بغضب الله؟ من لي ببراءة الشفيع؟ من لي بحرمان الجنة؟ من لي بانتهاء الفسحة؟ من لي بحرمة هتْكها أعظم من حرمة الكعبة؟ ماذا ينفع التقاط قواعد اصولية من هنا، والتقاط كلمات لبعض أهل العلم من هناك وانزالها في غير محلها؟ أيمكن أن تتساوى عندي الدماء التي حرمها الله بنص الكتاب مع الدماء التي هدرها الله بنص الكتاب؟!
لا والله لا تتساوى، كيف إذا وجدت نفسي متعطشة للدماء التي تجري فيها لا إله إلا الله بدل الدماء التي تشربت التثليث وعبادة الأوثان...!
إيهٍ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ( ...يقتلون أهل الإسلام...)( ).
أيتها العصائب المجاهدة: مطلب العدو هو أن ترجعوا كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض.
لا تقولوا: الخلاف مع هؤلاء، وهؤلاء لا يمكن الصبر عليهم، فتدخلوا التنور الذي أُوقد بقش الجاهلين المتجرئين، وبتحريض الشياطين، وبحماسة طالبي الانتقام من أولئك الجاهلين...
إنها أيام الصبر لاقتطاف النصر... وأعظم الصبر هنا الصبر على الجاهلين حتى يفوت كيد الكائدين، وإلا فلتعلموا أنَّ الأمة التي دافعتم عنها ستكون هي الحطب، وأنتم في نهاية الأمر السبب!
والله إنها الحقيقة المظلمة القادمة التي تنتظر الجواب والتجاوب منكم... وقانا الله وإياكم شرها وصرفها عنا وعنكم.
فهل تقدمون أمة محمد صلى الله عليه وسلم على مقصلة الصليب بعد أن أصبح الصليب على المقصلة...
لا علاج مثل الاجتماع، ولا سبيل مثل الحوار، ولا جواب على الجاهلين أحسن من العزل والإعراض، ولا نور للجاهلين أحسن من العلم.
يا سادتنا العلماء: دوركم في الميدان حاضر صباح مساء، دويُّ كلماتكم وخطبكم وكتبكم أعلى من صفارات إنذاراتهم وهدير نفاثاتهم في كبد السماء.
ليس الفخر لنا وحدنا لأنا حملنا السلاح في سبيل الله، إنما الفخر لمن دلَّ على الله، وأرانا سبيل الله وحرضنا عليه، ومن فعل هذا غيركم، والفضل كل الفضل لله ثم لكم.
أيها العلماء الأعلام: لا تتهاونوا بفكرة ضالة في صفوف الجهاد تقال، يصدقها آخر، ويتبعها ثالث فخروج الخوارج ابتدأ بكلام، واعتزال المعتزلة ابتدأ بفرد.
يا سادتنا العلماء: مهما ابتعدتم عن ساحة الجهاد في سبيل الله جغرافيًّا فصوتكم داخل الساحة الجهادية أقوى من صوت أقوى المحطات الاعلامية والفضائيات العالمية...
صوتكم صيحة هداية، وإنقاذ لمن اجتمع عليه التيه في أرض مطيرة مسبعة، صوتكم روح جديدة تنفخ في رحم الجهاد روحًا تبعث فيه الحياة كلما خبت بنفخ أبواق النفاق التي تنادي عليها أن ألقوا السلاح وعليكم بالعينة وخذوا بالزرع واتبعوا أذناب البقر!
يا قادتنا العلماء: إذا قاتل الرِّبيُّون مع الأنبياء فما بال ورثة الأنبياء لا يناصرون الرِّبيين ولو بالدعاء؟!
يا علماءنا الأفاضل: إننا والله نبرأ إلى الله ممن قتل أيَّ مسلم من المسلمين بغير حق، ونحن أشد براءة ممن يقتل عالـمًا من العلماء، فلا تعدُّوا ذلك نقطة سوداء في صفحة الجهاد النيرة الشهباء.
اللهم إنك تعلم أني ما كتبته إلا غيرة على كتابك وعلى سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم إني أبرأ إليك ممن جعله سببًا لفتنة بين المسلمين يوقدها، أو حرمة يستبيحها، أو دم محرم يسفكه.
فصل: اتقوا الله في المسلمين يا غلاة المجرمين:
وبعد سنين من كتابتي "الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم"، وصلني كتاب "مد الأيادي لبيعة البغدادي" وهو حقيق باسم "تلاعب الشيطان الغرور بأهل التكفير والتقتيل والجهل والزور"، وليس في هذا الكتاب علم حتى يرد عليه بالعلم، وأرجو أن يكون في ردنا على كتاب "إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام" ما يغني ويزيد، ولكن يبقى الواجب على طالب العلم أن يؤدي حق علمه، والشاهد يؤدي شهادته كما أمر الله سبحانه، فكان هذا الفصل بيانًا وإعذارًا، ولولا خشية اغترار الجهلة لما استحق شاهدُ الزور مؤلف الكتيِّب ولا مَن سمَّى نفسه البغدادي قطرة حبر نسود بها الصفحة عنهم، لكنَّ إنقاذ المسلمين من تغرير هؤلاء هو الواجب الذي يأثم طالب العلم بالسكوت عليه ويأثم الشاهد بكتمان شهادته أو ليِّ لسانه أو إعراض وجهه وصراحة قوله.
فما أكثر ضحايا هؤلاء من الفراش والهوام الذين لا يغريهم شيء مثل إيقاد النار في الليل فيسارعون ويتقاحمون فيها، فيصبح عدوهم من يحول بينهم وبين ذلك، وخصوصًا إذا ما جاء مطلبًا لردة فعل انتقامية، فإن تحول كثير من الناس إلى هؤلاء الغلاة، يأتي عادة بعد جرائم تقع لأهل السنة، وهذا من أعظم أدلة بطلان منهجية الغلاة، فهؤلاء العوام ما جاؤوا إلا بذهاب عقولهم وطلب ثأرٍ لهم وقلة علمهم أو يأس آخرين من الحياة، أو يأسهم عن الحلول الشرعية الجهادية، وهذا هو الجو الذي يصطاد به الغلاة فرائسهم.
لقد أصبحنا اليوم في موقف لا نحسد عليه، فنحن لا ندري أنرقع لهؤلاء الغلاة؛ لأنهم محسوبون على الجهاد والإسلام أم نستحث الهمم لتعود للميدان، ونثق بمنهجية الجهاد وقيادته الشرعية وفاعليته، بعدما طعنها الغلاة طعنة مزدوجة نصلها الأول في قلب الجهاد والمجاهدين ونصلها الآخر في الصف العراقي والشامي.
فما إن قوي الجهاد في الشام، وأصبحت المعادلة تقترب من أن تكون سجال بين الفصائل وبين جند الطاغوت، عمل هؤلاء الغلاة مسرحيتهم المفضوحة، وصبغوها بصبغة شرعية وألبسوها ثوب الزور، وذلك بإعلان دولتهم الموهومة على الورق وفي الإعلام في الشام! وهم من أقل الجماعات الجهادية سيطرة على الأرض، وما هي إلا برهة قصيرة حتى بدأت أيديهم تبطش بأهل الجهاد أنفسهم.
والذي يعيش الواقع هناك يدرك أنهم خدموا المخطط اليهودي الصليبي النصيري، من حيث لا يعلمون، وبسببهم بدأ الخلاف وشاع القتل بين أهل الجهاد لأول مرة!
إنَّ هذا ينبيك عن مدى بجاحة هؤلاء، وأنهم أهل زور وافتئات وإلا فما نسبة البقيعات التي تحت أيديهم بالنسبة للأراضي التي تحت أيدي المجاهدين.
وماذا لو كانت ردة فعل الجماعات التي تسيطر على مساحات أكبر تحولت إلى إقامة دول هنا وهناك؟!
فيالسلامة العدو منكم ويا ويل أهل الإسلام من ناركم وفتككم بالبلاد وأهلها.
ثم هل تراهم لو وجدوا جماعة أخرى سبقتهم إلى إعلان الدولة أو الخلافة لبايعوها؟! لا والله.
وأريد أن أحدد الكلام في هذا الأمر في مسائل:
المسألة الأولى:
ليس من شك أنَّ مبنى الكتاب الكذب والبهتان وشهادة الزور لمن سمى نفسه "أبا بكر البغدادي"، والشهادة له بأنه كما قدم له "الشيخ المجاهد، والعابد الزاهد، وقائد كتائب الدين" كما ورد في المحور الأول.
وقال عنه: (وقد امتثل الشيخ الجليل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: "تفقهوا قبل أن تسودوا".اهـ [رواه البخاري تعليقاً مجزوماً به]؛ فلم يتنقل في مناصبه إلا بعد التفقه ومع التفقه...)( ).
وتأمل في جهل الكاتب وكذبه حيث يقول: (ولقد اجتمع في الشيخ أبي بكر ما تفرق في غيره، علم ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم...)( ).
وليت شهادة الزور هذه هي رأي الكاتب فحسب، بل هو رأي مجلس الشورى عندهم، فقد جاء في بيان مجلسهم المذكور: (...الكلمة قد اجتمعت على بيعةِ الشّيخ المجاهد أبي بكر البغداديّ الحُسينيّ القرشيّ أميراً للمؤمنين بدولة العراق الإسلاميّة، وكذا على تولية الشيخ المجاهد أبي عبد الله الحَسنيّ القُرشيّ وزيراً أوّلا ونائباً له، والشّيخان الفاضلان من أهلِ القدم الراسخة في العِلم والسّابقة في الدّعوة لدينِ الله والجهاد في سبيله نحسبهما كذلك والله حسيبُهما)( ).
ولو اقتصرت شهادة الزور على مجلس شوراهم لهان الخطب بالنسبة لما بعده، إذ أنهم يسوقون الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأنَّ الحديث مساق له ووارد في البغدادي، فقد جاء: (وهذا من توفيق الله له, وإرادة الخير به, فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" [متفق عليه].
لذا فإن هذا هو السبب الثاني؛ لتوقير هذا الرجل الحسيني, وقد روى أبو عبد الله الحاكم والطبراني: عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقّه"...
ألا يا قاصداً أرض الرمادي *** وفجر الإنتصار بها تلالى
ألا أبلغ أبا بكر الحسيني *** نقيمك فوق هامتنا عقالا)( ).
وأنا أقول لهذا الذي كتب هذا الكتاب متكنيًا متسميًا بأبي همام بكر بن عبدالعزيز الأثري، لقد كتبت شهادتك ونشرتها على الأمة، وقد حق عليك قول الله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }(الزخرف:19)، وحق عليك قوله سبحانه: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً }(مريم:80).
أما أنا فإني أشهد الله الذي لا إله إلا هو بما أعرف عن قربٍ هذا الدعيِّ الذي سمى نفسه أبا بكر البغدادي، وقد درس عندي مع مجموعة من الفضلاء شيئًا قليلاً من كتاب زاد المستقنع في سنة 2005م، ثم انقطع الدرس بسبب اعتقالي، وقد عرفته معرفة دقيقة، وقد كان محدود الذكاء، بطيء الاستيعاب، باهت البديهة، فليس هو من طلبة العلم المتوسطين، ودراسته دراسة أكاديمية في الجامعات الحكومية ومستواها هزيل جدًا والتي لا علاقة لها بتكوين طالب علم فضلاً عن عالم.
ثم إنه كان إلى نهاية 2005 معنا من ضمن جنود جيشنا، ولم يكن من المبرزين في الميدان بل ولا من أهل الصولة والجولة، ولا المهمات الكبار، ولا نذكر له واقعة مشهودة لا في الإمداد ولا في المواجهة حتى ابتليت بدخول المعتقل، عندها تغير الرجل على الإخوة وتنمر وبدأ يثير المشاكل في الجماعة وانقلب رأسًا على عقب...
وأسأل الله أن لا أقول هذا لهوى في نفسي، بل ما كنت لأسجله لولا أنهم كتبوا شهادتهم في كتاب وأرادوا من هذا الكتاب ما أرادوا، فتأثمت بالسكوت وخشيت أن أكون جسر زور يهوي هو ومن يحملهم في جهنم.
ولذا فإني أؤكد حالفًا بالله غير حانث أنَّ أبا بكر هذا ليس راسخًا في العلم بل ولا طالب علم متمكن فحسب، إنما لا يتقن كتابًا واحدًا معتمدًا في العقيدة أو الفقه أبدًا، وإخواننا من طلبة العلم العراقيين من جميع الجماعات والتوجهات يعرفون هذا جيدًا، ويعلمون أنه ليس بينه وبين العلم نسب، ويدركون المستوى الهزيل جدًا للعلم الشرعي الذي تقدمه الجامعات الحكومية.
المسألة الثانية: إنَّ هذه التزكيات المذكورة لخليفتهم المزعوم! بالإضافة إلى أنها شهادة باطلة، وتزوير الحق، وما إلى ذلك فإنها لم تكن تزكية مجردة وإنما أريد بها اقتطاع أعظم حق وهذا إثم مركب، وذلك لأكثر من دليل وأكثر من جهة.
الجهة الأولى: كونها تزكية وكذب:
فانظر كيف عرَّف شاهد الزور هذا خليفة الزور أبي بكر! فقال: (هو الشيخ المجاهد, والعابد الزاهد؛ أمير المؤمنين, وقائد كتائب الدين: أبو بكر القرشي الحسيني البغدادي حفظه الله ورعاه, وسدد على الخير والحق خطاه...
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ *** هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ *** بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا)( ).
وقال: (وما كان هذا ليكون, لو كان الشيخ في سكون, بل لم يتحصل ذلك له –بعد فضل الله- إلا لعطائه المستمر, وبذله المثمر, إذ أنه لبس لأمة الحرب منذ عقد من الزمن ولم يخلعها بعد, وأقدم على الدواهي المدهية ولم يخف من أحد, ولم تلن له قناة ولا عُرف لتضحيته حد!
حيث ثار الشيخ منذ دخول الأمريكان إلى أرضه, ليدفع العدو الصائل على دينه وعرضه, وكون جماعة سلفية جهادية أبلت في الأعداء بلاء حسنا, وواجهت ابتلاءات عديدة ومحنًا...
وعُين الشيخ حفظه الله قاضي الدولة, تُعرض عليه القضايا والمشاكل, وتُطرح عليه العويصات والنوازل...
وفي هذه الحقبة –أيضاً- كان يطوف بالقبائل والعشائر, وبالجماعات الجهادية وأجناد الإيمان والعساكر؛ يدعوهم لوحدة الصف ونبذ الفرقة والاختلاف, ويحاورهم في ذلك بحيادية تامة وإنصاف...
قواف الشعر هيا للعراقِ *** لنمدح شيخنا ماح النفاقِ
ومنك إلى أبي بكر الحسيني *** وقولي شيخنا فمتى التلاقي؟!
أيا جبلاً على العلات يبقى *** ويا بحراً على الأهوال باقي
جهادك لم يزل كالبدر فينا *** جمعت الناس في درب الوفاقِ
... قال الشيخ المجاهد أبو محمد العدناني حفظه الله: "وإننا والحمد لله لا نتلقى ضربة إلا ونزداد بها قوة وصلابة, ولما تجندل أبو عمر, قلنا أنىّ لنا بأمير كأبي عمر, فعلا في إثره أبو بكر, وما أدراكم من أبو بكر؟! إن كنتم تتساءلون عنه؛ فإنه حسيني قرشي من سلالة آل البيت الأطهار, عالم عامل عابد مجاهد, رأيت فيه عقيدة وجلد وإقدام وطموح أبي مصعب, مع حلم وعدل ورشد وتواضع أبي عمر, مع ذكاء ودهاء وإصرار وصبر أبي حمزة, وقد عركته المحن, وصقلته الفتن, في ثمان سنين جهاد يسقي من تلك البحار, حتى غدى جذيلها المحكك, وعذيقها المرجب, حري به أن يتقرب إلى الله بالغسل عن قدميه وتقبيلها, ودعوته أمير المؤمنين, وفدائه بالمال والنفس والولد, والله على ما شهدت شهيد..
ولو كان يمكنني لكشفت لكم عن اسمه ورسمه, وإني لأحسب أن الله عز وجل قد اختاره وحفظه وادخره لهذه الأيام العصيبة, فهنيئاً لكم يا أبناء الدولة بأبي بكر!".اهـ
أولئك "أشياخي" فجئني بمثلهم* * إذا جمعتنا يا "خصيم" المجامع!
وعمل الشيخ بعلمه هو سبب ثالث؛ لحبه عند كل متحر للحق وعنه باحث, وهناك أسباب كثيرة, ومناقب غزيرة, لحب الشيخ وتوقيره, وكما قال زهير في مدح بن سنان [في ديوانه: 55]:
لو نال حي من الدنيا بمكرمة *** أفق السماء لنالت كفه الأفقا!
أما من لم يُقر بهذه المناقب؛ المتنقص من الشيخ وله ساب ثالب, فليكف عنا جشاءه! فإنه لم يسؤنا بل أساءه...)( ).
وأقول ردًا على الكذب الفاضح: هذا كلام فيه من الكذب الكثير، ومن ذلك أن يقول إنه [كوَّن جماعة سلفية] أي جماعة هذه وهو قد كان جنديًا عاديًا معنا حتى نهاية 2005م، ثم إنَّ ما ذكرتموه من أنه أبلى بلاء حسنًا في الجهاد وما إلى ذلك فهذا بحسب رأيكم، وإلا فهو في الحقيقة موغل في دماء المسلمين وتلطخت يده حتى العضد ورجله حتى الركب، وإنَّ رضاه بكذبة الإمامة الكبرى دليل كالشمس على جهله وهواه، فإذا كنتم لاتستطيعون ذكر اسمه فأين التمكين المدَّعى؟! والله إنَّ دولتكم هذه وأمير مؤمنيكم تذكرني بخزعبلات الرافضة عن مهديهم في السرداب وخزعبلات غلاة الصوفية عن دولة الأولياء.
أما التزكيات التي ذكروها عنه، فنقول لهم ما قال الله سبحانه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } (النجم:32)، ووالله ما علمنا ذلك عنه رغم معرفتنا الدقيقة به، وهؤلاء القوم يبرز فيهم أشد الناس ولوغًا في الدماء وأشدهم جرأة في التكفير، ومن نظر إلى تزكية الصديق رضي الله عنه في وصيته لعمر بالخلافة أو تزكية عمر رضي الله عنه للستة الذين أوصى أن تكون فيهم الخلافة من بعده فإنه لا يجد عشر معشار التزكيات ما ذكره هؤلاء لإمامهم أبي بكر!
وقول الكاتب: (وتُطرح عليه العويصات والنوازل...)، يفهم منه أنه أهل للفتوى في العويصات والنوازل، ووالله الذي سنقف بين يديه أنه لا يحسن الفتوى في المسائل التي ذكرها الفقهاء في كتبهم المعتمدة المشهورة، كفتح القدير عند الحنفية، أو الشرح الكبير عند المالكية، أو مغني المحتاج عند الشافعية، أو المغني عند الحنابلة، بل لا يتقن أيَّ متن من المتون المعتمدة في المذاهب الأربعة، كمتن القدوري وشرحه الهداية عند الحنفية، أو مختصر خليل والشرح الصغير عليه عند المالكية، أو المنهاج وشرح المحلي عليه عند الشافعية، أو زاد المستقنع وشرحه الروض المربع عند الحنابلة. فلا أدري كيف يفتي في العويصات والنوازل وهو لا يتقن أي مذهب من المذاهب المعتمدة؟! أما علمه في أصول الفقه فهو لم يتجاوز "الورقات" التي يقرؤها صغار الطلبة، أما جمع الجوامع وشروحاته أو منهاج الأصول وشروحاته أو روضة الناظر وشروحاته أو ما يعادلها فلا يعرف شيئًا عنها. وهذا حاله في سائر علوم الشريعة.
الجهة الثانية: أنه أخبث النجش:
إنَّ النجش هو الاستثارة لغة( )، وشرعًا: قال ابن حجر العسقلاني: (الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، سمي بذلك؛ لأنَّ الناجش يثير الرغبة في السلعة، ويقع ذلك بمواطأة البائع، فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع، فيختص بذلك الناجش، وقد يختص به البائع كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك)( )، فهو لأجل هذا حرام، فبأي شيء يمكن أن يوصف عمل هذا الكاتب، وبيان مجلس شوراهم؟!
وهل في الوجود نجش أخبث وأقبح من هذا؟!
إنَّ إثم الكذب يعظم بعظم أثره، فإن لم يكن له أثر فهو حرام؛ لأنه كذب، فكيف بالكذب الذي يراد به قبض أعظم الأثمان وهو البيعة على الخلافة وبيعة المسلمين للإمام الزور.
فهل من نجش أعظم من هذا النجش!؟
وهل من ناجش أعظم من هذا الكاتب ومجلس شوراهم المزور!؟
وقال أيوب السختياني: (يخادعون الله كأنما يخادعون آدميًا لو أتوا الأمر عيانًا كان أهون علي)( ).
إنَّ طريقة كل كتَّاب الغلاة المحدثين في طلب الاستسلام لدولتهم والبيعة لخليفتهم هي طريقة النجش والخداع والحلف على البيع كذبًا... حيث يصف البائع السلعة بما ليس فيها، وربما تواطأ مع من يدفع فيها أكثر من قدرها؛ ليغرر الآخرين بشرائها وهو لا يريد أن يشتريها، فإذا اشتروها ثم اكتشفوا، وأرادوا الرجوع، قالوا لهم: قد لزمتكم البيعة!
إنه الكذب الصريح الذي يعرفه كل واحدٍ في الميدان.
فمن ذا الذي لا يعرف أنَّ حربهم في العراق إنما هو حرب عصابات ليس إلا، والتمكين لحكومة الزنادقة، مكننا الله من رقابهم، وفي الشام لهم مناطق محدودة جدًا، والسيطرة الأكبر للجماعات الجهادية الأخرى.
الجهة الثالثة: أخبث الخيانة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)( ).
وعن أبى هريرة رضي الله عنه، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إنى أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)( ).
عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). قال عمران: لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ بعدكم قومًا يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن)( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: (أين أراه السائل عن الساعة؟)، قال: ها أنا يا رسول الله. قال: (فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)، قال: كيف إضاعتها؟ قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)( ).
يا أيها المسلم: أترى الناس سوف يصلون إلى الحق وقد تحولت البطانة إلى خيانة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)( ).
وكيف للأمة أن تهتدي إذا كان من يدعي أنه يدعوها إلى الهدى يعرف أنه كاذب في شهادته ويشهد زورًا من غير أن يستشهد؟!
وكيف تبلغ الأمانة أهلها إذا خُوِّن الأمين وأؤتمن الخائن وتكلم في الخلافة من لا علم عنده ولا فقه ولا رحمة بالعامة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيأتي على الناس سنون، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُخوَّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة)، قال: قيل: يا رسول الله وما الرويبضة؟ قال: (السفيه يتكلم في أمر العامة)( ).
وهل أعظم لأمور العامة من شأن الخلافة؟!
الجهة الرابعة: أكبر شهادة زور:
قال ربنا سبحانه: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } (المجادلة:2).
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } (الفرقان:72).
فإذا لم يكن مثل هذا الكتاب شهادة زور وتغرير بالناس بالباطل فلا أدري كيف تكون شهادة الزور؟!
وإنني لأخشى أن أكون بسكوتي كمن جلس في مجلس يسمع شهود الزور يشهدون ثم هو يسكت والناس ينظرون إليه وهو لا يزال ساكتًا.
أي شهادة زور مثل أن تجعل هذا الرجل إمامًا للمؤمنين وتصفه بأنه خير عباد الله كلهم وتستشهد عليه بالبيت الذي قيل في زين العابدين بن علي، بل وتنزل عليه أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!
أهو راسخ في العلم؟ بل هل هو من طلبة العلم؟ ومن يشهد له بالعلم من طلبة العلم العراقيين المعتبرين؟ لقد خبرناه لا علم ولا خلق، وهؤلاء القوم يبرز فيهم أكثر الناس غلوًّا في التكفير وأشدهم استهانة بدماء المسلمين.
أما كونه عابدًا، كما ذكر الكاتب، فالله أعلم، لكنها إن ثبتت -ونحن في شك من ذلك- فهي علامة من علامات الخوارج ما دامت قد انفصلت عن الفقه في القرآن والسنة كما جاء في الأحاديث الصحيحة المعروفة.
يا عباد الله أقصروا، فوالله ليس أمر شهادة الزور بالأمر الهين كما تلوكه ألسنة شهوده، أو تخطه أقلامهم، فقد قُرِن النهي عنه بالرجس من الأوثان، قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج:30).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر "ثلاثًا") قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، -وجلس وكان متكئًا فقال-: (ألا وقول الزور). قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت( ).
أوقفوا أنفسكم عن هذا الزور وإلا فالسلام على عبادتكم وصيامكم...
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)( ).
الجهة الخامسة: النهم من الإثم:
عن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)( ).
فأي نهم أكبر من أن لا تكون قد سيطرت على شيء يذكر، وسيطرتك على ذلك الشيء غير مستقرة أبدًا ثم تزعم أنها دولة، ثم تطلب من الفصائل الجهادية العراقية مبايعتك، ثم تعتبر العراق كله ضيعتك، ثم تمارس نفس العمل في الشام! وكثير من الجماعات الجهادية في الشام أكثر سيطرة على الأرض منكم بكثير جدًّا.
والمناطق المحدودة جدًّا التي تسيطرون عليها ليس فيها مقومات الدولة، وذلك بشهادة جميع الجماعات الجهادية الأخرى.
أما واقع العراق الحالي فعمل المجاهدين جميعًا بمن فيهم أهل الغلو هو حرب عصابات، ولا سيطرة فيه على الأرض، أسأل الله العظيم أن يمكِّن للمجاهدين الحقيقيين.
الجهة السادسة: النصيحة المفضوحة:
يقول ربنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ{2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ{3} إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ{4} (الصف).
تأملوا ما جاء في هذا الكتاب من إطراء لفصائل المجاهدين الأخرى والذي هو حبر على ورق، وإلا فأيديهم ملطخة بدماء المجاهدين قبل العامة، وهم يعرفون من قتلوا من قادة المجاهدين طوال تاريخهم في العراق، ويعرفون كم مرة كشف الله تآمرهم على آخرين وسلَّم الله أولئك المجاهدين من غدرهم...
بل هم الآن يصرحون بأنَّ المقصود من كل هذا هو بيعة البغدادي، ابتداء من عنوان الكتاب وما تبعه من إطراء كاذب، وتوظيف للنصوص فاستمع ماذا قال هذا المسوِّق الناجش:
(ثانياً: إلى أمراء الجماعات الجهادية, وشيوخ العشائر الأبية:
إلى من قاتل في سبيل الله وما زال يقاتل, وبذل النفس والنفيس لدفع العدو الصائل, إلى أمراء الجماعات ورؤوس القبائل..
أما آن لكم أن تتكاتفوا مع إخوانكم؟ وتؤسسوا وتشيدوا دولتكم؟ فإن العدو قد اتحد لحربكم, فاتحدوا لحربه, وسار بأجناده إليكم فاقطعوا عليه دربه...
أيها الأكابر والقادة, يا أهل السؤدد والريادة: إن كنتم ترون أنفسكم أقراناً للشيخ الأمير, أو أنه دونكم في الفضل والخير! فتواضعوا للحق, ولا تترفعوا على الخلق...
فمدوا الأيادي, لبيعة البغدادي, و(يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)! [أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعاً, وبمعناه عند البخاري].
ولتشنجوا أسماعنا, بقولكم -زرافات ووحدانا-:
وأنت أميرنا رغم الأعادي *** بحبك قد شهدنا باتفاقِ
أمير الدولة العظمى أميري *** وهذي بيعتي قبل الفراقِ
أبايع شيخنا البطل الحسيني *** أميراً للشآم وللعراقِ)( ).اهـ.
يا أيها الغلاة: أليس أحق الناس بالنصيحة هم أنتم...!؟
أليس أول واجب على القائلين هم أصحابه...!؟
وكيف تريدون قيادة أهل السنة، وأنتم لستم على منهجهم؟!
فمن يشهد لكم من أهلم العلم في العراق أنكم على منهج أهل السنة في مسائل التكفير؟!
إنَّ مما لا شك فيه عندي وعند المعتبرين من أهل العلم في العراق ممن عرفكم أنكم في مسائل التكفير أقرب إلى منهج الخوارج، فالخوارج يُكفِّرون بالكبيرة كالزنا وشرب الخمر، وأنتم لا تقولون بذلك، لكنكم تُكفِّرون بمسائل مختلف فيها بين العلماء هل هي مشروعة أو لا، وتُكفِّرون بمسائل اتفق أهل العلم على مشروعيتها، وتُكفِّرون بمسائل هي كفر لكنها لا تثبت على من رميتموه بها.
وجميع المجاهدين من الفصائل الأخرى يشهد أنكم ولغتم في دماء المسلمين، بل قتلتم كثيرًا من المجاهدين. هذا هو واقعكم العملي في بلاد الرافدين ولا ينكر ذلك إلا جاهل بالواقع أو متلبس بما ذكرنا.
ومن ذا من أهل العراق يشهد على أنكم أهل وفاق أو أهل رحمة بالناس؟!
ومن ذا شق صف العراقيين مثلكم؟!
ومن ذا عمل ردة الفعل السيئة على المجاهدين أجمعين سواكم؟!
ومن ذا جعل كثيرًا من الشعب العراقي الذي فُطر على الغيرة والنصرة ينبذ أبناءه المجاهدين ويمنعهم من دخول بيوتاته إذا عملوا عملية جهادية سواكم؟!
أكان الشعب العراقي هو السبب؟ لا والله، ولو كان هو السبب لفعلها منذ أول مرة، فإن سألتم عن السبب قلنا لكم: أليس السبب هو من قتل خطباء وعلماء وخيار المجاهدين( )؟!
لقد أعطيتم ضعاف النفوس المبرر لنجاح صحوات النفاق والانضمام تحت لوائها...
ولقد بئتم بإثم تمكين الصليبيين في أرض العراق، وإلقائه في أحضان المجوس، بعدما كان يتأرجح حتى أصبح وجوده على شفا جرف هار، ويستغيث بكل أحد...
أليس من الحكمة في الأزمات عدم فتح جبهات جديدة بل عمل تصالحات، وتفويت الفرص على العدو؟!
ولقد جمعتم بأسكم وبأس الرافضة وإيران والأمريكان على أهل السنة عمومًا وعلى المجاهدين في سبيل الله خصوصًا.
المسألة الثالثة: أظهر الله خفي نياتهم:
إنَّ هذه التزكية الكاذبة لمن كنوه بأبي بكر كان المقصود منها تحقيق أخطر مكسب ليس دنيويًا فحسب وإنما شرعي وباسم الشرع.
إنه يقول بطريقة أخرى: إننا قد عثرنا لكم على الخليفة المطلوب وهو الكنز المفقود، وبناءً على معرفتنا وتزكيتنا فتعالوا فبايعوه وإن لم تعرفوه، وإن لم تعرفوا تاريخه ولا أعماله فنحن نعرفه.
ثم اعلموا أنكم إن بايعتموه أم لم تبايعوه فذلك سيان ما دمنا نحن قد بايعناه!
وعليكم أن تعرفوا ضمنًا ما معنى عدم مبايعتكم له بعد مبايعتنا نحن له...
وما الحكم الشرعي فيمن لم يبايع يا أهل الشام وأهل العراق!
إنَّ الحكم المترتب على ذلك واضح وهو اضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان، لكن لما لم يكن من المصلحة ذكر هذا الحكم هنا أُجل حتى تضع الفريسة قدمها في الفخ، ويضع المقتول رأسه في المشنقة، فيبايع، فإن أراد الخروج رُكِل الكرسي من تحته؛ ليتجندل كما تجندل غيره من قبل.
تأمل كلامهم جيدًا وكيف برروا وجوب بيعة إمامهم لدرجة أنَّ القول ببطلانها قول ببطلان خلافة عمر بن عبد العزيز، بل الخلافة العباسية برمتها، فهل منكم من أحد ينكر خلافة عمر بن عبد العزيز، أو ينكر الخلافة العباسية كلها أيها الشاميون والعراقيون والمسلمون؟!
قال: (لقد تقدم في المحور الأول أن الشيخ أبا بكر البغدادي ليس بمجهول, بل هو من الأعلام الفحول!
نعم؛ قد يخفى اسمه ورسمه على بعض العوام, أو بعض القاعدين من أهل الخصام!
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ *** وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه *** العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ!
وحتى لو كان مجهولاً عند العامة, فلا مطعن في هذه الولاية والإمامة, قال الإمام الماوردي رحمه الله: "(فصل) فإذا استقرت الخلافة لمن تقلدها إما بعهد أو اختيار لزم كافة الأمة أن يعرفوا إفضاء الخلافة إلى مستحقها بصفاته، ولا يلزم أن يعرفوه بعينه واسمه إلا أهل الاختيار الذين تقوم بهم حجة وببيعتهم تنعقد الخلافة.."
إلى أن قال: "والذي عليه جمهور الناس أن معرفة الإمام تلزم الكافة على الجملة دون التفصيل، وليس على كل أحد أن يعرفه بعينه واسمه إلا عند النوازل التي تحوِج إليه...".
ومن طعن في إمرة الشيخ أبي بكر البغدادي حفظه الله لجهالته –عنده- فليطعن في إمرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله, وكذا نلزمه بأن يطعن في الخلافة العباسية برمتها!
فقد عَهِدَ الخليفة عبد الملك بن مروان لبنيه بالخلافة من بعده، فتولى الوليد ثم سليمان، فلما حُضِرَ سليمان أشار عليه التابعي الجليل رجاء بن حَيْوَة بأن يَعْهَد إلى عمر بن عبد العزيز...)( ).
وأقول: فرق كبير جدًا بين عدم معرفة العامة بعين واسم إمامكم وبين عدم ذكركم له لدواع أمنية، فإن هذا التعليل يدل دلالة قطعية على أنكم لستم ممكنين كما تزعمون كاذبين.
بل إنَّ من يعرف من تسمى زورًا بأمير المؤمنين سواء الأول أو الثاني، وكلاهما تكنى بالبغدادي، يعلم أنهما ليسا بغداديين، وأظنهم – ولا أجزم - فعلوا ذلك تمويهًا حتى لا يعرفا.
والعجب أنهم يُشبِّهون دولتهم الوهمية بالخلافة العباسية؟!
هل بعد هذا الاستغفال لعقول الناس من استغفال؟!
والله إنَّ عجبي لا ينقضي وأنا أقرأ لهم، فكل من يعيش في العراق، العالم والجاهل والذكي والغبي يعلم أنَّ التمكين للرافضة المجوس، وعمل المجاهدين بجميع جماعاتهم إنما هو حرب عصابات، فلمَ الكذب على الناس وخداعهم لتوجبوا عليهم بيعتكم، أما الحال في الشام، فنعم هناك مناطق محررة، ولكنَّ كثيرًا من الجماعات الجهادية أكثر سيطرة على الأرض منكم وبكثير، فهل يُشرع لهؤلاء أن يعلنوا دولة أيضًا باعتبار أنهم أقوى منكم على الأرض بكثير. ولو أنهم أعلنوا دولة إسلامية قبلكم فهل ستوافقونهم؟!
ولا يقتصر هذا الكذب على هذا الأمر وحده، بل هو منهج دعوتهم ومنهج تربيتهم أفرادهم، ومنهج تعاملهم مع الجماعات الجهادية الأخرى.
بل هم يفترون على الله الكذب، ويقولون هذا حكم الله في كذا وهذا حكم الله في كذا... وهكذا، فيحلون الدم الحرام ويستبيحون حرمات البيوت المسلمة، بل ينتهكون حرمات بيوت الله، ويستبيحون حرمات المال المسلم، ويستبيحون حرمة إخوانهم أنفسهم إذا خالفوهم فيقتلون بعضهم البعض شر قتلة، كل هذا بناء على كذب مفترى وهو أنهم علماء، وهم أعلم الناس أنهم كاذبون، فليسوا بعلماء ولا طلاب علم، ولم يسلكوا طريقًا في طلب العلم ويكملوه.
ومَن من أهل العلم المعاصرين المعتبرين يوافقكم على بدعتكم هذه؟!
اذكروا لنا عالماً واحدًا معروفًا مشهودًا له بالعلم يوافقكم على ذلك!
ولا نريد مجاهيل كمن حدَّث عنهم مؤلف "مد الأيادي"، وروى عنهم بالإسناد العالي، حيث قال متعالماً مضحكًا الصبيان، وكأنه يروي عن سعيد بن المسيب أو الأوزاعي: (وما أجمل ما وصلني –بالإسناد العالي- عن الشيخ المجاهد عثمان آل نازح حفظه الله, أنه لما قيل له: هل فعلاً خرجت ونقضت البيعة؟ قال: "والله لو لم يبق إلا أنا وأبو بكر ما نقضت البيعة"!)( ).
وهذه المنهجية القائمة على طلب الاستسلام للمجاهيل ليست وليدة العراق ولا الشام بل هي الأساس منذ ولادتكم!
تعالوا سموا لنا مشايخ ذو الخويصرة اليماني الذي ما رضي بحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وسموا لنا مشيخة أئمتكم في هذا الزمان، وماذا درسوا، وأي شيء تعلموا؟!
قد آن للاستسلام للمجاهيل أن يتوقف، وآن لكل ما مضى أن يراجع وسوف ينكشف إلى أي مدى أخذتم الأمة بعيدًا... أسأل الله العظيم أن يردكم إلى الحق.
وينبغي أن ينتبه المجاهدون لطريقة هؤلاء حين تواجههم أو تقرأ كتبهم، هو أنهم يبتدئون بالهجوم والاتهام فيضطر المقابل للدفاع، بل يضطر لتبرئة نفسه كالمتهم في القفص، فكيف والتهمة التي يطلقونها في الدين، بل هي مخرجة له عن الدين، وعندما يبهتون المقابل لضعف علمه بقوة الصدمة والرعب فيتخدر فلا يملك بعدها إلا أن يسير وراءهم؛ لأنَّ طريقهم هو طريق السلامة الوحيد!
لذا كانت مادة هؤلاء الغلاة الرئيسة هم العلماء وطلبة العلم.
فإذا خلت الساحة من العلماء، فمن بقي للقيادة والإمامة سواهم؟!
فيا عباد الله: إنَّ الأمر دين فاعرفوا عمن تأخذون دينكم!
ويا أيها المجاهدون ويا أهل العلم والدعوة: كفانا مجاملة لهؤلاء، فإنَّ المجامل على حساب الحق مشارك للشيطان الأخرس في وصفه وفعله وآثاره، مضيع للأمانة التي ائتمنه الله عليها، أما ترون ماذا صنع هؤلاء بالعراق؟ وماذا يصنعون الآن بالشام.
ويجب على أهل العلم بيان خطر هؤلاء وشراسة هجمتهم وتركيزها على علماء الأمة خاصة وأئمة الجهاد وجماعاته، وتواجدهم المؤذي والمشوش والمشغب في الميادين التي يدخلونها، وإذا نزلوا الميدان نزلت الفرقة بين الصفوف على أقبح صورها، وأي صورة أقبح من تكفير وقتال المجاهدين أنفسهم، وأما إعلان كفر بعض أئمة الجهاد وجماعاته فذلك راجع لمقتضى التدرج والتمكن واستدراج الآخرين، فلا تغرنك وداعتهم في البدايات، ولا معرفتك الشخصية لبعض أفرادهم.
وأنا أقسم بالله غير حانث أنه لولا هؤلاء الغلاة لما أصبح هذا حال الجهاد في العراق اليوم؟! مع أننا مستيقنون بأنَّ المستقبل لهذا الدين، وأنَّ الجهاد ماضٍ، وأنَّ الزنادقة في العراق إلى أفول وانحسار، وما ذلك على الله بعزيز.
والخلاصة أنَّ هذين الكتابين "إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام" و"مد الأيادي" يريد المؤلفان من خلالهما تأسيس بدعة لم يقل بها عالم معتبر، ويريدان أيضًا تأكيد كذبة لم يقل بها عاقل يحترم عقله، وهي كذبة التمكين وخصوصًا في العراق، أما في الشام فهناك مناطق محررة ولكنَّ أكثرها ومعظمها بيد جماعات جهادية أخرى، والمناطق القليلة التي يسيطر عليها الغلاة ليس فيها مقومات الدولة عرفًا حتى يعلنوا ذلك.
وليست المصيبة العظمى في جهل مَن تسمى بأبي بكر، فلو كان جاهلاً ويرجع إلى أهل العلم لهان الخطب، وإنما المصيبة بتعالمه وعدم معرفته بقدر نفسه، وتكفيره المسلمين بل والمجاهدين ممن لهم فضل عليه بغير حق، وإنما الجهل والهوى، وسفكه لدماء كثير من أهل الخير. ومن نظر في وجه الرجل قبل أن يلج طريق التكفير والقتل بغير حق ونظر في وجهه الآن أدرك ببصيرته وفراسته أنَّ الرجل على خطر عظيم. وقد حدثني عدد من الإخوة الفضلاء الذين أثق بدينهم – نحسبهم كذلك - ممن تعاملوا معه أيام كان في جماعتنا، وقالوا بأنه كان يتعامل بكِبْر مع أقرانه، وأظنُّ أنَّ هذا المسكين أوتي من هذا الباب القاتل، فالكِبْر من أرذل الأمراض وأشنعها، وصاحبها على خطر عظيم، وقانا الله والمسلمين ما يغضبه سبحانه.
تأمل جيدًا في كلام ابن القيم رحمه الله عن الكِبر: (ثم إنَّ القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد، تراميا به إلى التلف ولا بد، وهما الرياء والكِبر)( ).
وقال رحمه الله: (فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكِبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة)( ).
وقال رحمه الله: (وحاصل ذلك أنَّ جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها، وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به، يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها، ويتولد من ذلك من العجب والكِبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها)( ).
وقال رحمه الله: (وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية. وقال بعض العارفين: لا طريق أقرب إلى الله من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكِبر عمل واجتهاد، ولا يضر مع الذل والافتقار بطالة. يعني: بعد فعل الفرائض)( ).
أسأل الله العظيم أن يطهرنا والمسلمين والمجاهدين من أمراض القلوب، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88}إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ{89}(الشعراء).
وبعد كتابة بعض الملاحظات على "مد الأيادي"، وصلني كتاب "موجبات الانضمام للدولة الإسلامية في العراق والشام"، ولم أجد فيه شيئًا جديدًا، والكتاب قائم على الكذب وعلى تنزيل الأدلة في غير محلها، فانظر ماذا يقول في "أبي بكرهم": (أنَّ شروط الإمامة قد تحققت في أمير الدولة أمير المؤمنين أبي بكر البغدادي نصره الله، بما لا يضارعه فيه مضارع، أو يعتلي فيها عليه منازع). وانظر ماذا يقول في حال العراق المحتل من قبل أفراخ المجوس: (وأنت ترى في واقع اليوم أنَّ الدولة الإسلامية قد قامت في العراق بعد تحريره، ولم يكن شيءٌ جاورها في البلاد محررًا من ربقة الطواغيت).
"أبو بكرهم": تحققت فيه شروط الإمامة!!!
والعراق: تحرر من ربقة الطواغيت!!!
أيُّ كذب هذا!؟ وأيُّ مكابرة للواقع تلك؟! كيف يمكن لك أن تحاور قومًا بلغ بهم الكذب إلى هذا الحد؟! والله الذي لا إله إلا هو إنَّ عجبي لا ينقضي من هؤلاء، ألا يستحون من هذا الكذب المفضوح، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول (إذا لم تستح فافعل ما شئت)( ).
عن عائشة رضي الله عنه، قالت: (ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يُحدِث عند النبي صلى الله عليه وسلم بالكذبة فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة)( ).ابن حبان 5736
أخرجه أحمد 6 /152 .والترمذي و"الترمذي" 1973
ويواصل صاحب كتاب "موجبات الانضمام" كذبه، وينقل عن الماوردي النص الذي نقلناه سابقًا، فيقول: (قال الإمام الماوردي رحمه الله: "وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، قد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة، والنصرة، ما لم يتغير حاله"...)( ). وهو يريد بكلام الإمام الماوردي أن يثبت لإمامهم وجوب الطاعة والنصرة. وصاحب "موجبات الانضمام" لم ينقل في كتابه ما يجب على الإمام أن يقوم به من حقوق الأمة، وقد نقلنا سابقًا في كتابنا هذا النص عن الإمام الماوردي قبل أن يصلنا هذا الكتاب بسنوات، ومن خلال النظر في الواجبات التي ذكرها الماوردي وأبو يعلى وجميع علمائنا الذين كتبوا في هذا الباب تدرك تدليس وجهل هؤلاء.
وأنا أسأل صاحب كتاب "موجبات الانضمام" لماذا لم تنقل ما ذكره الماوردي مما يجب للأمة على الإمام من حقوق، والتي بتحققها تجب الطاعة والنصرة.
أسقية هذه النبتة الخارجية:
وينبغي أن أذكر أنَّ هذه النبتة الخارجية لابد أن تُسقى بأخبث أنواع النجاسات، وإلا فإنها تصغر وتيبس وتموت وتصبح هشيمًا تذروه الرياح.
وأول تلك النجاسات التي تسقي هذه النبتة هو فساد من يحسبون على العلماء، فلو كان العلماء أصحاب كلمة حق عند سلطان جائر ما جاء أمثال هؤلاء الذين هم أجهل طلاب العلم على الإطلاق –إن صح أن يسموا طلاب علم- وتطاولوا على العلماء الحقيقيين، واستقطبوا الناس على أساس نفاق العلماء وبيعهم الدين بالدنيا وشرائهم سلامة أنفسهم من بطش الحاكم والملك، وكل هذا صحيح وموجود بدرجة لم تسبق في تاريخ الأمة كله.
وإلا فأي عالم يعمى عن خطر دخول الصليبيين بجيوشهم بلاد المسلمين، حتى يجدوا الفتوى من علماء كبار ومجالس علمية؟!
وحين أفتى الكبار تتابع المفتون في أقطار العالم الإسلامي وخطباؤهم، فكانت تلك هي الحمار الذي ركبه الغلاة أساسًا في الطعن على كل من لم يوافقهم من العلماء!
وقد وجد هؤلاء المادة الخصبة لهم ليهيجوا الأمة على علمائها ولا يزالون، وذلك ليوصلوا الأمة أن لا طريق إلا طريقهم!
ومن سقاء نبتتهم الإعلام الخبيث فإنه حين تكاثرت الجماعات الجهادية في العراق كان الإعلام العالمي الخبيث مسلطًا على أهل الغلو، واليوم يعود نفس السيناريو في الشام!
ومن السقاء الخبيث هو مهادنة بعض الجماعات الجهادية الصليبيين، وبذلك حصل هؤلاء الغلاة على مادتهم الإعلامية التي بها يسوِّقون دعاواهم ويظهرون للناس أنهم الوحيدون القادرون على تحرير العراق؛ لأنهم الوحيدون الثابتون على مبدئهم!
وكم انخدع الناس بهذه الحيلة، وكم انخدع أفراد من هنا وهناك فهرعوا لهؤلاء المجرمين زرافات ووحدانًا...
ومن سقاء هذه النبتة التي تهيج معها وتورق وتثمر وتكبر هي إحداث التفريق والفتنة، ولقد كان من أول أعمال هؤلاء إثارة الفتنة التي لم تكن في صالح أهل السنة، حيث كان تركيز أعمالهم على قتل عوام الرافضة غير المحاربين، فكانت هذه الفعلة الهوجاء هي مطلب إيران وأمريكا والحكومات العميلة.
ولقد كانت ردة فعل إيران من خلال عملائها الرافضة في العراق على تفجيرات هؤلاء أكبر من طاقة السنة وأكبر من قدرتهم على حراسة أعراضهم وحراسة مساجدهم وحراسة شبابهم وحراسة مناطقهم، ولا تزال النار التي أوقدها الغلاة هي الوقود الذي يطحن أهل السنة طحنًا.
وهم يعترفون بل يفاخرون أنهم أصحاب هذا المشروع، ولا أشك أنهم لو لم يكونوا هم أصحاب هذا المشروع لأوجدت أمريكا من يقوم به.
وقفة سريعة مع الشيخ أيمن الظواهري:
والغريب أنَّ الشيخ أيمن الظواهري تذكر الآن فساد هذا المنهج، وكتب توجيهات تخالف ما يفعله هؤلاء الغلاة في العراق والشام أشد المخالفة، وكل ما سأنقله من هذه التوجيهات بلا استثناء يفعل ما يسمى زورًا الدولة الإسلامية في العراق عكسه تمامًا، وكنا نتمنى أن تكون هذه التوجيهات قبل سنوات، وقبل أن يظهر الخلاف بينهم؛ لأنَّ تأثير هذه التوجيهات - الآن وبعد أن أصبح الخلاف علنيًا بين أيمن الظواهري وبين ما يسمى زورًا الدولة الإسلامية في العراق والشام- أصبح محدودًا، بل إني أجزم لمعرفتي الدقيقة بهم – والعلم عند الله- أنَّ توجيهاته في وادٍ وأعمال وقناعات ما يسمى زورًا بالدولة الإسلامية في العراق والشام في واد آخر.
ولقد كان هؤلاء الجهلة الغلاة يشنعون علينا، ونحن نقول ببعض ما يقوله الظواهري الآن، فتأمل فيما يقول: (وأما استهداف عملاء أمريكا المحليين فيختلف من مكان لمكان، والأصل ترك الصراع معهم إلا في الدول التي لا بد من مواجهتهم فيها...
عدم مقاتلة الفرق المنحرفة مثل الروافض والإسماعيلية والقاديانية والصوفية المنحرفة ما لم تقاتل أهل السنة، وإذا قاتلتهم فيقتصر الرد على الجهات المقاتلة منها، مع بيان أننا ندافع عن أنفسنا ويتجنب ضرب غير مقاتليهم وأهاليهم في مساكنهم وأماكن عبادتهم ومواسمهم وتجمعاتهم الدينية. مع الاستمرار في كشف باطلهم وانحرافهم العقدي والسلوكي.
أما في الأماكن التي تقع تحت سيطرة المجاهدين وسلطتهم فيُتعامل مع هذه الفرق بالحكمة بعد الدعوة والتوعية وكشف الشبهات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما لا يسبب ضررًا أكبر منه، كأن يؤدي لطرد المجاهدين من تلك المناطق، أو لثورة الجماهير ضدهم، أو لإثارة فتنة يستغلها أعداؤهم في احتلال تلك المناطق.
5- عدم التعرض للنصارى والسيخ والهندوس في البلاد الإسلامية، وإذا حدث عدوان منهم فيكتفي بالرد على قدر العدوان، مع بيان أننا لا نسعى في أن نبدأهم بقتال، لأننا منشغلون بقتال رأس الكفر العالمي، وأننا حريصون على أن نعيش معهم في سلام ودعة إذا قامت دولة الإسلام قريبًا إن شاء الله.
6- وبالعموم يتجنب قتال أو ضرب كل من لم يرفع في وجهنا السلاح أو يعين عليه، والتركيز على التحالف الصليبي أساسًا ووكلائه المحليين بالتبعية.
7- الامتناع عن قتل وقتال الأهالي غير المحاربين، حتى ولو كانوا أهالي من يقاتلنا ما استطعنا لذلك سبيلًا.
8- الامتناع عن إيذاء المسلمين بتفجير أو قتل أو خطف أو إتلاف مال أو ممتلكات.
9- الامتناع عن استهداف الأعداء في المساجد والأسواق والتجمعات التي يختلطون فيها بالمسلمين أو بمن لا يقاتلنا.
10- الحرص على احترام العلماء والدفاع عنهم لأنهم ورثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقادة الأمة، ويتأكد هذا الواجب مع العلماء الصادعين بالحق والمضحين من أجله، وتقتصر مواجهتنا لعلماء السوء على فضح شبهاتهم، ونشر الأدلة الأكيدة على عمالتهم، ولا يقاتلون أو يُقتلون إلا إذا اشتركوا في عمل قتالي ضد المسلمين أو المجاهدين.
11- الموقف من الجماعات الإسلامية الأخرى.
أ- نتعاون فيما اتفقنا فيه، وينصح بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه.
ب- الأولوية في المواجهة مع أعداء الإسلام وخصومه، ولذا لا يجب أن يخرجنا الخلاف مع الجماعات الإسلامية الأخرى إلى الانصراف عن مواجهة أعداء الإسلام وخصومه عسكريًا ودعويًا وفكريًا وسياسيًا.
ج- نؤيدهم ونشكرهم على كل عمل وقول صحيح يصدر منهم، وننصحهم في كل خطأ يبدر منهم السر بالسر والعلن بالعلن. مع الحرص في الرد والنصح على بيان الأدلة بمنهج علمي وقور، بعيدًا عن التجريح الشخصي والمهاترات، فإن القوة في الدليل وليست في الهجاء.
د- وإذا تورطت جماعة تنتسب للإسلام في المشاركة في القتال مع العدو الكافر، فيرد عليها بأقل قدر يكف عدوانها، سدًا لباب الفتنة بين المسلمين، أو الإضرار بمن لم يشارك العدو...
تشجيع وتأييد كل من يساند حقوق المسلمين المهضومة ويتصدى للمعتدين عليهم بالقول والرأي والعمل، وتجنب توجيه الأذى لهم باليد والتجريح بالقول، ما داموا مؤيدين وغير معادين للمسلمين)( ).
هذا كلام من كانوا ينتسبون إليه، وقد كنا نقول بعضًا من هذا الكلام لقيادتهم من الأيام الأولى للاحتلال، ولكنهم للأسف لم يسمعوا، وجاءت الأيام وتتابعت السنون، فإذا بالغلو يتوسع شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى مرحلة غاية في الخطورة.
وفي هذا الموطن أودُّ أن أقف وقفة سريعة مع موضعين من كلام للدكتور أيمن الظواهري، قاله قبل هذه التوجيهات:
الأول: قال الشيخ الظواهري: (أقول للذين يشككون في تمكن دولة العراق الإسلامية وسيطرتها على الأرض؛ هل يستطيع أحدٌ أن ينكر أنَّ الدولة المباركة تسيطر على الأقل على كيلومتر مربعٍ واحدٍ من أرض العراق؟
فإن كان الجواب بنعمٍ، وهو كذلك بفضل الله، إذن فلماذا تنكرون عليها أن تقيم دولة إسلاميةً على الأرض التي تسيطر عليها؟ وكم كانت مساحة دولة المدينة المنورة قبل غزوة الأحزاب؟ وكيف كان حالها في غزوة الأحزاب؟)( ).
وأقول: لعل في كتابنا إجابة على تساؤلك هذا، ولا نريد إعادة الكلام، ولكني أسأل الدكتور فأقول: إذا كانت الدولة الإسلامية في هذا الزمن تقام على كيلو متر مربع واحد، فلماذا أنكرت على البغدادي إعلان دولة الشام وهو يسيطر على أكثر من كيلو متر مربع في الشام؟!
صحيح أنَّ المدينة النبوية قبل غزوة الأحزاب كانت مساحتها قليلة، ولكنَّ كل مقومات وأركان الدولة حسب عرف ذاك الزمان كانت موجودة فيها، والعبرة في هذه المسائل بالعرف. أما ما يسمى زورًا بدولة العراق فهم مجموعات تضرب وتهرب كما هو حال بقية الجماعات الجهادية، وقد يسمح لهم الصليبيون( ) أحيانًا بالتواجد العلني لمدة معينة وفي أماكن محددة لغايات يعرفها عموم الناس ممن يعيش في العراق، ولكنَّ كل هذا لا يعدُّ تمكينًا بالمفهوم الشرعي كما بيناه في كتابنا هذا.
ولا أدري هل يصح عندكم إعلان دولة إسلامية على كيلو متر مربع واحد في صحراء ليس فيها أركان الدولة؟! فما معنى هذا الإعلان؟! وما مدلوله الشرعي والواقعي؟! ولو سبقكم إلى هذا الإعلان جماعة جهادية أخرى هل ستوجبون لأميرها السمع والطاعة؟!
إنَّ كلامك هذا يدل - وللأسف- على أنك لا تعرف واقع العراق، ويدل أيضًا على عدم معرفة بفقه الأحكام السلطانية.
وأرجو من الشيخ الظواهري التأمل بما يقوله أبو قتادة الفلسطيني، وقد نقلت كلامه لعلمي أنَّ بينكم قواسم مشتركة كثيرة: (من نافلة القول تذكير إخواني إنَّ الإمرة اليوم هي إمرة جهاد، والطوائف إلى الآن طوائف جهاد، فليس هناك أمير مُمكَّن يُعامَل معاملة الخليفة أو ما أشبهه من الأسماء والألقاب، ومن لم يُبصر هذا المعنى كان فساده أشد، حيث يُلزم الآخرين بلوازم هذا الاسم من إمرة المؤمنين أو خليفة المسلمين. والدخول في الصلح أو التحكيم على معنى آخر غير أنَّ الجماعات جماعات جهاد تسعى لتحقيق التمكين لا يحقق إلا الفساد؛ لأنَّ مبناه على الجهل والغرور بلا وقائع عند العقلاء وأهل العلم)( ).
أما وصفك لهذه الدولة الوهمية بالمباركة، فيعلم القاصي والداني وأهل العلم والجهاد في العراق أنَّ هذا التنظيم أوغل في دماء أهل السنة بالأوهام والظنون، بل وخيار المجاهدين ممن جمعوا بين العلم والجهاد والدعوة والسابقة وحفظ كتاب الله والنكاية بالصليبيين والمجوس.
وتذكر أيها الشيخ الظواهري أنهم اتهموك بتكريس معاهدة سايكس بيكو؛ لأنك اختلفت معهم بمسألة واحدة، وأنت أميرهم وقائدهم، فكيف يتعاملون مع بقية المسلمين؟!
واسأل قادة جبهة النصرة في الشام هل يأمنون على أنفسهم من غدر هؤلاء!
أليس في هذا دلالات قطعية لكل منصف على إجرام هؤلاء؟!
وأنا لا أريد الحديث معك عن السياسة الشرعية عندهم، فنحن في هذا الباب نختلف حتى معك في بعض المسائل، فضلاً عنهم؛ لأنهم لا يفقهون شيئًا في هذا الباب، وإنما أحدثك عن جماعات جهادية تقاتل المجوس الآن في العراق وهم مستهدفون من قبل ما يسمى زورًا بدولة العراق والشام الإسلامية.
وليس عندي شك لو أنك تعرف حقيقة هذه الجماعات الجهادية المستهدفة من قبل هؤلاء الغلاة لتبرأت من هذه الدولة المباركة!!!
الثاني: قال الظواهري: (أود أن أوضح أنه ليس هناك شيء الآن في العراق اسمه القاعدة، ولكنَّ تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين اندمج بفضل الله مع غيره من الجماعات الجهادية في دولة العراق الإسلامية حفظها الله، وهي إمارة شرعية تقوم على منهج شرعي صحيح وتأسست بالشورى وحازت على بيعة أغلب المجاهدين والقبائل في العراق)( ).
وأقول: هذا الكلام فيه عدة مغالطات، ولا أريد أن أقف إلا على واحدة منها؛ لأنَّ كل منصف يقرأ كتابنا أو يعيش في العراق سيعرف ما هذه المغالطات في هذا الكلام، ولكنَّ الذي أوقفني كثيرًا وتعجبت منه غاية العجب، هو أنَّ الظواهري هنا نفى وجود تنظيم للقاعدة في العراق، بمعنى أنها أصبحت دولة إسلامية وليست جماعة "القاعدة"، وهذه الدولة على رأسها أمير المؤمنين البغدادي كما يسمونه!! فإذا كان الأمر كذلك كما قرره الظواهري هنا، فكيف يأمر الظواهريُّ أميرَ المؤمنين البغدادي بأن يبقى سنة واحدة على رأس الدولة الموهومة وبعدها يُرفع الأمر للقيادة العامة للقاعدة؟! أليس البغدادي أمير المؤمنين عندكم؟! ومن مبادئ الفقه أنَّ أمير المؤمنين هو أعلى سلطة في الدولة الإسلامية، فكيف توجَّه له الأوامر من قائد جماعة جهادية وهو الظواهري؟ بأيِّ فقهٍ يتكلم هؤلاء؟! لقد قرأت فقه الدولة الإسلامية والأحكام السلطانية فلم أجد أبدًا أنَّ أمير المؤمنين يبايِع أميرًا لجماعة! أو أنَّ أمير جماعة له سلطة على أمير المؤمنين.
إنَّ العاقل يستنبط من كلام الظواهري هذا دلالات كثيرة، أسأل الله العظيم أن يبصرنا بعيوب أنفسنا وأن يعلمنا ديننا.
الخاتمة:
من حسب هذا الكتاب مجرد ورقات قُرئت، ثم ركنت، ثم نسيت، كما هو شأن كثير من الكتب فقد أخطأ وأعظم الخطأ، إنه شهادة في كتاب أو كتاب في شهادة؛ بل هو شهادة لله وحده، وقضاء بحكم الله وحده، كما أحسب، والله أعلم، وأستغفر الله من كل خطأ.
فأنت قاضٍ شئت أم أبيت، وحكمك لنفسك أولاً، فهل يسع قاضيًا أو متقاضيًا في هذه القضية، استمع لهذه الشهادة التفصيلية في هذه القضية الواقعية إلا أن يستجيب، فيعلن حكمه دون تردد؟!
نعم هذه هي خطورة هذه القضية، في هذا الكتاب!
خطورتها أنك أيها القارئ ممن انتميت إلى هذا التنظيم ترى نفسك وأمام حكم الله تعالى الذي يخالف كل المخالفة ما أنت عليه، فبِمَ ستحكم؟ وما مدى تأثير حكم الله في قرارك؟
لا مجال لك أن تلوي أو تعرض.
لا مجال لأن تصرف الحكم عن نفسك إلى غيرك! لا مجال!
والله إني لأدرك أنه اختبار صعب، وصعوبته نابعة من أمرين:
الأول: خطورة الموضوع، والله عز وجل يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }(النساء:65).
والثاني : فورية القرار: فإنَّ لحظة واحدة تؤجل فيها قبول الحكم هذا، مع قناعتك بأنه الحق، إنما تعني لحظة لك من سخط الله، وذلك بردك حكم الله، وأنت تعلم!
فهل من مجازفة أعظم من هذه؟
ليس أمامكم أيها الأشياع والأتباع والقادة إلا أن تنظروا، وتجدُّوا في النظر، فلعل القضية لم تبلغكم من قبل كما بلغتكم اليوم، ولعل أول وارد إيجابي يدور في داخلك هو أن تقول: لا ينقصني شيء من الشجاعة اللهم إلا شجاعة القرار الذي يتكعكع عنده كثير من أهل الإقدام في الميدان، والوارد الثاني أن تقول: أنا لا دخل لي بفلان وفلان إذا رضي المجازفة بمصيره ودينه وعقيدته، ليكن من يكون، فهذه الآخرة، ولا مجال فيها للاستدراك...!
وما يدريني لعلها الفرصة الأخيرة إذ الموت يتخطف البشر! وهل تغني الأسماء والأشكال والهيئات والعلوم مهما ارتفع اسم صاحبها ولمع إذا واجه الحق، وتقطعت الأسباب، وارتفعت الأصوات بالبراءات؟!
إياك أن تكون شهرة فلان ممن تعرف من قادة، أو قِدَمك في هذا الطريق، أو معرفة الناس بك على هذا الأمر، أو علاقاتك بفلان وفلان وأخوَّتُك معهم على هذا المعتقد، أو ولوغك في أخطاء ودماء وما إلى ذلك، إياك أن تكون هذه الأشياء وأمثالها حجابًا لك عن قبول حكم الله، والتسليم له، وعدم وجدان الحرج مع الرضا.
نعم والله إنه اختبار في غاية الصعوبة، ولكنه حكم الله وكفى!
وتأمل في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن أذلَّ نفسه لله فقد أعزها، ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه، فإنَّ أكرم الخلق عند اللَّه أتقاهم، ومن اعتز بالظلم: من منع الحق وفعل الإثم، فقد أذلَّ نفسه وأهانها، قال اللَّه تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً})( ).
والحكم يتعدى القرار الشخصي إلى لازمه الشرعي... ذاك هو عدم التوقف بالسكوت، فاللازم هو أن يظهر العالِم هذا الأمر بالأسلوب الذي يختاره، أما أن يسكت فلا... نعم، لك أن تختار الأسلوب المناسب لقبول الآخرين حكم الله تعالى، وليكن أسلوب الدليل الواضح مع قوة العبارة أو ليكن أسلوب الأب المشفق والأخ المحب ينادي على أحبابه ألا تهلكوا على هذا الطريق أو فليكن أسلوبًا بين هذا وهذا.
لك أن تتساءل لِمَ هذا الرد في هذا الظرف؟
ولك أن تجيب عنا كذلك فتقول: يا لصبرهم لِمَ سكتوا وهم يعانون الذي يعانون طوال الفترة السابقة منا؟
وتجيب فتقول: يا لحلمهم، لقد سكتوا كثيرًا كثيرًا، وربما لو واصلوا السكوت لأصبح سكوتًا على باطل يشاركوننا أوزاره وتبعاته ما بقي إلى يوم القيامة!
وربنا سبحانه يقول: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (النور:51).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفهرس
المقدمة ....................................................................................... 1
تحاكم وتقاض بل سلامة وتراض 9
الفصل الأول: 12
مقدمة الفصل 12
الملاحظات العامة : 13
الملاحظة الأولى : استدلاله بحديث ضعيف جداً 13
الملاحظة الثانية: التكرار لفظًا و موضوعًا 14
الملاحظة الثالثة : انفكاك جهة التأصيل عن جهة التنـزيل 14
الملاحظة الرابعة: عدم التوثق لانعدام التوثيق 15
الملاحظة الخامسة: أخطاء علمية 16
الملاحظة السادسة: مجازفات فقهية 17
الفصل الثاني: الملاحظات التفصيلية 23
الملاحظة الأولى: سابقة في تعيين إمام الأمة! 24
الملاحظة الثانية: مَن أهل الحل و العقد؟ 26
الملاحظة الثالثة: التغلب على مَن؟! 29
الملاحظة الرابعة: سبق الزور 30
الملاحظة الخامسة: المنهجية القسرية في الاستدلال، وفي الفهم، والتطبيق، والتعامل مع المخالفين! 31
الملاحظة السادسة: تصفيف التوصيف 33
الملاحظة السابعة: رفض فرض الأرض 34
الملاحظة الثامنة: شروط الإمام وواجباته 41
الملاحظة التاسعة: سياحة مع الأساطير 51
الملاحظة العاشرة: الجرأة على الفتيا 52
الملاحظة الحادية عشرة: الخوف والأمان 54
الملاحظة الثانية عشرة: الدولة الإسلامية عند الكاتب 57
الملاحظة الثالثة عشرة: الدولة الإسلامية وأركانها 57
الملاحظة الرابعة عشرة: الأكثرية والأقلية 59
الملاحظة الخامسة عشرة: حجم الأرض 60
الملاحظة السادسة عشرة: مجموعات عسكرية داخل الدولة النبوية 61
الملاحظة السابعة عشرة: مثل الصحابة! 62
الملاحظة الثامنة عشرة: أشباه الدولة في الماضي والحاضر 65
الملاحظة التاسعة عشرة: تمزيق العراق وفق الأماني اليهودية 67
خاتمة الفصل...................................................................................73
الأمر الأول:علم هذا الإمام الذي بايعوه............................................................73
الأمر الثاني:صفات الخوارج........................................................................75
الصفة الأولى:الجهل .............................................................................75
الصفة الثانية : التكفير بغير حق ..................................................................76
صور التكفير ....................................................................................88
الصفة الثالثة:الاستخفاف بالدماء ...............................................................100
الصفة الرابعة:الجمع ما بين القتل والتكفير.........................................................102
الصفة الخامسة:السفاهة والحماقة.................................................................103
الصفة السادسة:جهلهم بالسنة...................................................................104
فائدة: أثر ضعيف يصف أحوال أهل الغلو في واقعنا ...............................................105
نصيحة وإشفاق على مصير الأمة في العراق ......................................................110
فصل: اتقوا الله في المسلمين يا غلاة المجرمين ......................................................129
أسقية هذه النبتة الخارجية .......................................................................150
وقفة سريعة مع الشيخ الظواهري .................................................................151
الخاتمة ........................................................................................157
===========
لمطالعة النسخة المنسفة الرابط ادناه
http://www.gulfup.com/?LzRv5U
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق