امامة سيدنا ابوبكر الصديق رضي الله عنه
المقدمة أحقية الصديق بمنصب الإمامة أولاً: إجماع المهاجرين والأنصار على بيعة الصديق ثانياً: خصائص الصديق موقف علي من بيعة الصديق علم الصديق وإيمانه تجليات محاسن أخلاق الصديق الصدق و التصديق الشجاعة الإنفاق والكرم: تفرده بالمعية الخاصة نائب النبي صلى الله عليه وسلم دائماً تفرده بوصف (ثاني اثنين) تفرده بمواساة النبي صلى الله عليه وسلم 2 - سورة (الليل) وآية (( الأَتْقَى )) وهو الصديق رضي الله عنه: إنفاق المال هي الصفة الفارقة بين المؤمنين والمنافقين آيات نزلت في الصديق ما خصه به النبي صلى الله عليه وسلم من الفضل الحكمة في اختيار الصديق رضي الله عنه إماماً للأمة سياسة الصديق وإنجازاته المعالم البارزة في سياسة الصديق: أبو بكر وفن إدارة الأزمة شبيه هارون عليه السلام: بين أبي بكر الصديق ويوشع بن نون بين قيادة أبي بكر وبطولة علي ================== امامة سيدنا ابوبكر الصديق رضي الله عنه المقدمة يعتقد الإمامية أن (الإمامة) منصب إلهي يتم بالتعيين من الله (بالنص أو الوصية)، وليس سياسياً ينعقد بالشورى من الأمة، ويجعلونها أصلاً من أصول الاعتقاد لا يصح الإيمان إلا به، ولا يتحصل ذلك بمجرد الإيمان بمبدأ (الإمامة) عموماً، وإنما لا بد من الإيمان بعدد محدد من الأئمة تفصيلاً. يروي الكليني بسنده عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: [[كان أمير المؤمنين عليه السلام إماماً، ثم كان الحسن عليه السلام إماماً، ثم كان الحسين عليه السلام إماماً، ثم كان علي بن الحسين إماماً، ثم كان محمد بن علي إماماً، من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم]] [(الأصول) (1/181) باب (معرفة الإمام والرد عليه)] ويقول ابن المطهر الحلي: [[الإمامة لطف عام، والنبوة لطف خاص، وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص]]. [(الألفين) (ص3)] ويقول إبراهيم الزنجاني: [[إن مرتبة الإمامة كالنبوة]] [(عقائد الإمامية الإثني عشرية) (ص 75)]. وإذا كانت (الإمامة) بهذه المنزلة من الدين؛ فلابد لزوماً أن ترد في الكتاب المبين مصرحاً بها تصريحاً لا يسع أحداً إنكاره، أو تأويله، أو صرفه إلى معنى آخر؛ كما هو شأن القرآن في النبوة عموماً ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً فضلاً عن (معرفة الله تبارك وتعالى)؛ إذ جاءت الآيات في ذلك وفي بقية أصول الدين: كالمعاد، ووجوب الصلاة، والزكاة... إلخ، وحرمة القتل، والزنا... إلخ، نصوصاً صريحة صراحة لا تحتاج معها إلى تفسير يوضحها، ولا رواية تعضدها. يقول النص القرآني عن وحدانية الله تعالى: (( وَإِلَـاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَـانُ الرَّحِيمُ )) [البقرة:163] وهو صريح صراحة تامة في التنصيص على وحدانية الله بحيث لا يحتاج إلى تفسير للدلالة على هذا المعنى ولا إلى رواية. ومثله نصوص قرآنية لا تحصى. ويقول النص القرآني: - عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: (( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ للَّهِ )) [الفتح:29]. - وعن المعاد: (( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ )) [الحج:6-7]. - وعن الصلاة والزكاة: (( وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ)) [البقرة:43]. - وعن حرمة القتل: (( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ)) [الإسراء:33]. - وعن حرمة الزنا: ((وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً)) [الإسراء:32]. وهكذا ثبتت جميع الأصول الضرورية والأمور الأساسية في الدين. بدلالة نصوص قرآنية صريحة صراحة لا تحتاج معها إلى تفسير يوضحها ولا رواية تعضدها. لذلك اتفق العلماء على أن أصول الدين لا يصح فيها التقليد، وبما أن التقليد لا يكون إلا مع الاجتهاد -أي: لا بد لتقليد المقلد من اجتهاد المجتهد- والاجتهاد لا يكون إلا مع عدم وجود النص أو أن النص في حاجة إلى تفسير وإزالة إشكال أو شبهة، إذ تقرر في الأصول أنه لا اجتهاد مع النص، أي: النص الصريح. إذاً.. لا بد أن تكون أدلة الأصول نصوصاً قرآنية لا تحتاج إلى تفسير، حتى لا تحتاج إلى اجتهاد المجتهد، وإلا لزم فيها التقليد وهذا خلاف القاعدة. إن أصول الدين لا يتسامح الشرع بعدم معرفتها، فإن إنكارها يستلزم الكفر. لذلك أقام عليها الحجة الكاملة من وجهيها: الثبوت والدلالة: فكانت أدلتها في أصح وثيقة ألا وهي القرآن الكتاب المحفوظ الذي ((لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَـاتِهِ)) [الأنعام:115] و((لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ)) [فصلت:42] هذا من ناحية الثبوت. وأما من ناحية الدلالة: فإن أدلة الأصول صريحة صراحة تامة وألفاظها لا تحتمل غير معنى واحد محدد، هو ما دلّت عليه من ذلك الأصل، فكانت أدلة الأصول قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، فلا يمكن أن يتطرق إليها الشك بأي حال من الأحوال، ولذلك يكفَّر منكرها بلا تردد. إن الله تعالى لم يحوجنا لمعرفتها إلى تفسير مفسر، ولا إلى رواية راوٍ؛ لسبب مهم وخطير هو أن التفسير وكذلك الرواية -من حيث الإسناد والنقل، وكذلك التفسير والشرح- فعل بشري لم يتعهد الله تعالى بصيانته وحفظه من تطرق الخطأ أو الهوى. إن الرواية يمكن أن تصنع ويمكن أن يزاد عليها وينقص منها لتكون حسب الطلب، وليس كذلك شأن الآية القرآنية. والتفسير غير معصوم من الخطأ؛ لأن العالم غير معصوم بل قد يتصرف فيه بالهوى. أما الآية القرآنية القطعية الدلالة فلا يمكن تفسيرها بغير دلالتها. بل هي لا تحتاج إلى تفسير، ومن هنا كانت أصول الدين يقينية، وكان الدين يقينياً؛ لثبوت أصوله جزماً ويقيناً، ثبوتاً ودلالة. ولم نجد لأصل الإمامية أي نص من القرآن صريح في دلالته! بل جميع ما استدلوا به إنما هو آيات متشابهات لا تورث يقيناً؛ لأنها محتملة المعنى، وليست قطعية في دلالتها، بل يمكن صرفها بسهولة إلى غير ما ذهبوا إليه. أي أنها تحتاج إلى تفسير، وتحتاج إلى رواية تعضد هذا التفسير، وكلاهما معرَّض للخطأ والوضع والهوى، ولو كانت (الإمامة) أصلاً من أصول الدين لنص الله عليها بالآيات القرآنية الصريحة حتى تقوم الحجة كاملة على الخلق بلا شك، كما هو شأنه -سبحانه- في مسائل الأصول. أما الآراء و(العقليات) فهي فعل بشري محض يقبل الخطأ والصواب، والدليل على ذلك: اختلاف العقلاء فيما يعتقدون ويعقلون، فلا يمكن الاطمئنان إليها في المسائل التي لا تقبل الخطأ والصواب -كأصول الدين- دون النص القرآني القطعي الدلالة. لقد سلك الإمامية سبيل تفسير الآيات المتشابهات، وتعضيده بالروايات والركون إلى الآراء و(العقليات) لإثبات إمامة علي رضي الله عنه وأحد عشر من ذريته دون نص صريح من الآيات المحكمات. فإذا كانت (الإمامة) تثبت لشخص بسلوك هذا السبيل وتصير أصلاً شرعياً اعتقادياً يكفر جاحده، فنحن سنسلك السبيل نفسه لنثبت (إمامة) خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فإذا ثبتت (إمامته) وتبين بالمقارنة أنها أولى من (إمامة) غيره من الأمة؛ فهل يقبل الإمامية بتكفير جاحدها؟ إننا لا نطالبهم بأن يؤمنوا بإمامة أبي بكر بمعناها الاصطلاحي عندهم لأننا لا نؤمن بها لا له ولا لغيره، وإنما نعتقد بأنه من الأئمة الصالحين والخلفاء الراشدين، ولم تكن إمامته أو خلافته نصاً من الله، ولا الإمامة -أساساً- منصباً دينياً كالنبوة، فلو بايع المسلمون غيره وجب علينا اتباعه، وهو الذي قال في السقيفة يوم البيعة: (وأنا أختار لكم أحد هذين الرجلين) مشيراً إلى عمر وأبي عبيدة. وقال علي قبل بيعته: (دعوني والتمسوا غيري؛ فأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً). فلو اختار المسلمون سعد بن عبادة أو علياً لوجب على المسلمين اتباعه. إنما ندعوهم ونطالبهم بأن يتولوا أبا بكر ويحبوه ويتابعوه ويتأسوا في ذلك بعلي بن أبي طالب الذي بايع وشايع وتابع مخلصاً محباً أميناً. قد يقال: إن الخوض في مثل هذه المسائل لا طائل تحته بعد هذه القرون المتطاولة، وقد مات أصحابها، فلا أبو بكر حي، ولا علي؛ كي نختار أولاهما بالأمر. وهذا صحيح في ذاته، ونحن نقول به، وندعو إليه طبقاً، لقوله تعالى: ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْـئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [البقرة:134، 141] إلا أن موضوع (الإمامة) والخلافة يُطرق يومياً وعلى مدار الساعة، ويثار باستمرار وتُبنى عليه مسائل غاية في الخطورة، فهو من هذه الناحية حي يتحرك لا يصح معه أن ندفن رءوسنا في الرمال حلاً للإشكال. إن الإمامية يعتبرونه أصل الاعتقاد ومبدأه ومنشأه؛ فكيف يتركونه؟! إن المنكر على المخطئ لا تثريب عليه، إنما اللوم على البادئ، فلو كفّ ورجع لسكت الأول، وهذا هو الذي نريده ونتمناه، فلو كفوا وسكتوا لكففنا وانشغلنا بحمد الله رب العالمين والعمل بشرائع الدين المبين. أحقية الصديق بمنصب الإمامة إن أبا بكر الصديق أحق الصحابة بمنصب الإمامة وأولاهم به. وهذه الأحقية تقوم على أمرين عظيمين، هما: أولاً: إجماع المهاجرين والأنصار على بيعته. ثانياً: خصائصه التي تفرد بها، ومنها: أ- أول الناس إسلاماً· ب- الآيات التي نزلت بحقه ومنها [سنذكر الآيات بشيء من التفصيل]: 1- آية الغار، وفيها: اختصاصه بلقب (صاحبه). تفرده بالمعية الخاصة. تفرده بوصف (ثاني اثنين). تفرده بمواساة النبي صلى الله عليه وسلم. 2- سورة (الليل)، وآية (الأتقى) وهو الصديق رضي الله عنه. 3- سورة (الشرح). 4- آية التفضيل في سورة (الحديد). 5- آية الفضل في سورة (النور). 6- آية التصديق في سورة (الزمر). 7- آية (الصادقون) في سورة (الحشر). 8- آية الاستخلاف في سورة (النور). 9- آية التمكين في سورة (الحج). 10- قوله تعالى: ((قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَْعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ)) [الفتح:16]. 11- آية قتال المرتدين في سورة (المائدة). 12- آية الولاية. جـ- ما خصه به النبي صلى الله عليه وسلم من الفضل. د- سياسته وإنجازاته ومنها: 1- القضاء على الفتن الداخلية: - إزالة الاضطراب عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. - حسمه لقضية الخلافة. - قضاؤه على حركة الارتداد والخروج في الجزيرة. 2- حفظه وجمعه لدستور الأمة القرآن العظيم. 3- تصديه للأخطار الخارجية، وجهاده في نشر رسالة الإسلام، ومنها: وضعه لأكبر خطة عسكرية في التاريخ. 4- حسم معضلة ولاية العهد. وسأتناول كل واحدة من هذه بالتفصيل: |
============
أولاً: إجماع المهاجرين والأنصار على بيعة الصديق
لقد أجمع المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم على بيعة الصديق وإمامته، وإجماع المهاجرين والأنصار حجة شرعية كاشفة عن مراد الله تعالى ورضاه.
لقد أوجب الله تعالى على أجيال الأمة جميعاً اتباع المهاجرين والأنصار، فقال: ((وَالسَّـابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالأَنْصَـارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ)) [التوبة:100].
وحذر من مخالفتهم فقال: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً)) [النساء:115].
إن الإجماع عموماً حجة شرعية فكيف بإجماع من نصَّ الله على وجوب اتباعهم وحرمة مخالفتهم وشهد على صدق إيمانهم، فقال: ((وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) [الأنفال:74].
موقف علي من بيعة الصديق:
وإذا كان الإمامية يشترطون للإجماع وجود (المعصوم) فإن علياً رضي الله عنه -الذي يعتقدون عصمته- كان ضمن المجمعين على بيعة الصديق رضي الله عنه فبيعته شرعية على قول الجميع.
وتخلف واحد أو اثنين ليس حجة على المجموع، بل المجموع حجة على المخالف، ومخالفته شذوذ واتباع لغير سبيل المؤمنين.
والذي عليه المحققون أن بيعة الصديق رضي الله عنه لم يتخلف عنها أحد، حتى علي إنما تأخر هو والزبير رضي الله عنهما بعض الوقت لكونهما أُخرا عن الشورى، وعذر أبي بكر رضي الله عنه أن الظرف لم يسعفه لذلك، وإلا حسم الأمر لصالح الأنصار، ثم بايع علي وتابع، والراجح أن هذه البيعة تجديد وتأكيد للبيعة الأولى، ومهما كان فإنه بايع آخر الأمر والأمور بخواتيهما.
موقف سعد بن عبادة من بيعة الصديق:
وأما سعد بن عبادة رضي الله عنه فقد بايع أيضاً، وما قيل من عدم ذلك؛ فإنه لم يثبت، وإنما هو من وضع الرواة، ولو صح؛ فالحجة على من لم يبايع - كائناً من يكون - وليست له· ولقد تخلف عن بيعة علي رضي الله عنهم كثير من الصحابة رضي الله عنه وليس ذلك بضائره؛ لأن الإجماع ليس شرطاً في البيعة، ولكن إذا حصل كان حجة واضحة ملزمة ودلالة كاشفة عن رضاء الله تعالى، كما هي الحال في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان؛ لأن الله لا يجمع أمة الإسلام على ضلالة، والإجماع حجة شرعية.
الشورى للمهاجرين والأنصار:
وقد لخص ذلك سيدنا علي رضي الله عنه بقوله:
{إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه؛ فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل، وسموه إماماً؛ كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى} [(نهج البلاغة) (3/7)].
وليس ذلك -كما يقول البعض- موضوعاً لحجة الخصم من باب إبطال حجته بإلزامه بما يلزم به نفسه؛ لأن علياً رضي الله عنه يقول في النص: {وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا} والقول بأن الله راض عمن أجمع عليه المهاجرون والأنصار لا يمكن أن يصدر مجاراة وإلزاماً، وإنما اعتقاداً والتزاماً، فكيف إذا أكده بذكر ترتيب العقوبة الشديدة المغلظة (القتل) على الخارج الطاعن في بيعة من أجمعوا على بيعته: {فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه -على ماذا؟- على اتباعه غير سبيل المؤمنين} أي: المهاجرين والأنصار.
حقائق عظيمة من كلام الإمام علي:
وفي هذا النص تتأكد جملة حقائق عظيمة هي:
1- صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.
2- لأنها تمت بإجماع المهاجرين والأنصار.
3- أن إجماع المهاجرين والأنصار دليل كاشف عن رضاء الله تعالى وإرادته الشرعية.
4- أن من شذ ممن شهد أو غاب -في ذلك الجيل وكل جيل- فخالف، لا يعتد بخلافه، أي: أن خلافه غير معتبر.
5- أن الطاعن في خلافتهم متبع غير سبيل المؤمنين وخارج عن أمر المسلمين.
6- أن الطاعن في خلافتهم يدعى ويرشد ويستتاب، فهو متهم ومرتكب جريمة يجب أن يرجع عنها، ولا يصح أن يتخذ قدوة ومرشداً.
7- أن من أصر على هذه الجريمة بعد البيان يقاتل.
8- أن إرجاع هؤلاء الخارجين المارقين إلى الحق واجب على الأمة حتى لو استلزم القتال.
9- أن الخلافة وتنصيب الإمام بالشورى، وليس بالنص الإلهي.
10- أن الشورى للمهاجرين والأنصار.
11- أن إجماع المهاجرين والأنصار حجة شرعية.
12- عدم وجود نص إلهي في إمامة علي، وكل ما قيل من ذلك فهو من تلفيق الرواة وصنع البغاة.
13- أن مصطلح (إمام) و(وإمامة) -عند الإمامية- أمر محدث مخترع لم يستعمله علي ولم يعرفه، إذ الإمام عند علي يعين بالاختيار البشري وليس بالوصية أو النص الإلهي: {فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً} وهذا مخالف لما عند الإمامية تماماً.
14- أن طعن الإمامية بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان باطل، بل جريمة عظيمة تستحق أقسى العقوبات.
15- أن هذا الطعن مخالف لحكم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. [يحتج البعض بأن هذا مخالف لما ورد في كتاب (نهج البلاغة) من قدح أو ذم للخلفاء الراشدين الثلاثة مثل الخطبة المسماة بـ (الشقشقية) ويتخذ من ذلك وسيلة لإغماض الطرف عن هذا النص وأمثاله في مدحهم وتوثيقهم! والرد على ذلك بما يلي:
أ- أن كتاب (نهج البلاغة) ليس معصوماً من الزيادة والنقصان، بل فيه من ذلك الكثير -ولا بد- وإلا كان كالقران!
ب- أن هذا الكتاب نصوصه جميعاً بلا استثناء مرسلة لا أسانيد لها، وبين جمعها ووفاة علي رضي الله عنه أكثر من ثلاثة قرون ونصف! فإن الشريف الرضي ذكر في المقدمة أنه انتهى من جمعها سنة (400هـ) وعلي توفي سنة (40هـ)! وذكر أيضاً أن ما وجده من ذلك على ألسنة الناس مختلف شديد الاختلاف، وهذا يعني أن الكتاب ضعيف من حيث الإجمال، لأن المرسل ـ حسب قواعد علم الحديث ـ أحد أنواع الضعيف، وهو قول الإمامية أيضاً المقرر في أصولهم·
فلا بد من تحقيق النصوص إذا أردنا الاعتماد·
ولم أجد أحداً من الذين وثقوا الكتاب اتبع الأسلوب العلمي المجرد عن العاطفة في توثيقه له· وذلك لا يجدي في باب العلم، وإنما يسوغ في مجال الدعاية اعتماداً على ما في نفس القارئ من مشاعر وعواطف لا استناداً على ما في باب العلم من أصول وقواعد·
والذي يلزم الباحث في هذا الفن أن ينقب عن سند لكل نص ثم يقوم بتحقيقه طبقاً لقواعد علم الحديث أو الرواية توصلاً إلى صحته أو ضعفه، وهذا ما لم يفعله كل الذين حاولوا ـ عبثاً ـ توثيق الكتاب· فتوثيقهم -إذاً- ليس برهانياً علمياً وإنما خطابياً دعائياً لا أكثر· فالأصل في الكتاب الضعف حتى يثبت العكس·
ج- إن الخطبة الشقشقية وما في موضوعها مما ورد في الكتاب يتناقض مع هذا النص وأمثاله وهو كثير، والجمع بين النقيضين لا يمكن عند العقلاء. فلا بد من طرح أحدهما إذا أردنا التمسك بالآخر. ولكن ليس بالهوى والعاطفة فيقال بأن هذا النص يخالف الخطبة الشقشقية فهو مرفوض؛ لأن هذا ليس بأولى من قولنا بأننا نرفض الخطبة الشقشقية لمخالفتها لهذا النص.
د- أن طرحنا لهذه (الشقشقيات) وجزمنا بوضعها واختلاقها ليس عاطفياً دعائياً، وإنما يعتمد على قاعدة راسخة ألا وهي: أن كل ما خالف القرآن باطل، وهو ما جاء منصوصاً عليه في مصادر الإمامية منقولاً عن الإمام جعفر بن محمد رضي الله عنه أنه قال: [ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه]·
وحاشا علياً أن يخالف كتاب الله هذه المخالفة ويطعن في خيرة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين قال الله عنهم: ((والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم)) [الأنفال: 74]·
وقال تعالى آمراً باتباعهم: ((والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات)) [التوبة:100]، وحذر من مخالفتهم فقال: ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولَّى ونُصْله جهنم وساءت مصيراً)) [النساء: 115] .
وقد بايع علي لهم ونصح وتابع ولم يكن مداهناً ولا منافقاً·
هـ- أن الاستشهاد اعتضاداً لا اعتماداً بما في (نهج البلاغة) وغيره مما يوافق القرآن أو لا يخالفه ليس فيه ضير أو ضرر على الدين بل العكس هو الصحيح، فكان استشهادنا بهذا النص من هذا الباب المشروع].
لقد انعقد الإجماع التام على بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وهذا دليل على أنه أفضل الأمة وأولى الصحابة رضي الله عنهم بالإمامة، وإلا فلو رأوا غيره هو الأولى لقدموه. فلما أجمعوا على بيعته -وإجماعهم حجة- دل ذلك على أنه الأفضل والأولى بالإمامة والخلافة، لا سيما وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه للصلاة إماماً بالمسلمين في مرضه الأخير قبل وفاته وهذه تزكية ما بعدها مثلها؛ لأنها صادرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، ولهذا قال علي والزبير رضي الله عنهما: {إنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار ثاني اثنين، ولقد أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة وهو حي} [(شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (1/332)].
التفريق بين أبي بكر وعلي:
والفرق واضح بين الخليفتين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما في تحقق الإجماع! إذ أن الإجماع قد انعقد على أبي بكر دون علي الذي لم يبايعه بعضهم وبايع بعضهم مكرهاً وبايع آخرون لكنهم اعتزلوا، وكلهم مجتهد في طلب الحق فمخطىء ومصيب، والكل مغفور له مأجور: ((وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِـالإَيمَـانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) [الحشر:10].
ثانياً: خصائص الصديق
وهي فضائله التي اختص بها دون باقي الصحابة فهي بمثابة خصائص لا مناقب يشاركه فيها الآخرون؛ فهو لذلك أفضل الصحابة شاركهم في فضائلهم وتفرد عنهم بما اختص به دونهم.
من هذه الخصائص:
أول الناس إسلاماً:
لا شك أن السبق المجرد لا مزية له ما لم يقترن به المقصود منه، ألا وهو استغلال وقت السبق في العمل مما يعطيه الأولوية عند المقارنة بمن تأخر.
فإذا عمل المتأخر أكثر وأنفع كان له الفضل وإن تأخر زمن نزوله إلى الميدان؛ لذلك قد يتخلف السابق ويتقدم اللاحق.
القول بأن علياً أول الناس إسلاماً:
إن القول بأن علياً أسلم قبل أبي بكر أو أن أبا بكر أسلم قبل علي، وبعضهم يلجأ إلى حل وسط، فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، وأول من أسلم من الصبيان علي، لا معنى له غالباً إلا الجدل الفارغ ولا قيمة -له في الميزان- كبيرة؛ لأن الأفضلية والقيمة للعمل لا للزمن المجرد.
ولذلك حينما ذكر الله تعالى فضل من آمن قبل الفتح على من تأخر من بعده لم يعلق الفضل بمجرد السبق في الزمن، وإنما علقه بالعمل الذي هو الإنفاق والقتال، فقال: ((لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَـاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) [الحديد:10] وإلا فإن بعض المسلمين سبق في إسلامه الفتح لكنه لم يهاجر ولم ينفق ولم يقاتل وهؤلاء قال الله عنهم: ((وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)) [الأنفال:72].
لقد أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنهم أول الناس إسلاماً نفع الدين، وكذلك الأمة أعظم النفع، فكان أول داع في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلم على يده وجوه المجتمع وصناديده، وأول خطيب، ودافع عن النبي صلى الله عليه وسلم بيده ولسانه فضرب ضرباً شديداً حتى سقط -لا يشك أحد في موته- وبذل ماله كله في نصرة الدين وقضاء حوائج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفرغ للدعوة والتبليغ، فكان أحق الناس بقوله تعالى: ((لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً ))[الحديد:10] الآية، وأحق الناس بموضع منة الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ)) [الشرح:1-3]
فيه شرح الله صدر نبيه وخفف عنه حمله الذي كاد يقصم ظهره. نعم أسلم علي رضي الله عنه في اليوم الأول لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان في بيته، لكنه كان صبياً في الثامنة أو العاشرة -في رأي- ولم يكن قادراً على الدفاع عنه بيد أو لسان، وليس عنده من مال بل كان هو نفسه في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم مادياً ومعنوياً يأكل في بيته ويأوي إليه ويلبس مما ينفقه عليه، فهو أحد هموم النبي صلى الله عليه وسلم·
ولذلك نزل في حق الصديق رضي الله عنه من الآيات ما لم ينزل في حق غيره.
الآيات التي نزلت في الصديق:
نزلت في حق الصديق رضي الله عنه آيات كثيرة منها:
آية الغار وفيها فضائل لأبي بكر:
نزلت فيه رضي الله عنه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشركهما في شرفها وفضلها أحد من الأمة أو الصحابة رضي الله عنهم.
يقول تعالى: ((إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [التوبة:40].
وفي هذه الآية من الفضائل التي اختص بها أبو بكر الصديق ما لا يحصى، منها:
اختصاصه بلقب (صاحبه):
ففي الآية الكريمة يتفرد الصديق بلقب (الصاحب) المضاف إلى أشرف مصحوب: رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء اللفظ هكذا: (صاحبه).
لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم آلاف الأصحاب لو أقسم أحدهم على الله تعالى لأبره، فلم يختر ربنا أحداً منهم يشرفه في القرآن كله بإضافته إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه التسمية غير أبي بكر. فيالها من مزية تفرد بها! ويا له من شرف تناهى وما انتهى!.
إن كل فضيلة تعلقت بالصحبة فأبو بكر أولى بها، وله منها السهم الأوفر؛ لأنه الفائز بلقب الصاحب في القرآن دون بقية الأصحاب.
لو كان لملك من الملوك عشرة وزراء، فأطلق على واحد من بينهم فقط لقب (وزير الملك) وكتب في ذلك مرسوماً ملكياً وأعلنه على الملأ، فإن الناس جميعاً سيعلمون أن هذا الوزير هو المقدم على بقية الوزراء، وإلا لما أفرده من بينهم بهذا اللقب مع أنهم جميعاً وزراؤه.
ومن هنا جاءت أفضلية الصديق على بقية الأصحاب بما فيهم عمر وعثمان وعلي؛ لأنه المختص من بينهم في القرآن بلقب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هو الأولى من صاحب النبي صلى الله عليه وسلم بمنصب الإمامة والخلافة؟! فليس عبثاً أن يكرمه الله تعالى فيخصه بلقب: (خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلم يطلق على أحد غيره!
(صاحبه): قبل الإسلام وبعده وفي حياته ومماته صلى الله عليه وسلم.
تفرد أبو بكر الصديق بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام حتى صارت قريش تطلق عليه وعلى محمد لقب (صاحبك) فإذا قالوا لأحدهما: (إن صاحبك قال أو فعل كذا وكذا) لا ينصرف الذهن إلا إلى الآخر! وجاء القرآن شاهداً ومؤكداً إذ أطلق هذا اللفظ (صاحبه) مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون تصريح باسم أبي بكر ولا قرينة لفظية تميزه أو تخصصه، ومع ذلك لم يفهم أحد أو يدع أن المقصود به أحد غيره!
وما ذلك إلا لأن هذا اللقب أو اللفظ قد صار علماً على أبي بكر وحده فلا يحتاج معه إلى اسمه الصريح أو قرينة أخرى تدل عليه·
كان أبو بكر قبل الإسلام صفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصحبه في حله وترحاله، لا يفرق بينهما إلا الليل يأوي فيه كلٌ إلى بيته، واستمرا على هذه الصحبة بعد الإسلام إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، ثم استمرا متجاورين بعد مماتهما إلى اليوم!
تأمل ماذا قالت قريش لأبي بكر يوم صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوتهم إلى الإسلام قالت: لقد جن (صاحبك)، وصبيحة الإسراء قالوا له: اسمع إلى ما يقول (صاحبك)·
ولما عزم على أن يهاجر قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {على رسلك يا أبا بكر لعل الله يجعل لك صاحبا}· حتّى إذا جاءه ليخبره أن الله قد أذن له في الهجرة قال: {الصحبة يا رسول الله!} قال صلى الله عليه وسلم: {الصحبة}.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {ما شعرت قبل ذلك أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي حين أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحبته}.
ألا ما أعظم منزلة هذه (الصحبة)، منزلة تبكي لها الرجال دموعاً! إنها شرف لم يؤثر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً سوى (صاحبه) الذي اختار (صحبته)·
إنها صحبة المصير الواحد في أخطر رحلة وأحرج موقف يخلده الله تعالى قرآناً يتلى: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40]
الصحبة صحبتان:
1- صحبة عارضة؛ لسبب تزول بزواله: كصحبة يوسف عليه السلام لصاحبي السجن، فإنها صحبة فرضها السجن الذي جمعهم، فما إن خرجا حتى نسياه وما ذكره أحدهما إلا بعد بضع سنين! وصحبة الرجلين المذكورين في سورة (الكهف) إذ جمعتهما التجارة، وكان المؤمن ناصحاً لصاحبه مخلصاً في نصيحته فلم يداهنه على كفره، بل بين له حقيقة حاله ودعاه إلى الإيمان بصراحة ووضوح، وهذا هو الواجب في حقه، وهو خير -ألف مرة- من آخر يصحب كافراً طيلة حياته فلا ينصحه ولا يدعوه إلى ترك ما هو عليه وتستمر الصحبة إلى الممات وهو يجامله ويداريه، فكيف يتصور مثل هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع (صاحبه)!!
ألا ساءت الظنون وانتكست القلوب!
وكما فعل الرجل المؤمن مع صاحبه الكافر من الدعوة والنصيحة كذلك فعل يوسف عليه السلام مع صاحبيه إذ قال: ((ياصَاحِبَىِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)) [يوسف:39-40].
2- صحبة لازمة؛ لاستنادها إلى سبب دائم لا يزول: كصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولو كانت كصحبة الرجلين في سورة الكهف -كما يقول المتهوكون [انظر مثلاً ((تفسير عبد الله شبر)) عند تفسير آية الغار في سورة التوبة]- لانقطعت وما دامت إلى الأبد، ثم كيف يساء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أيتخذ النبي له صاحباً ثم لا يكون هو خير الأصحاب! ألا يحسن صلى الله عليه وسلم الاختيار؟ أم اختار لأسباب دنيوية عارضة؟ فكيف دامت صحبتهما طيلة هذه المدة وهو لا ينصحه ولا يردعه! أرأيت رجلاً مصاحباً لرجل صحبة دامت سنين طويلة ثم تبين لك أن مصالح دنيوية جمعت بينهما، وأن الرجل الثاني كان سيئاً في ذاته وأخلاقه ونواياه دون أن يكون ذلك السوء سبباً دافعاً لصاحبه أن يردعه أو ينصحه أو يتركه -على الأقل-؟ ألا تشك في صلاح الأول؟
أهكذا الظن بصفوة الرسل وخيرة الخلق وهو القائل: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي؟!) وليس المقصود بالنهي الصحبة العارضة.
لقد كانت صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لـ (صاحبه) صحبة الدين والغايات العظيمة السامية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن}.
وكذلك هي صحبة المشابهة والمشاكلة النفسية والأخلاقية والفكرية -ولابد- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف}.
ولذلك اختاره رفيقاً له في الهجرة و(صاحباً) يؤنس وحدته ويبدد وحشته، ولولا هذه المشابهة والمشاكلة، والراحة والميول النفسية المتبادلة لما اختار صحبته في تلك الرحلة الخطرة الموحشة·
إن المسافر سفراً عادياً يستغرق ساعة أو ساعتين لا يطيق أن يصحب في سفره القصير هذا إلا من ترتاح إليه نفسه ويطمئن فؤاده، فكيف برحلة شاقة عصيبة طالت أياماً، ثلاثاً منه في غار موحش في جبل منقطع عن العمران!
إنها صحبة رجل الملمات والمهمات الصعبة، كما هي صحبة الإنسان للإنسان الذي ترتاح إليه النفس، وتأوي إليه آمنة مطمئنة. وإلا فإن الأمر كما قال الشاعر العربي:
وقائل كيف تفارقتما فقلت قولاً فيه إنصافُ
لم يك من شكلي ففارقته والناس أشكال وآلافُ
ولو لم يكن أبو بكر رضي الله عنه من شكل النبي صلى الله عليه وسلم لما كانت صحبتهما صحبة العمر كله، بل صحبة استفرغت الحياة ثم اتصلت بعد الممات!
آثار الصحبة:
للصحبة آثارها في أخلاق الأصحاب وسلوكهم نتيجة تفاعل الصاحب مع صاحبه وتأثره بأخلاقه وتصرفاته· وكلما كانت الصحبة أصدق، والنفس أصلح وأكثر استعداداً للتأثر تجلت أخلاق الصاحب في صاحبه أكثر، حتى يمكن أن يكون صورة أخرى له تعكس ما في صورة الأصل من قسمات وملامح؛ لأن الأثر يعتمد على قوة المؤثر وعلى مدى صلاحية المحل للتأثر.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).
ويقول الشاعر العربي القديم:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
برزت آثار صحبة الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم واضحة المعالم في علمه وإيمانه وفي سلوكه وأخلاقه، وكانت معالم هذه الآثار من البروز والوضوح ما يشكل دليلاً على صدق هذه الصحبة وقوة عراها وسمو مقاصدها وعلو منزلتها.
وسأتكلم بإيجاز عن هذه الآثار مرةً عن تجلياتها في علم الصديق وإيمانه، ومرةً عنها في أخلاقه وسلوكه.
علم الصديق وإيمانه
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة.
ومن الأدلة على ذلك تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه ليصلي بالناس في مرض موته، ولولا هذه (الأعلمية) لما قدمه عليهم وفيهم خيرة السابقين الأولين: كعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي عبيدة بن الجراح، وعلي وطلحة، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأمثالهم رضي الله عنهم.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فأبو بكر هو الأقرأ -بين الصحابة- لكتاب الله بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وتزكيته العملية· وكفى بذلك شهاة وتزكية!
والأقرأ في لغة النبي صلى الله عليه وسلم تعني: الأعلم فإنهم كانوا يسمون العلماء أو الفقهاء بـ (القراء)·
وقد تجلى علمه رضي الله عنه في المواقف الحرجة التي تذهب بألباب الحكماء، ويحتار عندها الحلماء!
فمن تجليات علم الصديق -التي فاق فيها الأقران- ما كان يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختلفوا في موته: هل مات حقاً أم لا؟ وكانوا مضطربين مذهولين لا يعرفون كيف يعالجون الموقف، وقد غص المسجد بالناس وعمر بن الخطاب يلوح بسيفه وقد طاش عقله من الهول ويقول: {من قال أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات قتلته بسيفي}! وعثمان وعلي أقعدا يبكيان لا يستطيعان القيام!
الكل في (حيص بيص) وليس من منقذ!
حتى إذا جاء كبيرهم وإمامهم؛ رجع كل شيء إلى مكانه، وانتظم عقد أمورهم كأنهم كانوا معه على ميعاد! هدأت الأرواح، وخشعت الأصوات، واشرأبت الأعناق، وتعلقت الأبصار بهذا الذي ارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصارت الأسماع تتلهف إلى سماع ما يقول ويقرر ويحكم فيفصل!
وبكلمة واحدة وآية واحدة أزال الاضطراب وعالج الموقف!
أما الكلمة فقوله: {أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات!! ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت}.
وأما الآية فقوله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ)) [آل عمران:144] تلاها عليهم فإذا بهم يرددونها خلفه كأنها نزلت لتوها أو كأنهم لم يسمعوا بها من قبل!!
يقول عمر: {ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي}.
اختيار الصديق للآية دليل على عظيم فقهه ودقة نظره.
إن اختيار أبي بكر رضي الله عنه لهذه الآية في هذا الموقف دليل على عظيم فقهه وعلمه ودقة نظره وبعد غوره، إنها الآية التي نزلت -قبل بضع سنين- علاجاً لموقف مشابه تعرض له الأصحاب في (أحد) يوم أشيع أن محمداً قد قتل! فحصل ما حصل من الاضطراب والانكسار -على ما هو مفصل في كتب السيرة- فنزلت الآية تعالج هذا الخلل الذي تكرر يوم مات محمد صلى الله عليه وسلم حقاً، فعالج الصديق الداء نفسه، بالدواء نفسه فكان الشفاء التام بإذن الله، وتجاوز الصحابة الموقف حين سمعوا الآية تتلى عليهم، فتذكروا ما حصل لهم يوم أحد، فكانت استجابتهم سريعة استفادة من تجربة سابقة مشابهة أعادها إلى أذهانهم ذكاء الصديق حية حاضرة حين طرق أسماعهم بتلك الآية العظيمة الباهرة، و{المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين}!
لقد كان عمر وعثمان وعلي وغيرهم يحفظون الآية، ويرون الخلل ويعيشون الموقف، فلماذا لم يرتق واحد منهم المنبر ليتلو الآية ويتكلم بما يناسب المقام لتلتئم الأمور وتستقر الحال؟
لم يكن واحد منهم هو صاحب الموقف، الكل يشعر ويعلم أنه (ليس لها) وأبو بكر في الوجود، فهم ينتظرونه كما ينتظر أفراد العائلة كبيرهم الغائب ويترقبون مجيئه عند موت والدهم فلا يجرؤ أحد على حسم الأمور والبت فيها دونه·
أبو بكر الصديق عاش للأمة:
وحين تستعيد الموقف تجد أن الكل عاش عواطفه وأحاسيسه الخاصة وعبر عنها كما يشاء، إلا أبا بكر! فإنه كتم عواطفه وكانت أرقها، وأحاسيسه وكانت أرهفها، وانفعالاته وكانت في أوج ثورانها!
إن الفقيد (صاحبه)!!
لقد تصرف كما يتصرف كبير العائلة عندما تفقد ربها فيتصبر ويتجمل ويتظاهر بالجلد، وإن كان أكثرهم تأثراً وأعظمهم مصيبة! لماذا؟ حتى لا تنهار العائلة·
كل فرد منهم يعيش لنفسه وعواطفه: هذا يبكي، وهذا يصرخ، وذلك قاعد منزوٍ، وغيره يلطم، وآخر يهتف، إلا كبيرهم فإنه يعيش لهم فهو لا يفعل مثلهم!
وكذلك فعل أبو بكر!
لقد عاش ساعتها للأمة كي لا تنهار، ولو رأيته لرأيت ((الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)) [النمل:88] ولولا ذلك لاستمر الاضطراب واشتدت دوامة الحزن فعصفت بالأمة فلم تفق إلا على الأنصار، وقد بايعوا وانفردوا بالأمر ووقعت الواقعة!
أبو بكر الصديق رجل المواقف الصعبة:
لكن أبا بكر حسم الأمرين معاً، ولو تأخر حسم الأمر الأول لما حسم الأمر الثاني لصالح المهاجرين.
فما أن انتهى أبو بكر من علاج الموقف الأول حتى سارع -وقد جاءه الخبر بأن إخوانهم الأنصار قد اجتمعوا ليبايعوا سعد بن عبادة رضي الله عنه- ليعالج الموقف الذي استجد وكان أكبر من سابقه.
وكان لعلمه رضي الله عنه بالنفوس وفن التعامل معها، والقلوب وكيف يتمكن منها، وعلمه بالشرع أصولاً وفروعاً، ومعرفته بكيفية صياغة القول وإلقاء الخطاب، ولسابقته و(صحبته) الدور الفاعل في حسم أكبر مشكلة تواجه الدول الناشئة وتهددها بالزوال أو الانقسام، وهي ولاية الأمر بعد المؤسس الذي غادر الحياة.
وكان مما قاله في السقيفة المباركة: {يا معشر الأنصار! إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش، هم أوسط العرب داراً ونسباً.
لقد سماكم الله في كتابه بالمفلحين وسمانا بالصادقين، والله يقول: ((يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّـادِقِينَ)) [التوبة:119] فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، وإني رضيت لكم أحد هذين الرجلين} وأخذ بيدي عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، لكن عمر حسم الأمر فقام وقال لأبي بكر: {ابسط يدك أبايعك} وبسط يده فبايعه وتتابع على ذلك سائر الناس.
الصديق وخلافة علي:
وعادت الأمور إلى نصابها فكانت الخلافة في المهاجرين، والوزارة في الأنصار، وصارت سنة ماضية لا يعترض عليها أحد، ولولا أبو بكر لكانت الخلافة في الأنصار -هذا إذا بقيت خلافة- ولما وصلت إلى عمر، ولا كان علي في يوم من الأيام خليفة على المسلمين! فجزاه الله عن علي وعمر وعثمان وعموم المهاجرين وجميع الأمة خير الجزاء.
الرجال بالمواقف لا العواطف:
إن الرجال لا تقاس بالانفعال والعواطف وإنما بالفعال والمواقف، ولولا موقف أبي بكر عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما استفادت الأمة مثقال جناح بعوضة من عواطف عمر ودموع علي، ولكانت البيعة في الأنصار، ولاضطربت الأمور واختلف الناس! لا سيما وأن أكثر القبائل أعلنت العصيان ووقع بعضها في الارتداد، وتململ الروم واستغل الفرس الفرصة فعبروا الخليج ودخلت جيوشهم البحرين وانضمت إلى تحشدات المرتدين.
ولولا أن من الله على الأمة بأبي بكر لتصدع بناؤها وانهارت وحدتها وصارت طعمة للطامعين. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلما تذكر ذلك يقول: {لولا أبو بكر لهلك عمر}. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول فيه: {لو وضع إيمان أبي بكر في كفة وإيمان الأمة في كفة لرجحت كفة أبي بكر}!
نعم! لقد كانت الأمة يومها أبا بكر وكان أبو بكر هو الأمة، فلو ضعف أو تردد أو التبست عليه الأمور لانهارت الأمة وتفتتت وصارت في خبر كان!
قتال المرتدين ومانعي الزكاة:
والموقف الثالث العويص: فقهياً، والعصيب: عملياً وعسكرياً -الذي تجلى فيه علم أبي بكر كالبدر يجلو الليلة الظلماء، وإيمانه كالجبال التي لا تهزها الأعاصير- هو يوم أن عارضه الصحابة في قتال مانعي الزكاة!
قال له عمر: {كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم نفسه وماله إلا بحقه؟! فقال أبو بكر: والزكاة حق المال، والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة حتى لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه حتى يؤدوه، ثم تلا قوله تعالى: ((فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ)) [التوبة:5]}. لقد استند أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى النصوص القرآنية وفهم من الحديث النبوي مالم يفهمه من وقف عند ظاهره، فغاص فيه واستخرج من جواهره وإن لم تكن قريبة المنال!
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عظماء المجتهدين الذين تميزوا في صدر الأمة، وهو محدث مسدد بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد احتج بحديث حسبه له فإذا به يكون عليه! فيا لأبي بكر من رجل يقلب حجة عالم مجتهد كعمر، فإذا بها ترتد عليه وقد كانت سلاحاً في يديه!
نظر بعيد في الدين والسياسة:
لقد كان الصديق -وهو يتخذ قراره العسكري بقتال مانعي الزكاة وعدم التفريق بينهم وبين المرتدين- بعيد النظر من الناحيتين الدينية والسياسية!
إن التساهل في ترك ركن من أركان الإسلام يؤدي - ولا بد - إلى ترك ركن آخر احتجاجاً بالأول، وهكذا سيأتي جيل يترك الصيام، وآخر يترك الصلاة، ورابع يترك الحج والجهاد··· إلخ، فإذا بالدين قد انهدم، فلا بد من سد باب الفتنة وبابها، وعدم إقرارهم على ترك أداء الزكاة هذا من الناحية الدينية.
وللزكاة جانب سياسي لا يخفى على رجال الحكم والسياسة.
إن لكل حكومة على رعيتها التزاماً مالياً اعترافاً بنظامها السياسي، وإن الامتناع عن أدائه إعلان عن العصيان والتمرد على النظام وعدم الاعتراف به، ولا قيمة لرعية أو شعب هذه علاقته مع حكومته.
لقد كان الصديق -وهو التلميذ النجيب لأعظم حاكم سياسي في التاريخ- يدرك تماماً أن الامتناع عن أداء الزكاة إعلان عن عدم اعتراف الممتنعين بالنظام السياسي لحكومته، فإذا أقرهم عليه فقدت حكومته هيبتها، وكانت الرعية الممتنعة أكثر جرأة على عصيانه في أمور أخرى لا سيما الجهاد وقتال الكافرين، وهكذا تنهار الحكومة وتتفكك الدولة، بعد أن انهار الدين وانهدمت أركانه!
لقد أدرك الصديق ذلك كله بثاقب نظره، فلم تستفزه المصالح الوقتية القريبة عن المصالح الحقيقة الدائمة، وما ذلك إلا لرسوخ علمه وقوة إيمانه الذي تميز به على بقية الأصحاب، فمن منهم أولى منه بالحكم وإدارة شئون الخلافة والسياسة؟!
وهكذا استطاع أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يقضي على أكبر فتنة عصفت بالأمة، فتنة الارتداد والعصيان والحروب الأهلية، ولو فشل في القضاء عليها لانطلقت من عقالها ودمرت كل شيء. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: {لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن منَّ الله علينا بأبي بكر} لكن الأمة -بحكمة أبي بكر، وثاقب نظره، وعلو همته، وشدة عزيمته، وقوة إيمانه ويقينه بربه- خرجت من هذه الفتن سليمة معافاة قوية متحدة بحيث تمكنت بعد ذلك مباشرة من أن تضرب أكبر إمبراطوريات العالم آنذاك فارس فتدكها وتهدمها و(الروم) فتقهرها وتهزمها!!
لقد أجمع المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم على بيعة الصديق وإمامته، وإجماع المهاجرين والأنصار حجة شرعية كاشفة عن مراد الله تعالى ورضاه.
لقد أوجب الله تعالى على أجيال الأمة جميعاً اتباع المهاجرين والأنصار، فقال: ((وَالسَّـابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالأَنْصَـارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ)) [التوبة:100].
وحذر من مخالفتهم فقال: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً)) [النساء:115].
إن الإجماع عموماً حجة شرعية فكيف بإجماع من نصَّ الله على وجوب اتباعهم وحرمة مخالفتهم وشهد على صدق إيمانهم، فقال: ((وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) [الأنفال:74].
موقف علي من بيعة الصديق:
وإذا كان الإمامية يشترطون للإجماع وجود (المعصوم) فإن علياً رضي الله عنه -الذي يعتقدون عصمته- كان ضمن المجمعين على بيعة الصديق رضي الله عنه فبيعته شرعية على قول الجميع.
وتخلف واحد أو اثنين ليس حجة على المجموع، بل المجموع حجة على المخالف، ومخالفته شذوذ واتباع لغير سبيل المؤمنين.
والذي عليه المحققون أن بيعة الصديق رضي الله عنه لم يتخلف عنها أحد، حتى علي إنما تأخر هو والزبير رضي الله عنهما بعض الوقت لكونهما أُخرا عن الشورى، وعذر أبي بكر رضي الله عنه أن الظرف لم يسعفه لذلك، وإلا حسم الأمر لصالح الأنصار، ثم بايع علي وتابع، والراجح أن هذه البيعة تجديد وتأكيد للبيعة الأولى، ومهما كان فإنه بايع آخر الأمر والأمور بخواتيهما.
موقف سعد بن عبادة من بيعة الصديق:
وأما سعد بن عبادة رضي الله عنه فقد بايع أيضاً، وما قيل من عدم ذلك؛ فإنه لم يثبت، وإنما هو من وضع الرواة، ولو صح؛ فالحجة على من لم يبايع - كائناً من يكون - وليست له· ولقد تخلف عن بيعة علي رضي الله عنهم كثير من الصحابة رضي الله عنه وليس ذلك بضائره؛ لأن الإجماع ليس شرطاً في البيعة، ولكن إذا حصل كان حجة واضحة ملزمة ودلالة كاشفة عن رضاء الله تعالى، كما هي الحال في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان؛ لأن الله لا يجمع أمة الإسلام على ضلالة، والإجماع حجة شرعية.
الشورى للمهاجرين والأنصار:
وقد لخص ذلك سيدنا علي رضي الله عنه بقوله:
{إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه؛ فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل، وسموه إماماً؛ كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى} [(نهج البلاغة) (3/7)].
وليس ذلك -كما يقول البعض- موضوعاً لحجة الخصم من باب إبطال حجته بإلزامه بما يلزم به نفسه؛ لأن علياً رضي الله عنه يقول في النص: {وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا} والقول بأن الله راض عمن أجمع عليه المهاجرون والأنصار لا يمكن أن يصدر مجاراة وإلزاماً، وإنما اعتقاداً والتزاماً، فكيف إذا أكده بذكر ترتيب العقوبة الشديدة المغلظة (القتل) على الخارج الطاعن في بيعة من أجمعوا على بيعته: {فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه -على ماذا؟- على اتباعه غير سبيل المؤمنين} أي: المهاجرين والأنصار.
حقائق عظيمة من كلام الإمام علي:
وفي هذا النص تتأكد جملة حقائق عظيمة هي:
1- صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.
2- لأنها تمت بإجماع المهاجرين والأنصار.
3- أن إجماع المهاجرين والأنصار دليل كاشف عن رضاء الله تعالى وإرادته الشرعية.
4- أن من شذ ممن شهد أو غاب -في ذلك الجيل وكل جيل- فخالف، لا يعتد بخلافه، أي: أن خلافه غير معتبر.
5- أن الطاعن في خلافتهم متبع غير سبيل المؤمنين وخارج عن أمر المسلمين.
6- أن الطاعن في خلافتهم يدعى ويرشد ويستتاب، فهو متهم ومرتكب جريمة يجب أن يرجع عنها، ولا يصح أن يتخذ قدوة ومرشداً.
7- أن من أصر على هذه الجريمة بعد البيان يقاتل.
8- أن إرجاع هؤلاء الخارجين المارقين إلى الحق واجب على الأمة حتى لو استلزم القتال.
9- أن الخلافة وتنصيب الإمام بالشورى، وليس بالنص الإلهي.
10- أن الشورى للمهاجرين والأنصار.
11- أن إجماع المهاجرين والأنصار حجة شرعية.
12- عدم وجود نص إلهي في إمامة علي، وكل ما قيل من ذلك فهو من تلفيق الرواة وصنع البغاة.
13- أن مصطلح (إمام) و(وإمامة) -عند الإمامية- أمر محدث مخترع لم يستعمله علي ولم يعرفه، إذ الإمام عند علي يعين بالاختيار البشري وليس بالوصية أو النص الإلهي: {فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً} وهذا مخالف لما عند الإمامية تماماً.
14- أن طعن الإمامية بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان باطل، بل جريمة عظيمة تستحق أقسى العقوبات.
15- أن هذا الطعن مخالف لحكم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. [يحتج البعض بأن هذا مخالف لما ورد في كتاب (نهج البلاغة) من قدح أو ذم للخلفاء الراشدين الثلاثة مثل الخطبة المسماة بـ (الشقشقية) ويتخذ من ذلك وسيلة لإغماض الطرف عن هذا النص وأمثاله في مدحهم وتوثيقهم! والرد على ذلك بما يلي:
أ- أن كتاب (نهج البلاغة) ليس معصوماً من الزيادة والنقصان، بل فيه من ذلك الكثير -ولا بد- وإلا كان كالقران!
ب- أن هذا الكتاب نصوصه جميعاً بلا استثناء مرسلة لا أسانيد لها، وبين جمعها ووفاة علي رضي الله عنه أكثر من ثلاثة قرون ونصف! فإن الشريف الرضي ذكر في المقدمة أنه انتهى من جمعها سنة (400هـ) وعلي توفي سنة (40هـ)! وذكر أيضاً أن ما وجده من ذلك على ألسنة الناس مختلف شديد الاختلاف، وهذا يعني أن الكتاب ضعيف من حيث الإجمال، لأن المرسل ـ حسب قواعد علم الحديث ـ أحد أنواع الضعيف، وهو قول الإمامية أيضاً المقرر في أصولهم·
فلا بد من تحقيق النصوص إذا أردنا الاعتماد·
ولم أجد أحداً من الذين وثقوا الكتاب اتبع الأسلوب العلمي المجرد عن العاطفة في توثيقه له· وذلك لا يجدي في باب العلم، وإنما يسوغ في مجال الدعاية اعتماداً على ما في نفس القارئ من مشاعر وعواطف لا استناداً على ما في باب العلم من أصول وقواعد·
والذي يلزم الباحث في هذا الفن أن ينقب عن سند لكل نص ثم يقوم بتحقيقه طبقاً لقواعد علم الحديث أو الرواية توصلاً إلى صحته أو ضعفه، وهذا ما لم يفعله كل الذين حاولوا ـ عبثاً ـ توثيق الكتاب· فتوثيقهم -إذاً- ليس برهانياً علمياً وإنما خطابياً دعائياً لا أكثر· فالأصل في الكتاب الضعف حتى يثبت العكس·
ج- إن الخطبة الشقشقية وما في موضوعها مما ورد في الكتاب يتناقض مع هذا النص وأمثاله وهو كثير، والجمع بين النقيضين لا يمكن عند العقلاء. فلا بد من طرح أحدهما إذا أردنا التمسك بالآخر. ولكن ليس بالهوى والعاطفة فيقال بأن هذا النص يخالف الخطبة الشقشقية فهو مرفوض؛ لأن هذا ليس بأولى من قولنا بأننا نرفض الخطبة الشقشقية لمخالفتها لهذا النص.
د- أن طرحنا لهذه (الشقشقيات) وجزمنا بوضعها واختلاقها ليس عاطفياً دعائياً، وإنما يعتمد على قاعدة راسخة ألا وهي: أن كل ما خالف القرآن باطل، وهو ما جاء منصوصاً عليه في مصادر الإمامية منقولاً عن الإمام جعفر بن محمد رضي الله عنه أنه قال: [ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه]·
وحاشا علياً أن يخالف كتاب الله هذه المخالفة ويطعن في خيرة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين قال الله عنهم: ((والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم)) [الأنفال: 74]·
وقال تعالى آمراً باتباعهم: ((والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات)) [التوبة:100]، وحذر من مخالفتهم فقال: ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولَّى ونُصْله جهنم وساءت مصيراً)) [النساء: 115] .
وقد بايع علي لهم ونصح وتابع ولم يكن مداهناً ولا منافقاً·
هـ- أن الاستشهاد اعتضاداً لا اعتماداً بما في (نهج البلاغة) وغيره مما يوافق القرآن أو لا يخالفه ليس فيه ضير أو ضرر على الدين بل العكس هو الصحيح، فكان استشهادنا بهذا النص من هذا الباب المشروع].
لقد انعقد الإجماع التام على بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وهذا دليل على أنه أفضل الأمة وأولى الصحابة رضي الله عنهم بالإمامة، وإلا فلو رأوا غيره هو الأولى لقدموه. فلما أجمعوا على بيعته -وإجماعهم حجة- دل ذلك على أنه الأفضل والأولى بالإمامة والخلافة، لا سيما وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه للصلاة إماماً بالمسلمين في مرضه الأخير قبل وفاته وهذه تزكية ما بعدها مثلها؛ لأنها صادرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، ولهذا قال علي والزبير رضي الله عنهما: {إنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار ثاني اثنين، ولقد أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة وهو حي} [(شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (1/332)].
التفريق بين أبي بكر وعلي:
والفرق واضح بين الخليفتين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما في تحقق الإجماع! إذ أن الإجماع قد انعقد على أبي بكر دون علي الذي لم يبايعه بعضهم وبايع بعضهم مكرهاً وبايع آخرون لكنهم اعتزلوا، وكلهم مجتهد في طلب الحق فمخطىء ومصيب، والكل مغفور له مأجور: ((وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِـالإَيمَـانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) [الحشر:10].
ثانياً: خصائص الصديق
وهي فضائله التي اختص بها دون باقي الصحابة فهي بمثابة خصائص لا مناقب يشاركه فيها الآخرون؛ فهو لذلك أفضل الصحابة شاركهم في فضائلهم وتفرد عنهم بما اختص به دونهم.
من هذه الخصائص:
أول الناس إسلاماً:
لا شك أن السبق المجرد لا مزية له ما لم يقترن به المقصود منه، ألا وهو استغلال وقت السبق في العمل مما يعطيه الأولوية عند المقارنة بمن تأخر.
فإذا عمل المتأخر أكثر وأنفع كان له الفضل وإن تأخر زمن نزوله إلى الميدان؛ لذلك قد يتخلف السابق ويتقدم اللاحق.
القول بأن علياً أول الناس إسلاماً:
إن القول بأن علياً أسلم قبل أبي بكر أو أن أبا بكر أسلم قبل علي، وبعضهم يلجأ إلى حل وسط، فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، وأول من أسلم من الصبيان علي، لا معنى له غالباً إلا الجدل الفارغ ولا قيمة -له في الميزان- كبيرة؛ لأن الأفضلية والقيمة للعمل لا للزمن المجرد.
ولذلك حينما ذكر الله تعالى فضل من آمن قبل الفتح على من تأخر من بعده لم يعلق الفضل بمجرد السبق في الزمن، وإنما علقه بالعمل الذي هو الإنفاق والقتال، فقال: ((لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَـاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) [الحديد:10] وإلا فإن بعض المسلمين سبق في إسلامه الفتح لكنه لم يهاجر ولم ينفق ولم يقاتل وهؤلاء قال الله عنهم: ((وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)) [الأنفال:72].
لقد أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنهم أول الناس إسلاماً نفع الدين، وكذلك الأمة أعظم النفع، فكان أول داع في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلم على يده وجوه المجتمع وصناديده، وأول خطيب، ودافع عن النبي صلى الله عليه وسلم بيده ولسانه فضرب ضرباً شديداً حتى سقط -لا يشك أحد في موته- وبذل ماله كله في نصرة الدين وقضاء حوائج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفرغ للدعوة والتبليغ، فكان أحق الناس بقوله تعالى: ((لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً ))[الحديد:10] الآية، وأحق الناس بموضع منة الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ)) [الشرح:1-3]
فيه شرح الله صدر نبيه وخفف عنه حمله الذي كاد يقصم ظهره. نعم أسلم علي رضي الله عنه في اليوم الأول لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان في بيته، لكنه كان صبياً في الثامنة أو العاشرة -في رأي- ولم يكن قادراً على الدفاع عنه بيد أو لسان، وليس عنده من مال بل كان هو نفسه في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم مادياً ومعنوياً يأكل في بيته ويأوي إليه ويلبس مما ينفقه عليه، فهو أحد هموم النبي صلى الله عليه وسلم·
ولذلك نزل في حق الصديق رضي الله عنه من الآيات ما لم ينزل في حق غيره.
الآيات التي نزلت في الصديق:
نزلت في حق الصديق رضي الله عنه آيات كثيرة منها:
آية الغار وفيها فضائل لأبي بكر:
نزلت فيه رضي الله عنه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشركهما في شرفها وفضلها أحد من الأمة أو الصحابة رضي الله عنهم.
يقول تعالى: ((إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [التوبة:40].
وفي هذه الآية من الفضائل التي اختص بها أبو بكر الصديق ما لا يحصى، منها:
اختصاصه بلقب (صاحبه):
ففي الآية الكريمة يتفرد الصديق بلقب (الصاحب) المضاف إلى أشرف مصحوب: رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء اللفظ هكذا: (صاحبه).
لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم آلاف الأصحاب لو أقسم أحدهم على الله تعالى لأبره، فلم يختر ربنا أحداً منهم يشرفه في القرآن كله بإضافته إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه التسمية غير أبي بكر. فيالها من مزية تفرد بها! ويا له من شرف تناهى وما انتهى!.
إن كل فضيلة تعلقت بالصحبة فأبو بكر أولى بها، وله منها السهم الأوفر؛ لأنه الفائز بلقب الصاحب في القرآن دون بقية الأصحاب.
لو كان لملك من الملوك عشرة وزراء، فأطلق على واحد من بينهم فقط لقب (وزير الملك) وكتب في ذلك مرسوماً ملكياً وأعلنه على الملأ، فإن الناس جميعاً سيعلمون أن هذا الوزير هو المقدم على بقية الوزراء، وإلا لما أفرده من بينهم بهذا اللقب مع أنهم جميعاً وزراؤه.
ومن هنا جاءت أفضلية الصديق على بقية الأصحاب بما فيهم عمر وعثمان وعلي؛ لأنه المختص من بينهم في القرآن بلقب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هو الأولى من صاحب النبي صلى الله عليه وسلم بمنصب الإمامة والخلافة؟! فليس عبثاً أن يكرمه الله تعالى فيخصه بلقب: (خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلم يطلق على أحد غيره!
(صاحبه): قبل الإسلام وبعده وفي حياته ومماته صلى الله عليه وسلم.
تفرد أبو بكر الصديق بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام حتى صارت قريش تطلق عليه وعلى محمد لقب (صاحبك) فإذا قالوا لأحدهما: (إن صاحبك قال أو فعل كذا وكذا) لا ينصرف الذهن إلا إلى الآخر! وجاء القرآن شاهداً ومؤكداً إذ أطلق هذا اللفظ (صاحبه) مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون تصريح باسم أبي بكر ولا قرينة لفظية تميزه أو تخصصه، ومع ذلك لم يفهم أحد أو يدع أن المقصود به أحد غيره!
وما ذلك إلا لأن هذا اللقب أو اللفظ قد صار علماً على أبي بكر وحده فلا يحتاج معه إلى اسمه الصريح أو قرينة أخرى تدل عليه·
كان أبو بكر قبل الإسلام صفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصحبه في حله وترحاله، لا يفرق بينهما إلا الليل يأوي فيه كلٌ إلى بيته، واستمرا على هذه الصحبة بعد الإسلام إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، ثم استمرا متجاورين بعد مماتهما إلى اليوم!
تأمل ماذا قالت قريش لأبي بكر يوم صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوتهم إلى الإسلام قالت: لقد جن (صاحبك)، وصبيحة الإسراء قالوا له: اسمع إلى ما يقول (صاحبك)·
ولما عزم على أن يهاجر قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {على رسلك يا أبا بكر لعل الله يجعل لك صاحبا}· حتّى إذا جاءه ليخبره أن الله قد أذن له في الهجرة قال: {الصحبة يا رسول الله!} قال صلى الله عليه وسلم: {الصحبة}.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {ما شعرت قبل ذلك أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي حين أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحبته}.
ألا ما أعظم منزلة هذه (الصحبة)، منزلة تبكي لها الرجال دموعاً! إنها شرف لم يؤثر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً سوى (صاحبه) الذي اختار (صحبته)·
إنها صحبة المصير الواحد في أخطر رحلة وأحرج موقف يخلده الله تعالى قرآناً يتلى: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40]
الصحبة صحبتان:
1- صحبة عارضة؛ لسبب تزول بزواله: كصحبة يوسف عليه السلام لصاحبي السجن، فإنها صحبة فرضها السجن الذي جمعهم، فما إن خرجا حتى نسياه وما ذكره أحدهما إلا بعد بضع سنين! وصحبة الرجلين المذكورين في سورة (الكهف) إذ جمعتهما التجارة، وكان المؤمن ناصحاً لصاحبه مخلصاً في نصيحته فلم يداهنه على كفره، بل بين له حقيقة حاله ودعاه إلى الإيمان بصراحة ووضوح، وهذا هو الواجب في حقه، وهو خير -ألف مرة- من آخر يصحب كافراً طيلة حياته فلا ينصحه ولا يدعوه إلى ترك ما هو عليه وتستمر الصحبة إلى الممات وهو يجامله ويداريه، فكيف يتصور مثل هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع (صاحبه)!!
ألا ساءت الظنون وانتكست القلوب!
وكما فعل الرجل المؤمن مع صاحبه الكافر من الدعوة والنصيحة كذلك فعل يوسف عليه السلام مع صاحبيه إذ قال: ((ياصَاحِبَىِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)) [يوسف:39-40].
2- صحبة لازمة؛ لاستنادها إلى سبب دائم لا يزول: كصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولو كانت كصحبة الرجلين في سورة الكهف -كما يقول المتهوكون [انظر مثلاً ((تفسير عبد الله شبر)) عند تفسير آية الغار في سورة التوبة]- لانقطعت وما دامت إلى الأبد، ثم كيف يساء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أيتخذ النبي له صاحباً ثم لا يكون هو خير الأصحاب! ألا يحسن صلى الله عليه وسلم الاختيار؟ أم اختار لأسباب دنيوية عارضة؟ فكيف دامت صحبتهما طيلة هذه المدة وهو لا ينصحه ولا يردعه! أرأيت رجلاً مصاحباً لرجل صحبة دامت سنين طويلة ثم تبين لك أن مصالح دنيوية جمعت بينهما، وأن الرجل الثاني كان سيئاً في ذاته وأخلاقه ونواياه دون أن يكون ذلك السوء سبباً دافعاً لصاحبه أن يردعه أو ينصحه أو يتركه -على الأقل-؟ ألا تشك في صلاح الأول؟
أهكذا الظن بصفوة الرسل وخيرة الخلق وهو القائل: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي؟!) وليس المقصود بالنهي الصحبة العارضة.
لقد كانت صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لـ (صاحبه) صحبة الدين والغايات العظيمة السامية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن}.
وكذلك هي صحبة المشابهة والمشاكلة النفسية والأخلاقية والفكرية -ولابد- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف}.
ولذلك اختاره رفيقاً له في الهجرة و(صاحباً) يؤنس وحدته ويبدد وحشته، ولولا هذه المشابهة والمشاكلة، والراحة والميول النفسية المتبادلة لما اختار صحبته في تلك الرحلة الخطرة الموحشة·
إن المسافر سفراً عادياً يستغرق ساعة أو ساعتين لا يطيق أن يصحب في سفره القصير هذا إلا من ترتاح إليه نفسه ويطمئن فؤاده، فكيف برحلة شاقة عصيبة طالت أياماً، ثلاثاً منه في غار موحش في جبل منقطع عن العمران!
إنها صحبة رجل الملمات والمهمات الصعبة، كما هي صحبة الإنسان للإنسان الذي ترتاح إليه النفس، وتأوي إليه آمنة مطمئنة. وإلا فإن الأمر كما قال الشاعر العربي:
وقائل كيف تفارقتما فقلت قولاً فيه إنصافُ
لم يك من شكلي ففارقته والناس أشكال وآلافُ
ولو لم يكن أبو بكر رضي الله عنه من شكل النبي صلى الله عليه وسلم لما كانت صحبتهما صحبة العمر كله، بل صحبة استفرغت الحياة ثم اتصلت بعد الممات!
آثار الصحبة:
للصحبة آثارها في أخلاق الأصحاب وسلوكهم نتيجة تفاعل الصاحب مع صاحبه وتأثره بأخلاقه وتصرفاته· وكلما كانت الصحبة أصدق، والنفس أصلح وأكثر استعداداً للتأثر تجلت أخلاق الصاحب في صاحبه أكثر، حتى يمكن أن يكون صورة أخرى له تعكس ما في صورة الأصل من قسمات وملامح؛ لأن الأثر يعتمد على قوة المؤثر وعلى مدى صلاحية المحل للتأثر.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).
ويقول الشاعر العربي القديم:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
برزت آثار صحبة الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم واضحة المعالم في علمه وإيمانه وفي سلوكه وأخلاقه، وكانت معالم هذه الآثار من البروز والوضوح ما يشكل دليلاً على صدق هذه الصحبة وقوة عراها وسمو مقاصدها وعلو منزلتها.
وسأتكلم بإيجاز عن هذه الآثار مرةً عن تجلياتها في علم الصديق وإيمانه، ومرةً عنها في أخلاقه وسلوكه.
علم الصديق وإيمانه
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة.
ومن الأدلة على ذلك تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه ليصلي بالناس في مرض موته، ولولا هذه (الأعلمية) لما قدمه عليهم وفيهم خيرة السابقين الأولين: كعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي عبيدة بن الجراح، وعلي وطلحة، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأمثالهم رضي الله عنهم.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فأبو بكر هو الأقرأ -بين الصحابة- لكتاب الله بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وتزكيته العملية· وكفى بذلك شهاة وتزكية!
والأقرأ في لغة النبي صلى الله عليه وسلم تعني: الأعلم فإنهم كانوا يسمون العلماء أو الفقهاء بـ (القراء)·
وقد تجلى علمه رضي الله عنه في المواقف الحرجة التي تذهب بألباب الحكماء، ويحتار عندها الحلماء!
فمن تجليات علم الصديق -التي فاق فيها الأقران- ما كان يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختلفوا في موته: هل مات حقاً أم لا؟ وكانوا مضطربين مذهولين لا يعرفون كيف يعالجون الموقف، وقد غص المسجد بالناس وعمر بن الخطاب يلوح بسيفه وقد طاش عقله من الهول ويقول: {من قال أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات قتلته بسيفي}! وعثمان وعلي أقعدا يبكيان لا يستطيعان القيام!
الكل في (حيص بيص) وليس من منقذ!
حتى إذا جاء كبيرهم وإمامهم؛ رجع كل شيء إلى مكانه، وانتظم عقد أمورهم كأنهم كانوا معه على ميعاد! هدأت الأرواح، وخشعت الأصوات، واشرأبت الأعناق، وتعلقت الأبصار بهذا الذي ارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصارت الأسماع تتلهف إلى سماع ما يقول ويقرر ويحكم فيفصل!
وبكلمة واحدة وآية واحدة أزال الاضطراب وعالج الموقف!
أما الكلمة فقوله: {أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات!! ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت}.
وأما الآية فقوله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ)) [آل عمران:144] تلاها عليهم فإذا بهم يرددونها خلفه كأنها نزلت لتوها أو كأنهم لم يسمعوا بها من قبل!!
يقول عمر: {ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي}.
اختيار الصديق للآية دليل على عظيم فقهه ودقة نظره.
إن اختيار أبي بكر رضي الله عنه لهذه الآية في هذا الموقف دليل على عظيم فقهه وعلمه ودقة نظره وبعد غوره، إنها الآية التي نزلت -قبل بضع سنين- علاجاً لموقف مشابه تعرض له الأصحاب في (أحد) يوم أشيع أن محمداً قد قتل! فحصل ما حصل من الاضطراب والانكسار -على ما هو مفصل في كتب السيرة- فنزلت الآية تعالج هذا الخلل الذي تكرر يوم مات محمد صلى الله عليه وسلم حقاً، فعالج الصديق الداء نفسه، بالدواء نفسه فكان الشفاء التام بإذن الله، وتجاوز الصحابة الموقف حين سمعوا الآية تتلى عليهم، فتذكروا ما حصل لهم يوم أحد، فكانت استجابتهم سريعة استفادة من تجربة سابقة مشابهة أعادها إلى أذهانهم ذكاء الصديق حية حاضرة حين طرق أسماعهم بتلك الآية العظيمة الباهرة، و{المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين}!
لقد كان عمر وعثمان وعلي وغيرهم يحفظون الآية، ويرون الخلل ويعيشون الموقف، فلماذا لم يرتق واحد منهم المنبر ليتلو الآية ويتكلم بما يناسب المقام لتلتئم الأمور وتستقر الحال؟
لم يكن واحد منهم هو صاحب الموقف، الكل يشعر ويعلم أنه (ليس لها) وأبو بكر في الوجود، فهم ينتظرونه كما ينتظر أفراد العائلة كبيرهم الغائب ويترقبون مجيئه عند موت والدهم فلا يجرؤ أحد على حسم الأمور والبت فيها دونه·
أبو بكر الصديق عاش للأمة:
وحين تستعيد الموقف تجد أن الكل عاش عواطفه وأحاسيسه الخاصة وعبر عنها كما يشاء، إلا أبا بكر! فإنه كتم عواطفه وكانت أرقها، وأحاسيسه وكانت أرهفها، وانفعالاته وكانت في أوج ثورانها!
إن الفقيد (صاحبه)!!
لقد تصرف كما يتصرف كبير العائلة عندما تفقد ربها فيتصبر ويتجمل ويتظاهر بالجلد، وإن كان أكثرهم تأثراً وأعظمهم مصيبة! لماذا؟ حتى لا تنهار العائلة·
كل فرد منهم يعيش لنفسه وعواطفه: هذا يبكي، وهذا يصرخ، وذلك قاعد منزوٍ، وغيره يلطم، وآخر يهتف، إلا كبيرهم فإنه يعيش لهم فهو لا يفعل مثلهم!
وكذلك فعل أبو بكر!
لقد عاش ساعتها للأمة كي لا تنهار، ولو رأيته لرأيت ((الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)) [النمل:88] ولولا ذلك لاستمر الاضطراب واشتدت دوامة الحزن فعصفت بالأمة فلم تفق إلا على الأنصار، وقد بايعوا وانفردوا بالأمر ووقعت الواقعة!
أبو بكر الصديق رجل المواقف الصعبة:
لكن أبا بكر حسم الأمرين معاً، ولو تأخر حسم الأمر الأول لما حسم الأمر الثاني لصالح المهاجرين.
فما أن انتهى أبو بكر من علاج الموقف الأول حتى سارع -وقد جاءه الخبر بأن إخوانهم الأنصار قد اجتمعوا ليبايعوا سعد بن عبادة رضي الله عنه- ليعالج الموقف الذي استجد وكان أكبر من سابقه.
وكان لعلمه رضي الله عنه بالنفوس وفن التعامل معها، والقلوب وكيف يتمكن منها، وعلمه بالشرع أصولاً وفروعاً، ومعرفته بكيفية صياغة القول وإلقاء الخطاب، ولسابقته و(صحبته) الدور الفاعل في حسم أكبر مشكلة تواجه الدول الناشئة وتهددها بالزوال أو الانقسام، وهي ولاية الأمر بعد المؤسس الذي غادر الحياة.
وكان مما قاله في السقيفة المباركة: {يا معشر الأنصار! إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش، هم أوسط العرب داراً ونسباً.
لقد سماكم الله في كتابه بالمفلحين وسمانا بالصادقين، والله يقول: ((يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّـادِقِينَ)) [التوبة:119] فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، وإني رضيت لكم أحد هذين الرجلين} وأخذ بيدي عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، لكن عمر حسم الأمر فقام وقال لأبي بكر: {ابسط يدك أبايعك} وبسط يده فبايعه وتتابع على ذلك سائر الناس.
الصديق وخلافة علي:
وعادت الأمور إلى نصابها فكانت الخلافة في المهاجرين، والوزارة في الأنصار، وصارت سنة ماضية لا يعترض عليها أحد، ولولا أبو بكر لكانت الخلافة في الأنصار -هذا إذا بقيت خلافة- ولما وصلت إلى عمر، ولا كان علي في يوم من الأيام خليفة على المسلمين! فجزاه الله عن علي وعمر وعثمان وعموم المهاجرين وجميع الأمة خير الجزاء.
الرجال بالمواقف لا العواطف:
إن الرجال لا تقاس بالانفعال والعواطف وإنما بالفعال والمواقف، ولولا موقف أبي بكر عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما استفادت الأمة مثقال جناح بعوضة من عواطف عمر ودموع علي، ولكانت البيعة في الأنصار، ولاضطربت الأمور واختلف الناس! لا سيما وأن أكثر القبائل أعلنت العصيان ووقع بعضها في الارتداد، وتململ الروم واستغل الفرس الفرصة فعبروا الخليج ودخلت جيوشهم البحرين وانضمت إلى تحشدات المرتدين.
ولولا أن من الله على الأمة بأبي بكر لتصدع بناؤها وانهارت وحدتها وصارت طعمة للطامعين. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلما تذكر ذلك يقول: {لولا أبو بكر لهلك عمر}. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول فيه: {لو وضع إيمان أبي بكر في كفة وإيمان الأمة في كفة لرجحت كفة أبي بكر}!
نعم! لقد كانت الأمة يومها أبا بكر وكان أبو بكر هو الأمة، فلو ضعف أو تردد أو التبست عليه الأمور لانهارت الأمة وتفتتت وصارت في خبر كان!
قتال المرتدين ومانعي الزكاة:
والموقف الثالث العويص: فقهياً، والعصيب: عملياً وعسكرياً -الذي تجلى فيه علم أبي بكر كالبدر يجلو الليلة الظلماء، وإيمانه كالجبال التي لا تهزها الأعاصير- هو يوم أن عارضه الصحابة في قتال مانعي الزكاة!
قال له عمر: {كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم نفسه وماله إلا بحقه؟! فقال أبو بكر: والزكاة حق المال، والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة حتى لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه حتى يؤدوه، ثم تلا قوله تعالى: ((فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ)) [التوبة:5]}. لقد استند أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى النصوص القرآنية وفهم من الحديث النبوي مالم يفهمه من وقف عند ظاهره، فغاص فيه واستخرج من جواهره وإن لم تكن قريبة المنال!
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عظماء المجتهدين الذين تميزوا في صدر الأمة، وهو محدث مسدد بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد احتج بحديث حسبه له فإذا به يكون عليه! فيا لأبي بكر من رجل يقلب حجة عالم مجتهد كعمر، فإذا بها ترتد عليه وقد كانت سلاحاً في يديه!
نظر بعيد في الدين والسياسة:
لقد كان الصديق -وهو يتخذ قراره العسكري بقتال مانعي الزكاة وعدم التفريق بينهم وبين المرتدين- بعيد النظر من الناحيتين الدينية والسياسية!
إن التساهل في ترك ركن من أركان الإسلام يؤدي - ولا بد - إلى ترك ركن آخر احتجاجاً بالأول، وهكذا سيأتي جيل يترك الصيام، وآخر يترك الصلاة، ورابع يترك الحج والجهاد··· إلخ، فإذا بالدين قد انهدم، فلا بد من سد باب الفتنة وبابها، وعدم إقرارهم على ترك أداء الزكاة هذا من الناحية الدينية.
وللزكاة جانب سياسي لا يخفى على رجال الحكم والسياسة.
إن لكل حكومة على رعيتها التزاماً مالياً اعترافاً بنظامها السياسي، وإن الامتناع عن أدائه إعلان عن العصيان والتمرد على النظام وعدم الاعتراف به، ولا قيمة لرعية أو شعب هذه علاقته مع حكومته.
لقد كان الصديق -وهو التلميذ النجيب لأعظم حاكم سياسي في التاريخ- يدرك تماماً أن الامتناع عن أداء الزكاة إعلان عن عدم اعتراف الممتنعين بالنظام السياسي لحكومته، فإذا أقرهم عليه فقدت حكومته هيبتها، وكانت الرعية الممتنعة أكثر جرأة على عصيانه في أمور أخرى لا سيما الجهاد وقتال الكافرين، وهكذا تنهار الحكومة وتتفكك الدولة، بعد أن انهار الدين وانهدمت أركانه!
لقد أدرك الصديق ذلك كله بثاقب نظره، فلم تستفزه المصالح الوقتية القريبة عن المصالح الحقيقة الدائمة، وما ذلك إلا لرسوخ علمه وقوة إيمانه الذي تميز به على بقية الأصحاب، فمن منهم أولى منه بالحكم وإدارة شئون الخلافة والسياسة؟!
وهكذا استطاع أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يقضي على أكبر فتنة عصفت بالأمة، فتنة الارتداد والعصيان والحروب الأهلية، ولو فشل في القضاء عليها لانطلقت من عقالها ودمرت كل شيء. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: {لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن منَّ الله علينا بأبي بكر} لكن الأمة -بحكمة أبي بكر، وثاقب نظره، وعلو همته، وشدة عزيمته، وقوة إيمانه ويقينه بربه- خرجت من هذه الفتن سليمة معافاة قوية متحدة بحيث تمكنت بعد ذلك مباشرة من أن تضرب أكبر إمبراطوريات العالم آنذاك فارس فتدكها وتهدمها و(الروم) فتقهرها وتهزمها!!
حسن خلقه:
إن أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن الخلق، فمن فاز منه بالسهم الأوفر كان الأفضل بين الأمة.
وأبو بكر الصديق أحسن الأمة خلقاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليلنا القرآن·
إن أخلاق أبي بكر تُقرن بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وتقارن بها! إذ هما الوحيدان -من الأمة- اللذان أرشدهما القرآن بالخصوص إلى أعلى محاسن الأخلاق وأرقاها، ولا شك أن التحلي بالكمالات لا يكون إلا بعد الاتصاف بالضروريات والأساسيات·
إن وجود حديقة جميلة تزهو بأجمل أنواع الورود وألوانها، وقد نظمت تنظيماً يخلب الألباب، وفيها من الأطيار والبلابل المغردة ما تطرب له الأسماع وتأنس الأرواح، لا يتوقع الرائي أن هذا كله تابع لبناية خربة من طين! لا بد من توقّع رؤية قصر كبير!
وإنك لن تنصح أحداً بقيام الليل وهو لا يؤدي الصلاة المكتوبة!
والإتيان بالفاكهة على المائدة دون طعام عبث لا يغني الجائعين.
والزينة لا تكون إلا بعد توفر عناصر الجمال، ولا توضع على محل ملوث بالأوساخ، وإلا كانت سفهاً، ولذلك قال الله تعالى يخاطب الصحابة رضي الله عنهم: ((وَلَـكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَـانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ)) [الحجرات:7] فالتزيين بعد التحبيب، ولا قيمة للزينة بلا حب، إن الحب أصل والزينة كمال، ووجود الكمال لا يكون إلا بعد وجود الأصل عند العقلاء.
وللأخلاق أصل وقاعدة كما أن لها زينة وكمالاً وحسناً وجمالاً، ولا يطالب بمحاسن الأخلاق وكمالاتها من لم ينته من أصولها وأساسياتها.
والآن نأتي إلى حسن أخلاق الصديق رضي الله عنه وجمالها وزينتها وكمالها وأمام أنظارنا قول عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: {كان خلقه القرآن} كذلك كان خلق الصديق رضي الله عنه·
موقفه من مسطح:
كان لأبي بكر الصديق قريب اسمه (مسطح) ينفق عليه ويحسن إليه، فلما خاض المنافقون والذين في قلوبهم مرض في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كان مسطح هذا من الخائضين في عرض أبي بكر رضي الله عنه دون أن يرقب فيه إلا ولا يداً·
وأنزل الله جل وعلا -من بعد- براءة عائشة رضي الله عنها في سورة النور، فحلف أبو بكر ألاَّ يصل مسطحاً ولا ينفق عليه بعد أبداً، وذلك أقل ما يمكن أن يجازي به رجل طُعن في عرضه الشريف. ولا نعرف أحداً يمكن أن تسخو نفسه فيستمر بالإنفاق والإحسان إلى من طعن في عرضه وشرفه! اللهم إلا إذا بلغ أعلى الدرجات في حسن الخلق وكرم النفس، وأسماها في إنكار الذات من أجل عمل الخير للخير نفسه!
كانت هذه الدرجة العالية السامية هي التي أرادها الله تعالى أن تكون زينة وتاجاً على رأس محاسن أخلاق الصديق فحببها إليه وزينها في عينيه ودعاه إليها بقوله الرفيق الشفيق: ((وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَـاكِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النور:22]، وكان جواب أبي بكر رضي الله عنه حين سمع توجيه الله إليه بواسطة رسوله و(صاحبه): {بلى، يا رب! أحب أن تغفر لي} وعاد إلى مسطح يصله وينفق عليه!! وهو ما لا يوفق إليه إلا طراز خاص من المؤمنين يقول الله عنهم: ((وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلاَ لسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِـالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقاَّهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقاَّهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ)) [فصلت:34-35] وما كان الله ليرضى لـ (صاحب) نبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون من ذلك الطراز الخاص صاحب الحظ العظيم والخلق القويم!
بأبي شبيه بالنبي:
إن هذا يشبه موقف النبي صلى الله عليه وسلم من (الأعمى) الذي عرض له يسأله ويلح عليه وهو مشغول بدعوة كبراء القوم! فعبس في وجهه ولم يرد عليه·
وماذا يمكن أن يتوقع منه غير ذلك!
إنه لو فعل هذا غير محمد صلى الله عليه وسلم لما عاتبه الله ولما كان عليه من بأس.
إن السائل قد تطفل في الكلام وقاطع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بغيره، وكان الأولى به أن ينتظر حتى ينتهي من كلامه، أو ينصرف ليلقاه في مكان آخر وظرف أليق، ثم إنه أعمى لا يرى عبوس من عبس في وجهه! لكن الذي ((عَبَسَ وَتَوَلَّى)) [عبس:1] هو محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم، ولذلك استحق العتاب، وذلك من باب (حسنات الأبرار سيئات المقربين)! والعتاب على قدر المنزلة.
وكذلك لو كان الذي قطع النفقة عن مسطح غير أبي بكر لما كلمه الله في شأنه وكلفه بالعود إلى صلته؛ لأن التكليف بمعالي الأمور ومحاسن الأخلاق لا يختار الله تعالى لها إلا ذوي القرب والاستحقاق.
تجليات محاسن أخلاق الصديق
وتجلى حسن خلق الصديق رضي الله عنه في أمور كثيرة، منها:
الصدق والتصديق:
يكفيه شهادة على ذلك تفرده بلقب (الصديق) من بين الأصحاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً}.
وقد لقب أبو بكر في الجاهلية -كما لقب محمد- بـ (الصادق) فزاده الإسلام فلقبه بـ (الصديق).
إن العرب قوم معروفون بصدق الحديث، يستحيي أحدهم أن يؤثر عنه شيء من الكذب، فوجود الصادق بينهم لا يثير الانتباه ما لم يكن صدقه متميزاً؛ لأن عامتهم صادقون، فأن يفوز في مجتمع الصادقين شخص بلقب (الصادق) دليل على تميزه في الصدق وبلوغه شأنا عالياً فيه كالبطل المتميز بين الأبطال، والشجاع بين الشجعان! وهذا كقوله تعالى: (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ))[الأحزاب:23].
وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل قوله تعالى: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:33] وفيه نزل قوله تعالى: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ))[الليل:5-7].
وقوله: (( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ))[الحديد:18] بتخفيف الصاد وهي قراءة متواترة.
لقد كان هذا التصديق أثراً من آثار صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفه معرفة الخبير، فكان يصدقه دون تردد في كل شيء مهما كان غريباً! وكان يردد دائماً: {إن كان قاله فقد صدق} ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر}.
والتصديق إذا بلغ هذه الدرجة فهو أثر من آثار الصدق الفطري الذي طبعت عليه النفس وجبل عليه الطبع.
والصادق لا يدور في نفسه الشك، ولا يتوقع الكذب قط ممن وثق بهم؛ لأنه يرى فيهم نفسه التي ليس فيها إلا الصدق، فيكون حسن الظن تعبيراً عن الخير الذي جبلت عليه النفس.
الشجاعة:
لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشجع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتردد في موقف ولم يضطرب أو يفر في معركة، بل كان حيث يكون الخطر أقرب الناس إليه؛ ولذلك اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم صاحباً له في أحرج المواقف وأصعب الظروف، فكان في الغار ثاني اثنين، وفي عريش بدر كذلك، وثبت معه في أحد وحنين -إذ قتل حامل لواء المشركين- وجميع المعارك، ودافع عنه في مكة فضرب حتى كاد يموت.
أما موقفه -وقد انفرد بعد (صاحبه)- من المرتدين ومانعي الزكاة، والجزيرة قد انتقضت عليه وصارت قبائلها تغزو المدينة نفسها، فهو الموقف الذي تميد له الشم الرواسي.
وكان أبو بكر الجبل الوحيد الذي ظل راسياً لم تهزه الزلازل!
لقد قرر قتال الدنيا مجتمعة مهما كانت الظروف وبلغت التضحيات.. وكانت النتائج!
جاءه عمر بن الخطاب يقول له: {تألف الناس وارفق بهم} فصرخ في وجهه: {أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام! رجوت نصرك فجئتني بخذلانك!} وأقسم بالله ليقاتلنهم حتى يؤدوا الخيط والمخيط ثم قال: {إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أو ينقص الدين وأنا حي!!}.
ولك أن تتصور شجاعة رجل يقف لعمر ويصرخ في وجهه ينبزه بالخَور! وعمر هو عمر في شجاعته، وسطوته وهيبته!!
ثم تفكر في مدى صلابته ورباطة جأشه وثبات قلبه، وقد اجتمع حوله الصحابة رضي الله عنهم يرجونه أن يلين فيوافقهم على إرجاع جيش أسامة ليستعينوا به في القتال، ويذكرون له حراجة الموقف وتغير الظرف، فما يزيدونه إلا عزماً ومضاءً! ويقسم أن لن يحل عقدة عقدها رسول الله بيده، ولن يرجع جيش أسامة ولو رأى الكلاب تجري بأرجل أمهات المؤمنين في سكك المدينة!
إن هذا رجل بلغ في الإيمان مداه! وفي الشجاعة مداها!
أخرج البزار في مسنده عن علي رضي الله عنه أنه قال: {أخبروني من أشجع الناس؟
قالوا: أنت. قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس. قالوا: لا نعلم، فمن ؟ قال: أبو بكر، إنه لما كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فو الله! ما دنا منا أحد إلا أبا بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه فهو أشجع الناس، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذته قريش فهذا يجبأه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟
فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبا بكر يضرب هذا ويجبأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟! ثم رفع علي بردة كانت عليه، ثم بكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله! أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فو الله! لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة مثل مؤمن آل فرعون! ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه}. [(أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) (ص15)، رفيق العظم].
الإنفاق والكرم:
الشجاعة والكرم توأمان مقترنان فكل شجاع كريم وكل كريم شجاع سجية.
لقد كان أبو بكر متميزاً في إنفاقه وكرمه، والدليل: أن القرآن الكريم جعل من ذلك العلامة والنقطة الدالة عليه، فقال( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ))[الليل:17-18] ، وقال قبلها : (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ))[الليل:5-7].
فأول صفة له وعلامة عليه: الإعطاء والكرم·
أخرج الحاكم وابن أبي حاتم والبزار في أسباب نزول قوله تعالى: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)) وما بعدها: (أعتق أبو بكر الصديق سبعة كلهم يعذب في الله تعالى، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، ومنهم بعض نساء أسلمن فكن يعذبن على إسلامهن، فقال له أبو قحافة: أراك تعتق رقاباً ضعافاً فلو أنك أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون ويدفعون عنك دونك؟ فقال: يا أبت إني إنما أريد ما عند الله، فنزلت في أبي بكر: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى )) الآيات إلى آخر السورة [(أسباب النزول في حاشية روائع البيان لمعاني القرآن)، أيمن عبدالعزيز جبر].
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- مزيد بيان لإثبات نزول هذه الآيات في حق الصديق رضي الله عنه·
لقد أنفق الصديق أمواله وسخر تجارته في مكة في سبيل الله، حتى لم يبق له يوم الهجرة من رأس ماله البالغ أربعين ألفاً في أول دخوله الإسلام وأرباحه معه إلا خمسة آلاف أخذها معه، وما أبقى لأهله درهماً!
ومن مواقف كرمه وإنفاقه المشهودة؛ ما كان منه عند تجهيز جيش العسرة المتوجه إلى تبوك -وهي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ أنفق يومها أبو بكر ماله كله! حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فأجابه: أبقيت لهم الله ورسوله!!}.
وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر}.
إن أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن الخلق، فمن فاز منه بالسهم الأوفر كان الأفضل بين الأمة.
وأبو بكر الصديق أحسن الأمة خلقاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليلنا القرآن·
إن أخلاق أبي بكر تُقرن بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وتقارن بها! إذ هما الوحيدان -من الأمة- اللذان أرشدهما القرآن بالخصوص إلى أعلى محاسن الأخلاق وأرقاها، ولا شك أن التحلي بالكمالات لا يكون إلا بعد الاتصاف بالضروريات والأساسيات·
إن وجود حديقة جميلة تزهو بأجمل أنواع الورود وألوانها، وقد نظمت تنظيماً يخلب الألباب، وفيها من الأطيار والبلابل المغردة ما تطرب له الأسماع وتأنس الأرواح، لا يتوقع الرائي أن هذا كله تابع لبناية خربة من طين! لا بد من توقّع رؤية قصر كبير!
وإنك لن تنصح أحداً بقيام الليل وهو لا يؤدي الصلاة المكتوبة!
والإتيان بالفاكهة على المائدة دون طعام عبث لا يغني الجائعين.
والزينة لا تكون إلا بعد توفر عناصر الجمال، ولا توضع على محل ملوث بالأوساخ، وإلا كانت سفهاً، ولذلك قال الله تعالى يخاطب الصحابة رضي الله عنهم: ((وَلَـكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَـانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ)) [الحجرات:7] فالتزيين بعد التحبيب، ولا قيمة للزينة بلا حب، إن الحب أصل والزينة كمال، ووجود الكمال لا يكون إلا بعد وجود الأصل عند العقلاء.
وللأخلاق أصل وقاعدة كما أن لها زينة وكمالاً وحسناً وجمالاً، ولا يطالب بمحاسن الأخلاق وكمالاتها من لم ينته من أصولها وأساسياتها.
والآن نأتي إلى حسن أخلاق الصديق رضي الله عنه وجمالها وزينتها وكمالها وأمام أنظارنا قول عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: {كان خلقه القرآن} كذلك كان خلق الصديق رضي الله عنه·
موقفه من مسطح:
كان لأبي بكر الصديق قريب اسمه (مسطح) ينفق عليه ويحسن إليه، فلما خاض المنافقون والذين في قلوبهم مرض في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كان مسطح هذا من الخائضين في عرض أبي بكر رضي الله عنه دون أن يرقب فيه إلا ولا يداً·
وأنزل الله جل وعلا -من بعد- براءة عائشة رضي الله عنها في سورة النور، فحلف أبو بكر ألاَّ يصل مسطحاً ولا ينفق عليه بعد أبداً، وذلك أقل ما يمكن أن يجازي به رجل طُعن في عرضه الشريف. ولا نعرف أحداً يمكن أن تسخو نفسه فيستمر بالإنفاق والإحسان إلى من طعن في عرضه وشرفه! اللهم إلا إذا بلغ أعلى الدرجات في حسن الخلق وكرم النفس، وأسماها في إنكار الذات من أجل عمل الخير للخير نفسه!
كانت هذه الدرجة العالية السامية هي التي أرادها الله تعالى أن تكون زينة وتاجاً على رأس محاسن أخلاق الصديق فحببها إليه وزينها في عينيه ودعاه إليها بقوله الرفيق الشفيق: ((وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَـاكِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النور:22]، وكان جواب أبي بكر رضي الله عنه حين سمع توجيه الله إليه بواسطة رسوله و(صاحبه): {بلى، يا رب! أحب أن تغفر لي} وعاد إلى مسطح يصله وينفق عليه!! وهو ما لا يوفق إليه إلا طراز خاص من المؤمنين يقول الله عنهم: ((وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلاَ لسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِـالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقاَّهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقاَّهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ)) [فصلت:34-35] وما كان الله ليرضى لـ (صاحب) نبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون من ذلك الطراز الخاص صاحب الحظ العظيم والخلق القويم!
بأبي شبيه بالنبي:
إن هذا يشبه موقف النبي صلى الله عليه وسلم من (الأعمى) الذي عرض له يسأله ويلح عليه وهو مشغول بدعوة كبراء القوم! فعبس في وجهه ولم يرد عليه·
وماذا يمكن أن يتوقع منه غير ذلك!
إنه لو فعل هذا غير محمد صلى الله عليه وسلم لما عاتبه الله ولما كان عليه من بأس.
إن السائل قد تطفل في الكلام وقاطع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بغيره، وكان الأولى به أن ينتظر حتى ينتهي من كلامه، أو ينصرف ليلقاه في مكان آخر وظرف أليق، ثم إنه أعمى لا يرى عبوس من عبس في وجهه! لكن الذي ((عَبَسَ وَتَوَلَّى)) [عبس:1] هو محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم، ولذلك استحق العتاب، وذلك من باب (حسنات الأبرار سيئات المقربين)! والعتاب على قدر المنزلة.
وكذلك لو كان الذي قطع النفقة عن مسطح غير أبي بكر لما كلمه الله في شأنه وكلفه بالعود إلى صلته؛ لأن التكليف بمعالي الأمور ومحاسن الأخلاق لا يختار الله تعالى لها إلا ذوي القرب والاستحقاق.
تجليات محاسن أخلاق الصديق
وتجلى حسن خلق الصديق رضي الله عنه في أمور كثيرة، منها:
الصدق والتصديق:
يكفيه شهادة على ذلك تفرده بلقب (الصديق) من بين الأصحاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً}.
وقد لقب أبو بكر في الجاهلية -كما لقب محمد- بـ (الصادق) فزاده الإسلام فلقبه بـ (الصديق).
إن العرب قوم معروفون بصدق الحديث، يستحيي أحدهم أن يؤثر عنه شيء من الكذب، فوجود الصادق بينهم لا يثير الانتباه ما لم يكن صدقه متميزاً؛ لأن عامتهم صادقون، فأن يفوز في مجتمع الصادقين شخص بلقب (الصادق) دليل على تميزه في الصدق وبلوغه شأنا عالياً فيه كالبطل المتميز بين الأبطال، والشجاع بين الشجعان! وهذا كقوله تعالى: (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ))[الأحزاب:23].
وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل قوله تعالى: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:33] وفيه نزل قوله تعالى: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ))[الليل:5-7].
وقوله: (( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ))[الحديد:18] بتخفيف الصاد وهي قراءة متواترة.
لقد كان هذا التصديق أثراً من آثار صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفه معرفة الخبير، فكان يصدقه دون تردد في كل شيء مهما كان غريباً! وكان يردد دائماً: {إن كان قاله فقد صدق} ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر}.
والتصديق إذا بلغ هذه الدرجة فهو أثر من آثار الصدق الفطري الذي طبعت عليه النفس وجبل عليه الطبع.
والصادق لا يدور في نفسه الشك، ولا يتوقع الكذب قط ممن وثق بهم؛ لأنه يرى فيهم نفسه التي ليس فيها إلا الصدق، فيكون حسن الظن تعبيراً عن الخير الذي جبلت عليه النفس.
الشجاعة:
لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشجع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتردد في موقف ولم يضطرب أو يفر في معركة، بل كان حيث يكون الخطر أقرب الناس إليه؛ ولذلك اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم صاحباً له في أحرج المواقف وأصعب الظروف، فكان في الغار ثاني اثنين، وفي عريش بدر كذلك، وثبت معه في أحد وحنين -إذ قتل حامل لواء المشركين- وجميع المعارك، ودافع عنه في مكة فضرب حتى كاد يموت.
أما موقفه -وقد انفرد بعد (صاحبه)- من المرتدين ومانعي الزكاة، والجزيرة قد انتقضت عليه وصارت قبائلها تغزو المدينة نفسها، فهو الموقف الذي تميد له الشم الرواسي.
وكان أبو بكر الجبل الوحيد الذي ظل راسياً لم تهزه الزلازل!
لقد قرر قتال الدنيا مجتمعة مهما كانت الظروف وبلغت التضحيات.. وكانت النتائج!
جاءه عمر بن الخطاب يقول له: {تألف الناس وارفق بهم} فصرخ في وجهه: {أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام! رجوت نصرك فجئتني بخذلانك!} وأقسم بالله ليقاتلنهم حتى يؤدوا الخيط والمخيط ثم قال: {إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أو ينقص الدين وأنا حي!!}.
ولك أن تتصور شجاعة رجل يقف لعمر ويصرخ في وجهه ينبزه بالخَور! وعمر هو عمر في شجاعته، وسطوته وهيبته!!
ثم تفكر في مدى صلابته ورباطة جأشه وثبات قلبه، وقد اجتمع حوله الصحابة رضي الله عنهم يرجونه أن يلين فيوافقهم على إرجاع جيش أسامة ليستعينوا به في القتال، ويذكرون له حراجة الموقف وتغير الظرف، فما يزيدونه إلا عزماً ومضاءً! ويقسم أن لن يحل عقدة عقدها رسول الله بيده، ولن يرجع جيش أسامة ولو رأى الكلاب تجري بأرجل أمهات المؤمنين في سكك المدينة!
إن هذا رجل بلغ في الإيمان مداه! وفي الشجاعة مداها!
أخرج البزار في مسنده عن علي رضي الله عنه أنه قال: {أخبروني من أشجع الناس؟
قالوا: أنت. قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس. قالوا: لا نعلم، فمن ؟ قال: أبو بكر، إنه لما كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فو الله! ما دنا منا أحد إلا أبا بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه فهو أشجع الناس، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذته قريش فهذا يجبأه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟
فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبا بكر يضرب هذا ويجبأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟! ثم رفع علي بردة كانت عليه، ثم بكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله! أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فو الله! لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة مثل مؤمن آل فرعون! ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه}. [(أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) (ص15)، رفيق العظم].
الإنفاق والكرم:
الشجاعة والكرم توأمان مقترنان فكل شجاع كريم وكل كريم شجاع سجية.
لقد كان أبو بكر متميزاً في إنفاقه وكرمه، والدليل: أن القرآن الكريم جعل من ذلك العلامة والنقطة الدالة عليه، فقال( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ))[الليل:17-18] ، وقال قبلها : (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ))[الليل:5-7].
فأول صفة له وعلامة عليه: الإعطاء والكرم·
أخرج الحاكم وابن أبي حاتم والبزار في أسباب نزول قوله تعالى: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)) وما بعدها: (أعتق أبو بكر الصديق سبعة كلهم يعذب في الله تعالى، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، ومنهم بعض نساء أسلمن فكن يعذبن على إسلامهن، فقال له أبو قحافة: أراك تعتق رقاباً ضعافاً فلو أنك أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون ويدفعون عنك دونك؟ فقال: يا أبت إني إنما أريد ما عند الله، فنزلت في أبي بكر: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى )) الآيات إلى آخر السورة [(أسباب النزول في حاشية روائع البيان لمعاني القرآن)، أيمن عبدالعزيز جبر].
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- مزيد بيان لإثبات نزول هذه الآيات في حق الصديق رضي الله عنه·
لقد أنفق الصديق أمواله وسخر تجارته في مكة في سبيل الله، حتى لم يبق له يوم الهجرة من رأس ماله البالغ أربعين ألفاً في أول دخوله الإسلام وأرباحه معه إلا خمسة آلاف أخذها معه، وما أبقى لأهله درهماً!
ومن مواقف كرمه وإنفاقه المشهودة؛ ما كان منه عند تجهيز جيش العسرة المتوجه إلى تبوك -وهي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ أنفق يومها أبو بكر ماله كله! حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فأجابه: أبقيت لهم الله ورسوله!!}.
وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر}.
==========
تفرده بالمعية الخاصة
قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي حكاه القرآن بقوله: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] خطاباً لأبي بكر فيه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم موثق من الله تعالى بأن القائل -وهو رسول الله- وصاحبه -وهو أبو بكر- محفوفان بمعية الله وأن الله معهما• وهذا لم يرد في القرآن عن أحد من الأمة غير أبي بكر، ولم يرد لاثنين بخصوصهما إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وإلا لموسى وهارون عليهما السلام• المعية نوعان: عامة وخاصة: فالعامة: كما في قوله تعالى: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ))[المجادلة:7] وهذه شاملة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وهي معية العلم ولا فضل فيها لأحد• إنما الفضل في المعية الخاصة كما في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ))[البقرة:153] وقوله: (( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ))[النحل:128] وهي معية التأييد والحب والرعاية والحفظ• وهناك معية أخص، فهي أدل على الفضل من المعية الخاصة؛ لأن الفضل كلما كان أخص كان أدل على أفضلية من اختص به على غيره، كما لو كرم الأمير جيشه المنتصر ثم كرم قائد الجيش وجندياً واحداً معه، فهذا دليل على تميز ذلك الجندي وإلا لما قرنه الأمير بالقائد وخصهما معاً بالتكريم دون الآخرين. فقوله تعالى توثيقاً لما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا بكر رضي الله عنه: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] لم يكن لأحد سواهما• إن هذه المعية كانت لاثنين فقط هما: النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه، فهو أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاها بالإمامة ومنصب الخلافة. معية الله لموسى عليه السلام دون قومه: لقد تعرض موسى عليه السلام وقومه إلى موقف عصيب مشابه لموقف النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه في الغار، لقد طردهم فرعون وجنوده حتى حصروهم أمام البحر وألجئوهم إليه فلم يكن لهم من منفذ! (( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ))[الشعراء:61] موسى وقومه محصورون أمام البحر وحولهم فرعون وجنوده محيطون بهما، وتأمل التعبير القرآني كيف استعمل مع موسى لفظ: (( أَصْحَابُ مُوسَى ))[الشعراء:61] ومع محمد لفظ: (صَاحِبِهِ) لكن صاحب محمد صلى الله عليه وسلم هادئ مطمئن سوى أنه حزين أو يقارب أن يكون كذلك، فيواسيه صاحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخفف من حزنه قائلاً: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] أما أصحاب موسى فكانوا خائفين هلعين أيسين لا أمل عندهم في النجاة: (( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ))[الشعراء:61] فيجيبهم صاحبهم: (( قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ))[الشعراء:62] • قال: (مَعىَ)، ولم يقل: (معنا) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] فنجاة أصحابه لا لأن الله معهم وإنما إكراماً لموسى عليه السلام وتبعاً له، بينما كانت نجاة الصديق رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم بالمعية الإلهية لا بالتبعية النبوية فقط، فالله مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، بينما هو مع موسى دون أصحابه• وقال: (( إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ))[الشعراء:62] بينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: { إن الله معنا }. فمعية موسى معية ربوبية، ومعية محمد وصاحبه معية ألوهية، والألوهية أكمل وما تعلق بها كذلك، ومعية الربوبية فيها تعلق والتجاء وطلب مع خوف وقلق، أما معية الألوهية ففيها التعلق والتفويض المحض مع الطمأنينة والثقة واليقين. ومعية موسى عليه السلام تقدم فيها ذكر ما للنفس على ذكر الرب: (( إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ))[الشعراء:62] ومعية محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه تقدم فيها ذكر الله على ما للنفس: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] وهذا أقرب للطمأنينة والثقة واليقين والتعلق الخالص من كل حظ للنفس وإن كان مطلوباً مشروعاً. والنظم على كل حال أبلغ وأدل على الفضل، والنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه يشتركان فيه! بين الحزن والخوف: لم يرد في الآية الكريمة أن أبا بكر رضي الله عنه كان خائفاً رغم أن الموقف موقف خوف لا موقف حزن، وإنما ورد فيها ذكر الحزن، والحزن غير الخوف، الحزن على أمر واقع، والخوف من أمر متوقع، فما يقال من أن أبا بكر رضي الله عنه كان خائفاً مضطرباً، لا أصل له، ولا دليل عليه• ولو افترضنا أن التعبير جاء بلفظ (لا تخف) دون (لا تحزن) فليس في ذلك من عيب أو قدح؛ لأسباب عديدة منها: 1- أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ ))[التوبة:40] لا يبقي للخوف قدحاً؛ لأن الله مع الخائف فيكون كقوله تعالى لموسى وهارون عليه السلام: (( قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا ))[طه:46] 2- أن الخوف انفعال نفسي طبيعي لا عيب فيه لذاته، وإنما يذم إذا زاد عن حده أو اقترن به ما يشين، وإلا فكل إنسان يخاف حتى الأنبياء عليهم السلام، كما أخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام بقوله: (( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ))[الشعراء:21] وقوله: (( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ))[الشعراء:14] وقوله: (( يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ))[النمل:10] وغيرها من الآيات، وكما خاطبت الملائكة لوطاً عليه السلام: (( لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ ))[العنكبوت:33] 3- أن صيغة النهي لا تستلزم وقوع المنهي عنه إلا بدليل منفصل؛ وذلك كقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ))[الكهف:28] وكما توصي ابنك فتقول: لا تكذب، لا تسرق••• إلخ، إن هذا مجرد تحذير لا يستلزم وقوع المنهي عنه وهو الكذب والسرقة•• إلخ، بل هو أدعى لعدمه، فلو جاء النص بقوله: (لا تخف إن الله معنا) لما دل على تحقق وقوع الخوف، فكيف ولا ذكر للخوف فيه! إنما هو الحزن، وهو كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ))[النحل:127] عريش بدر: وتفرد الصديق بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العصيب هو كتفرده بصحبته في عريش بدر، وقد اختاره صلى الله عليه وسلم من بين جميع أصحابه وفيهم عمر وعلي والزبير وغيرهم من الصناديد، فلم يكن معه غيره فيه! نزول السكينة والتأييد: ومن العنت -بعد- البحث عن منافذ للتفلت من قبضة سلطان الآية: كالقول بأن نزول السكينة والتأييد جاء بضمير الإفراد، فلا يشمل أبا بكر، فإنه عاطل عن الدليل بله الذوق اللغوي العربي. إن كلام الرب لا يتناقض! إنه -سبحانه- أكد إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه بأن الله معهما جميعاً، والمعية هنا: إن لم تكن معية الحفظ والسكينة والتأييد فلا معنى لها، ولا علاقة لها بنفي الحزن، وعلى هذا فلا يعقل أن يكون ما بعدها نافياً لما قبلها، وإلا حصل التناقض وهو مستحيل في كلام الرب! وكذلك يكون النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشاه- كاذباً في الأخبار وهو ممتنع أيضاً. أو يكون كلاهما قد استعمل (التقية) والقول بذلك سخف وكفر! فلم يبق إلا تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره أن الله تعالى مع أبي بكر رضي الله عنه كما هو معه، فالسكينة والتأييد لكليهما معاً؛ لأن الله معهما جميعاً. هذا من حيث الإجمال. أما من حيث التفصيل، فنقول: إن المقصود بكلام الرب أصلاً هو النبي صلى الله عليه وسلم لا أبو بكر، إذ بدأ الكلام هكذا: ((إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ))[التوبة:40] بضمير الإفراد، فلا بد أن ينتهي كذلك بضمير الإفراد، وهكذا كان: ((فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ))[التوبة:40] أما ذكر أبي بكر رضي الله عنه فقد جاء معترضاً في وسط العبارة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وليس من كلام الرب، إنما حكاه الله عنه حكاية بقوله: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] فلما انتهى الكلام المحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم اتصل كلام الرب بعد هذه الجملة الاعتراضية، فكان بالإفراد كما بدأ بالإفراد ليتسق الكلام، وإلا خرج عن مقتضى البلاغة، وكان في الكلام زيادة -وهو ضمير التثنية- لا تأتي بفائدة، إذ شمول الصاحب بما يكرم الله به صاحبه محسوم سلفاً بقوله: (( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] فهو معه في كل شيء، وكما أنه شاركه في المخاطر والغرم، فهو شريكه في المكارم والغنم، فلا داعي للإتيان بضمير التثنية لأداء هذا المعنى، فاكتفى الله بضمير الإفراد لدلالة ما قبله عليه. وما لا داعي له ولا فائدة منه زيادة لا محل لها في كلام الرب جل وعلا. المعية والتفرد بالفضائل (الخصائص): إن أفضلية الصديق رضي الله عنه على بقية الصحابة رضي الله عنهم لا تتجلى في تفوقه عليهم عند المقارنة فحسب، وإنما تتجلى حقاً إذا لوحظت من زاوية أخرى أجل وأسمى، ألا وهي اقترانه بالنبي صلى الله عليه وسلم ومشاركته المتفردة له في (المعية الإلهية). وتأمل لفظ ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ ))[التوبة:40] في الآية أنه ينطبق على أبي بكر فهو ثاني اثنين، وكذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثاني اثنين، كما قال تعالى عن نفسه: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ))[المجادلة:7] أي: واحد من أربعة لا أنه - سبحانه - الرابع ترتيباً. فأبو بكر رضي الله عنه واحد من اثنين خصهما الله تعالى بمعيته، فهو الأول على الصحابة رضي الله عنهم والمقدم فيهم لا لسبقه إياهم -وإن كان هذا حاصلاً تحصيلاً- وإنما لكونه الثاني بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي علة التقديم، أما سبقه الصحابة فهو تحصيل حاصل -كما أسلفت-• ولما كان أبو بكر رضي الله عنه كذلك -أي: أنه الثاني بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فهو الأول تلقائياً في غيابه صلى الله عليه وسلم دون النظر إلى الغير كائناً من كان! وهذا ملحظ دقيق وعظيم!! إن مثل أبي بكر وأفضليته على الأصحاب كمثل إمامين في مسجد واحد، أما أحدهما فهو الإمام الأصيل المقدم لعلمه وأهليته، وأما الثاني فهو وكيله الذي يأتي بعده في المرتبة والتقديم، فحيثما غاب الإمام الأول كان من المتسالم عليه بين المصلين أن الإمام الآخر هو الذي ينوب عنه بلا منازع. نعم، لو غاب كلاهما رجعوا إلى أصول الترجيح في تقديم الإمام للصلاة. إن أولية الثاني عند غياب الأول لا تلحظ من حيث المقارنة ببقية المصلين، وإنما من حيث كونه الثاني والوكيل عن الإمام الأول• وهكذا كان الأمر مع أبي بكر رضي الله عنه في أفضليته وإمامته وهي منزلة لم تتأت لأحد غيره من الصحابة! لقد كان خيرة الأصحاب بعد الصديق -أي: عمر بن الخطاب- يجهد نفسه -وأبو بكر لا يدري- يحاول سبقه لكنه يجد نفسه وراءه في نهاية المضمار! يقول عمر: {ما سابقت أبا بكر إلى خير إلا سبقني}. ولا شك أن رجلاً يسبق دون أن يدري أنه في سباق أو أن أحداً يسابقه متفرد في البطولة والسبق! أرأيت صبياً يركض جهده يسابق عملاقاً يهرول لا يشعر به ثم يعجز عن التفوق عليه! فكيف لو علم العملاق واستنفد جهده؟! نائب النبي صلى الله عليه وسلم دائماً ولذلك كان رضي الله عنه ينوب عن النبي صلى الله عليه وسلم في كل موقف مهم بلا منازع. وأعظم موقفين مهمين تقدم فيهما الصديق عند غياب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته هما: الحج والصلاة، ثم ناب عنه في أداء الزكاة بعد الوفاة. ففي السنة التاسعة لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم، فأناب عنه أبا بكر يحج بالناس، ولم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا حجتان، تأمر على إحداهما: أبو بكر وعلى الأخرى: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذهب علي بسورة براءة بعد نزولها خلف أبي بكر تابعاً ومأموراً يحج بحجه ويصلي بصلاته، وليس له إلا قراءة المنشور الإلهي، وكان فيه حل بعض العقود وإتمام بعضها، والعرب من عادتهم ألاَّ يحل العقود ولا يعقدها إلا الأمير أو واحد من أهل بيته• وعلى كل حال فقد كان أبو بكر هو الأمير. ولما مرض النبي صلى الله عليه وسلم أناب عنه أبا بكر ليصلي بالناس، والصحابة جميعاً متوافرون وفيهم: علي وعمر وعثمان، ولما تقدم عمر رضي الله عنه في أحد الأوقات وكان الصديق غائباً وسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته يصلي بالناس صرخ غاضباً يسمع الناس: {أين أبو بكر؟! أين أبو بكر؟! يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر!}. البيعة المتفردة: ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كانت بيعة أبي بكر بالخلافة وتقدمه فيها كتقدمه في الحج والصلاة وكل شيء في حياته• إن بيعة الصديق أوضح من أن تحتاج إلى نص أو وصية أو كتاب• هذه كلها لا يحتاجها أبو بكر فهو أكبر من أن يكون في حاجة إلى مثل ذلك! وإن كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يعهد إليه ويكتب في ذلك كتاباً -كما جاء في رواية الإمام البخاري- إلا أنه تراجع عن ذلك حين رأى أنه لا حاجة إليه، وعبر عن ذلك بقوله: {يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر} وكان قبلها قد حصل لغط ومراجعات في شأن الكتاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قوموا عني} وترك الأمر لعدم أهميته، ولو كان ضرورياً وتتوقف عليه مصلحة للأمة لا يضمن النبي صلى الله عليه وسلم حصولها بدونه لما تركه، فإنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن ذلك. إن المؤمنين يعلمون أن أبا بكر هو الأولى بمنصب الخلافة ويأبون أن يتولى عليهم -في وجوده- غيره، ولا يحتاج علم ذلك إلى كتاب أو أدلة ترجيح؛ لأن تقدم الإمام الثاني في غياب الإمام الأول أمر مفروغ منه بلا كتاب ولا حساب. لذلك قال عمر رضي الله عنه وهو يحكي اجتماعهم للبيعة في السقيفة المباركة -وقد قال أبو بكر-: {وإني أرضى لكم هذين الرجلين -أي: عمر وأبا عببيدة- قال عمر: فلم أكره مما قال إلا هذه الكلمة، فلأن أقدم فيضرب عنقي في غير معصية الله أحب إلي من أن أتقدم على قوم فيهم أبو بكر}. ويقول: {فأيما رجل بايع رجلاً قتل هو والذي بايع له، وأيكم تقطع دونه الأعناق كأبي بكر؟!} أي: أن بيعة أبي بكر متفردة لا يقاس عليها، وذلك لتفرد صاحبها فلا يقاس عليه لانعدام النظير، والقياس مع الفارق لا يصح. وأما قول عمر: {إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها} فلأنها تمت من دون تحضير في ظرف طارئ غير محسوب، رسم صيغتها هذا الظرف الطارئ العاجل بلا تخطيط مسبق يقتضي اجتماع أهل الحل والعقد جميعهم، وإلا حسم الأمر وسارت الريح بما لا تشتهي السفن. ولا يعقل أن عمر أراد ذمها، فالتعلق بهذه الكلمة -دون تفسيرها بما يتلاءم مع هذا السياق- تعلق الغريق بالقشة، وتمسك المفلس بكسر النقود! تفرده بوصف (ثاني اثنين) وهو من تجليات المعية له وللنبي صلى الله عليه وسلم خاصة• إن قوله تعالى: (( ثَانِيَ اثْنَيْنِ ))[التوبة:40] وإن جاء في سياق الآية مقصوداً به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مقتضى اللغة يجعله منطبقاً على أبي بكر أيضاً؛ لأن العرب إذا قالوا: ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة أو سابع سبعة لا يقصدون واحداً بعينه وإنما يقصدون واحداً من اثنين وواحداً من ثلاثة•• إلخ، أي: أن كل واحد منهم ثاني اثنين وثالث ثلاثة•• إلخ، كما قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ))[المجادلة:7] فالنبي صلى الله عليه وسلم في الغار كان ثاني اثنين وأبو بكر ثاني اثنين، ولا شك أن ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم من حيث المنزلة يأتي أولاً، فأبو بكر ثاني اثنين لفظاً ومعنى. تجليات (( ثَانِيَ اثْنَيْنِ )) :- وقد تجلى كون الصديق ثاني اثنين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، منها: 1- ثاني اثنين في معية الله تعالى. 2- ثاني اثنين في الإيمان: إذ هو أول من آمن من الرجال. 3- ثاني اثنين في الدعوة إلى الله: إذ هو أول من دعا إلى الله بعد النبي صلى الله عليه وسلم• واهتدى بدعوته خيرة رجالات الإسلام وأعمدته التي قام عليها منهم: عثمان بن عفان: ذو النورين الذي أقام الإسلام بأمواله وجهاده، وعبد الرحمن بن عوف: ظهير عثمان في الإنفاق والجهاد. وسعد بن أبي وقاص: الذي كان يلقب بالأسد عادياً خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من رمى بسهم، وأول من أراق دماً من مشرك في سبيل الله، بطل القادسية، وفاتح العراق ومحرره من الاستعمار الفارسي الذي دام ألفاً ومئة وخمسة وسبعين عاماً، مبيد الأكاسرة وهازمهم. وطلحة بن عبيدالله: الذي كان يلقب بطلحة الخير وطلحة الجود لكرمه، وكان من الشجعان المعدودين الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله• والزبير بن العوام: حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، كان يعد بألف فارس لشجاعته وبلائه في الحروب! وهؤلاء مع علي هم أهل الحل والعقد في الأمة، وأعضاء مجلس الشورى الذي عينه عمر رضي الله عنه لاختيار الخليفة من بعده، مما يدل على حسن اختيار الصديق وبعد نظره في معرفة الرجال• كما أسلم على يديه كثير من مشاهير الإسلام وصفوتهم كأبي سلمة وخالد بن سعيد وعثمان بن مظعون• وهو أول من خطب في المشركين يدعو إلى الله تعالى بعد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، إذ دخل هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فقام أبو بكر فيها خطيباً [من الملاحظ في كتب التاريخ والسيرة أن علياً رضي الله عنه لم يسلم على يده أحد في زمن ضعف الإسلام لا سيما في مكة، وقد يعتذر له بأنه كان صغيراً• وقد فكرت في هذا الموضوع كثيراً أقلبه وأناقشه وأحلله فوجدت أن علياً رضي الله عنه شخص تغلب عليه الطبيعة العسكرية القتالية أكثر من الطبيعة السياسية الدعوية. ولعل هذا هو السر الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يلفت نظره إلى أهمية الدعوة إلى الإسلام قبل القتال، ويرغبه فيها ويحثه عليها يوم أعطاه الراية في خيبر وقال له: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النَّعم) رواه مسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم لاحظ عليه غلبة العنصر القتالي العسكري على العنصر السياسي الدعوي مما دعاه للتأكيد على الجانب الآخر من أجل إحداث الموازنة في شخصيته وتصرفاته المنعكسة عنها. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم جهاز إعلامي من الخطباء والشعراء ينافحون بألسنتهم عن الدين، وإذا أقبلت الوفود ليباروا خطباءهم وشعراءهم، ولم يكن سيدنا علي واحداً منهم!] 4- وثاني اثنين في الغار وهو أحرج موقف تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخطره: يقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو به إذ صعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا من البرية لم يعدل به رجلاً فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: صدقت -يا حسان- هو كما قلت. 5- وثاني اثنين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة والتعرض لمخاطرها. 6- وثاني اثنين في عريش بدر. 7- وثاني اثنين في المشورة والرأي والمداولة في أمور الدين والأمة. 8- وثاني اثنين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه وإيابه. 9- وثاني اثنين في الصلاة: حيث كان هو المقدم إذا غاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما كان في مرض وفاته إذ قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بضعة أيام لم يرض غيره إماماً حتى ولو كان عمر! وكان آخر ما ودع به صلى الله عليه وسلم أُمته أن نظر إلى صفوفهم في الصلاة وهم يؤدونها خلف إمامهم أبي بكر فجر اليوم الذي قبض فيه -بأبي هو وأمي- ومن فرحه ابتسم ابتسامة عريضة رضاءً بما يرى، حتى كاد أن يفتتن المسلمون عن صلاتهم من شدة فرحهم ظناً منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تماثل للشفاء! إن إمامة أبي بكر الصديق أمر يسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفرح له حتى يبتسم ويشرق وجهه بالبشر، فكيف تغيظ مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر ويضيق لها صدره ويتمعر وجهه؟!! [روى مسلم عن أنس بن مالك: أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم بسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً• قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة• فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم• قال: ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر• قال: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك]. 10- وثاني اثنين في الزكاة: يوم أن امتنعت عن أدائها قبائل الجزيرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فحلف أبو بكر: {لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة} وبر بقسمه، فكان الرجل الذي يقول ويفعل، وكان أحق الناس بقوله تعالى: (( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ))[الحج:41]. وكان مسيلمة الكذاب قد اختصر الصلوات الخمس إلى ثلاث مهراً لسجاح فأعادها أبو بكر الصديق إلى ما كانت عليه، وتأمل التقابل بين (الكذاب) و(الصديق) وكيف سلط الله تعالى صديق الأمة على كذابها! وارتدت بعض القبائل عن إقامة الصلاة فأرجعهم إلى إقامتهم. ونشر الصلاة والزكاة في ربوع الأرض التي كانت تحت سيطرة فارس والروم. 11- وثاني اثنين في الحج: إذ أمّره النبي صلى الله عليه وسلم على الحجيج في السنة التاسعة وهي الحجة الوحيدة قبل حجة الوداع، كما مر بنا سابقاً. وهكذا كان أبو بكر ثاني اثنين في أعظم أركان الإيمان والإسلام• 12- وثاني اثنين في القرآن: وهذه من أعظم خصائص الصديق ومناقبه التي أفرده الله بها! يفوز بشرف قوله تعالى: (( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ))[القيامة:17] فكان الذي قرأ القرآن وبلغه وكتبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذي جمعه في مصحف واحد مرتباً بين دفتين. أبا بكر الصديق رضي الله عنه، إذ كان الجمع متعذراً في عهد أولهما صلى الله عليه وسلم لعدم اكتمال القرآن ونزوله مفرقاً لا مرتباً، فلما اكتمل آخر حياته قام بهذا العمل خليفته من بعده، ولا شك أن الله تعالى لا يوفق لكرامة هذا الإنجاز العظيم إلا المصطفين الأخيار والمقربين من الأبرار• 13- وثاني اثنين في قيادة الأمة: فكان (خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وتفرد بهذا اللقب فلم يسم به أحد من الخلفاء وهو من موافقات القدر! وكان الصديق أحقهم به لكمال متابعته لنبيه وسيره الكامل على نهجه. وسمي غيره بـ (أمير المؤمنين) وهو لقب مشترك وليس مختصاً بأحد كلقب (الصديق). 14- وثاني اثنين في دعوة العرب وجهادهم وإدخالهم أو إرجاعهم إلى الإسلام الكامل الصحيح: إذ جاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم كافرين مشركين وجاهدهم الصديق رضي الله عنه مرتدين أو زائغين. 15 - وثاني اثنين في جهاد العالمين: فأول من خرجت جيوشه إلى خارج الجزيرة العربية رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤتة وتبوك، وعقد الراية آخر حياته لأسامة بن زيد رضي الله عنه فأنفذه الصديق ثم توالت من بعد جيوشه تضرب فارس والروم. 16 - وثاني اثنين في الصدق والتصديق: وهي صفة اشتهر بها في الجاهلية، فكان يسمى -كرسول الله صلى الله عليه وسلم- بـ (الصادق) ووصفه ابن الدغنة - وهو أحد شيوخ قبائل العرب - لما رآه عازماً على الخروج إلى الحبشة فقال: (ما مثلك -يا أبا بكر- يخرج، إنك لتصدق الحديث، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر). فوصفه بالصفات نفسها التي وصفت بها خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أول عهده بالوحي وأولها الصدق: (إنك لتصدق الحديث•••) ثم نزلت الآيات في ذلك، كقوله تعالى: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:33] -كما مر بنا-. 17- وثاني اثنين في المنزلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ تفرد بلقب (الصديق)، ومصداق ذلك قوله تعالى: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ))[النساء:69] فكان محمد هو النبي وأبو بكر هو الصديق، ثم يأتي من بعدهم الصحابة ما بين شهيد وصالح، ولهذا لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ثلة من أصحابه على الجبل ورجف بهم قال له: {اثبت أحد! فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد} وكان معه أبو بكر الصديق -ولم يمت شهيداً- وعمر وعثمان وعلي وطلحة.. وآخرون؛ كلهم ماتوا شهداء! فأبو بكر أفضل صديق لأفضل نبي في خير أمة، فهو خيرة البشر بعد الأنبياء عليهم السلام، فمن أولى منه بإمامة الأمة وقيادتها؟! 18- وثاني اثنين في التقوى: ففيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل قوله تعالى: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:33]، وهل يوجد أتقى ممن جمعه الله تعالى مع نبيه وجعله شريكاً له في تقواه! وأدل على ذلك قوله تعالى عنه: (( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ))[الليل:17-18]، فأبو بكر هو الأتقى من بين الأمة، وهو الأكرم، كما قال تعالى: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13] وسيأتي لاحقاً -إن شاء الله- مزيد تفصيل في ذلك. 19- ثاني اثنين في الإحسان وهو أعلى درجات الإيمان: قال تعالى فيه: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ))[الزمر:33-34]. 20- ثاني اثنين في الجزاء والرضا: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ))[الضحى:5] وقال عن ((صاحبه)): (( وَلَسَوْفَ يَرْضَى ))[الليل:21] في آخر قوله: (( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ))[الليل:17-20]. ولم يعد الله تعالى أحداً بعينه بذلك سوى نبيه (وصاحبه) والتعبير عن الوعد واحد• (لسوف••• ترضى) و(لسوف يرضى). ولو تدبرنا الآية في الفقرة السابقة (19) لوجدناه مشاركاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجزاء المذكور بقوله: (( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[الزمر:34-35]. |
==============
21- ثاني اثنين في التنويه بالذكر والفضل تشخيصاً في القرآن:
إذ أن كل ما ورد في القرآن الكريم من فضائل في شأن الصحابة رضي الله عنهم جاء في صيغة العموم، وليس في صيغة التخصيص التي يفهم منها تشخيص المراد بالذكر دون الحاجة إلى معرفة أسباب النزول، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم -فهو الأصل، والقرآن كله في فضائله- وصاحبه، فإن آية الغار قد تواطأت القلوب والعقول على أنها في الصديق دونما حاجة لأسباب النزول. أما (زيد) الذي جاء ذكره في سورة (الأحزاب) فقد ورد عرضاً دون إشارة إلى مدح أو ذم في قوله تعالى: (( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ))[الأحزاب:37]. وأما الثلاثة الذين خلفوا وذكروا في سورة (التوبة) فهم قد ارتكبوا ذنباً تابوا منه فتاب الله عليهم ولا يمكن معرفتهم دون الرجوع إلى روايات أسباب النزول. 22- ثاني اثنين في (الحديبية): إذ هو الوحيد من الصحابة رضي الله عنهم الذي تابع المتابعة التامة وكان موافقاً (لصاحبه) في كل شيء دون تلجلج أو تردد ولا اعتراض، بل كان منشرح الصدر إيماناً ويقيناً، والجمع المؤمن كله مغموم مكروب، وفيهم عمر وعلي الذي رفض أن يمحو من كتاب الصلح كلمة (رسول الله) رغم أن الذي أمره بمحوها الرسول نفسه فاضطر إلى محوها بيده الشريفة بعد أن دله عليها! وعمر يقول: {يا نبي الله! ألست نبي الله حقاً؟ فيجيبه صلى الله عليه وسلم: (بلى يا عمر!) قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: (يا عمر! إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري) ويذهب إلى أبي بكر -والموقف عصيب- ليلقي عليه الأسئلة نفسها، ويتلقى الأجوبة نفسها التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عمر: فأخذ أبو بكر بيدي وجذبها في قوة، وقال لي: (أيها الرجل! إنه رسول الله، ولن يعصيه، وإن الله ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله، إنه على الحق) فأنزل الله السكينة على قلبي، وعلمت أنه الحق}• 23- ثاني اثنين في المطاعن: إن أعظم مطعن وجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عرضه وزوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعائشة ابنة أبي بكر فكان أبو بكر ثاني اثنين في أعظم المطاعن! 24- وثاني اثنين في المخاطر التي تعرض لها بيته يوم الهجرة: إذ كان الكفار يترددون بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيت أبي بكر رضي الله عنه، حتى أن أبا جهل ضرب ابنته أسماء رضي الله عنها فأطار قرطها من أذنها وأدمى وجهها! وكان يوشك بيته أن يتعرض للمحو والاجتثاث! 25- ثاني اثنين في مماته: كما كان في حياته! فكان قبره بجوار قبر (صاحبه)، وتفرد أبو بكر بـ(الصحبة) وفاز بها حياً وميتاً!! أما قبر عمر الصاحب الثاني فكان إلى جوار قبر أبي بكر. تفرده بمواساة النبي صلى الله عليه وسلم 1- وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم الثابت قطعاً في القرآن الكريم: (( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )) وهذه من خصائص الصديق رضي الله عنه حتى كأن الله تعالى هو المواسي، وهي من جنس مواساة الله لرسوله في قوله: (( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ))[النحل:127] قوله: (( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ))[يس:76] وقوله: (( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ))[الأنعام:33] ومواساة المؤمنين بقوله: (( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ))[آل عمران:139] ولكن مواساة أبي بكر خاصة ومواساة المؤمنين عامة. ومواساة الله تعالى لأم موسى وتطمينها بقوله: ((فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ))[القصص:7]. ومواساة عيسى عليه السلام لأمه كما أخبر الله بقوله: (( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ))[مريم:24] فكيف بمن كان الله العلي الأعلى معه! ومواساة الملائكة لنبي الله لوط عليه السلام: ((وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ))[العنكبوت:33] وتطمينهم للمؤمنين عند الموت، كما قال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ))[فصلت:30]. 2 - سورة (الليل) وآية (( الأَتْقَى )) وهو الصديق رضي الله عنه: وهذه من أعظم فضائله وخصائصه؛ إذ يصفه الله تعالى فيها بـ(( الأَتْقَى ))! والأتقى هو: الأفضل والأكرم عند الله تعالى كما قال: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13] فهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأكرمها عند الله. وسورة (الليل) مكية من أول ما نزل من القرآن، يأتي ترتيبها في المصحف قبل سورة (الضحى)، وجميع ما فيها من فضائل نزلت بحق الصديق رضي الله عنه، كما أن (الضحى) نزلت بشأن النبي صلى الله عليه وسلم، فسورة (الليل) لأبي بكر رضي الله عنه، وسورة (الضحى) للنبي محمد صلى الله عليه وسلم! جاء في أسباب النزول للسيوطي: (أخرج الحاكم عن عامر بن عبدالله بن الزبير عن أبيه قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: {أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك يا بني! فقال: يا أبت! إنما أريد ما عند الله، فنزلت هذه الآيات فيه: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ))[الليل:5] إلى آخر السورة}. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة: أن أبا بكر أعتق سبعة كلهم يعذب في الله، وفيه نزلت (( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ))[الليل:17] إلى آخر السورة. وأخرج البزار عن ابن الزبير قال: {نزلت هذه الآية: (( وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ))[الليل:19] إلى آخرها في أبي بكر الصديق}• والاختبار يؤيد ما سبق، ويظهر أن فضائل هذه السورة لا تنطبق تمام الانطباق إلا على الصديق رضي الله عنه! فلو أخذنا حال الخلفاء الراشدين الثلاثة وأجرينا الاختبار يتبين لنا ما يلي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأخر إسلامه إلى السنة الثالثة أو ما بعدها، والسورة من أول ما نزل ولعلها سبقت في نزولها إسلامه، ولم يكن انفاقه كأبي بكر وهو القائل: {ما سابقت أبا بكر إلى خير إلا سبقني}. وعثمان بن عفان رضي الله عنه كانت نِعم رسول الله صلى الله عليه وسلم تطوقه: إذ زوجه بابنتيه رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما، وهذه من أعظم النعم الدنيوية والأخروية، والسورة تقول عن هذا المنفق الذي يؤتي ماله يتزكى: (( وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ))[الليل:19] أي: ليس لأحدٍ عليه سابق نعمة يكافئها بهذا الإنفاق رداً للجميل• وإنفاقه رضي الله عنه اشتهر في المدينة كشرائه بئر رومة وتجهيزه جيش العسرة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: { ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر}. أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكان حين نزول الآية صبياً في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك مالاً ينفقه على نفسه، ولا على غيره، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينفق عليه ويكفله ويحوطه ويئويه، ثم زوجه ابنته السيدة فاطمة رضي الله عنها خيرة نساء العالمين، والآيات تصف المذكور بأنه (( يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ))[الليل:18] ولم يكن عند علي من مال عند نزولها، (( وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ))[الليل:19] وكانت نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكورة آنفاً تطوقه من كل جانب فليس هو المقصود إذن. أما أبو بكر رضي الله عنه فلم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لغيره عنده من سابق نعمة يكافئها أبو بكر بإنفاقه على الدعوة أو في حوائج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها ما خلا أبا بكر، فإن له يداً يكافئه الله بها يوم القيامة؛ واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته}. إلا نعمةَ النبوة والهداية إلى الحق وهي غير مقصودة في الآية؛ لأنها لا تجزى، والآية في ذكر النعمة التي تجزى، وهي عامة في أعناق الجميع وليست خاصة بأبي بكر وحده. وفي السورة وعد لأبي بكر بقوله تعالى: (( وَلَسَوْفَ يَرْضَى ))[الليل:21] وهو نفس ما وعد الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الضحى بقوله: (( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ))[الضحى:5] وهو خاص بأبي بكر، كذلك فيها قوله عنه: (( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ))[الليل:7] وهو نفس ما قاله عن نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأعلى: (( وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ))[الأعلى:8] وذلك خاص بأبي بكر أيضاً. فأبو بكر هو (الأتقى) وغيره -كأمية بن خلف الذي نزلت فيه الصفات المقابلة- هو (الأشقى) والفرقان بينهما واضح جلي وضوح النهار عن الليل. ففضل أبي بكر وتميزه كتميز النهار على الليل: (( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ))[الليل:1-7] وبمال أبي بكر منّ الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الضحى، فقال: (( وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ))[الضحى:8] وبفضله -وهو من معاني الآية- أمره أن يحدث: (( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ))[الضحى:11] والله تعالى يقول: ((وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ))[البقرة:237] وأبو بكر هو صاحب الفضل الذي نوه الله بذكره بقوله: (( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))[النور:22] وبذلك نوه النبي صلى الله عليه وسلم وحدث كما أمره الله تعالى، فقال كلامه السابق في أبي بكر: {ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها ما خلا أبا بكر، فإن له يداً يكافئه الله بها يوم القيامة؛ واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته}. بين النهار والليل والمؤمن والمنافق إن إنفاق المال هي الصفة الفارقة بين المؤمنين والمنافقين، يقول تعالى: (( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))[التوبة:67] وقال في صفة المنافقين أيضاً: (( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ * فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ))[التوبة:54-55] وأبو بكر رضي الله عنه بلغ قمة السخاء في الإنفاق في سبيل الله، حتى صار ذلك علامة عليه مثبتة في القرآن، كالنقطة الدالة ترشد إليه، فهو: (( مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ))[الليل:5-6] وهو ((الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ))[الليل:17-18] آيات نزلت في الصديق سورة (الشرح): والمقصود منها قوله تعالى: (( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ))[الشرح:1-3]. وهي مكملة لسورة (الضحى) وتأتي بعدها حتى كأنهما سورة واحدة، والوزر هو: الحمل الثقيل الذي جاء ذكره في قوله تعالى: (( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ))[المزمل:5] وهو الأمر بالدعوة والتصدي للناس بالأمر والنهي• ولم يخف هذا الحمل عنه صلى الله عليه وسلم بأحد كأبي بكر رضي الله عنه، إذ كان ساعده الأيمن وظهيره الأقوى في كل شيء، وسخر في خدمته نفسه وماله. وكان أتباعه يعذبون، فكان أبو بكر يبذل ماله في خلاصهم وشرائهم، وذلك مما يفرج الضيق ويزيح الهم عن صدر رسول الله. وكان مع النبي يتدارس أمور الدعوة ويضع الخطط، ويقول ويشير، ويغدو ويروح، ويجلس ويسمر، ويسر إليه بالأمور الخطيرة [من ذلك قوله بعد القضاء على المرتدين: (واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه واختار ما لديه، ألا وإني عازم أن أوجه أبطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأني بذلك قبل موته)] وهذا كله مما يخفف الحمل ويزيح العبء الثقيل عن الصدر فينفسح وينشرح. ولا شك أن الهم والعبء لا يمكن أن يخف بصبي أو غلام كعلي لأسباب كثيرة، منها: - عدم التقارب النفسي بين صبي وشيخ جاوز الأربعين. - عدم قدرة الصبي الجسدية والفكرية على تحمل الأعباء. - عدم امتلاك المنزلة الاجتماعية المؤثرة. - عدم القدرة المادية. ولذلك لم يبرز دور سيدنا علي ويصبح شخصية اجتماعية مرموقة إلا في المدينة بعد بدر، وكان المشركون يطلبون رأس عمه حمزة للثأر من قتلى بدر؛ لأنه هو الشخصية البارزة المؤثرة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادة أهل الجاهلية في الثأر والانتقام لا يكون إلا ممن يرونه مقدماً عند الخصوم وبارزاً في المجتمع. أما الزوجة فيمكن أن تخفف عن الزوج حمل البيت، أما مكابدة أمر الناس في الخارج فلا، وهكذا انطبقت سورة الشرح على أبي بكر، فشرح الله به صدر نبيه صلى الله عليه وسلم ووضع وزره ويسر عليه كل أمر عسير. آية التفضيل في سورة (الحديد): وهي قوله تعالى: (( وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ))[الحديد:10]. في هذه الآية العظيمة يجعل الله للتفضيل أسساً ثلاثة هي: 1-الإنفاق. 2- القتال. 3- السبق في الإنفاق والقتال. ولو أجرينا مقارنة منصفة بين الإمامين الكريمين: أبي بكر وعلي رضي الله عنهما لكانت النتيجة كالآتي: أبو بكر رضي الله عنه أعظم من أنفق من قبل الفتح، وما انتفع الإسلام بمال أحد كما انتفع بمال أبي بكر. أما علي رضي الله عنه فلم يكن عنده من مال ينفقه لا من قبل الفتح ولا من بعده وذلك لفقره، وكان في مكة في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم، وظل الفقر ملازماً له طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعرف عنه أنه جهز جيشاً أو حل معضلة مادية. وقدم الله تعالى الإنفاق على القتال؛ لأن الدعوات إنما تقوم أولاً على مال المنفقين لا على قوة المقاتلين. فهذا العنصر الأول والأعظم من عناصر التفضيل كله لأبي بكر عملاً وسبقاً. وأما القتال فلأبي بكر منه النصيب الأعلى، إذ كان قتاله قتال القادة المخططين الذين يرقبون ميدان المعركة يديرونه ويوجهونه ولا ينزلون لمباشرة القتال بأنفسهم إلا عند الحاجة القصوى، فكان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركز القيادة يخطط ويرقب مجريات المعركة ويوجهها، وهذا أعظم في الميزان من قتال الجندي الباسل في الميدان مهما بلغت درجة بسالته وفتكه بالأقران كما كان شأن سيدنا علي رضي الله عنه، ثم إن التخطيط والقيادة تسبق مباشرة القتال. ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في النزول للمبارزة، كما حصل عندما برز ابنه عبد الرحمن في بدر -وكان مشركاً- فأراد أبو بكر أن يبرز له، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (متعنا بنفسك يا أبا بكر!). فكان يمنعه ويأذن لغيره؛ لأن أبا بكر ليس من السهل أن يفرط فيه أداء لمهمة يمكن أن يقوم بها عنه آخرون، كان ينتدبهم النبي صلى الله عليه وسلم لها، كما انتدب علياً رضي الله عنه لقيادة الكتيبة الاقتحامية في خيبر فكان الفتح على يديه. ودافع أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وضرب عنه بيده، فضرب حتى أدمي وأغمي عليه وهو يقول: {أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله} يقصد النبي صلى الله عليه وسلم• وذلك في مكة وهو من جنس القتال الممدوح، فكان رضي الله عنه سابقاً في هذا (( وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ))[الحديد:10] والدرجات العلى في الجنة• وكذلك كان قتال النبي صلى الله عليه وسلم هو قتال القادة، وهو لا يقاس بعدد من يقتل أو الجهد البدني الشخصي المبذول في ساحة القتال، إنما هذا هو شأن الجندي وعمله، ولذلك لا يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل إلا القليل النادر، ولكنه مع هذا أفضل وأعظم من قاتل وجاهد في سبيل الله! آية الفضل في سورة (النور): وهي قوله تعالى: (( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[النور:22]. وقد سبق الكلام عنها في موضوع (آثار الصحبة) ووجه تفرد أبي بكر في الفضل الوارد فيها، وذلك من خصائصه العظيمة. آية التصديق في سورة (الزمر): وهي قوله تعالى: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ))[الزمر:33-36] فالذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وأعظم من صدق به الصديق رضي الله عنه، فهو أول المقصودين بالآية وما بعدها. وفي قوله تعالى: (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ))[الزمر:36] إشارة إلى آية الغار: (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] فكما نصره بواحد صدقه بواحد (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ))[الزمر:36]. ولا شك أن المصدقين كثيرون ولكن أعلاهم تصديقاً الصديق لشدة صدقه وعلي واحد منهم إلا أن الآية -على قواعد الإمامية- لا تشمله! جاء في (المنتقى من منهاج السنة) للذهبي (ص470) أن أبا بكر بن عبد العزيز غلام الخلال سئل عن هذه الآية؟ فقال: (نزلت في أبي بكر، فقال السائل: بل في علي، فقال أبو بكر: اقرأ ما بعدها، فقرأ إلى قوله: (( لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ))[الزمر:35] فقال: علي عندكم معصوم لا سيئة له فما الذي يكفر عنه؟! فبهت السائل. آية (الصادقون) في سورة الحشر: وهي قوله تعالى: (( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ))[الحشر:8] وأبو بكر الصديق أصدق الصادقين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هاجر مع رسول الله وأخرج من داره وماله، وأنفق ما يملك ابتغاء فضل الله ورضوانه وهو أكثرهم نصرة لله ورسوله، حتى أن الله أنزل فيه وفي المؤمنين هذه الآيات التي يستنفر بها همم المؤمنين جميعاً، ويضرب لهم المثل بأبي بكر الصديق وكيف نصر الله ورسوله فقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ))[التوبة:38] إلى قوله (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] فلم يستثن من هذا العتاب الموجه إلى جميع المؤمنين إلا نبيه صلى الله عليه وسلم و(صاحبه). فكان أبو بكر رضي الله عنه أفضل الصادقين الذين نصروا الله ورسوله، فهو الأولى بالإمامة، فإن الله تعالى يقول: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))[التوبة:119] فأمر جميع المؤمنين أن يكونوا تبعاً للصادقين وهم تبع لأصدقهم وأفضلهم، وبهذه الآية احتج أبو بكر على الأنصار في أن المهاجرين أولى منهم بالإمارة وأن المهاجرين هم الأمراء، والأنصار هم الوزراء، فكان أبو بكر إمام الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. آية الاستخلاف في سورة (النور): وهي قوله تعالى: (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))[النور:55]. وبر الله عز وجل بوعده فمكن للمؤمنين وجعل منهم الخلفاء الراشدين، أولهم: أبو بكر الصديق بل هو (خليفة رسول الله) بلا منازع، وغيره (خليفة المسلمين) و(أمير المؤمنين). وهذا يدل على توفر الشرط -وهو الإيمان والعمل الصالح- فيمن استخلفهم ومكن لهم وإلا لما حصل الوعد بالاستخلاف والتمكين لأنه مشروط به. ومكن الله للمؤمنين وحصل لهم من الأمان والاطمئنان والقوة والإيمان في زمن أبي بكر؛ ما استطاعوا به أن يزعزعوا كيان أكبر دولتين في عالمهم فارس والروم. وكان نصيب أبي بكر من الاستخلاف والتمكين والأمن أكبر من علي الذي لم يستطع أن يبسط سلطان خلافته على جميع المسلمين، ولم يبلغ من القوة والتمكين ما يستطيع به قهر خصومه ومخالفيه، بل طمع في المسلمين الروم وفكروا في غزوهم، حتى هددهم معاوية بمصالحة علي والمسير إليهم إن لم يكفوا؛ فرجعوا عما هموا به وعزموا عليه. آية التمكين في سورة (الحج): وهي قوله تعالى: (( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ))[الحج:41] وأبو بكر الصديق أولى الأمة بهذه الآية لأسباب عديدة، منها: 1- أنه صلى بالناس إماماً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وكان علي رضي الله عنه وغيره يصلي خلفه مأموماً، وصلاة الإمام أكمل من صلاة المأموم. وإلا لم ينبغ له التقدم عليه إلا لعذر، وتقدم أبي بكر لإمامة المسلمين في الصلاة كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم و(تزكيته) وهو القائل: {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله}. 2- أنه صلى أول الإسلام وهو رجل بالغ، وصلى علي وهو صبي، وصلاة البالغ أكمل وأوجب، فإن صلاة الصبي على سبيل الاستحباب وصلاة البالغ على سبيل الوجوب والواجب، أحب إلى الله، ولذلك أوجبه على العباد. 3- أنه لما مكن الله له في الأرض قاتل على الصلاة وأرجع المرتدين إلى حضيرة الإسلام فأقاموها، ونشر الإسلام خارج الجزيرة العربية، فصار الناس يقيمون الصلاة في تلك البلدان، فاكتمل في حقه قوله تعالى: (( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ )) وعلي رضي الله عنه لما مكن الله له حكم أناساً مسلمين يصلون ولم يتمكن -لانشغاله بإخماد الفتن- من نشر الإسلام إلى الخارج، بل ابتلي بقتال المصلين! 4- وأما الزكاة فقد أداها أبو بكر عن نفسه ولم يفعل ذلك علي لفقره. 5- ولما مكن الله لأبي بكر قاتل الناس على الزكاة حتى صاروا يؤدونها، سواء منهم من كان مسلماً فامتنع عن أدائها أم كان كافراً فأسلم، وعلي لم يفعل ذلك في حال تمكينه لانشغاله بإخماد الفتن -كما قلنا- وقد قتل فيها عشرات الآلاف من المصلين والمزكين من الطرفين مما قلل عددهم، ومن الطبيعي أن تستنزف الحروب الداخلية أموال الأمة ومواردها مما يؤدي إلى افتقار كثير ممن كان يؤدي الزكاة، ويجعلهم غير قادرين على أدائها! فكان الذي -لما مكن الله له في الأرض- أقام الصلاة وآتى الزكاة هو الصديق، فهو أولى بالخلافة والتمكين لاستيفائه شروطه كاملة، وكلٌ من الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم أجمعين. 10- قوله تعالى: (( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ))[الفتح:16]. وهذه الآية لم تكن إلا في حق أبي بكر رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل بعد هذه الآية -أي بعد صلح الحديبية- قوماً أولي بأس شديد فأسلموا. فيهود خيبر لم يسلموا. ومكة فتحت بلا قتال أوبأس شديد. وأهل الطائف أسلموا بعد ذلك طواعية ولم يسلموا بقتال. وتبوك لم يحصل فيها قتال ولم يسلم أحد. هذا كل ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية فليس هو المقصود بها. وعلي رضي الله عنه لم يقاتل أحداً في عهده على الدخول في الإسلام بل قاتل أناساً مسلمين، قاتل أهل مكة والمدينة في (الجمل) ولم يكن قتالاً على الإسلام، فما كان أحد الفريقين يتهم الآخر بالخروج منه فهو يقاتله ليدخله فيه، ولم يحدث أي تحول في اعتقاد الفريق الذي قاتله. والخوارج لم يكونوا كفاراً بل مبتدعين، ولم يقاتلهم علي على بدعتهم للرجوع عنها، وإنما لأنهم حملوا السلاح وسفكوا الدم الحرام وقطعوا الطريق وأخافوا الناس بعد أن قال لهم: {لكم علينا ألاّ نمنعكم مساجدنا، ولا نمنعكم فيئكم ما دمتم تقاتلون معنا مالم تحدثوا حدثاً}. وقاتلهم فلم يرجع أحد منهم عما هو فيه، بل ظلوا خارجين حتى قتلوه، ومات رضي الله عنه وهو يوصي بهم قائلاً: {لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه} [(نهج البلاغة) (1/108)] ولو كانوا كفاراً أو مرتدين لما نهى عن قتالهم، وجعلهم متأولين في ارتكابهم الباطل غير قاصديه أصلاً، ورغب بالعفو عن قاتله، فقال: {إن أبقَ فأنا ولي دمي، وإن أفنَ فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة فاعفوا! ألا تحبون أن يغفر الله لكم} [(النهج) (3/21)] والمرتد يجب قتله -إلا إذا تاب- فكيف وهو مصر بل مرتكب لجريمة القتل مع (سبق العمد والترصد والإصرار!). وقال: {با بني عبد المطلب! لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين تقولون: قتل أمير المؤمنين: ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي} [(النهج) (3/77)] فسمى الخوارج مسلمين ونهى عن الخوض في دمائهم. إنما الذي قاتل من ذكرتهم الآية هو أبو بكر الصديق إذ قاتل المرتدين والفرس والروم -وكانوا أولي قوة وأولي بأس شديد- حتى استسلموا وأسلموا، والله تعالى دعا المخلفين من الأعراب إلى القتال معه ووعدهم بالأجر الحسن على ذلك، وهذا دليل على صحة إمامته، وإلا لما رغَّب الرب في القتال تحت رايته. آية قتال المرتدين في سورة (المائدة): وهي قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))[المائدة:54] وهذا ملخص قول الإمام الرازي في الآية: إن هذه الآية يجب أن يقال: إنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه، والدليل على ذلك: أن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين، وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين، ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام؛ لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين... ولا يمكن أن يكون المراد هو علي؛ لأن علياً لم يتفق له قتال أهل الردة. فإن قالوا: بل قتاله مع أهل الردة؛ لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً؟ قلنا: هذا باطل من وجهين: الأول: أن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركاً للشرائع الإسلامية، والقوم الذين نازعوا علياً ما كانوا كذلك في الظاهر، وما كان أحد يقول: إنه إنما حاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام، وعلي لم يسمهم ألبتة بالمرتدين. الثاني: أنه لو كان كذلك لوجب -بحكم ظاهر الآية- أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح، ولما لم يوجد ذلك ألبتة؛ علمنا أن منازعة علي في الإمامة لا تكون ردة، وإذا لم تكن منازعته ردة لم يمكن حمل الآية على علي؛ لأنها نزلت فيمن يحارب المرتدين. وكلمة (من) -في معرض الشرط- للعموم، فقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54] الآية، يدل على أن كل من صار مرتداً عن دين الإسلام، فإن الله يأتي بقوم يقهرونهم ويبطلون شوكتهم. فلو كان الذين نصبوا أبا بكر كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويبطلون شوكتهم، ولم يكن الأمر كذلك، بل كان بالضد، إذ قهر الله خصومهم وقمع بهم المرتدين. وعلي لم يحارب أبا بكر بل حمل السيف تحت لوائه في وجه المرتدين، وكان هو على رأس الكتيبة التي تولت حراسة المدينة حينما خرج أبو بكر بنفسه ليقود أول معركة معهم حول المدينة،
===========
ولما انتهت المعارك بدحرهم على يد أبي بكر أكرم علياً فزوجه بسبية من بني حنيفة ولدت له ابنه محمداً. وهذا دليل آخر على ردتهم؛ لأن علياً قبلها من الصديق ونكحها نكاح ملك اليمين.
وقاتل عمار بن ياسر المرتدين حتى صمت أذنه، ويعيره يوماً رجل فيقول: ياذا الأذن، فيجيبه عمار رضي الله عنه بقوله: {خير أذنيَّ سببت}. وفي الآية صفات جعلها الله لمن أرادهم بها: أولها: أنه -سبحانه- (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54] فلما ثبت أن المراد بها هو أبو بكر ثبت أن قوله: (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54] وصف لأبي بكر، فدل ذلك على صحة إمامته. وثانيها: قوله: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] وهي صفة أبي بكر أيضاً؛ لأنه هو المراد بالآية، ويؤيده الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال: {أرحم أمتي بأمتي أبو بكر} فكان موصوفاً بالرحمة والشفقة على المؤمنين، وبالشدة مع الكافرين كما أحرق الفجاءة حين ارتد وخدعه فغدر به. ألا ترى أنه في أول الأمر حين كان الرسول في مكة وكان في غاية الضعف، كيف كان يذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف كان يلازمه ويخدمه؟ وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم، وفي آخر الأمر -أعني خلافته- كيف لم يلتفت إلى قول أحد، وأصر على أنه لا بد من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى لو آل الأمر إلى أن يخرج إلى قتال القوم وحده، فكان أشد الصحابة في ذلك وأعزهم على الكافرين، فكان قوله تعالى: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] لا يليق به! وثالثها: قوله: (( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54] فهذا مشترك فيه بين أبي بكر وعلي، إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل، وذلك أن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعثة، وهناك الإسلام كان في غاية الضعف، والكفر كان في غاية القوة، فكان أبو بكر يجاهد الكفار بمقدار قوته ويذب عن رسول الله بغاية وسعه، وأما علي فإنما شرع في الجهاد يوم بدر وأحد، وفي ذلك الوقت كان الإسلام قوياً، وكانت العساكر مجتمعة، فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من أوجه: 1- أنه كان متقدماً عليه في الزمان، فكان أفضل. 2- أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهاد علي كان في وقت الشدة• 3- أن أبا بكر تفرد عن علي بالجهاد بالمال، وهو أول عناصر التفضيل التي جاءت في قوله: (( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ))[الحديد:10]. 4- أن جهاد أبي بكر كان جهاد القائد، وجهاد علي جهاد الجندي الباسل. ورابعها: قوله تعالى: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )) وهذا لائق بأبي بكر؛ لأنه متأكد بقوله تعالى: (( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ))[النور:22] متى كان الأمر كذلك وجب القطع بصحة إمامة أبي بكر، إذ لو كانت باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به) اهـ. بتصرف وجاءت بعدها في السياق مباشرة آية الولاية فهي مكملة لها. آية الولاية: وهي قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ))[المائدة:55-56]. وهي عامة، ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية من الأولى بالوصف: يكون أبو بكر هو الأولى، لأنه هو الذي أقام الصلاة وآتى الزكاة -على المستويين الشخصي والجماعي- على أكمل وجه [راجع ما جاء في الفقرة (10) عند الكلام على آية التمكين في سورة الحج]، وكان خصومه مكبوتين مغلوبين. وتحقق له الغلب أكثر مما تحقق لعلي، فإن الله تعالى مكن له في الأرض وبايعته الأمة جميعاً ونصره على المرتدين نصراً حاسماً، وما مات إلا وجيوشه تطارد جيوش أكبر دولتين في العالم آنذاك وتحرز النصر والغلب المتلاحق عليهم. بينما علي لم يكن سلطانه مبسوطاً، ولم يتغلب إلا على الخوارج وكان غلباً جزئياً، إذ ظلت فلولهم هنا وهناك تعيث فساداً حتى تمكنوا في نهاية المطاف من قتله رضي الله عنه. أما أهل الشام فقد رجحت كفتهم شيئاً فشيئاً لا سيما في أخريات عهده. ولا شك أن علياً من حزب الله، لكن تحقق الآية في أبي بكر أكثر وأوضح، وأما قصة الخاتم فهي موضوعة لم ترد بسند صحيح قط، ومما يدل على وضعها واختلاقها ما ثبت من فقر علي رضي الله عنه لا سيما عند نزول الآية، فإنه كان فقيراً لا يملك نصاب الزكاة، والآية في الذين يؤتون الزكاة، والزكاة مصطلح قرآني لا يطلق إلا على الفريضة المعروفة، وعلي -عند نزول الآية- لم يكن ممن يؤتون الزكاة، فكيف تصرف الآية إليه فضلاً عن تخصيصه بها دون سواه! ولو افترضنا صحة الحكاية فهي ليست أكثر من سبب للنزول، وقد تقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فتكون مما يدل على فضله رضي الله عنه، وفضائله كثيرة مشهورة لا ينكرها مسلم. والراجح مما ذكر من أسباب النزول أنها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه [روى ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبدالله بن أُبَي بن سلول وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم -وكان أحد بني عوف من الخزرج- وله من حلفهم مثل الذي لهم من عبدالله بن أُبي، فخالفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من حلف الكفار وولايتهم وقال: يا رسول الله! أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين. قال عبادة: ففيَّ وفي عبدالله بن أُبي نزلت الآيات من (يا أيها••• فإن حزب الله هم الغالبون) أسباب النزول في حاشية روائع البيان لمعاني القرآن أيمن عبدالعزيز] حيث تبرأ من حلف اليهود وولايتهم إلى ولاية الله ورسوله والمؤمنين، في مقابل تمسك عبدالله بن أبي بن سلول بحلفه معهم، فنزل فيه قوله تعالى في الآية (51) من سورة المائدة وما بعدها: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ))[المائدة:51-52] الآيات. [عبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله] وفي عبادة نزل قوله تعالى في الآية (55) وما بعدها: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا )) الآيتين، ثم عادت الآيات تنهى عن موالاة اليهود والنصارى وغيرهم: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ))[المائدة:57] وما بعدها. ومع أن عبادة سبب النزول [على أنه ورد في بعض الروايات أن الآية نزلت في أبي بكر كما في أسباب النزول للثعلبي عن ابن عباس، الحجج الدامغات لنقض كتاب المراجعات (1/130) لأبي مريم الأعظمي• وفي ((الحلية)) (3/185) عن عبدالملك بن أبي سليمان قال: (سألت أبا جعفر الباقر عن الآية؟ فقال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قلت: يقولون: هو علي؟ فقال: علي منهم). وروى ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال: من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا الحجج الدامغات (1/131 ـ 132)] إلا أن الآية ليست خاصة به، بل عامة في كل من تبرأ من أعداء الله ووالى الله ورسوله والذين آمنوا، وأبو بكر أفضل من تبرأ من أولئك وتولى هؤلاء، على الوجه الذي فصلناه في أول الكلام عن الآية. ما خصه به النبي صلى الله عليه وسلم من الفضل لم يرد في فضل أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث النبوية الشريفة كما ورد في فضل الصديق رضي الله عنه، وهذه باقة من أزاهيرها الطيبة: - روى البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً فتبعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم برجله وقال: {اثبت أحد! فما عليك إلا نبيصديق وشهيدان} {الصديق على حد النبي في المرتبة فهو فوق الشهيد ودون النبي، يقول الله تعالى: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ))[النساء:69]. - وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قلت لجبريل ليلة أسري بي: إن قومي لا يصدقونني، فقال: يصدقك أبو بكر الصديق، فعرف منذ ليلة الإسراء بالصديق} وكان علي رضي الله عنه يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء (الصديق) قلت: وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ))[الزمر:36] الذي جاء بعد قوله: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:33]، وهو شبيه بقوله: (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ))[التوبة:40]، فكما نصره بأبي بكر؛ صدقه -كذلك- بأبي بكر! - روى البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: {لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر} وهذا في آخر أيامه صلى الله عليه وسلم، والخلة أعظم درجات الحب. - وهذا يشبه جواب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه حيث سأله: {من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبو بكر} رواه مسلم وغيره. - وروى البخاري عن جبير بن مطعم قال: {أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئتك فلم أجدك؟ -كأنها تريد الموت- قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر} وفيه إشارة واضحة إلى أنهلخليفة من بعده. - وفي (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها قالت: {دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي برئ فيه، فقال: ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه، فلا يطمع في الأمر طامع. ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر -وفي رواية- معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر}. - {ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت منه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر ما عكم (تلبّث) عنه حين ذكرته له وما تردد فيه}. - {ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة: واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته} رواه الترمذي والطبراني، ومصداق ذلك قوله تعالي: (( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ))[الليل:17-21]. - وعن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال: {كنا عند باب النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من المهاجرين والأنصار نتذاكر الفضائل، فارتفعت أصواتنا، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (فيم أنتم؟)، قلنا: نتذاكر الفضائل قال: (فلا تقدموا على أبي بكر أحداً فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة)} [الرياض النضرة]. - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي، قال أبو بكر: وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه قال: أما إنك -يا أبا بكر- أول من يدخل الجنة من أمتي} رواه أبو داود والحاكم. - وأخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال صلى الله عليه وسلم: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا• قال صلى الله عليه وسلم: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً قال أبو بكر: أنا• قال صلى الله عليه وسلم: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا• فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة}. - وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر} رواه أصحاب السنن• - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: {كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم، فقال: يا بلال! إن حضرت الصلاة ولم آت؛ فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال ثم أمر أبا بكر فتقدم بهم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر، وكان أبو بكر إذا دخل في الصلاة لم يلتفت، فلما أن سمع التصفيق لا يمسك عنه التفت، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بيده أن امكث مكانك، فقام أبو بكر هنيهة، فحمد الله على ذلك، ثم مشى القهقرى، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس، فلما قضى صلاته قال: يا أبا بكر! ما منعك إذ أومأت إليك ألا تكون مضيت؟ فقال أبو بكر: لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم!} رواه مسلم دون قوله: {يا بلال! إن حضرت الصلاة ولم آت؛ فمر أبا بكر فليصل بالناس}. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: {لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: فقلت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف -أي: سريع الحزن والبكاء- إنه متى يقم مقامك لا يُسمع الناس فلو أمرت عمر!! فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: فقلت لحفصة: قولي: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر! فقالت له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس. قالت: فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض، قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه فذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقم مكانك، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر قائماً يقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر} رواه مسلم. إن هذا الإصرار من النبي صلى الله عليه وسلم على تقديم أبي بكر في الصلاة يشير إلى أفضليته وأعلميته، وأنه لا ينبغي أن يتقدم عليه أحد ولو كان عمر! وهذا في آخر أيامه... ولا شك في دلالته على أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد لأبي بكر رضي الله عنه أن يخلفه في إمامة المسلمين السياسية كما خلفه -بإرادته الجازمة- في الإمامة الدينية• فكانت آخر صلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً بالأمة. إن هذه الصلاة -وهي آخر صلاة صلاها النبي المصطفى إماماً بالأمة- تمثل ما أراد الله ورسوله، وما وقع على مرادهما أصدق تمثيل: إن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم وقيام أبي بكر للصلاة رمز إلى قيام أبي بكر بالأمر كله من بعده، إنه جلس وسيغادر الحياة. إن قيام أبي بكر بالأمر إنما هو من خلف رسول الله، فأبو بكر متبع له في قيادته وإمامته للأمة والناس مؤتمون بأبي بكر الذي هو مؤتم بالنبي صلى الله عليه وسلم. ألا ما أروعها من صورة!! فمن أولى من صاحبها بولاية الأمر بعد (صاحبه)؟! - وعن عبدالله بن زمعة رضي الله عنه قال: {لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة، فقال: مروا من يصلي للناس فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر! قم فصل بالناس فكبر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته -وكان عمر رجلاً مجهراً- قال: فأين أبو بكر! يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة بالناس}. - وروى مسلم عن أنس قال: {لم يخرج إلينا نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، فأُقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه، فلما وضح لنا وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم، ما نظرنا منظراً قط كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا، قال: فأومأ نبي الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم، وأرخى نبي الله صلى الله عليه وسلم الحجاب، فلم نقدر عليه حتى مات}. - وروى البخاري عن جابر رضي الله عنه أنه قال: {إن الله جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار وأولى الناس بكم}. - {إن مثلك -يا أبا بكر- مثل إبراهيم قال: ((فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[إبراهيم:36] ومثلك -يا أبا بكر- مثل عيسى قال: (( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[المائدة:118]}. - وأخرج الترمذي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: {أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم}. - وأخرج البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال: {قلت لأبي (أي: علي): أيُّ الناس خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين}. - وبينما كان علي رضي الله عنه يقضي في الكوفة، إذ قال رجل: {يا خير الناس! انظر في أمري، فوالله! ما رأيت أحداً هو خير منك. قال: قدموه فقدم، فقال له: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: هل رأيت أبا بكر وعمر؟ قال: لا. قال: لو أخبرتني أنك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لضربت عنقك، ولو أخبرتني أنك رأيت أبا بكر وعمر لأوجعتك ضرباً}. الحكمة في اختيار الصديق رضي الله عنه إماماً للأمة لم يكن إجماع الأمة على إمامة الصديق رضي الله عنه عبثاً، فإنها معصومة لا تجتمع على ضلالة، ولم يكن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم له اعتباطاً، ولم يجعل الله تعالى هذه المزايا ولا الخصائص في غير محلها -حاشاها- فإنه عليم حكيم وهو أعلم حيث يجعل فضله ونعمته: (( أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ))[الحجرات:8]. وقد تجلت حكمة اختيار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وصحة إجماع الأمة على إمامة الصديق وخلافته لرسول الله، في سياسته وإنجازاته الرائعة التي حققها رغم قصر المدة التي حكم فيها الأمة وتسلم فيها قيادتها! إن هذا يستدعي منا أن نرسم صورة -ولو مصغرة- عن هذا الجانب العظيم من جوانب عظمة الصديق وعبقريته. سياسة الصديق وإنجازاته منصب الخلافة منصب سياسي، والسياسة باختصار هي: فن قيادة الجماهير، فمن كان الأكفأ في هذا الفن فهو الأولى بهذا المنصب، وإن وجد معه من هو أكثر تديناً وورعاً، لأن الأمور العبادية البحتة وإن كانت معتبرة في شروط الاختيار، إلا أن الملحظ السياسي هو الأرجح في الميزان، إذ لا يشترط في الخليفة أو الأمير أن يكون الأعبد والأورع -وإن كان لا بد من توفر الحدود المقبولة من التدين- إنما يشترط فيه أن يكون الأكفأ في فن السياسة، ولا تقبل منه الحدود الدنيا في هذا الفن. ولو خيرنا بين رجلين أحدهما أعبد الناس، لكنه ضعيف الخبرة في السياسة، والآخر دونه في العبادة لكنه أكفأ سياسياً، وجب علينا اختيار الثاني أميراً أو خليفة؛ لأن علاقته بالأمة تحددها الكفاءة السياسية والقيادية أكثر من الناحية العبادية. إن قوة القائد وضعفه، للأمة أو عليها، أما عبادته فله وحده. على هذا الأساس كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار قادته السياسيين والعسكريين، فقد أرسل مصعب بن عمير سفيراً عنه إلى يثرب يدعوهم إلى الله، ويتألف كبارهم ورؤساءهم، ويمهد الطريق للهجرة؛ من أجل إقامة دولة الإسلام، فهدى الله تعالى على يديه جمهورهم في غضون سنتين فقط! ولولا معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بمقدرته السياسية وقدرته التأثيرية في النفوس لما أرسله، ولو كان الأمر بالعبادة لأرسل من هو أعبد منه كعلي أو بلال مثلاً• وأمّر عمرو بن العاص في اليوم الثاني من إسلامه، وكذلك خالد بن الوليد وأبا سفيان بن حرب وأمثالهم، ولا شك أن في صحابته صلى الله عليه وسلم من هو أعبد منهم وأورع. وفي الوقت نفسه نهى أبا ذر عن طلب الإمارة، وأوصاه قائلاً: {يا أبا ذر! إنك رجل ضعيف فلا تتأمر على اثنين} والضعف هنا ضعف الكفاءة القيادية لا العبادية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: {ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر}. ومع أن الصديق كان هو الأعبد والأورع و(الأتقى)، لكن أريد أن أدرس شخصيته من الناحية السياسية لنصل إلى أنه الأكفأ من بين الصحابة حتى في هذه الناحية! لقد أسلمت الخلافة لأبي بكر قيادة، وألقت بين يديه برأسها، فصار يجرها من قرنيها! فمن هو الأولى منه بمقدمها وحاذييها؟!! خطوط عامة في سياسة الصديق رضي الله عنه: [(أبو بكر الصديق رضي الله عنه) د. نزار الحديثي، د. خالد جاسم الجنابي (ص52 - 92)] (كشفت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حاجة المسلمين إلى تنظيم السلطة بعد أن أنجزوا أروع عملية نقل للسلطة في التاريخ، من خلال بيعة خليفة من الصحابة يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لديهم مما تقتضيه السلطة غير النص القرآني الذي يفرض على المؤمن إطاعة الله وإطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر من المؤمنين. وكان أبو بكر الصديق يدرك هذه الاعتبارات، ويدرك نظرة القرآن للسلطة، وتربى على فهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتطبيقه لها. خطبته الأولى تلخيص موجز لسياسته: كذلك عبر في خطبته الأولى عن هذا الإدراك بعبارات واضحة ومحددة ودقيقة حيث قال: {أما بعد: أيها الناس! فإني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عندكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله}. فهو -إذاً- واحد من المؤمنين تولى شئونهم وله عليهم حق الطاعة حسب الآية الكريمة. غير أن الطاعة مشروطة بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كما قال: (متبع وليس بمبتدع) مهمته: إدارة شئون المسلمين على الوجه الذي يقتضيه الإسلام، فإذا ما انتفت هذه الأسس فلا طاعة له على الناس. هذا -عملياً- يعني: أن السلطة أصبحت تستمد من المبادئ، وتقوم على رضا الأمة مع الوعي بأن رأس السلطة أحد المؤمنين، وله من الصفات ما تجعله موضع ثقة الأمة واختيارها: فهو أول المسلمين. وكان موضع ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم التامة. ومعروف باستيعابه للعقيدة. والخبرة بتاريخها السياسي. والتمرس في الجهاد من أجلها. أو كما وصفه علي رضي الله عنه: {رجل اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم لدينهم فرضوه لدنياهم وقدموه}. خليفة الرسول: انطلق الخليفة أبو بكر الصديق في فهم السلطة من الموقف الذي أشارت إليه آيات القرآن الكريم، وإذا كان موقف القرآن الكريم من المصطلحات التي تعكس شكلاً من أشكال السلطة مؤثراً في تحديد مفهوم السلطة في الإسلام، فالقرآن كان إلى جانب مصطلح (خليفة)، فيكون اختيار المسلمين لهذا اللقب لقباً للرجل الذي يدير الدولة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم اتفاقاً واعياً يعكس وعيهم، ليس لطبيعة السلطات وحسب إنما لأدق تفاصيلها أيضاً، ويعبر عن مستوى عال من الإيمان لدى المسلمين، وكان على الخليفة أن يؤكد بعض الحقائق الأساسية التي ستقوم سلطة الخليفة عليها. وظهر من ممارساته الحقائق التالية: أولاً: أنه خليفة وليس رسولاً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، غير أن الدين باق، وإذا كان الخليفة قد واجه جزع المسلمين لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وذهولهم عن الآية الكريمة: (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ))[آل عمران:144] فإنه في الحقيقة أكد أيضاً تميز السلطة في عهد الخليفة عن السلطة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانياً: أن سلطة الخليفة تأتي مباشرة بعد سلطة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يحتم أن تكون أعماله وتصرفاته محكومة بما كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يؤكد (استمرار الدين)، لهذا حرص في إحدى خطبه أن يؤكد هذه المسألة بقوله: {إنما أنا متبع ولست بمبتدع} فاستمرار الدين سوف يعبر عنه في أحد أبرز جوانبه باستمرار سياسة النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: أن كونه خليفة وليس رسولاً يعني: أن الخلافة ستقوم على حقه في أنه أحد الصحابة، تعارفوا عليه واختاروه، فعلاقته بالسلطة أنه اختير لقيادتها، وعلاقته بالرعية أنه اختير لثقتهم بأنه الأقدر على قيادة السلطة، فهو موضع رضاهم، وأساس الرضا حسن إدارته السلطة وحسن قيادتهم، وهو ما يوجب الطاعة له عملاً بالآية الكريمة: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ))[النساء:59] غير أنه ملزم بالمشورة أيضاً عملاً بالآية الكريمة: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ))[آل عمران:159] فإذا ما ارتكب الخليفة ما يمس الدين ويسيء قيادة المسلمين فلا طاعة له. استمرار تام لسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد كان أبو بكر مدركاً قيمة الطاعة وثقة الناس به، من تجربته في تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في كل ما قال وعمل. وقد رأينا كيف عبر عن تصديقه للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته له في أحداث، مثل: نزول الوحي، وقصة الإسراء والمعراج، وأحد، والحديبية، لذلك أظهر حرصاً شديداً على الارتكاز إلى مبدأي الصدق والرضا وصولاً إلى التصديق والطاعة. وكان حرياً في هذا المجال أن يؤكد استمرار سياسة النبي صلى الله عليه وسلم ليضمن تثبيت السلطة ولهذا نجده: أولاً: يبقي عمال الرسول صلى الله عليه وسلم الذين استخدمهم قبل وفاته في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب، فلم يعزل أحد منهم. ثانياً: الإصرار على إنفاذ جيش أسامة. ثالثاً: الإصرار على حسم الموقف مع المرتدين نهائياً لصالح الإسلام ودولته دون أي تنازل من أجل تثبيت السلطة. رابعاً: الحرص على موقع الصحابة -والكبار منهم خاصة- في المجتمع الجديد وفي اتخاذ القرار• ويعبر تطبيقه للشورى في مسألتين أساسيتين عن هذا الحرص: ففي مناقشة الأوضاع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأولوية الخطوات الواجب اتخاذها، كذلك في الموقف من المرتدين: صورة لتطبيق فلسفة الشورى تدلل على المكانة التي حددها الخليفة للصحابة، وللعشرة الكبار الذين أشارت الروايات إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة، ومنها عرفوا بالعشرة المبشرين بالجنة، وهم -مع الخليفة- كل من: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعيد بن زيد. وقد أشار الخليفة أبو بكر إلى هؤلاء العشرة في أول اجتماع لهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعته بالخلافة: {إنه قد علمتم أنه كان من عهد رسول الله إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم}. غير أن الخليفة حرص أيضاً بنفس القدر على إعطاء الأنصار موقعهم في القرار إلى جانب القيادة التاريخية للمجتمع الجديد، فقد استشار أسيد بن حضير في استخلاف عمر بن الخطاب. اهـ. المعالم البارزة في سياسة الصديق: هناك أربعة معالم بارزة في حياة الصديق السياسية وشخصيته القيادية والتي هي عبارة عن إنجازات ضخمة لا تتهيأ إلا لعظماء الساسة ومؤسسي الدول العباقرة وقادة الأمم العظام• وهي: 1- قضاؤه على الفتن الداخلية. 2- تصديه للأخطار الخارجية وجهاده في نشر رسالة الإسلام. 3- حفظه لدستور الأمة (جمعه القرآن العظيم). 4- حسمه لمعضلة ولاية الأمر من بعده. وسأتناولها بالحديث واحدة واحدة: القضاء على الفتن الداخلية: في يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدأت الفتن الداخلية تطل بقرونها، وكانت ذات ثلاث شعب! شعبتان كانتا وشيكتي الوقوع، والأخرى قد وقعت وهي في طريقها لأن تنفلت من عقالها. |
نبأ الوفاة وأثره على أهل المدينة المنورة:
أما الشعبتان الأوليان فإحداهما: اضطراب الصحابة وانهيارهم عند سماعهم نبأ الوفاة الصاعق! فصاروا لا يدرون ما يفعلون! إنهم لا يريدون أن يصدقوا الخبر لهوله! وعمر يهدد بسيفه ويتوعد من يقول: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات؟!}!
الكل في اضطراب وذهول والمسجد غاص بالناس، وعثمان وعلي أُقعِدا لثقل المصاب يبكيان!
ولكن الأمور بمجيء أبي بكر تأخذ منحى آخر!
ينتظم العقد المنفرط، ويعود كل شيء إلى مكانه ونصابه، وبكلمة واحدة من أبي بكر وهو على المنبر: {يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت! (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ))[آل عمران:144] }.
وتخشع الأصوات، وتهدأ الحركات، ويفيقون من صدمتهم، وترجع إليهم أحلامهم، ويعج المسجد بتلاوة الآية الكريمة المباركة كأنها نزلت لتوها!
نقل السلطة وكيف تم على يد الصديق؟:
وما أن ينتهي أبو بكر من علاج الموقف حتى تطل الشعبة الأخرى، ويأتي الخبر إليه -لا إلى غيره؛ لأنه في نظر الجميع رجل الموقف والمسئول الأول والأكبر بعد النبي صلى الله عليه وسلم- أن إخوانهم الأنصار قد اجتمعوا فيما بينهم ليبايعوا سعد بن عبادة.
ويهرع أبو بكر -أبو بكر أيضاً:- ليعالج الموقف الذي استجد، وكان أكبر من سابقه، وحسم الفتنة قبل أن تنطلق. إنها أكبر مشكلة تواجه الدول الناشئة وتهددها بالزوال أو الانقسام وهي ولاية الأمر بعد المؤسس الذي غادر الحياة.
ولو لم يعالج أبو بكر بحكمته الموقف الأول ويسارع -بحكمته أيضاً وحنكته- إلى علاج الموقف الجديد لظل الصحابة يضطربون في مسجدهم، ويتأوهون لهول مصابهم، ولبايع الأنصار سعداً، وقضي الأمر وهم ينظرون لا يعرفون ماذا يفعلون!
ولو حدث ذلك لتفرق الصحابة فرقاً، فإن سعداً ليس ممن تجتمع عليه القلوب، وليس هو المؤهل لأن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله معارضون حتى من الأنصار أنفسهم! والذي جاء إلى أبي بكر بالخبر رجل من الأنصار، وأما المهاجرون فلا يتوقع أن يرضوا به أميراً، ولا العرب في الجزيرة يمكن أن يخضعوا لرجل من غير قريش• فماذا ستكون النتيجة؟!
إن النتيجة المتوقعة هو التفرق والتشرذم، وقد تكون القضاء المبرم على دولة الإسلام وهي في مهدها! لأن الجزيرة العربية قد انتقضت إلا أقلها. ومن ثبت على دينه وموقفه كأهل مكة المكرمة والطائف قد لا يغني كثيراً عن العاصمة لبعد المسافة وبطء وسائل المواصلات. فإذا افترضنا أن أهل العاصمة قد اختلفوا وتفرقوا فمن للأمة؟ والأمة قد ضربت في صميمها ومركز قيادتها، والخارجون على أبوابها، والفرس قد دخلوا البحرين والروم صاروا يفكرون في التحرك استغلالاً للظرف الجديد!!
ولكن أبا بكر يتمكن -وبسرعة خاطفة- من القضاء على هذه الفتنة التي كادت أن تقع، وقبرها في مهدها، وأنقذ الأمة من الانزلاق إلى بحر من الفتن لا ساحل له!
مواجهة حركة الخروج والارتداد في الجزيرة:
أما الشعبة الثالثة من شعب الفتنة الداخلية فهي: حركة الارتداد التي اجتاحت الجزيرة العربية. يقول العقاد: (وجاءت حروب الردة التي هي مفخرة أبي بكر الكبرى غير مدافع، أو هي مفخرته الخاصة التي انفرد بها في تاريخ الدعوة الإسلامية بغير شريك.. ولقد أكثر المؤرخون من الكتابة عن حروب الردة ما لم يكثروا قط في حادث من حوادث صدر الإسلام، وكانوا على حق حين وازنوا بين دعوة الإسلام الأولى في مقاومة الشرك، ودعوة الإسلام الثانية في مقاومة الارتداد، فإنما كانت الغلبة على فتنة المرتدين فتحاً جديداً لهذا الدين الناشئ، كأنما استأنفت الدعوة إليه من جديد، إنها أصدق امتحان للدعوة المحمدية خرجت منه دعوة من الدعوات.
فإذا كانت فتنة الردة قد كشفت عن زيغ الزائغين وريبة المرتابين، فهي قد كشفت كذلك عن الإيمان المتين والفداء السمح واليقين المبين، فحفظت للناس نماذج للصبر والشجاعة والإيثار والحمية تشرق بها صفحات الأديان، وجاءت الشهادة الأولى على لسان رجل من أصحاب طليحة سأله:
- ويلكم! ما يهزمكم؟ فقال له:
- أنا أحدثك ما يهزمنا، إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه!
تلك فتنة الردة قابلها أبو بكر رضي الله عنه بأحزم ما تقابل بها من مبدئها إلى منتهاها، وعالجها علاجها في كل خطوة من خطواتها وفي كل ناحية من نواحيها، بادرها بالحزم من صيحتها الأولى، وتعقبها بالحزم يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة حتى أسلمت مقادها وثابت إلى قرارها.
وأحزم الحزم في تلك الفتنة: عقابه للمرتدين الذين مردوا على العصيان ولم يستجيبوا نصيح المودة، ولا استجابوا نذير الجزاء، فقد كان العقاب أليق شيء بالوزر الذي اجترموه ومردوا عليه: أناس قد استوهنوا سلطان الدين وبخلوا بالمال، فبلغ من شحهم به أنهم أنكروا حقوق الدين كله في سبيل حصة من الزكاة؛ فجزاؤهم أن يشهدوا من بأس ذلك السلطان ما يعتبرون به ولا ينسونه مدى الحياة، وأن يفقدوا المال الذي من أجله تبادروا إلى الفتنة واستبقوا إلى العصيان، فاستبيحت ديارهم ومراعيهم ومساقيهم، ووهبت عطاياهم للمجاهدين، ولان خالد في بعض المواقع، وأبو بكر الوديع الرفيق لا يلين!!
ووضع القصاص فيمن تجاوزوا منع الزكاة إلى قتل المسلمين بين ظهرانيهم فلم تأخذه فيهم هوادة بعد إصرارهم على العصيان، واعتدائهم بالقتل، وإعراضهم عن النصح والنذير.
جزاء حق؛ لأنه من جنس العمل!
استهانة يقابلها بأس، وبخل بالمال يقابله ضياع للمال، ونفس بنفس.
ومجاهدون مخلصون يؤثرون الإيمان على عروض الدنيا أخذاً بثأرهم من عصاة غادرين يؤثرون عروض الدنيا على الإيمان.
قال أبو رجاء البصري: {دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلاً يقبل رأس رجل ويقول له: أنا فداؤك ولولا أنت لهلكنا•
قلت: من المقبِّل؟ من المقبَّل؟
قالوا: عمر يقبل رأس أبي بكر في قتال أهل الردة إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين}.
وقد شاء الله أن يكون أبو بكر بطل الإسلام في حروب الردة غير مدافع، فهو صاحب الشرف الأول بين ذوي الرأي وذوي العمل في تلك الحروب، وكأنما عمر قد وضع بشفتيه شفاه المسلمين جميعاً على ذلك الرأس الجليل يوم انحنى عليه بالتكريم والتقبيل) [مقتطفات من كتاب ((عبقرية الصديق)) لعباس محمود العقاد ـ انظر موضوع (الصديق والدولة الإسلامية)] اهـ.
تفرد في استخراج الرأي الفقهي واتخاذ القرار العسكري:
لقد انفرد أبو بكر باستخراج الرأي الفقهي في شرعية قتال أقوام يقولون: (لا إله إلا الله) وذلك أمر عسير؛ حتى أقنع المعترضين بصواب رأيه، وأوضح لهم ما التبس عليهم؛ فكانوا من الموقنين.
وتفرد باتخاذ القرار في تنفيذ هذا الرأي وتطبيقه رغم الظروف العصيبة المحدقة بهم! والتي يفرض ظاهرها العدول عن هذا القرار وتأليف الناس أو التريث فيه -على الأقل-.
وفي الوقت الذي يشير فيه الصحابة عليه بعدم القتال، ويقول صناديدهم: أن لا طاقة لهم بقتال العرب؛ يقف من بينهم أبو بكر كالجبل الأشم يستثير إيمانهم ويثير نخوتهم ويقول: {..أيها الناس!
من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت•
أيها الناس!
إنْ كثر أعداؤكم وقلّ عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب!
والله ليظهرن هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق ووعده الصدق: (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ))[الأنبياء:18] و(( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ))[البقرة:249].
أيها الناس!
لو (أفردت) [تأمل هذه الكلمة تجدها مصداقاً لقوله تعالى: (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] ] من جمعكم لجاهدتهم في الله حق جهاده حتى أبلغ من نفسي عذراً، وأقتل مقتلاً!
والله أيها الناس! لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه واستعنت بالله خير معين}!!!
لقد كان مصيباً -كل الإصابة- في رأيه الفقهي وقراره العسكري!!
وعميقاً -كل العمق- في نظره الديني والسياسي!!
ترى! ماذا سيكون لو أنه رضخ للضغوط ولان للظروف فغض الطرف عن عصيان العاصين، وسكت عن الخارجين فلم يعاقبهم عقوبة الدين، أو يواجههم بما ينبغي من حزم الحاكمين؟
أليس التساهل في ركن من أركان الدين سيؤدي -ولا بد- إلى ترك ركن آخر احتجاجاً بالأول؟! وهكذا سيأتي جيل يترك الصيام وآخر يترك الصلاة ورابع وخامس يترك الحج والجهاد... إلخ! فإذا بالدين قد انهدم وعقده قد انفرط!!
إذاً! لا بد من سد باب الفتنة من أساسه، والله تعالى يقول: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))[التوبة:5].
هذا من ناحية النظر الديني البحت.
وللزكاة جانب سياسي -هو من الدين بمعناه الأشمل- لا يخفى على رجال الحكم والساسة المتمرسين.
إن لكل حكومة على رعيتها التزاماً مالياً يعبر عن اعترافها بنظام حكومتها السياسي، إن الامتناع عن أدائه إعلان عن للعصيان والتمرد على النظام وعدم الاعتراف بالحكومة.
ولا قيمة -بعد ذلك- لرعية أو شعب هذه علاقته مع حكومته! وبعبارة أخرى: لا قيمة -بعد ذلك- لحكومة علاقة شعبها أو رعيتها بها على هذه الصورة!
إن على الشعب أن يرضخ لمنطق العدل والقوة، أو على الحكومة أن تغادر موقعها!
لقد كان الصديق -وهو التلميذ النجيب والصاحب الرفيق لأعظم حاكم سياسي في التاريخ- يدرك تمام الإدراك أن الامتناع عن أداء الزكاة إعلان على عدم اعتراف الممتنعين بالنظام السياسي لحكومته، فإذا أقرهم عليه فقدت حكومته هيبتها، وكانت الرعية الممتنعة أكثر جرأة على عصيانه في أمور أخرى لا سيما الجهاد لتبليغ رسالة الدين، وهكذا تنهار الحكومة، وتتفكك الدولة بعد أن انهار الدين وانهدمت أركانه!
لقد أدرك الصديق ذلك كله بثاقب نظره، فلم تستفزه المصالح الوقتية القريبة عن المصالح الحقيقية الدائمة، وكان لقتاله المرتدين أكبر الأثر في حفظ الدين وتثبيت أركان الدولة وفرض هيبتها وسلطانها، ولولاه لضاع الدين.. والدنيا كذلك.
إنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه:-
وعاد الصحابة يرجونه أن يرد جيش أسامة بن زيد ليستعينوا به في قتال الخارجين على الدين والقانون، فيأبى الصديق أشد الإباء، ويصمم تصميماً لا رجعة فيه إلا أن ينفذه!
إنه موقف تعنو له الجباه، وتتواضع الجبال!
فمع قمة الإيمان والثقة بوعد الله، وغاية الشجاعة، وكمال الاتباع لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم القائد حياً وميتاً مهما تغيرت الظروف وكلفت الأمور! تبرز مع ذلك كله العبقرية السياسية في القدرة على استقراء الأحداث وتحليل الوقائع واستكناه التوقعات لرؤية المستقبل ورسم خريطته والتصرف في خطوطها لتكون حسب المطلوب، وذلك رغم اشتداد الغبار واشتباه الأمور!
إننا حينما نقرر هذا ونقول: بأن الصديق كان مصيباً وعبقرياً في إصابته الهدف، إنما نقول ما نقول وأمامنا الأحداث نقرءوها جميعاً في صفحة واحدة؛ فيكون من السهل أو المتيسر استقراؤها وتحليلها والربط بينها للحصول على النتائج وتشخيص الخطأ من الصواب من المواقف والأفعال.
أما أبو بكر فقد علم علم اليقين بأن الصواب في ذلك الرأي، والحكمة في ذلك القرار، والحزم في ذلك الموقف مع أن الأحداث ونتائجها لما تزل في باطن الغيب!! وأن كل الاحتمالات واردة سيما وأن الرأي المعاكس هو الغالب وهو الأقرب إلى ظاهر العقل والحكمة!
ولو افترضنا أن الرياح هبت في الاتجاه الآخر وحلت الهزيمة لكان المسئول الأول والأخير عنها هو لا غيره ولكان لنا أو للتاريخ حكم آخر!
وهنا تتجلى الرجولة والعبقرية والنظر الثاقب وسط عواصف الأحداث ومدلهمات الخطوب!
يقول العقاد: (وقد يكون في صوابه إلهام، أو تكون فيه روية وقصد مرسوم، ولكنه سداد على كل حال، ووجهة قويمة هي أدنى الوجهتين إلى النفع والصلاح).
بعثة أسامة كانت العنوان الأول لسياسة عامة في الدولة الإسلامية هي -في ذلك الحين- خير السياسات.
كان قوامها كلها طاعة ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت الطاعة -جد الطاعة- مناط السلامة وعصمة المعتصمين من الخطأ الأكبر في ذلك الحين.
وحيث يكون التمرد هو الخطأ الأكبر، فالطاعة -بل الطاعة الصارمة- هي العصمة التي ليس من ورائها اعتصام.
وقد كان التمرد هو الخطر الأكبر في ذلك الحين -لا مراء- للأسباب الآتية:
- كان النفاق يطلع رأسه في مكة والمدينة.
- وكانت قبائل البادية تتسابق إلى الردة في أنحاء الجزيرة.
- وكان جند أسامة يودون لو استبدل به أميراً غيره.
- وكان أسامة أول من يشك في طاعة القوم إياه ويترقب أن يخلفه على البعثة أمير سواه.
تمرد أو نذير تمرد في كل مكان.
فالطاعة واجبة هنا حيث نبع التمرد، أو لا سبيل إلى واجب بعد ذلك يطاع.
طاعة أو لا شيء.
فإن بقيت الطاعة بقي كل شيء.
وهنا تسعف الصديق طبيعة هي أعمق الطبائع فيه أو هي العبقرية الصديقية في أوانها وعلى أحسن حال تكون.
هنا تسعفه القدوة القويمة بالبطل المحبوب.
وهنا يقول وقد خوفوه الخطر على المدينة والجيش يفارقها:
{والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الطير تخطفتنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة}.
كلمة لو قالها غير أبي بكر لكانت عظيمة، ولكن الذي يقولها أبو بكر وبنته أعز أمهات المؤمنين.
فلا خطر إذن أكبر من خطر الاجتراء على حق الطاعة في تلك الآونة، ولو جرت الكلاب بأرجل البنات والأمهات!
ولقد ضرب المثل الأول في الطاعة التي أرادها، فشيع البعثة وهو ماش على قدميه وعبد الرحمن بن عوف يقود دابته بجواره، فقال أسامة: {يا خليفة رسول الله! والله لتركبن أو لأنزلن، فقال: والله لا تنزل ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة. ثم قال لأسامة: اصنع ما أمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولا تقصروا في شيء من أمر رسول الله}.
ويتساءل العقاد: ماذا كان يحدث لو أن قبائل غسان وقضاعة استضعفت شأن المسلمين وفي أيديها الطريق بين بلاد العرب وبلاد الروم؟
كل شيء جائز أن يكون!
وأوله إغراء الروم بالهجوم، ولهم عون من تلك القبائل ومن يجتمع إليها من المجترئين والمتحفزين، ولقد أدرك أناس في عصر أبي بكر صواب الرأي في إنفاذ تلك البعثة بعد إنفاذها وعودتها فشاع في الجزيرة خبرها، وروى مؤرخو تلك الفترة أنها كانت لا تمر بقبيلة يريدون الارتداد إلا تخوفوا وسكنوا وقالوا فيما بينهم: لو لم يكن المسلمون على قوة لما خرج من عندهم هؤلاء!
فإذا كان بقاء أسامة بالمدينة جائزاً لدفع الخطر، فإرساله كذلك جائز لدفع خطر مثله، وفازت الدولة بين هذا وذاك بدرس الطاعة وهو يومئذٍ ألزم الدروس.
ولا تجهل قبائل البادية ما هي دولة الروم التي اجترأ الجيش على تخومها في غير مبالاة! إنهم يعلمون ما هي دولة الروم بالعيان، أو يعلمون ما هي دولة الروم بتهويل السماع، وجيش يذهب إلى تخوم تلك الدولة ثم يعود غير مسحوق ولا منقوص، بل يعود بالغنائم والأسلاب؛ كيف تستخف به قبيلة هائمة في عرض الصحراء؟
إن جيش أسامة قوة ذات بال في الجزيرة العربية، ولكنه فعل بسمعته ومعناه ما لم يفعله بقوته وعدده، فأحجم من المرتدين من أقدم، وتفرق من اجتمع، وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال وقبل أن يصنع السلاح) [(عبقرية الصديق) للعقاد ]. اهـ.
ولقد كان أبو بكر يدرك حجم قوة دولة الروم، ويعلم أن التحرش بها ليس تسلية ولا نزهة، فلولا اعتقاده الجازم بقدرته على مواجهة جميع الاحتمالات لما غامر هذه المغامرة! فمن أين جاءت القوة لأبي بكر في ذلك الظرف العصيب وكل الدلائل تشير إلى غير ما ذهب إليه؟! وما هي مصادر الثقة المطلقة بالنتائج الإيجابية لما يصنع وهي لما تزل نطفة في رحم الغيب المجهول؟! إنها قوة الإيمان الراسخ والنظرة البعيدة الثاقبة، والسياسة الحكيمة الصائبة.
أبو بكر وفن إدارة الأزمة
[(أبو بكر الصديق رضي الله عنه) د. نزار الحديثي و د. خالد جاسم الجنابي (ص30- 63) بتصرف].
بعد أن أنجز المسلمون أروع عملية نقل للسلطة -من نبي إلى خليفة- أصبح الخليفة أمام المهام الرئيسة المطروحة، وهي بمجملها مهام فرضها الظرف التاريخي للإسلام في آخر سنة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها فرضتها الظروف الناجمة عن وفاته صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الخليفة قد حدد نظرته إلى السلطة وشكل قيادته للمسلمين؛ فإنه في مواجهة المهام التي فرضتها الظروف واجه صعوبة كبيرة، فهو في آن واحد كان مطالباً:
1- بتثبيت سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- وتعزيز الثقة بالذات لدى الصحابة.
3- وإبقاء المرتدين في:
أ- موقف البعثرة والتشتت.
ب - ثم الانكفاء والهزيمة.
والراجح أنه من خلال إنفاذ جيش أسامة بن زيد، وحسم الموقف الاجتهادي من المرتدين، وتطبيق مبدأ الشورى؛ حقق الأمرين الأولين.
أما الأمر الثالث، فإن خطواته استغرقت وقتاً طويلاً يبدأ منذ تحرك أسامة بن زيد شمالاً إلى الشام في آخر ربيع الأول سنة (11هـ) إلى تسيير الجيوش الخمس نحو الشام والعراق سنة (21هـ).
ويمكننا تتبع هذه الخطوات على النحو التالي:
1- تحشيد القبائل:
بمجرد أن سير الخليفة جيش أسامة قام بتحشيد من بقي من القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم وصيرهم مسالح حول قبائلهم.
لقد حققت هذه الخطوة أهدافاً تعبوية متعددة:
فهي: عزلت المسلمين من القبائل عن غير المسلمين، وأقامت حاجزاً نفسياً بين الطرفين يحول دون اهتزاز قناعة المسلمين بسبب قلتهم، وإزاء الضغط والقتل من مشركي قبائلهم.
وأوجدت خطوطاً دفاعية حول المدينة، وطورت نظام الدفاع الذاتي عن النفس وتحمل مسئولية المبادرة واتخاذ القرار.
2- الحرب بالرسل أو سياسة الإلهاء:
اتبع سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في إلهاء المرتدين بالرسل، فكلما ورد رسول بخبر قوم رده برسالة وأتبع الرسل بالرسل تأجيلاً للمصادمة لحين عودة جيش أسامة.
ويبدو أن هذه السياسة كانت فعالة وحققت أهدافها؛ لأنها أبقت عامل الزمن الناجم عن غياب جيش المدينة -أربعون يوماً- إيجابياً لصالح الخلافة• وبالتالي أبقت زمام المبادرة بيدها حتى سماها المؤرخون بـ(حرب الرسل).
3- مهاجمة بؤر الردة المتحركة:
لقد كونت بعض القبائل تجمعاً قبلياً وجربوا الغارة على المدينة من اتجاهين؛ غير أنهم وجدوا الخليفة قد سد أنقاب المدينة بالمقاتلة، ثم تبعهم فهزمهم وحرق بعض قياداتهم بالنار [هو الفجاءة بن إياس لغدره ونكثه العهد؛ إذ جاء يطلب سلاحاً ليحارب به المرتدين، فأخذ السلاح وحارب به المسلمين الآمنين وعاث في الطريق ينهب ويسلب ويهدر الدماء! انظر عبقرية الصديق للعقاد]، لقد حققت هذه الخطوة أهدافها، وأبرزها:
أ- تعزيز ثقة المسلمين بالخلافة.
ب- إرهاب المرتدين وإعطاؤهم فكرة حية عن جدية الخلافة في توجهها.
جـ- منع تجميع القبائل المرتدة والحيلولة دون تكاتفها.
د- كما أنها عززت صلة المدينة إدارياً ببعض الأطراف.
هـ- وأمنت جباية بعض الصدقات، وتعزيز اقتصاد الخلافة.
4- الهجوم الشامل على المرتدين:
بدأت هذه الخطوة بعد عودة جيش أسامة، وما ترتب على ذلك من تحسن القدرة الاقتصادية للخلافة؛ حيث عقد الخليفة أحد عشر لواءً.
أعطى الخليفة إلى كل قائد عهده، وحملهم كتاباً واحداً إلى العرب كافة حدد في الأول واجبات كل أمير، وحدد في الثاني فهم الخلافة لإسلام المسلم، وما يترتب عليه من التزامات، وموقفها من المرتد.
وتكشف وثائق المصالحات التي عقدت مع بعض القبائل عن سياسة الخلافة من المرتد الذي يقاتل ويهزم، وهي:
- القتل على الرجال والسبي على النساء والذراري.
- الإجلاء عن الأرض.
- المصالحة لمن لا يقاتل بشرط.
- نزع الحلقة (السلاح) والكراع منهم.
- اعتبار ما أصابه المسلمون من أموالهم غنائم. وحدد هذه الأموال في (الصفراء والبيضاء) أي الذهب والفضة.
- تعويض المسلمين عما أخذه منهم المرتدون.
- رفع المرتدين دية شهداء المسلمين.
- إقرار المرتدين أن قتلاهم في النار.
تحقيق كامل الأهداف!:
حققت سياسة الخليفة كامل أهدافه:
1- فقد تم له القضاء على الردة.
2- وتثبيت سياسة النبي صلى الله عليه وسلم.
3- وتعزيز الوحدة التي حققها في حدود الجزيرة العربية.
4- واستكمال التنظيم الإداري والعسكري والاقتصادي والاجتماعي لدولة يقودها الصحابة ويرأسها الخليفة.
5- وحقق نقلة تاريخية في بناء القوة العسكرية القادرة على الضرب بعيداً -ليس عن مركز الدولة وإنما- عن حدودها أيضاً.
لذلك تجده يقف في المسجد مخاطباً الناس بقوله:
{فالعرب اليوم بنو أم وأب، وقد رأيت أن أستنفر المسلمين إلى جهاد الروم بالشام -ثم أردف:- واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار ما لديه، ألا وإني عازم أن أوجه أبطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأني بذلك قبل موته}.
الجهادية والاتباع في سياسة الصديق:
لقد أتاح قدم الإسلام للخليفة أبي بكر مواكبة نزول القرآن أكثر من غيره، مما أعطاه فرصة تكوين مبدئية شاملة استوعبت الأسس العقائدية اللازمة، وتعزيزها سلوكياً من خلال المواقف العملية المعبرة، وبالتالي امتلاك تاريخية أطول لتلك المبدئية.
إن طبيعته الهادئة الوديعة -أو كما وصفه المؤرخون (كان مألوفاً لقومه)- شكلت عاملاً إيجابياً لصالح الاستيعاب العقائدي والتعبير السلوكي العميق عنه، وبالتالي تكوين تلك الشخصية الجهادية المتزنة القادرة على اتخاذ القرار الصائب، والبقاء دائماً في الجانب الصحيح، كما تقتضيه العقيدة وتستوجبه الصحبة الطويلة.
وقد كانت هذه الصفات تختفي خلف هدوء القناعة يقيناً بالعقيدة والطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، أما وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقل أبو بكر إلى الموقع الأول، فقد فاجأ المسلمين -والصحابة منهم بشكل خاص- بجوانب شخصيته! فعندما صعب على المسلمين التسليم بوفاته وارتبكوا وذهبوا كل مذهب؛ جاء أبو بكر من منزله بالسنح، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه، فقال: {بأبي أنت وأمي، أما الموتة الأولى -التي كتب الله عليك- فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعد موتة أبداً} ثم رد الثوب على وجهه وخرج إلى الناس وهو يسمع ما يقولون، فوقف خطيباً يؤكد حقيقة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعندما أرجف الناس واشرأب النفاق، واتسع نطاق الردة، واضطرب الصحابة واقترحوا عليه الإبقاء على جيش أسامة بن زيد؛ كشف عن عميق وعيه وبعد رؤيته بالإصرار على إنفاذ جيش أسامة وتأكيد استمرار سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً، وهي مسألة مهمة جداً لضمان وحدة الفكر والاجتهاد.
غير أنه أدرك أيضاً الاحتمالات العملية التي يمكن أن تترتب على الإبقاء على الجيش؛ أولها: الإيحاء بانكفاء المسلمين في المدينة وترك الجزيرة مسرحاً للمرتدين يصولون ويجولون فيها.
أما الشعبتان الأوليان فإحداهما: اضطراب الصحابة وانهيارهم عند سماعهم نبأ الوفاة الصاعق! فصاروا لا يدرون ما يفعلون! إنهم لا يريدون أن يصدقوا الخبر لهوله! وعمر يهدد بسيفه ويتوعد من يقول: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات؟!}!
الكل في اضطراب وذهول والمسجد غاص بالناس، وعثمان وعلي أُقعِدا لثقل المصاب يبكيان!
ولكن الأمور بمجيء أبي بكر تأخذ منحى آخر!
ينتظم العقد المنفرط، ويعود كل شيء إلى مكانه ونصابه، وبكلمة واحدة من أبي بكر وهو على المنبر: {يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت! (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ))[آل عمران:144] }.
وتخشع الأصوات، وتهدأ الحركات، ويفيقون من صدمتهم، وترجع إليهم أحلامهم، ويعج المسجد بتلاوة الآية الكريمة المباركة كأنها نزلت لتوها!
نقل السلطة وكيف تم على يد الصديق؟:
وما أن ينتهي أبو بكر من علاج الموقف حتى تطل الشعبة الأخرى، ويأتي الخبر إليه -لا إلى غيره؛ لأنه في نظر الجميع رجل الموقف والمسئول الأول والأكبر بعد النبي صلى الله عليه وسلم- أن إخوانهم الأنصار قد اجتمعوا فيما بينهم ليبايعوا سعد بن عبادة.
ويهرع أبو بكر -أبو بكر أيضاً:- ليعالج الموقف الذي استجد، وكان أكبر من سابقه، وحسم الفتنة قبل أن تنطلق. إنها أكبر مشكلة تواجه الدول الناشئة وتهددها بالزوال أو الانقسام وهي ولاية الأمر بعد المؤسس الذي غادر الحياة.
ولو لم يعالج أبو بكر بحكمته الموقف الأول ويسارع -بحكمته أيضاً وحنكته- إلى علاج الموقف الجديد لظل الصحابة يضطربون في مسجدهم، ويتأوهون لهول مصابهم، ولبايع الأنصار سعداً، وقضي الأمر وهم ينظرون لا يعرفون ماذا يفعلون!
ولو حدث ذلك لتفرق الصحابة فرقاً، فإن سعداً ليس ممن تجتمع عليه القلوب، وليس هو المؤهل لأن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله معارضون حتى من الأنصار أنفسهم! والذي جاء إلى أبي بكر بالخبر رجل من الأنصار، وأما المهاجرون فلا يتوقع أن يرضوا به أميراً، ولا العرب في الجزيرة يمكن أن يخضعوا لرجل من غير قريش• فماذا ستكون النتيجة؟!
إن النتيجة المتوقعة هو التفرق والتشرذم، وقد تكون القضاء المبرم على دولة الإسلام وهي في مهدها! لأن الجزيرة العربية قد انتقضت إلا أقلها. ومن ثبت على دينه وموقفه كأهل مكة المكرمة والطائف قد لا يغني كثيراً عن العاصمة لبعد المسافة وبطء وسائل المواصلات. فإذا افترضنا أن أهل العاصمة قد اختلفوا وتفرقوا فمن للأمة؟ والأمة قد ضربت في صميمها ومركز قيادتها، والخارجون على أبوابها، والفرس قد دخلوا البحرين والروم صاروا يفكرون في التحرك استغلالاً للظرف الجديد!!
ولكن أبا بكر يتمكن -وبسرعة خاطفة- من القضاء على هذه الفتنة التي كادت أن تقع، وقبرها في مهدها، وأنقذ الأمة من الانزلاق إلى بحر من الفتن لا ساحل له!
مواجهة حركة الخروج والارتداد في الجزيرة:
أما الشعبة الثالثة من شعب الفتنة الداخلية فهي: حركة الارتداد التي اجتاحت الجزيرة العربية. يقول العقاد: (وجاءت حروب الردة التي هي مفخرة أبي بكر الكبرى غير مدافع، أو هي مفخرته الخاصة التي انفرد بها في تاريخ الدعوة الإسلامية بغير شريك.. ولقد أكثر المؤرخون من الكتابة عن حروب الردة ما لم يكثروا قط في حادث من حوادث صدر الإسلام، وكانوا على حق حين وازنوا بين دعوة الإسلام الأولى في مقاومة الشرك، ودعوة الإسلام الثانية في مقاومة الارتداد، فإنما كانت الغلبة على فتنة المرتدين فتحاً جديداً لهذا الدين الناشئ، كأنما استأنفت الدعوة إليه من جديد، إنها أصدق امتحان للدعوة المحمدية خرجت منه دعوة من الدعوات.
فإذا كانت فتنة الردة قد كشفت عن زيغ الزائغين وريبة المرتابين، فهي قد كشفت كذلك عن الإيمان المتين والفداء السمح واليقين المبين، فحفظت للناس نماذج للصبر والشجاعة والإيثار والحمية تشرق بها صفحات الأديان، وجاءت الشهادة الأولى على لسان رجل من أصحاب طليحة سأله:
- ويلكم! ما يهزمكم؟ فقال له:
- أنا أحدثك ما يهزمنا، إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه!
تلك فتنة الردة قابلها أبو بكر رضي الله عنه بأحزم ما تقابل بها من مبدئها إلى منتهاها، وعالجها علاجها في كل خطوة من خطواتها وفي كل ناحية من نواحيها، بادرها بالحزم من صيحتها الأولى، وتعقبها بالحزم يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة حتى أسلمت مقادها وثابت إلى قرارها.
وأحزم الحزم في تلك الفتنة: عقابه للمرتدين الذين مردوا على العصيان ولم يستجيبوا نصيح المودة، ولا استجابوا نذير الجزاء، فقد كان العقاب أليق شيء بالوزر الذي اجترموه ومردوا عليه: أناس قد استوهنوا سلطان الدين وبخلوا بالمال، فبلغ من شحهم به أنهم أنكروا حقوق الدين كله في سبيل حصة من الزكاة؛ فجزاؤهم أن يشهدوا من بأس ذلك السلطان ما يعتبرون به ولا ينسونه مدى الحياة، وأن يفقدوا المال الذي من أجله تبادروا إلى الفتنة واستبقوا إلى العصيان، فاستبيحت ديارهم ومراعيهم ومساقيهم، ووهبت عطاياهم للمجاهدين، ولان خالد في بعض المواقع، وأبو بكر الوديع الرفيق لا يلين!!
ووضع القصاص فيمن تجاوزوا منع الزكاة إلى قتل المسلمين بين ظهرانيهم فلم تأخذه فيهم هوادة بعد إصرارهم على العصيان، واعتدائهم بالقتل، وإعراضهم عن النصح والنذير.
جزاء حق؛ لأنه من جنس العمل!
استهانة يقابلها بأس، وبخل بالمال يقابله ضياع للمال، ونفس بنفس.
ومجاهدون مخلصون يؤثرون الإيمان على عروض الدنيا أخذاً بثأرهم من عصاة غادرين يؤثرون عروض الدنيا على الإيمان.
قال أبو رجاء البصري: {دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلاً يقبل رأس رجل ويقول له: أنا فداؤك ولولا أنت لهلكنا•
قلت: من المقبِّل؟ من المقبَّل؟
قالوا: عمر يقبل رأس أبي بكر في قتال أهل الردة إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين}.
وقد شاء الله أن يكون أبو بكر بطل الإسلام في حروب الردة غير مدافع، فهو صاحب الشرف الأول بين ذوي الرأي وذوي العمل في تلك الحروب، وكأنما عمر قد وضع بشفتيه شفاه المسلمين جميعاً على ذلك الرأس الجليل يوم انحنى عليه بالتكريم والتقبيل) [مقتطفات من كتاب ((عبقرية الصديق)) لعباس محمود العقاد ـ انظر موضوع (الصديق والدولة الإسلامية)] اهـ.
تفرد في استخراج الرأي الفقهي واتخاذ القرار العسكري:
لقد انفرد أبو بكر باستخراج الرأي الفقهي في شرعية قتال أقوام يقولون: (لا إله إلا الله) وذلك أمر عسير؛ حتى أقنع المعترضين بصواب رأيه، وأوضح لهم ما التبس عليهم؛ فكانوا من الموقنين.
وتفرد باتخاذ القرار في تنفيذ هذا الرأي وتطبيقه رغم الظروف العصيبة المحدقة بهم! والتي يفرض ظاهرها العدول عن هذا القرار وتأليف الناس أو التريث فيه -على الأقل-.
وفي الوقت الذي يشير فيه الصحابة عليه بعدم القتال، ويقول صناديدهم: أن لا طاقة لهم بقتال العرب؛ يقف من بينهم أبو بكر كالجبل الأشم يستثير إيمانهم ويثير نخوتهم ويقول: {..أيها الناس!
من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت•
أيها الناس!
إنْ كثر أعداؤكم وقلّ عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب!
والله ليظهرن هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق ووعده الصدق: (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ))[الأنبياء:18] و(( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ))[البقرة:249].
أيها الناس!
لو (أفردت) [تأمل هذه الكلمة تجدها مصداقاً لقوله تعالى: (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة:40] ] من جمعكم لجاهدتهم في الله حق جهاده حتى أبلغ من نفسي عذراً، وأقتل مقتلاً!
والله أيها الناس! لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه واستعنت بالله خير معين}!!!
لقد كان مصيباً -كل الإصابة- في رأيه الفقهي وقراره العسكري!!
وعميقاً -كل العمق- في نظره الديني والسياسي!!
ترى! ماذا سيكون لو أنه رضخ للضغوط ولان للظروف فغض الطرف عن عصيان العاصين، وسكت عن الخارجين فلم يعاقبهم عقوبة الدين، أو يواجههم بما ينبغي من حزم الحاكمين؟
أليس التساهل في ركن من أركان الدين سيؤدي -ولا بد- إلى ترك ركن آخر احتجاجاً بالأول؟! وهكذا سيأتي جيل يترك الصيام وآخر يترك الصلاة ورابع وخامس يترك الحج والجهاد... إلخ! فإذا بالدين قد انهدم وعقده قد انفرط!!
إذاً! لا بد من سد باب الفتنة من أساسه، والله تعالى يقول: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))[التوبة:5].
هذا من ناحية النظر الديني البحت.
وللزكاة جانب سياسي -هو من الدين بمعناه الأشمل- لا يخفى على رجال الحكم والساسة المتمرسين.
إن لكل حكومة على رعيتها التزاماً مالياً يعبر عن اعترافها بنظام حكومتها السياسي، إن الامتناع عن أدائه إعلان عن للعصيان والتمرد على النظام وعدم الاعتراف بالحكومة.
ولا قيمة -بعد ذلك- لرعية أو شعب هذه علاقته مع حكومته! وبعبارة أخرى: لا قيمة -بعد ذلك- لحكومة علاقة شعبها أو رعيتها بها على هذه الصورة!
إن على الشعب أن يرضخ لمنطق العدل والقوة، أو على الحكومة أن تغادر موقعها!
لقد كان الصديق -وهو التلميذ النجيب والصاحب الرفيق لأعظم حاكم سياسي في التاريخ- يدرك تمام الإدراك أن الامتناع عن أداء الزكاة إعلان على عدم اعتراف الممتنعين بالنظام السياسي لحكومته، فإذا أقرهم عليه فقدت حكومته هيبتها، وكانت الرعية الممتنعة أكثر جرأة على عصيانه في أمور أخرى لا سيما الجهاد لتبليغ رسالة الدين، وهكذا تنهار الحكومة، وتتفكك الدولة بعد أن انهار الدين وانهدمت أركانه!
لقد أدرك الصديق ذلك كله بثاقب نظره، فلم تستفزه المصالح الوقتية القريبة عن المصالح الحقيقية الدائمة، وكان لقتاله المرتدين أكبر الأثر في حفظ الدين وتثبيت أركان الدولة وفرض هيبتها وسلطانها، ولولاه لضاع الدين.. والدنيا كذلك.
إنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه:-
وعاد الصحابة يرجونه أن يرد جيش أسامة بن زيد ليستعينوا به في قتال الخارجين على الدين والقانون، فيأبى الصديق أشد الإباء، ويصمم تصميماً لا رجعة فيه إلا أن ينفذه!
إنه موقف تعنو له الجباه، وتتواضع الجبال!
فمع قمة الإيمان والثقة بوعد الله، وغاية الشجاعة، وكمال الاتباع لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم القائد حياً وميتاً مهما تغيرت الظروف وكلفت الأمور! تبرز مع ذلك كله العبقرية السياسية في القدرة على استقراء الأحداث وتحليل الوقائع واستكناه التوقعات لرؤية المستقبل ورسم خريطته والتصرف في خطوطها لتكون حسب المطلوب، وذلك رغم اشتداد الغبار واشتباه الأمور!
إننا حينما نقرر هذا ونقول: بأن الصديق كان مصيباً وعبقرياً في إصابته الهدف، إنما نقول ما نقول وأمامنا الأحداث نقرءوها جميعاً في صفحة واحدة؛ فيكون من السهل أو المتيسر استقراؤها وتحليلها والربط بينها للحصول على النتائج وتشخيص الخطأ من الصواب من المواقف والأفعال.
أما أبو بكر فقد علم علم اليقين بأن الصواب في ذلك الرأي، والحكمة في ذلك القرار، والحزم في ذلك الموقف مع أن الأحداث ونتائجها لما تزل في باطن الغيب!! وأن كل الاحتمالات واردة سيما وأن الرأي المعاكس هو الغالب وهو الأقرب إلى ظاهر العقل والحكمة!
ولو افترضنا أن الرياح هبت في الاتجاه الآخر وحلت الهزيمة لكان المسئول الأول والأخير عنها هو لا غيره ولكان لنا أو للتاريخ حكم آخر!
وهنا تتجلى الرجولة والعبقرية والنظر الثاقب وسط عواصف الأحداث ومدلهمات الخطوب!
يقول العقاد: (وقد يكون في صوابه إلهام، أو تكون فيه روية وقصد مرسوم، ولكنه سداد على كل حال، ووجهة قويمة هي أدنى الوجهتين إلى النفع والصلاح).
بعثة أسامة كانت العنوان الأول لسياسة عامة في الدولة الإسلامية هي -في ذلك الحين- خير السياسات.
كان قوامها كلها طاعة ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت الطاعة -جد الطاعة- مناط السلامة وعصمة المعتصمين من الخطأ الأكبر في ذلك الحين.
وحيث يكون التمرد هو الخطأ الأكبر، فالطاعة -بل الطاعة الصارمة- هي العصمة التي ليس من ورائها اعتصام.
وقد كان التمرد هو الخطر الأكبر في ذلك الحين -لا مراء- للأسباب الآتية:
- كان النفاق يطلع رأسه في مكة والمدينة.
- وكانت قبائل البادية تتسابق إلى الردة في أنحاء الجزيرة.
- وكان جند أسامة يودون لو استبدل به أميراً غيره.
- وكان أسامة أول من يشك في طاعة القوم إياه ويترقب أن يخلفه على البعثة أمير سواه.
تمرد أو نذير تمرد في كل مكان.
فالطاعة واجبة هنا حيث نبع التمرد، أو لا سبيل إلى واجب بعد ذلك يطاع.
طاعة أو لا شيء.
فإن بقيت الطاعة بقي كل شيء.
وهنا تسعف الصديق طبيعة هي أعمق الطبائع فيه أو هي العبقرية الصديقية في أوانها وعلى أحسن حال تكون.
هنا تسعفه القدوة القويمة بالبطل المحبوب.
وهنا يقول وقد خوفوه الخطر على المدينة والجيش يفارقها:
{والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الطير تخطفتنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة}.
كلمة لو قالها غير أبي بكر لكانت عظيمة، ولكن الذي يقولها أبو بكر وبنته أعز أمهات المؤمنين.
فلا خطر إذن أكبر من خطر الاجتراء على حق الطاعة في تلك الآونة، ولو جرت الكلاب بأرجل البنات والأمهات!
ولقد ضرب المثل الأول في الطاعة التي أرادها، فشيع البعثة وهو ماش على قدميه وعبد الرحمن بن عوف يقود دابته بجواره، فقال أسامة: {يا خليفة رسول الله! والله لتركبن أو لأنزلن، فقال: والله لا تنزل ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة. ثم قال لأسامة: اصنع ما أمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولا تقصروا في شيء من أمر رسول الله}.
ويتساءل العقاد: ماذا كان يحدث لو أن قبائل غسان وقضاعة استضعفت شأن المسلمين وفي أيديها الطريق بين بلاد العرب وبلاد الروم؟
كل شيء جائز أن يكون!
وأوله إغراء الروم بالهجوم، ولهم عون من تلك القبائل ومن يجتمع إليها من المجترئين والمتحفزين، ولقد أدرك أناس في عصر أبي بكر صواب الرأي في إنفاذ تلك البعثة بعد إنفاذها وعودتها فشاع في الجزيرة خبرها، وروى مؤرخو تلك الفترة أنها كانت لا تمر بقبيلة يريدون الارتداد إلا تخوفوا وسكنوا وقالوا فيما بينهم: لو لم يكن المسلمون على قوة لما خرج من عندهم هؤلاء!
فإذا كان بقاء أسامة بالمدينة جائزاً لدفع الخطر، فإرساله كذلك جائز لدفع خطر مثله، وفازت الدولة بين هذا وذاك بدرس الطاعة وهو يومئذٍ ألزم الدروس.
ولا تجهل قبائل البادية ما هي دولة الروم التي اجترأ الجيش على تخومها في غير مبالاة! إنهم يعلمون ما هي دولة الروم بالعيان، أو يعلمون ما هي دولة الروم بتهويل السماع، وجيش يذهب إلى تخوم تلك الدولة ثم يعود غير مسحوق ولا منقوص، بل يعود بالغنائم والأسلاب؛ كيف تستخف به قبيلة هائمة في عرض الصحراء؟
إن جيش أسامة قوة ذات بال في الجزيرة العربية، ولكنه فعل بسمعته ومعناه ما لم يفعله بقوته وعدده، فأحجم من المرتدين من أقدم، وتفرق من اجتمع، وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال وقبل أن يصنع السلاح) [(عبقرية الصديق) للعقاد ]. اهـ.
ولقد كان أبو بكر يدرك حجم قوة دولة الروم، ويعلم أن التحرش بها ليس تسلية ولا نزهة، فلولا اعتقاده الجازم بقدرته على مواجهة جميع الاحتمالات لما غامر هذه المغامرة! فمن أين جاءت القوة لأبي بكر في ذلك الظرف العصيب وكل الدلائل تشير إلى غير ما ذهب إليه؟! وما هي مصادر الثقة المطلقة بالنتائج الإيجابية لما يصنع وهي لما تزل نطفة في رحم الغيب المجهول؟! إنها قوة الإيمان الراسخ والنظرة البعيدة الثاقبة، والسياسة الحكيمة الصائبة.
أبو بكر وفن إدارة الأزمة
[(أبو بكر الصديق رضي الله عنه) د. نزار الحديثي و د. خالد جاسم الجنابي (ص30- 63) بتصرف].
بعد أن أنجز المسلمون أروع عملية نقل للسلطة -من نبي إلى خليفة- أصبح الخليفة أمام المهام الرئيسة المطروحة، وهي بمجملها مهام فرضها الظرف التاريخي للإسلام في آخر سنة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها فرضتها الظروف الناجمة عن وفاته صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الخليفة قد حدد نظرته إلى السلطة وشكل قيادته للمسلمين؛ فإنه في مواجهة المهام التي فرضتها الظروف واجه صعوبة كبيرة، فهو في آن واحد كان مطالباً:
1- بتثبيت سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- وتعزيز الثقة بالذات لدى الصحابة.
3- وإبقاء المرتدين في:
أ- موقف البعثرة والتشتت.
ب - ثم الانكفاء والهزيمة.
والراجح أنه من خلال إنفاذ جيش أسامة بن زيد، وحسم الموقف الاجتهادي من المرتدين، وتطبيق مبدأ الشورى؛ حقق الأمرين الأولين.
أما الأمر الثالث، فإن خطواته استغرقت وقتاً طويلاً يبدأ منذ تحرك أسامة بن زيد شمالاً إلى الشام في آخر ربيع الأول سنة (11هـ) إلى تسيير الجيوش الخمس نحو الشام والعراق سنة (21هـ).
ويمكننا تتبع هذه الخطوات على النحو التالي:
1- تحشيد القبائل:
بمجرد أن سير الخليفة جيش أسامة قام بتحشيد من بقي من القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم وصيرهم مسالح حول قبائلهم.
لقد حققت هذه الخطوة أهدافاً تعبوية متعددة:
فهي: عزلت المسلمين من القبائل عن غير المسلمين، وأقامت حاجزاً نفسياً بين الطرفين يحول دون اهتزاز قناعة المسلمين بسبب قلتهم، وإزاء الضغط والقتل من مشركي قبائلهم.
وأوجدت خطوطاً دفاعية حول المدينة، وطورت نظام الدفاع الذاتي عن النفس وتحمل مسئولية المبادرة واتخاذ القرار.
2- الحرب بالرسل أو سياسة الإلهاء:
اتبع سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في إلهاء المرتدين بالرسل، فكلما ورد رسول بخبر قوم رده برسالة وأتبع الرسل بالرسل تأجيلاً للمصادمة لحين عودة جيش أسامة.
ويبدو أن هذه السياسة كانت فعالة وحققت أهدافها؛ لأنها أبقت عامل الزمن الناجم عن غياب جيش المدينة -أربعون يوماً- إيجابياً لصالح الخلافة• وبالتالي أبقت زمام المبادرة بيدها حتى سماها المؤرخون بـ(حرب الرسل).
3- مهاجمة بؤر الردة المتحركة:
لقد كونت بعض القبائل تجمعاً قبلياً وجربوا الغارة على المدينة من اتجاهين؛ غير أنهم وجدوا الخليفة قد سد أنقاب المدينة بالمقاتلة، ثم تبعهم فهزمهم وحرق بعض قياداتهم بالنار [هو الفجاءة بن إياس لغدره ونكثه العهد؛ إذ جاء يطلب سلاحاً ليحارب به المرتدين، فأخذ السلاح وحارب به المسلمين الآمنين وعاث في الطريق ينهب ويسلب ويهدر الدماء! انظر عبقرية الصديق للعقاد]، لقد حققت هذه الخطوة أهدافها، وأبرزها:
أ- تعزيز ثقة المسلمين بالخلافة.
ب- إرهاب المرتدين وإعطاؤهم فكرة حية عن جدية الخلافة في توجهها.
جـ- منع تجميع القبائل المرتدة والحيلولة دون تكاتفها.
د- كما أنها عززت صلة المدينة إدارياً ببعض الأطراف.
هـ- وأمنت جباية بعض الصدقات، وتعزيز اقتصاد الخلافة.
4- الهجوم الشامل على المرتدين:
بدأت هذه الخطوة بعد عودة جيش أسامة، وما ترتب على ذلك من تحسن القدرة الاقتصادية للخلافة؛ حيث عقد الخليفة أحد عشر لواءً.
أعطى الخليفة إلى كل قائد عهده، وحملهم كتاباً واحداً إلى العرب كافة حدد في الأول واجبات كل أمير، وحدد في الثاني فهم الخلافة لإسلام المسلم، وما يترتب عليه من التزامات، وموقفها من المرتد.
وتكشف وثائق المصالحات التي عقدت مع بعض القبائل عن سياسة الخلافة من المرتد الذي يقاتل ويهزم، وهي:
- القتل على الرجال والسبي على النساء والذراري.
- الإجلاء عن الأرض.
- المصالحة لمن لا يقاتل بشرط.
- نزع الحلقة (السلاح) والكراع منهم.
- اعتبار ما أصابه المسلمون من أموالهم غنائم. وحدد هذه الأموال في (الصفراء والبيضاء) أي الذهب والفضة.
- تعويض المسلمين عما أخذه منهم المرتدون.
- رفع المرتدين دية شهداء المسلمين.
- إقرار المرتدين أن قتلاهم في النار.
تحقيق كامل الأهداف!:
حققت سياسة الخليفة كامل أهدافه:
1- فقد تم له القضاء على الردة.
2- وتثبيت سياسة النبي صلى الله عليه وسلم.
3- وتعزيز الوحدة التي حققها في حدود الجزيرة العربية.
4- واستكمال التنظيم الإداري والعسكري والاقتصادي والاجتماعي لدولة يقودها الصحابة ويرأسها الخليفة.
5- وحقق نقلة تاريخية في بناء القوة العسكرية القادرة على الضرب بعيداً -ليس عن مركز الدولة وإنما- عن حدودها أيضاً.
لذلك تجده يقف في المسجد مخاطباً الناس بقوله:
{فالعرب اليوم بنو أم وأب، وقد رأيت أن أستنفر المسلمين إلى جهاد الروم بالشام -ثم أردف:- واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار ما لديه، ألا وإني عازم أن أوجه أبطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأني بذلك قبل موته}.
الجهادية والاتباع في سياسة الصديق:
لقد أتاح قدم الإسلام للخليفة أبي بكر مواكبة نزول القرآن أكثر من غيره، مما أعطاه فرصة تكوين مبدئية شاملة استوعبت الأسس العقائدية اللازمة، وتعزيزها سلوكياً من خلال المواقف العملية المعبرة، وبالتالي امتلاك تاريخية أطول لتلك المبدئية.
إن طبيعته الهادئة الوديعة -أو كما وصفه المؤرخون (كان مألوفاً لقومه)- شكلت عاملاً إيجابياً لصالح الاستيعاب العقائدي والتعبير السلوكي العميق عنه، وبالتالي تكوين تلك الشخصية الجهادية المتزنة القادرة على اتخاذ القرار الصائب، والبقاء دائماً في الجانب الصحيح، كما تقتضيه العقيدة وتستوجبه الصحبة الطويلة.
وقد كانت هذه الصفات تختفي خلف هدوء القناعة يقيناً بالعقيدة والطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، أما وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقل أبو بكر إلى الموقع الأول، فقد فاجأ المسلمين -والصحابة منهم بشكل خاص- بجوانب شخصيته! فعندما صعب على المسلمين التسليم بوفاته وارتبكوا وذهبوا كل مذهب؛ جاء أبو بكر من منزله بالسنح، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه، فقال: {بأبي أنت وأمي، أما الموتة الأولى -التي كتب الله عليك- فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعد موتة أبداً} ثم رد الثوب على وجهه وخرج إلى الناس وهو يسمع ما يقولون، فوقف خطيباً يؤكد حقيقة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعندما أرجف الناس واشرأب النفاق، واتسع نطاق الردة، واضطرب الصحابة واقترحوا عليه الإبقاء على جيش أسامة بن زيد؛ كشف عن عميق وعيه وبعد رؤيته بالإصرار على إنفاذ جيش أسامة وتأكيد استمرار سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً، وهي مسألة مهمة جداً لضمان وحدة الفكر والاجتهاد.
غير أنه أدرك أيضاً الاحتمالات العملية التي يمكن أن تترتب على الإبقاء على الجيش؛ أولها: الإيحاء بانكفاء المسلمين في المدينة وترك الجزيرة مسرحاً للمرتدين يصولون ويجولون فيها.
============
كما أنه أدرك أن الإبقاء على جيش أسامة تعلق بأسباب القوة التقليدية، بينما المفروض في روح الدعوة الإسلامية أن تخلق قوتها باستمرار من خلال استثارة العوامل في الظرفين المكاني والزماني والتعبير عن الذات.
فهو إذن ينشد في المشورة جهادية الرؤية وليس الواقعية المجردة، لأن جهادية الرؤية تعكس الثقة بالمبادئ والروح الجهادية، بينما الواقعية المجردة تعكس التوسل بالدنيا تقليدياً.
كما أن خروج الجيش يعطي الانطباع الأول عن تقدير الخلافة لحركات الردة، وأنها حركات هامشية لا تخيف المبادئ ولا الدولة، فتهز قناعات المرتدين بدل أن تهز الردة قناعات الصحابة والمسلمين.
فلما خرج الجيش خرج هو بمن بقي لملاقاة المرتدين، وهو قرار صائب مكمل لقراره السابق، لأنه أتاح -جهادياً- تكوين قوة جديدة للعقيدة تتعامل مع المرتدين، وبذلك حقق هدفين:
1- تجديد القوة العسكرية للدولة والعقيدة.
2- إظهار جانب قوة آخر للدولة ومسرحاً جديداً لفعله يشد الخصوم ويمنع التقاءهم ويبقيهم على بعثرتهم.
غير أن المهم في الموقف أن خروج أبي بكر لحرب المرتدين جاء بعد أن أعطى للصحابة مفهومه للإيمان والطاعة، فهو إذاً لم يفرق بين من كفر أو من امتنع عن دفع الزكاة، قد اعتبر كلا نوعي الحركات الارتدادية خارجاً على العقيدة والدولة.
وإن موقف النوع الثاني في الارتداديين يجزئ الموقف العام أولاً، ويتخذ لنفسه موقفاً متميزاً ضمن الدولة وبنائها السياسي، فإذا قبل الخليفة تحللهم من شرط الزكاة فمعنى هذا أنه أقر لهم موقفاً خاصاً في اتفاق معلن؛ وهو خلل في البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للأمة؛ لأنه يهدد الوحدة ويقود إلى معارضة نهائية مستقبلاً.
لهذا عد الجميع في موضع مجابهة مع الدولة وتمسك بتسليم المرتدين بمبادئ وأسس الإسلام كافة، إدراكاً لقيمة تضافر تلك المبادئ والأسس في إرساء أسس الأمة الجديدة، وانتصار العقيدة الجديدة.
فالذين أرادوا الإيمان بالله ورسوله وأقاموا الصلاة وحجبوا الزكاة يريدون دنيا بدون دين، فمثلهم مثل الذين أرادوا الاستقلال عن الدولة فاختاروا الدين بدون دولة، وهو إخلال بالترابط بين التوحيد والوحدة.
لهذا قيل في أبي بكر: إنه أفضل الناس بشيء كان في قلبه وليس لأنه أكثرهم صلاة وصياماً) اهـ. بشيء من التصرف.
بهذه السياسة الحكيمة والقيادة الحازمة تمكن الصديق رضي الله عنه من القضاء على الفتن الداخلية بجميع شعبها وأشكالها، وذلك أول عمل ينبغي أن يقوم به أي حاكم، وأول شرط لاستقرار أي حكومة، ودوام أي نظام، وإلا ضعفت الحكومة في نهاية المطاف وانهار النظام، فضلاً عن الانشغال عن المهام الأساسية الأخرى في الداخل أو الخارج؛ وهو ما حدث لسيدنا عثمان رضي الله عنه في النصف الثاني من خلافته، وسيدنا علي رضي الله عنه يوم آلت إليه الخلافة؛ فكانت فترة عصفت فيها الفتن بالأمة عصفاً، فانقسمت على نفسها، وخاضت حروباً أهلية لا طائل من ورائها، ولم تحقق أي هدف من أهدافها، بل ابتعدت كثيراً عنها، وكلما مر زمن زادت الأمور تعقيداً واضطراباً!
وبغض النظر عن الأسباب والأعذار؛ فإن علياً لم يستطع القضاء على الفتنة ولم يتمكن من السير على سياسة تعود بالأمة إلى سابق جماعتها ووحدتها؛ لينطلق بها مرة أخرى إلى حيث يريد لها أن تنشر رسالتها•
بل تفاقمت الأمور وكثرت الفتن والاضطرابات وقوي الخصوم؛ حتى تمكنوا من قتله!
وغادر موقعه في القيادة شهيداً والأمة مضطربة منقسمة لم تتوحد إلا بعد حين!
خليفة القائد الأعظم:
إن عبقرية الصديق وكفاءته القيادية، وقدرته على حشد الناس، وأثره الفاعل في انقيادهم له والتفافهم حول شخصه، وهيبتهم وإجلالهم لشخصيته، وحبهم وانجذابهم لها، لا يمكن الإحاطة به أو تصوره كما ينبغي، وتقديره حق قدره؛ ما لم تستحضر أمراً في غاية الأهمية، ألا وهو أن الصديق جاء إلى منصة الحكم والقيادة، بعد أعظم قائد وأكبر شخصية آسرة حكمت الأرض؛ ألا وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد من السماء!
إن من الطبيعي أن تقع المقارنة بين اللاحق والسابق في أي موقع من مواقع الحياة ووظائفها، وإذا كان السابق قد أوتي نصيباً من التميز وعناصر الجذب والاستيعاب، فإن اللاحق مهما أوتي من مؤهلات ما لم تكن مقاربة لمن سبقه؛ فإن الحظ سيكون إلى غير جانبه، مما يؤدي إلى ضعف التفاف الجمهور حوله لشعورهم بالفجوة الفاصلة بينهما! ومهما أجهد الثاني نفسه ليبدو مقبولاً وجذاباً فلن يفلح إلا أن تكون الفجوة ضيقة أو معدومة.
فما بالك بشخص جاء بعد محمد صلى الله عليه وسلم!! فقاد الناس قيادة وساسهم سياسة حتى كأن شيئاً لم يتغير بل كثر الخير وانتشر، واستقرت الأمور، وتوسعت الدولة، وثبتت أركانها، واستطاع أن يدير الناس في فلكه، ويجذبهم إلى مركزه، فصاروا يطيفون به كما تطيف الكواكب بالنجم الكبير!
شبيه إبراهيم وعيسى عليهما السلام:
لا شك أن الله تعالى حين اختار الإسلام خاتماً للأديان يريد له أن يبقى، ويريد له أن يقوى ويستغلظ ويستوي على سوقه، ويكره أن يضعف أو ينتهي ويزول بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن هذا يستلزم أن يولي أمر دينه من بعد نبيه خيرة صحبه، فإن هذا هو الذي يحقق مراد الرب جل وعلا على أتم وجه وأحسن حال، فكان أبو بكر هو المختار بعد المختار صلى الله عليه وسلم.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم -والأمة تعلم- أن أبا بكر كذلك، ويشبهه بإبراهيم خليل الله وعيسى روح الله، وهما من أولي العزم، وإبراهيم أفضل الأنبياء عليهم السلام بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وللنبي شبه كبير به خلقاً وخُلقاً، وعيسى لا يبعد عنه في المنزلة كثيراً.
وهذا يعني أن الفجوة بين شبيه إبراهيم وعيسى وبين النبي صلى الله عليه وسلم ليست واسعة، بل ضيقة جداً.
شبيه هارون عليه السلام:
وشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بهارون عليه السلام، وجعل منزلته منه كمنزلة هارون من موسى، والفجوة بين المنزلتين واسعة!
ولو مات موسى فخلفه هارون، لما استطاع أن يجمع حوله بني إسرائيل ويشدهم في فلكه، ولقد حدث له ذلك حين ذهب موسى لمناجاة ربه وقال لأخيه هارون: (( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ))[الأعراف:142] فلم يستطع هارون أن يقود قومه وينقذهم من فتنة الارتداد وعبادة العجل (( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ))[الأعراف:150] ولما قال لقومه: (( فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ))[طه:91].
بين أبي بكر الصديق ويوشع بن نون:-
والشيء نفسه قاله المرتدون لأبي بكر:
أطعنا رسول الله ما دام بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر
ولكن أبا بكر -يا لعباد الله- كان له معهم شأن آخر!
ولما مات موسى عليه السلام كان الذي خلفه في قومه وقادهم قيادة قوية محكمة هو (صاحبه) الذي كان دوماً في رفقته وصحبته، فتاه الذي جاء ذكره في سورة الكهف في قصته مع الخضر عليه السلام، لقد استطاع أن يقود بني إسرائيل ويقاتل بهم عدوهم حتى عبر بهم نهر الأردن، والشيء نفسه حدث لأبي بكر!
يقول الأستاذ محمود الملاح رحمه الله:
(ولننقل ما ورد في الإصحاح الأول من سفر يوشع ليقف القارئ على أن سيرة يوشع كانت (مفصلة) على أبي بكر كأنها حلة أعدت له منذ ألفي عام هكذا: (وكان بعد موت موسى عبد الرب، أن الرب كلم يشوع ابن نون خادم موسى قائلاً: موسى عبدي قد مات فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم.. كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى.. لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.
كما كنت مع موسى أكون معك.
تشدد وتشجع جداً!! للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي لا تمل عنها يميناً ولا شمالاً.
تشدد وتشجع، لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك).
فانظر إلى هذه أما تراها منطبقة المفاهيم على أبي بكر -يوشع نبي المسلمين- كأنها نزلت عليه {إلا أنه لا نبي بعدي}!
قلت: كأن هذه الكلمات نزلت من السماء على أبي بكر يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ووقوع الارتداد: (لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك كما كنت مع (محمد) أكون معك).
وقالوا له: لا تنفذ جيش أسامة، فأصر على إنفاذه حفاظاً على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده! فكأن السماء يومها كانت تناديه: (تشدد وتشجع جداً للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها (محمد) عبدي، لا تمل عنها يميناً ولا شمالاً، تشدد وتشجع، لا ترهب ولا ترتعب؛ لأن الرب إلهك معك)[ تأمل العلاقة بينها وبين قوله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا)]!
يقول الأستاذ الملاح: (فارجع البصر هل ترى من فطور في سيرة أبي بكر وسياسته بالنسبة إلى سيرة النبي وسياسته؟ (ثم ارجع البصر كرتين) في قوله: (لا يقف إنسان في وجهك! كما كنت مع موسى أكون معك! تشدد وتشجع للعمل حسب كل الشريعة، لا تمل عنها يميناً ولا شمالاً لا ترهب ولا ترتعب).
ومن الغرائب أن آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كانت غزوة تبوك دون الأردن وإنما الذي عبر الأردن جيش أبي بكر!!
وكان النبي عقد لواءً لأسامة فأنفذه أبو بكر وقال: لا أحل راية عقدها رسول الله [(الرزية في القصيدة الأزرية) (ص14 - 24) الأستاذ محمود الملاح].
ولو خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بأربعين يوماً كيف سيجد أمته التي تركها؟ سيجدها متماسكة قوية تضرب بيد من حديد رأس كل خارج عنيد، قد أحكمت أمرها واستقام رشدها والتف حول إمامها، ورجع جيش أسامة بالغلب والخير والظفر، فهل هناك أروع وأبهى وأشد وأقوى من هذا؟!!
لا بد أنه سيودعهم بذات الابتسامة التي ودعهم بها آخر مرة وهم يصلون جميعاً خلف ذات الإمام، ثم يرخي الستر ما بينه وبينهم من جديد! ويحلق راضياً مطمئناً إلى الملأ الأعلى والسموات العلى.
لقد شبت الأمة عن الطوق فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما علي رضي الله عنه فكان من النبي صلى الله عليه وسلم (كهارون من موسى) في منزلته، وكذلك في شخصيته التي تعاني من عدم انقياد الناس لها واجتماعهم حولها• وقد حدث له ذلك مراراً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان يوم تركه على المدينة وتوجه إلى تبوك، فكان سبب قوله له -وقد تبعه يبكي وهو يشكو إليه انفضاض الناس عنه ولمزهم إياه-: {ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي} وهو مواساة وتطييب خاطر، أي: أن لك أسوة بهارون حيث تركه موسى فعصاه قومه واستضعفوه وكادوا يقتلونه، فاصبر واحتسب!
إن القدرة على القيادة وحشد الأتباع ليس شرطاً أن تتناسب طردياً مع التقوى، فقد يكون الرجل تقياً ولا يكون قائداً من الطراز الأول كهارون عليه السلام.
وليس كل الأتقياء يصلحون كقادة أكفاء، وقد تجتمع في أحدهم نسبة معينة من مؤهلات القيادة تقترب أو تبتعد من القمة، والناس مراتب، وليس ذلك بضائرهم عند الله.
ولما ذهب علي رضي الله عنه إلى اليمن اختلف الناس عليه وخاصموه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطر أن ينزل في الهجير عند غدير يقال له: خم، ليدافع عنه ويبرئ ساحته.
وحدث لما آلت إليه الخلافة أن تفرق عنه الناس ولم يستطع جمعهم واستيعابهم، ووقع له ما خشي منه هارون عليه السلام، أن يقع من الفرقة في قومه فلم يأمرهم إلا بما كان يقدر عليه، وانتظر حتى رجع موسى عليه السلام القائد الموهوب.
وقد أدرك علي ذلك تمام الإدراك وأشار إليه -بأبي هو وأمي- بقوله: {أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً}[(نهج البلاغة)) (1/182)] لما أكرهوه على البيعة ولكن لم يسمعها منه أحد وضاعت وسط الضجيج، فتقدم لتحمل المسئولية بشجاعة وصبر وثبات، لكن الأحداث كانت عاصفة شديدة العصف ولم يكن في وسعه إخمادها، فقضى والفتنة لما ينطفئ أوارها•
ترى! لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عثمان وتولي علي بأربعين يوماً ماذا كان سيجد؟ وما عساه أن يقول؟!
إنه سيجد أمة متفرقة تموج في الفتن، وإمامهم يرقب الأوضاع وهو يتحسر، كهارون يأمر أتباعه فلا يطيعون، وينهى قومه فيعصون، وهو يقول:
{تقول قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا رأي له، ألا لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع} [(نهج البلاغة)].
لقد انتظر هارون حتى رجع موسى فحسم الأمر، ولحق علي بعد حجة الوداع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه عند ذلك الغدير، فكان ما كان وقضي الأمر، وتبعه وهو متوجه إلى تبوك فواساه وطيّب خاطره! ولكن ينتظر من في ذلك الظرف وهو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين؟!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)
وشتان شتان بين المنزلتين! لقد كان الفراغ واسعاً بين منزلة هارون ومنزلة موسى، فملأه يوشع بن نون، كما ملأ الفراغ بين محمد صلى الله عليه وسلم وعلي، وأبو بكر الذي شبهه رسول الله بإبراهيم وعيسى، وعمر الذي شبهه بنوح وموسى!
ولا شك أن إبراهيم وعيسى وكذلك نوحاً وموسى أعظم منزلة من هارون•
تصديه للأخطار الخارجية:
وجهاده في نشر رسالة الإسلام:
وهو من أدل الدلائل على عبقرية الصديق السياسية وكفاءته المتميزة في التخطيط والقيادة العسكرية•
لقد استثمر الحالة الجديدة التي صارت عليها الأمة بعد القضاء على فتنة المرتدين، وما اكتسبته من خبرة في القتال وثقة بالنفس وتوحد في الصف للقيام بأعظم عمل إيجابي؛ ألا وهو الجهاد في سبيل الله لنشر مبادئ الإسلام، وأول ثمرة من ثمار هذا العمل: إشغال الناس عن الفتن وما يمكن أن يتولد عن الحروب الداخلية التي خاضوها قريباً من التفكير بالثأر والعمل للانتقام وزعزعة الصف، فنادى فيهم نداءه وعبأهم لمقاتلة أعظم دولتين في زمانه فارس والروم، فعصف بهما عواصفه، وما قضى إلا وقد وجه لكل منهما الضربة الموجعة المميتة، إذ حررت جيوشه غربي العراق وتمركزت في (الحيرة) تتخذ منها قاعدة بانتظار فرصة القفز إلى (المدائن) عاصمة الفرس المغتصبين.
أما الروم فقد انتزع منهم الشام، ولما جاءته المنية كانت جموع المجاهدين تتعبأ في ساحة اليرموك؛ لتخوض أعظم معركة فاصلة في تاريخ الجبهة الغربية الملتهبة، بقيادة ألمع وأعظم القادة العسكريين الميدانيين في التاريخ سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان الصديق وراء اختياره•
كل ذلك تم في غضون سنتين اثنتين فقط هي فترة حكمه المباركة والحافلة بالأحداث الجسام!
أليس هذا من العجب العجاب؟!
أعظم خطة عسكرية في التاريخ:
حينما نقول: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من طراز القادة التاريخيين العظام، لا نقول ذلك بدافع الحب والإعجاب المجرد.
لقد كان الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم يخطط ويقود ويوجه، وهو يشاركه الرأي والمشورة، لكن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم كانت تغطي عليه وتحجب بروز مواهبه بحيث تكون ظاهرةً للقريب والبعيد، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف من هو أبو بكر، فكان يقدمه على الأصحاب، حتى إذا غادرت الشمس سماء الإسلام برز البدر ينير الوجود ويسحب ذيل نوره على الكواكب والنجوم.
إن أبا بكر هو واضع الخطة العسكرية التي أبادت الفرس وحطمت دولتهم فأزالتها -وإلى الأبد- من الوجود!
إن خطة عسكرية حققت ما عجز عنه الرومان والبابليون، وهزمت قوماً كانوا قد محوا -خلال تاريخهم- خمس دول وحضارات قامت في العراق هي: سومر وأكد وآشور والحضر وبابل! وكانت وقعاتهم وسطواتهم بالروم يشهدها العالم إلى زمن مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومنها انتصارهم الذي سجله القرآن بقوله: (( غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ))[الروم:2-3] حتى لقد وصل الفرس إلى عاصمة الرومان الشرقية -القسطنطينية- لهي حقاً أعظم خطة عسكرية في التاريخ.
لقد أيس البابليون وعجز الروم في دهورهم المتطاولة عن إسقاط دولة فارس، ولم يفلح أي قائد عسكري لامع طيلة تاريخهم في أن يضع خطة يجتث بها دولتهم ويسقطها إلى الأبد. وعجز العرب كذلك! حتى إذا استيأسوا وهم يحاولون ويأملون ويظنون بأنفسهم الظنون؛ جاءهم أبو بكر ليضع تلك الخطة العسكرية التاريخية الأسطورية، ويرسمها وهو جالس مع أركان حربه فوق رمال الجزيرة.
الملامح الأساسية للخطة:
وهذه هي الملامح الأساسية للصورة الرائعة لتلك الخطة:
قسم أبو بكر الخطة إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى:
عبارة عن معارك استنزاف سريعة متلاحقة؛ تنهك الخصم الفارسي وتشتت قواه وتستنفدها، وتفقده الثقة بنفسه وتعيد الثقة وتزرعها في نفوس العرب؛ حتى إذا تم استنزاف الخصم أجهز عليه بمعركة نهائية كبيرة فاصلة أعد لها طويلاً.
تنتهي المرحلة الأولى بتحرير غربي العراق والاستيلاء على (الحيرة) التي هي أنسب موقع لمن يريد تهديد العاصمة من العرب، إن وجهها إلى سواد العراق وظهرها إلى صحراء العرب، فيمكن التوغل منها بحذر إلى الداخل أو الانسحاب منها إلى الصحراء لإعداد العدة واستئناف الهجوم مرة أخرى.
المرحلة الثانية:
وهي عبارة عن معركة كبيرة فاصلة يخوضونها بعد أن يكون الفرس قد أنهكت قواهم وفقدوا الثقة بأنفسهم، في الوقت الذي يكون العرب قد استعادوا هذه الثقة، وجمعوا قواهم وحشدوها لكسب المعركة التي سيتم بعدها الانقضاض على عاصمة الفرس -المدائن- لإسقاطها وإحكام السيطرة عليها.
أوكل تنفيذ المرحلة الأولى إلى سيف الله خالد بن الوليد وعياض بن غنم على أن يدخل الأول العراق من جنوبه والثاني من أعلاه؛ لمشاغلة العدو وشلّ تفكيره وتشتيت قواه، فأيهما وصل الحيرة -وهي الهدف الأول لهما- قبل صاحبه كان هو الأمير أو القائد العام، فأتم المهمة كلها خالد بن الوليد [لأن عياضاً حصره الروم والفرس في دومة الجندل حتى خلصه خالد] وخاض في سبيل تحقيق هذا الهدف الكبير -وفي غضون سنة واحدة!- بضع عشرة معركة كبيرة خاطفة استطاع العرب بها أن يحققوا أهدافهم ضمن تلك المرحلة كاملة، وصاروا يتأهبون لخوض المعركة الفاصلة وهم في أعلى المعنويات وحالات الاستعداد.
بعد احتلال الحيرة صدر الأمر من العاصمة لسيف الله خالد بالتوجه إلى الشام، وعاجلت المنية أبا بكر فأكمل تنفيذ الخطة الفاروق عمر، فكانت معركة (القادسية) التي تم من بعدها إسقاط المدائن وإخماد أسطورة النار الخالدة.
فلو لم يكن للصديق إلا هذا الإنجاز في عالم العسكرية الذي عز على متناول عمالقة الرومان والبابليين وسادات العرب لكفاه فخراً بين عظماء التاريخ، ودليلاً على عبقريته العسكرية وكفاءته القيادية!
بين قيادة أبي بكر وبطولة علي
لقد عرفت العسكرية علياً مقاتلاً ميدانياً من الطراز الأول، وجندياً باسلاً ومحارباً فاتكاً يجيد فن القتال ومبارزة الأقران!
أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية مراراً وهي لا تعطى إلا للأبطال كمصعب بن عمير وأمثاله.
ومن الملاحظ في دراسة جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينفرد في قيادة جيش طيلة العهد النبوي كما انفرد غيره كأبي عبيدة وعمرو بن العاص وخالد وحمزة وأسامة وجعفر! إلا في خيبر.
وحقيقتها أن النبي صلى الله عليه وسلم أوكل إليه قيادة كتيبة اقتحامية أشبه ما تكون بالكتائب الميدانية الانتحارية، وهو الأسلوب الأنجح مع اليهود لجبنهم وحرصهم على الحياة وخوفهم من المواجهة والالتحام بالسلاح الأبيض، وخير من يستطيع القيام بهذه المهمة من هو مثل علي في بسالته وشجاعته وتمكنه من فن القتال في الميدان.
أما القائد العام والمخطط الذي يشرف على سير المعركة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصديق (ثاني اثنين) وبقية أركان حربه.
حتى إذا انتقل النبي القائد إلى الرفيق الأعلى، لم نجد علياً رضي الله عنه يستلم قيادة جيش أو معركة طيلة ربع قرن، حتى إذا استلم الخلافة وقد كثرت الحروب الأهلية؛ خاض معارك عديدة تولى قيادتها، لم تكن من جنس المعارك التي تتجلى فيها العبقرية القيادية التخطيطية أو التنفيذية، كمعركة القادسية واليرموك ونهاوند.
إنما كانت معارك برزت فيها المقدرات الفردية والمبارزات الميدانية للجندي الباسل وذلك ما يجيده علي، لقد كثر القتل فيها وكان القتلى يعدون بعشرات الآلاف ثمناً لمعارك لم تكن حاسمة قط، ولم يتغير بها وجه التاريخ أو وجهة الأحداث، ولم يصل فيها علي إلى هدفه، وكانت سجالاً بينه وبين خصومه الذين بدا أن الزمن ومجرى الأحداث يسير إلى صالحهم إلى يوم استشهاده رضي الله عنه.
إن ما فقدته الأمة من شهداء في ساحات الوغى وهي تحرر العراق والشام وأفريقيا وتفتح فارس وبلاد ما وراء النهر، وتطهر البحر الأبيض والأحمر وتغير وجه التاريخ أيام الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول؛ لا أظنه يساوي ما فقدته الأمة من رجال في تلك الحروب التي خاضها الخليفة الراشد الرابع دون أن يصل من ورائها إلى أي هدف من أهدافه!
حفظه لدستور الأمة وجمعه القرآن العظيم:
إن هذا العمل العظيم والإنجاز الكبير هو أعظم ما شرفه الله تعالى به من أعمال وحققه من إنجاز!
إن الأمة هي أمة القرآن، فلا أمة بلا قرآن إذ لا أمة بلا هوية، وهوية هذه الأمة هو القرآن العظيم، بل هو أصل وجودها وبقائها!
ويفوز أبو بكر بهذا الشرف! ويكون هو صاحب وسام قوله تعالى: (( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ))[القيامة:17].
انقسمت هذه الآية فكان الحفظ والقراءة من نصيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجمع من نصيب (صاحبه) رضي الله عنه!
إن جمع القرآن متسلسلاً بين دفتي كتابٍ كان مستحيلاً على الجهد البشري زمن النبي، وليس ممكناً في نفسه لعدم اكتماله أولاً، ولنزوله مفرقاً لا متسلسلاً ثانياً.
إن تأليف أي كتاب لا بد أن يكون مرتباً متسلسلاً موضوعاً؛ حتى إذا اكتمل أمكن رزمه ضمن جلد واحد.
أما القرآن فقد نزل مفرقاً حسب الحوادث وليس مسلسلاً حسب المواضيع أو السور، فلم تنزل -مثلاً- سورة الفاتحة أولاً ثم أول صفحة من سورة البقرة ثم الثانية وهكذا إلى آخر الكتاب، وليس ممكناً لأي كتاب أن يجمع مرتباً ما لم يكتمل متسلسلاً.
وما أن اكتمل القرآن حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مفرق عند كتبة الوحي، فتولى العمل من بعده أبو بكر الصديق (ثاني اثنين).
وتجلت في الصديق إرادة الله في جمع القرآن وحفظه: (( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ))[القيامة:17] ، (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9] إن هذه الإرادة الربانية الكريمة لا يجعل الله تعالى محلاً لتجليها إلا الذين يختارهم من مقربيها.
إن هذا العمل هو أعظم وأكرم عمل يقوم به إنسان غير نبي، لأن القرآن هو الصلة الوحيدة المضمونة السلامة بين الرب وخلقه، فلا يأتمن الله على حفظها إلا الخيرة من عباده، وإلا وقع الشك فيها وفي سلامتها من الزيادة والنقصان، وذلك مرض لا يسلم منه طاعن في الصديق، إلا ما شاء الله وهو لازم له.
وتجلت في الصديق أول آية في القرآن: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الفاتحة:2] لأن نعمة حفظ القرآن من أعظم النعم التي يحمد الله عليها ويشكر، وأبو بكر كان في هذا الحفظ السبب الأكبر، ولذلك يقول الله تعالى: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ))[الكهف:1].
فالله يحمد على إنزال الكتاب وعلى حفظه من التحريف.
وتجلى فيه أول سورة البقرة: (( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ))[البقرة:2] ولا يكون الكتاب هادياً إلا بعد الاطمئنان إلى كماله وحفظه ونفي الريب عنه، وأبو بكر هو الرجل الذي كتب الله ذلك على يده، وذلك يستلزم نفي الريب عن أبي بكر أولاً، وإلا تطرق الريب إلى الكتاب؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، إذ كيف لصاحب العيب أن ينفي عن غيره الريب؟!
وأبو بكر هو (الأتقى) ومن أولى من الأتقى بتولي حفظ كتاب المولى!
يقول علي رضي الله عنه: {رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع القرآن بين اللوحين}.
وهكذا جمع أبو بكر الأمة بعد أن تفرقت أو كادت.
وجمع دستور الأمة بعد أن كان مفرقاً.
فلا أمة بلا دستور، ولا دستور بلا أمة.
وفي الوقت نفسه استطاع أن ينقل عوامل الصراع الداخلية إلى ساحة الخصم ويغزوه في عقر داره.
فمن أولى منه بإمامة الأمة وقيادتها؟!!
أما أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه فقد شرفه الله تعالى بجمع الأمة على قراءة القرآن بلهجة واحدة طبقاً للمصحف الذي جمعه أبو بكر، لكنه لم يستطع الحفاظ على وحدة الأمة، بل استطاع الخصوم من اليهود وزنادقة الفرس ودهاقنتهم وغيرهم أن ينقلوا عوامل الصراع إلى ساحة الأمة الداخلية، ويشغلوها بنفسها في صراعات وفتن لم يستطع إخمادها، بل أكلته آخراً بنارها وأغرقته بأمواجها، فقضى شهيداً وترك الأمة تعاني مما كان إلى اليوم.
حسم معضلة ولاية الأمر:
استطاع الصديق -رغم قصر فترة حكمه- أن ينجز هذه الإنجازات ويحفظ الأمة قوية موحدة في قاعدة فكرها واتجاه حركتها.
ويمرض أبو بكر مرض الموت، فلا بد أن يموت قرير العين بأن يضمن الحفاظ على هذا الإرث مجموعاً قوياً موحداً؛ فمن له من بعده؟
لو نظرنا في تاريخ الأمم والشعوب عموماً، وتاريخ الأمة منذ وفاة الرسول خصوصاً؛ لوجدنا أن عدم حسم ولاية العهد قبل وفاة الحاكم الذي مات يؤدي إلى تفرق المجتمع وتشرذمه حول الطامحين إلى سدة الحكم بحق أو باطل، ومن ثم يحدث القتال بين الفئات المتناحرة مما يقود إلى الضعف والتمزق، وقد يتسبب في إزالة الدولة ونشوء غيرها.
فهو إذن ينشد في المشورة جهادية الرؤية وليس الواقعية المجردة، لأن جهادية الرؤية تعكس الثقة بالمبادئ والروح الجهادية، بينما الواقعية المجردة تعكس التوسل بالدنيا تقليدياً.
كما أن خروج الجيش يعطي الانطباع الأول عن تقدير الخلافة لحركات الردة، وأنها حركات هامشية لا تخيف المبادئ ولا الدولة، فتهز قناعات المرتدين بدل أن تهز الردة قناعات الصحابة والمسلمين.
فلما خرج الجيش خرج هو بمن بقي لملاقاة المرتدين، وهو قرار صائب مكمل لقراره السابق، لأنه أتاح -جهادياً- تكوين قوة جديدة للعقيدة تتعامل مع المرتدين، وبذلك حقق هدفين:
1- تجديد القوة العسكرية للدولة والعقيدة.
2- إظهار جانب قوة آخر للدولة ومسرحاً جديداً لفعله يشد الخصوم ويمنع التقاءهم ويبقيهم على بعثرتهم.
غير أن المهم في الموقف أن خروج أبي بكر لحرب المرتدين جاء بعد أن أعطى للصحابة مفهومه للإيمان والطاعة، فهو إذاً لم يفرق بين من كفر أو من امتنع عن دفع الزكاة، قد اعتبر كلا نوعي الحركات الارتدادية خارجاً على العقيدة والدولة.
وإن موقف النوع الثاني في الارتداديين يجزئ الموقف العام أولاً، ويتخذ لنفسه موقفاً متميزاً ضمن الدولة وبنائها السياسي، فإذا قبل الخليفة تحللهم من شرط الزكاة فمعنى هذا أنه أقر لهم موقفاً خاصاً في اتفاق معلن؛ وهو خلل في البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للأمة؛ لأنه يهدد الوحدة ويقود إلى معارضة نهائية مستقبلاً.
لهذا عد الجميع في موضع مجابهة مع الدولة وتمسك بتسليم المرتدين بمبادئ وأسس الإسلام كافة، إدراكاً لقيمة تضافر تلك المبادئ والأسس في إرساء أسس الأمة الجديدة، وانتصار العقيدة الجديدة.
فالذين أرادوا الإيمان بالله ورسوله وأقاموا الصلاة وحجبوا الزكاة يريدون دنيا بدون دين، فمثلهم مثل الذين أرادوا الاستقلال عن الدولة فاختاروا الدين بدون دولة، وهو إخلال بالترابط بين التوحيد والوحدة.
لهذا قيل في أبي بكر: إنه أفضل الناس بشيء كان في قلبه وليس لأنه أكثرهم صلاة وصياماً) اهـ. بشيء من التصرف.
بهذه السياسة الحكيمة والقيادة الحازمة تمكن الصديق رضي الله عنه من القضاء على الفتن الداخلية بجميع شعبها وأشكالها، وذلك أول عمل ينبغي أن يقوم به أي حاكم، وأول شرط لاستقرار أي حكومة، ودوام أي نظام، وإلا ضعفت الحكومة في نهاية المطاف وانهار النظام، فضلاً عن الانشغال عن المهام الأساسية الأخرى في الداخل أو الخارج؛ وهو ما حدث لسيدنا عثمان رضي الله عنه في النصف الثاني من خلافته، وسيدنا علي رضي الله عنه يوم آلت إليه الخلافة؛ فكانت فترة عصفت فيها الفتن بالأمة عصفاً، فانقسمت على نفسها، وخاضت حروباً أهلية لا طائل من ورائها، ولم تحقق أي هدف من أهدافها، بل ابتعدت كثيراً عنها، وكلما مر زمن زادت الأمور تعقيداً واضطراباً!
وبغض النظر عن الأسباب والأعذار؛ فإن علياً لم يستطع القضاء على الفتنة ولم يتمكن من السير على سياسة تعود بالأمة إلى سابق جماعتها ووحدتها؛ لينطلق بها مرة أخرى إلى حيث يريد لها أن تنشر رسالتها•
بل تفاقمت الأمور وكثرت الفتن والاضطرابات وقوي الخصوم؛ حتى تمكنوا من قتله!
وغادر موقعه في القيادة شهيداً والأمة مضطربة منقسمة لم تتوحد إلا بعد حين!
خليفة القائد الأعظم:
إن عبقرية الصديق وكفاءته القيادية، وقدرته على حشد الناس، وأثره الفاعل في انقيادهم له والتفافهم حول شخصه، وهيبتهم وإجلالهم لشخصيته، وحبهم وانجذابهم لها، لا يمكن الإحاطة به أو تصوره كما ينبغي، وتقديره حق قدره؛ ما لم تستحضر أمراً في غاية الأهمية، ألا وهو أن الصديق جاء إلى منصة الحكم والقيادة، بعد أعظم قائد وأكبر شخصية آسرة حكمت الأرض؛ ألا وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد من السماء!
إن من الطبيعي أن تقع المقارنة بين اللاحق والسابق في أي موقع من مواقع الحياة ووظائفها، وإذا كان السابق قد أوتي نصيباً من التميز وعناصر الجذب والاستيعاب، فإن اللاحق مهما أوتي من مؤهلات ما لم تكن مقاربة لمن سبقه؛ فإن الحظ سيكون إلى غير جانبه، مما يؤدي إلى ضعف التفاف الجمهور حوله لشعورهم بالفجوة الفاصلة بينهما! ومهما أجهد الثاني نفسه ليبدو مقبولاً وجذاباً فلن يفلح إلا أن تكون الفجوة ضيقة أو معدومة.
فما بالك بشخص جاء بعد محمد صلى الله عليه وسلم!! فقاد الناس قيادة وساسهم سياسة حتى كأن شيئاً لم يتغير بل كثر الخير وانتشر، واستقرت الأمور، وتوسعت الدولة، وثبتت أركانها، واستطاع أن يدير الناس في فلكه، ويجذبهم إلى مركزه، فصاروا يطيفون به كما تطيف الكواكب بالنجم الكبير!
شبيه إبراهيم وعيسى عليهما السلام:
لا شك أن الله تعالى حين اختار الإسلام خاتماً للأديان يريد له أن يبقى، ويريد له أن يقوى ويستغلظ ويستوي على سوقه، ويكره أن يضعف أو ينتهي ويزول بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن هذا يستلزم أن يولي أمر دينه من بعد نبيه خيرة صحبه، فإن هذا هو الذي يحقق مراد الرب جل وعلا على أتم وجه وأحسن حال، فكان أبو بكر هو المختار بعد المختار صلى الله عليه وسلم.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم -والأمة تعلم- أن أبا بكر كذلك، ويشبهه بإبراهيم خليل الله وعيسى روح الله، وهما من أولي العزم، وإبراهيم أفضل الأنبياء عليهم السلام بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وللنبي شبه كبير به خلقاً وخُلقاً، وعيسى لا يبعد عنه في المنزلة كثيراً.
وهذا يعني أن الفجوة بين شبيه إبراهيم وعيسى وبين النبي صلى الله عليه وسلم ليست واسعة، بل ضيقة جداً.
شبيه هارون عليه السلام:
وشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بهارون عليه السلام، وجعل منزلته منه كمنزلة هارون من موسى، والفجوة بين المنزلتين واسعة!
ولو مات موسى فخلفه هارون، لما استطاع أن يجمع حوله بني إسرائيل ويشدهم في فلكه، ولقد حدث له ذلك حين ذهب موسى لمناجاة ربه وقال لأخيه هارون: (( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ))[الأعراف:142] فلم يستطع هارون أن يقود قومه وينقذهم من فتنة الارتداد وعبادة العجل (( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ))[الأعراف:150] ولما قال لقومه: (( فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ))[طه:91].
بين أبي بكر الصديق ويوشع بن نون:-
والشيء نفسه قاله المرتدون لأبي بكر:
أطعنا رسول الله ما دام بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر
ولكن أبا بكر -يا لعباد الله- كان له معهم شأن آخر!
ولما مات موسى عليه السلام كان الذي خلفه في قومه وقادهم قيادة قوية محكمة هو (صاحبه) الذي كان دوماً في رفقته وصحبته، فتاه الذي جاء ذكره في سورة الكهف في قصته مع الخضر عليه السلام، لقد استطاع أن يقود بني إسرائيل ويقاتل بهم عدوهم حتى عبر بهم نهر الأردن، والشيء نفسه حدث لأبي بكر!
يقول الأستاذ محمود الملاح رحمه الله:
(ولننقل ما ورد في الإصحاح الأول من سفر يوشع ليقف القارئ على أن سيرة يوشع كانت (مفصلة) على أبي بكر كأنها حلة أعدت له منذ ألفي عام هكذا: (وكان بعد موت موسى عبد الرب، أن الرب كلم يشوع ابن نون خادم موسى قائلاً: موسى عبدي قد مات فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم.. كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى.. لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.
كما كنت مع موسى أكون معك.
تشدد وتشجع جداً!! للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي لا تمل عنها يميناً ولا شمالاً.
تشدد وتشجع، لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك).
فانظر إلى هذه أما تراها منطبقة المفاهيم على أبي بكر -يوشع نبي المسلمين- كأنها نزلت عليه {إلا أنه لا نبي بعدي}!
قلت: كأن هذه الكلمات نزلت من السماء على أبي بكر يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ووقوع الارتداد: (لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك كما كنت مع (محمد) أكون معك).
وقالوا له: لا تنفذ جيش أسامة، فأصر على إنفاذه حفاظاً على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده! فكأن السماء يومها كانت تناديه: (تشدد وتشجع جداً للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها (محمد) عبدي، لا تمل عنها يميناً ولا شمالاً، تشدد وتشجع، لا ترهب ولا ترتعب؛ لأن الرب إلهك معك)[ تأمل العلاقة بينها وبين قوله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا)]!
يقول الأستاذ الملاح: (فارجع البصر هل ترى من فطور في سيرة أبي بكر وسياسته بالنسبة إلى سيرة النبي وسياسته؟ (ثم ارجع البصر كرتين) في قوله: (لا يقف إنسان في وجهك! كما كنت مع موسى أكون معك! تشدد وتشجع للعمل حسب كل الشريعة، لا تمل عنها يميناً ولا شمالاً لا ترهب ولا ترتعب).
ومن الغرائب أن آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كانت غزوة تبوك دون الأردن وإنما الذي عبر الأردن جيش أبي بكر!!
وكان النبي عقد لواءً لأسامة فأنفذه أبو بكر وقال: لا أحل راية عقدها رسول الله [(الرزية في القصيدة الأزرية) (ص14 - 24) الأستاذ محمود الملاح].
ولو خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بأربعين يوماً كيف سيجد أمته التي تركها؟ سيجدها متماسكة قوية تضرب بيد من حديد رأس كل خارج عنيد، قد أحكمت أمرها واستقام رشدها والتف حول إمامها، ورجع جيش أسامة بالغلب والخير والظفر، فهل هناك أروع وأبهى وأشد وأقوى من هذا؟!!
لا بد أنه سيودعهم بذات الابتسامة التي ودعهم بها آخر مرة وهم يصلون جميعاً خلف ذات الإمام، ثم يرخي الستر ما بينه وبينهم من جديد! ويحلق راضياً مطمئناً إلى الملأ الأعلى والسموات العلى.
لقد شبت الأمة عن الطوق فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما علي رضي الله عنه فكان من النبي صلى الله عليه وسلم (كهارون من موسى) في منزلته، وكذلك في شخصيته التي تعاني من عدم انقياد الناس لها واجتماعهم حولها• وقد حدث له ذلك مراراً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان يوم تركه على المدينة وتوجه إلى تبوك، فكان سبب قوله له -وقد تبعه يبكي وهو يشكو إليه انفضاض الناس عنه ولمزهم إياه-: {ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي} وهو مواساة وتطييب خاطر، أي: أن لك أسوة بهارون حيث تركه موسى فعصاه قومه واستضعفوه وكادوا يقتلونه، فاصبر واحتسب!
إن القدرة على القيادة وحشد الأتباع ليس شرطاً أن تتناسب طردياً مع التقوى، فقد يكون الرجل تقياً ولا يكون قائداً من الطراز الأول كهارون عليه السلام.
وليس كل الأتقياء يصلحون كقادة أكفاء، وقد تجتمع في أحدهم نسبة معينة من مؤهلات القيادة تقترب أو تبتعد من القمة، والناس مراتب، وليس ذلك بضائرهم عند الله.
ولما ذهب علي رضي الله عنه إلى اليمن اختلف الناس عليه وخاصموه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطر أن ينزل في الهجير عند غدير يقال له: خم، ليدافع عنه ويبرئ ساحته.
وحدث لما آلت إليه الخلافة أن تفرق عنه الناس ولم يستطع جمعهم واستيعابهم، ووقع له ما خشي منه هارون عليه السلام، أن يقع من الفرقة في قومه فلم يأمرهم إلا بما كان يقدر عليه، وانتظر حتى رجع موسى عليه السلام القائد الموهوب.
وقد أدرك علي ذلك تمام الإدراك وأشار إليه -بأبي هو وأمي- بقوله: {أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً}[(نهج البلاغة)) (1/182)] لما أكرهوه على البيعة ولكن لم يسمعها منه أحد وضاعت وسط الضجيج، فتقدم لتحمل المسئولية بشجاعة وصبر وثبات، لكن الأحداث كانت عاصفة شديدة العصف ولم يكن في وسعه إخمادها، فقضى والفتنة لما ينطفئ أوارها•
ترى! لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عثمان وتولي علي بأربعين يوماً ماذا كان سيجد؟ وما عساه أن يقول؟!
إنه سيجد أمة متفرقة تموج في الفتن، وإمامهم يرقب الأوضاع وهو يتحسر، كهارون يأمر أتباعه فلا يطيعون، وينهى قومه فيعصون، وهو يقول:
{تقول قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا رأي له، ألا لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع} [(نهج البلاغة)].
لقد انتظر هارون حتى رجع موسى فحسم الأمر، ولحق علي بعد حجة الوداع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه عند ذلك الغدير، فكان ما كان وقضي الأمر، وتبعه وهو متوجه إلى تبوك فواساه وطيّب خاطره! ولكن ينتظر من في ذلك الظرف وهو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين؟!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)
وشتان شتان بين المنزلتين! لقد كان الفراغ واسعاً بين منزلة هارون ومنزلة موسى، فملأه يوشع بن نون، كما ملأ الفراغ بين محمد صلى الله عليه وسلم وعلي، وأبو بكر الذي شبهه رسول الله بإبراهيم وعيسى، وعمر الذي شبهه بنوح وموسى!
ولا شك أن إبراهيم وعيسى وكذلك نوحاً وموسى أعظم منزلة من هارون•
تصديه للأخطار الخارجية:
وجهاده في نشر رسالة الإسلام:
وهو من أدل الدلائل على عبقرية الصديق السياسية وكفاءته المتميزة في التخطيط والقيادة العسكرية•
لقد استثمر الحالة الجديدة التي صارت عليها الأمة بعد القضاء على فتنة المرتدين، وما اكتسبته من خبرة في القتال وثقة بالنفس وتوحد في الصف للقيام بأعظم عمل إيجابي؛ ألا وهو الجهاد في سبيل الله لنشر مبادئ الإسلام، وأول ثمرة من ثمار هذا العمل: إشغال الناس عن الفتن وما يمكن أن يتولد عن الحروب الداخلية التي خاضوها قريباً من التفكير بالثأر والعمل للانتقام وزعزعة الصف، فنادى فيهم نداءه وعبأهم لمقاتلة أعظم دولتين في زمانه فارس والروم، فعصف بهما عواصفه، وما قضى إلا وقد وجه لكل منهما الضربة الموجعة المميتة، إذ حررت جيوشه غربي العراق وتمركزت في (الحيرة) تتخذ منها قاعدة بانتظار فرصة القفز إلى (المدائن) عاصمة الفرس المغتصبين.
أما الروم فقد انتزع منهم الشام، ولما جاءته المنية كانت جموع المجاهدين تتعبأ في ساحة اليرموك؛ لتخوض أعظم معركة فاصلة في تاريخ الجبهة الغربية الملتهبة، بقيادة ألمع وأعظم القادة العسكريين الميدانيين في التاريخ سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان الصديق وراء اختياره•
كل ذلك تم في غضون سنتين اثنتين فقط هي فترة حكمه المباركة والحافلة بالأحداث الجسام!
أليس هذا من العجب العجاب؟!
أعظم خطة عسكرية في التاريخ:
حينما نقول: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من طراز القادة التاريخيين العظام، لا نقول ذلك بدافع الحب والإعجاب المجرد.
لقد كان الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم يخطط ويقود ويوجه، وهو يشاركه الرأي والمشورة، لكن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم كانت تغطي عليه وتحجب بروز مواهبه بحيث تكون ظاهرةً للقريب والبعيد، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف من هو أبو بكر، فكان يقدمه على الأصحاب، حتى إذا غادرت الشمس سماء الإسلام برز البدر ينير الوجود ويسحب ذيل نوره على الكواكب والنجوم.
إن أبا بكر هو واضع الخطة العسكرية التي أبادت الفرس وحطمت دولتهم فأزالتها -وإلى الأبد- من الوجود!
إن خطة عسكرية حققت ما عجز عنه الرومان والبابليون، وهزمت قوماً كانوا قد محوا -خلال تاريخهم- خمس دول وحضارات قامت في العراق هي: سومر وأكد وآشور والحضر وبابل! وكانت وقعاتهم وسطواتهم بالروم يشهدها العالم إلى زمن مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومنها انتصارهم الذي سجله القرآن بقوله: (( غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ))[الروم:2-3] حتى لقد وصل الفرس إلى عاصمة الرومان الشرقية -القسطنطينية- لهي حقاً أعظم خطة عسكرية في التاريخ.
لقد أيس البابليون وعجز الروم في دهورهم المتطاولة عن إسقاط دولة فارس، ولم يفلح أي قائد عسكري لامع طيلة تاريخهم في أن يضع خطة يجتث بها دولتهم ويسقطها إلى الأبد. وعجز العرب كذلك! حتى إذا استيأسوا وهم يحاولون ويأملون ويظنون بأنفسهم الظنون؛ جاءهم أبو بكر ليضع تلك الخطة العسكرية التاريخية الأسطورية، ويرسمها وهو جالس مع أركان حربه فوق رمال الجزيرة.
الملامح الأساسية للخطة:
وهذه هي الملامح الأساسية للصورة الرائعة لتلك الخطة:
قسم أبو بكر الخطة إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى:
عبارة عن معارك استنزاف سريعة متلاحقة؛ تنهك الخصم الفارسي وتشتت قواه وتستنفدها، وتفقده الثقة بنفسه وتعيد الثقة وتزرعها في نفوس العرب؛ حتى إذا تم استنزاف الخصم أجهز عليه بمعركة نهائية كبيرة فاصلة أعد لها طويلاً.
تنتهي المرحلة الأولى بتحرير غربي العراق والاستيلاء على (الحيرة) التي هي أنسب موقع لمن يريد تهديد العاصمة من العرب، إن وجهها إلى سواد العراق وظهرها إلى صحراء العرب، فيمكن التوغل منها بحذر إلى الداخل أو الانسحاب منها إلى الصحراء لإعداد العدة واستئناف الهجوم مرة أخرى.
المرحلة الثانية:
وهي عبارة عن معركة كبيرة فاصلة يخوضونها بعد أن يكون الفرس قد أنهكت قواهم وفقدوا الثقة بأنفسهم، في الوقت الذي يكون العرب قد استعادوا هذه الثقة، وجمعوا قواهم وحشدوها لكسب المعركة التي سيتم بعدها الانقضاض على عاصمة الفرس -المدائن- لإسقاطها وإحكام السيطرة عليها.
أوكل تنفيذ المرحلة الأولى إلى سيف الله خالد بن الوليد وعياض بن غنم على أن يدخل الأول العراق من جنوبه والثاني من أعلاه؛ لمشاغلة العدو وشلّ تفكيره وتشتيت قواه، فأيهما وصل الحيرة -وهي الهدف الأول لهما- قبل صاحبه كان هو الأمير أو القائد العام، فأتم المهمة كلها خالد بن الوليد [لأن عياضاً حصره الروم والفرس في دومة الجندل حتى خلصه خالد] وخاض في سبيل تحقيق هذا الهدف الكبير -وفي غضون سنة واحدة!- بضع عشرة معركة كبيرة خاطفة استطاع العرب بها أن يحققوا أهدافهم ضمن تلك المرحلة كاملة، وصاروا يتأهبون لخوض المعركة الفاصلة وهم في أعلى المعنويات وحالات الاستعداد.
بعد احتلال الحيرة صدر الأمر من العاصمة لسيف الله خالد بالتوجه إلى الشام، وعاجلت المنية أبا بكر فأكمل تنفيذ الخطة الفاروق عمر، فكانت معركة (القادسية) التي تم من بعدها إسقاط المدائن وإخماد أسطورة النار الخالدة.
فلو لم يكن للصديق إلا هذا الإنجاز في عالم العسكرية الذي عز على متناول عمالقة الرومان والبابليين وسادات العرب لكفاه فخراً بين عظماء التاريخ، ودليلاً على عبقريته العسكرية وكفاءته القيادية!
بين قيادة أبي بكر وبطولة علي
لقد عرفت العسكرية علياً مقاتلاً ميدانياً من الطراز الأول، وجندياً باسلاً ومحارباً فاتكاً يجيد فن القتال ومبارزة الأقران!
أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية مراراً وهي لا تعطى إلا للأبطال كمصعب بن عمير وأمثاله.
ومن الملاحظ في دراسة جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينفرد في قيادة جيش طيلة العهد النبوي كما انفرد غيره كأبي عبيدة وعمرو بن العاص وخالد وحمزة وأسامة وجعفر! إلا في خيبر.
وحقيقتها أن النبي صلى الله عليه وسلم أوكل إليه قيادة كتيبة اقتحامية أشبه ما تكون بالكتائب الميدانية الانتحارية، وهو الأسلوب الأنجح مع اليهود لجبنهم وحرصهم على الحياة وخوفهم من المواجهة والالتحام بالسلاح الأبيض، وخير من يستطيع القيام بهذه المهمة من هو مثل علي في بسالته وشجاعته وتمكنه من فن القتال في الميدان.
أما القائد العام والمخطط الذي يشرف على سير المعركة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصديق (ثاني اثنين) وبقية أركان حربه.
حتى إذا انتقل النبي القائد إلى الرفيق الأعلى، لم نجد علياً رضي الله عنه يستلم قيادة جيش أو معركة طيلة ربع قرن، حتى إذا استلم الخلافة وقد كثرت الحروب الأهلية؛ خاض معارك عديدة تولى قيادتها، لم تكن من جنس المعارك التي تتجلى فيها العبقرية القيادية التخطيطية أو التنفيذية، كمعركة القادسية واليرموك ونهاوند.
إنما كانت معارك برزت فيها المقدرات الفردية والمبارزات الميدانية للجندي الباسل وذلك ما يجيده علي، لقد كثر القتل فيها وكان القتلى يعدون بعشرات الآلاف ثمناً لمعارك لم تكن حاسمة قط، ولم يتغير بها وجه التاريخ أو وجهة الأحداث، ولم يصل فيها علي إلى هدفه، وكانت سجالاً بينه وبين خصومه الذين بدا أن الزمن ومجرى الأحداث يسير إلى صالحهم إلى يوم استشهاده رضي الله عنه.
إن ما فقدته الأمة من شهداء في ساحات الوغى وهي تحرر العراق والشام وأفريقيا وتفتح فارس وبلاد ما وراء النهر، وتطهر البحر الأبيض والأحمر وتغير وجه التاريخ أيام الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول؛ لا أظنه يساوي ما فقدته الأمة من رجال في تلك الحروب التي خاضها الخليفة الراشد الرابع دون أن يصل من ورائها إلى أي هدف من أهدافه!
حفظه لدستور الأمة وجمعه القرآن العظيم:
إن هذا العمل العظيم والإنجاز الكبير هو أعظم ما شرفه الله تعالى به من أعمال وحققه من إنجاز!
إن الأمة هي أمة القرآن، فلا أمة بلا قرآن إذ لا أمة بلا هوية، وهوية هذه الأمة هو القرآن العظيم، بل هو أصل وجودها وبقائها!
ويفوز أبو بكر بهذا الشرف! ويكون هو صاحب وسام قوله تعالى: (( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ))[القيامة:17].
انقسمت هذه الآية فكان الحفظ والقراءة من نصيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجمع من نصيب (صاحبه) رضي الله عنه!
إن جمع القرآن متسلسلاً بين دفتي كتابٍ كان مستحيلاً على الجهد البشري زمن النبي، وليس ممكناً في نفسه لعدم اكتماله أولاً، ولنزوله مفرقاً لا متسلسلاً ثانياً.
إن تأليف أي كتاب لا بد أن يكون مرتباً متسلسلاً موضوعاً؛ حتى إذا اكتمل أمكن رزمه ضمن جلد واحد.
أما القرآن فقد نزل مفرقاً حسب الحوادث وليس مسلسلاً حسب المواضيع أو السور، فلم تنزل -مثلاً- سورة الفاتحة أولاً ثم أول صفحة من سورة البقرة ثم الثانية وهكذا إلى آخر الكتاب، وليس ممكناً لأي كتاب أن يجمع مرتباً ما لم يكتمل متسلسلاً.
وما أن اكتمل القرآن حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مفرق عند كتبة الوحي، فتولى العمل من بعده أبو بكر الصديق (ثاني اثنين).
وتجلت في الصديق إرادة الله في جمع القرآن وحفظه: (( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ))[القيامة:17] ، (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9] إن هذه الإرادة الربانية الكريمة لا يجعل الله تعالى محلاً لتجليها إلا الذين يختارهم من مقربيها.
إن هذا العمل هو أعظم وأكرم عمل يقوم به إنسان غير نبي، لأن القرآن هو الصلة الوحيدة المضمونة السلامة بين الرب وخلقه، فلا يأتمن الله على حفظها إلا الخيرة من عباده، وإلا وقع الشك فيها وفي سلامتها من الزيادة والنقصان، وذلك مرض لا يسلم منه طاعن في الصديق، إلا ما شاء الله وهو لازم له.
وتجلت في الصديق أول آية في القرآن: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الفاتحة:2] لأن نعمة حفظ القرآن من أعظم النعم التي يحمد الله عليها ويشكر، وأبو بكر كان في هذا الحفظ السبب الأكبر، ولذلك يقول الله تعالى: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ))[الكهف:1].
فالله يحمد على إنزال الكتاب وعلى حفظه من التحريف.
وتجلى فيه أول سورة البقرة: (( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ))[البقرة:2] ولا يكون الكتاب هادياً إلا بعد الاطمئنان إلى كماله وحفظه ونفي الريب عنه، وأبو بكر هو الرجل الذي كتب الله ذلك على يده، وذلك يستلزم نفي الريب عن أبي بكر أولاً، وإلا تطرق الريب إلى الكتاب؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، إذ كيف لصاحب العيب أن ينفي عن غيره الريب؟!
وأبو بكر هو (الأتقى) ومن أولى من الأتقى بتولي حفظ كتاب المولى!
يقول علي رضي الله عنه: {رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع القرآن بين اللوحين}.
وهكذا جمع أبو بكر الأمة بعد أن تفرقت أو كادت.
وجمع دستور الأمة بعد أن كان مفرقاً.
فلا أمة بلا دستور، ولا دستور بلا أمة.
وفي الوقت نفسه استطاع أن ينقل عوامل الصراع الداخلية إلى ساحة الخصم ويغزوه في عقر داره.
فمن أولى منه بإمامة الأمة وقيادتها؟!!
أما أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه فقد شرفه الله تعالى بجمع الأمة على قراءة القرآن بلهجة واحدة طبقاً للمصحف الذي جمعه أبو بكر، لكنه لم يستطع الحفاظ على وحدة الأمة، بل استطاع الخصوم من اليهود وزنادقة الفرس ودهاقنتهم وغيرهم أن ينقلوا عوامل الصراع إلى ساحة الأمة الداخلية، ويشغلوها بنفسها في صراعات وفتن لم يستطع إخمادها، بل أكلته آخراً بنارها وأغرقته بأمواجها، فقضى شهيداً وترك الأمة تعاني مما كان إلى اليوم.
حسم معضلة ولاية الأمر:
استطاع الصديق -رغم قصر فترة حكمه- أن ينجز هذه الإنجازات ويحفظ الأمة قوية موحدة في قاعدة فكرها واتجاه حركتها.
ويمرض أبو بكر مرض الموت، فلا بد أن يموت قرير العين بأن يضمن الحفاظ على هذا الإرث مجموعاً قوياً موحداً؛ فمن له من بعده؟
لو نظرنا في تاريخ الأمم والشعوب عموماً، وتاريخ الأمة منذ وفاة الرسول خصوصاً؛ لوجدنا أن عدم حسم ولاية العهد قبل وفاة الحاكم الذي مات يؤدي إلى تفرق المجتمع وتشرذمه حول الطامحين إلى سدة الحكم بحق أو باطل، ومن ثم يحدث القتال بين الفئات المتناحرة مما يقود إلى الضعف والتمزق، وقد يتسبب في إزالة الدولة ونشوء غيرها.
========
إن عدم حسم هذه القضية بعد مقتل عثمان جر الأمة إلى الفتنة والتطاحن خمس سنين حتى طمع فيها أعداؤها.
والشيء نفسه تكرر بعد مقتل علي لولا أن تدارك الله الأمة بالحسن.
وتجددت الفتن حول ولاية الأمر بعد معاوية؛ إذ خرج الحسين في العراق وأعلن عبدالله بن الزبير العصيان في مكة، وظل الانقسام واستمر جريان نهر الدماء إلى أن جاء مروان بن عبدالملك فوحّد الأمة، لكنها ظلت تعاني من كثرة الخارجين الطامحين إلى نيل الحكم، إلى أن انقسمت ثلاثة أقسام: المشرق بيد العباسيين، والمغرب بيد الأدارسة، والأندلس بيد الأمويين.
وهل يمكن أن ينسى التاريخ الفتنة التي وقعت بعد موت الرشيد بين ولديه الأمين والمأمون؟ وما خبر انقسام دولة الأيوبيين على أيدي أبناء صلاح الدين واضمحلالها منا ببعيد.
إذاً أخطر شيء على وحدة الدولة عدم الاتفاق على من يخلف الحاكم السابق فإذا لم يحسم الأمر على أيدي الرجال الأقوياء الحكماء صار بأس الأمة بينها وأكلت بعضها بعضاً.
مشاورات الصديق في تولية الفاروق:
لقد حسم الصديق رضي الله عنه أو منع وقوع الفتنتين معاً: الفتنة السابقة لولايته والفتنة اللاحقة لها، فاختار لولاية الأمر من بعده خير الناس وأعدلهم وأشدهم في ذات الله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بعد تفكير عميق واستشارة ونقاش مع وجهاء المهاجرين والأنصار وأهل الحل والعقد منهم.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد:
(إن الصديق قد جهد في مسألة العهد جهد رأيه، وإنه كان يود أن يكل الأمر إلى المسلمين يختارون من يشاءون، فجمع إليه نخبة من أهل الرأي وقال لهم فيما قال: {قد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا من بعدي}.
فلم يستقم لهم أمر ورجعوا إليه يقولون: {إن الرأي يا خليفة رسول الله رأيك}.
فاستمهلهم حتى ينظر لله ولدينه وعباده.
ثم استقرّ رأيه على استخلاف عمر بعد مشاورة عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد وأسيد بن حضير وجماعة من المهاجرين والأنصار فكلهم قال خيراً، وسأل علياً فقال: {إن عمر عند ظنك به ورأيك فيه، إن وليته -مع أنه كان والياً معك- نحظى برأيه ونأخذ منه، فامض لما تريد ودع مخاطبة الرجل، فإن يكن على ما ظننت إن شاء الله فله عمدت، وإن يكن ما لا تظن لم ترد إلا الخير} [(عبقرية الصديق)] اهـ.
ودخل عليه طلحة، فقال: {ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد نرى غلظته؟ وكان أبو بكر مضطجعاً من شدة المرض، فقال: (أقعدوني) فلما أقعدوه قال: (أبالله تخوفني! أقول: اللهم إني استخلفت على أهلك خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من وراءك}.
وأجمع على الفاروق جميع من استشارهم الصديق، سوى أنهم ذكروا أن فيه غلظة فأجابهم أبو بكر بالرأي السديد.
سأل عنه عبدالرحمن بن عوف، فقال:
{ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني فقال أبو بكر: (وإن).
فقال عبدالرحمن:
هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة.
قال أبو بكر:
ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو فيه، ويا أبا محمد! قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت أراني الشدة عليه، ثم قال: اكتم هذا ثم استدعى عثمان، فقال:
اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس منا مثله.
وقال أسيد بن حضير:
اللهم أعلمه الخير بعدك، يرضى للرضا ويسخط للسخط، الذي يسر خير من الذين يعلن، ولن يلي هذا الأمر أقوى عليه منه}.
ثم بعد أن استقر الأمر وأجمع الرأي على عمر دعاه فأفضى إليه بوصيته، فلما خرج من عنده رفع يديه، وقال:
{اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأياً فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم.
وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم بيدك، أصلح اللهم ولاتهم واجعله من خلفائك الراشدين وأصلح له رعيته}.
يقول رفيق العظم تعليقاً على هذه الوصية:
(وفي كلامه هذا ما يؤيد قولنا السابق: إن أبا بكر إنما اختار للخلافة بعده عمر رضي الله عنه، ولم يتركها شورى خوفاً من الفتنة وثقة بكفاءته وسداً لذرائع النزاع من جهة، ومن جهة ثانية علماً منه بمكانة عمر من السياسة، وأنه لا يحيد بالأمة عن سبيل الخشونة والقناعة بالكفاف، ولا يترك لها عنان الخوض في غمرات النعيم الرومي والترف الفارسي، فتفسد أخلاقها، وتسترخي قواها، وتفتر عن بث الدعوة همتها) [(أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) (ص136)].
وقال أيضاً وهو يحلل الأسباب الموضوعية التي تجعل التخوف من وقوع الفتنة أمراً وارداً في الحساب:
(اشتد على أبي بكر المرض فلم يشغله عن أمر المسلمين، ولم يثن همته عن النظر في مصلحة الأمة، وخشي - إن هو مات ولم يعهد لأحد بالخلافة - أن تكون فتنة تضطرب لها الدهماء، وتعظم اللأواء، وفي القوم نفر ينتهي إليهم شرف السيادة في الجاهلية والإسلام، وهم في الفضل والتقدم سواء، ولكن لكل منهم مكانة في القلوب غير مكانة من عداه، وعصبية تريده على الأمر وإن هو أباه، فإن ترك منصب الخلافة شاغراً وجعله شورى بين القوم خيف من تفرق الرأي، وتعذر تأليف القلوب على واحد من أولئك النفر، إذ الشورى في الأمور وإن كان يُراد بها تمحيص الآراء لاختيار الأصلح منها والأصوب فيها، إلا أن صاحب الرأي مجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وفي الصحابة -كما قلنا- نفر هم في الفضل والشرف والأهلية كالحلقة المفرغة لا يدرى طرفاها، ولكل واحد منهم عصبية وحزب يريدونه على الخلافة اجتهاداً منهم بوجود الكفاية فيه كما هي في سواه.
إذن؛ فالاختلاف متوقع حتماً بين المسلمين فيما لو ترك أبو بكر منصب الخلافة شاغراً، والمعذرة قائمة للصحابة في هذا الاختلاف ما دام فيهم عدة من ذوي الكفاءة، وأخصهم أهل بيعة الرضوان من السابقين، كما أنها قائمة لأبي بكر أيضاً في عدم تركه الأمر شورى، والحال ما ذكر درءاً لخطر ذلك الاختلاف المتوقع من بين قوم هو أبصر بهم وأدرى بأخلاقهم.
وإنما نظر أبو بكر فيمن يختار لذلك المنصب الرفيع شأنه الحرج موقعه، فرأى أنه يحتاج إلى رجل فيه شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف. وممن توفرت فيهم هذه الصفة من الصحابة الكرام عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. إلا أن الأول كان ربما يريد الأمر فيرى في طريقه عقبة فيدور إليه، والثاني يرى الاستقامة فلا يبالي بالعقبة تقوم بين يديه؛ فهو بهذا إلى الشدة أميل منه إلى اللين.
لهذا لما استشار أبو بكر الصحابة فيمن يستخلفه أشاروا عليه بعمر··· ثم دعا عثمان فقال: اكتب: {بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن برّ وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار فلا علم لي بالغيب، والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب}.
ثم أمر بالكتاب فختمه. ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختوماً، فبايع الناس ورضوا به. ثم دعا بعمر خالياً فأوصاه ما أوصاه) [المصدر نفسه].
وتأمل قوله: في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر.
أي: إني في حال لا يمكن أن يكون في اختياري لمن يخلفني هوى أو ميل شخصي مجرد لأني لن أنتفع منه بشيء إذ أنا ميت وشيكاً.
وصدق الصديق! إذ لو كان اختياره عن هوى وعدم مراعاة مرضاة الرب والنصح للدين والمسلمين لكان اختار واحداً من أبنائه أو أحد أقربائه.
وأصاب الصديق في هذا الاختيار عين الصواب، وكان موفقاً تمام التوفيق. ولم يخيب الفاروق ظنه. لقد وطد أركان الدولة ووسع رقعتها، وعصف بالفرس والروم، ونشر رسالة الإسلام في أصقاع الأرض، ولم يكن في عهده أدنى تململ لفتنة. بل كانت الأمة في خير حال· لقد (أقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه) [(نهج البلاغة) (4/107)]، (لقد قوم الأود وداوى العمد. خلف الفتنة وأقام السنة، ذهب نقي الثوب قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته واتقاه بحق) [(نهج البلاغة) (2/222)].
وكان الفاروق وولايته على الأمة حسنة من حسنات الصديق، وهو القائل: {ليوم وليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر}. ثم ذكر أن اليوم هو يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والليلة ليلة الغار.
مسك الختام
يقول رفيق العظم:
(وأجمع الرواة أن أبا بكر لما قبض ارتجت المدينة ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه باكياً مسرعاً حتى وقف بالباب وهو يقول: {رحمك الله يا أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلاماً، وأخلقهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غنىً، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأشبههم برسول الله خلقاً وفضلاً وهدياً وسمتاً، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيراً.
صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا· وسماك الله في كتابه صديقاً فقال: ((وَ?لَّذِى جَآءَ بِـ?لصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)) [الزمر:33] يريد محمداً ويريدك.
كنت والله للإسلام حصناً، وللكافرين ناكباً.
لم تضلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف.
كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً في بدنك، قوياً في دينك، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، جليلاً في الأرض، كبيراً عند المسلمين.
لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى.
فالضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له. والقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه.
فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك} [(أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) (ص136)].
وكان علي رضي الله عنه إذا ذكر عنده أبو بكر يقول: {هو السباق، والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر}.
و(إن أحسن وصف يمثل أبا بكر -بفضائله وأخلاقه ولا يدع في النفس حاجة إلى المزيد- ما وصفته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بخطبة وجيزة العبارة عظيمة المعنى، جامعة لشمائل أبي بكر وأخلاقه.
وإذا أتيت بشيء من ذكر فضائله ومناقبه فإنما يكون تفصيلاً لما أجملت، وشرحاً لما أوجزت.
فقد روي أنه بلغها أن أناساً يتناولون من أبيها فأرسلت إليهم، فلما حضروا قالت:
أبي ما أبِيَهْ لا تعطوه -تناوله- الأيدي، ذاك والله حصن منيف، وظل مديد، أنجح إذ أكديتم -خبتم-، وسبق إذ ونيتم -فترتم- سبق الجواد إذا استولى على الأمد -الغاية-·
فتى قريش ناشئاً وكهفها كهلاً·
يريش مملقها، ويفك عانيها، ويرأب صدعها، ويلم شعثها؛ حتى حليته قلوبها.
واستشرى في دينه فما برحت شكيمته في ذات الله عز وجل؛ حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان رحمه الله غزير الدمعة، وقيذ -عليل- الجوانح، شجي النشيج -صوت البكاء- فانصفقت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به، و(( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ))[البقرة:15].
فأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت له قسيها، وفوقت إليه سهامها، فانتثلوه غرضاً -أي جعلوه هدفاً لسهامهم- فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه -أي استمر ولم يثنه شيء- حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وأرست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجاً، ومن كل فرقة أرسالاً وأشتاتاً؛ اختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما عنده، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب الشيطان رواقه، وشد طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، وألقى بركه، واضطرب حبل الدين والإسلام، وحرج عهده، وماج أهله، وعاد مبرمه أنكاثاً، وبغي الغوائل، وظن رجال أن قد أكثبت أطماعهم نهزها -تحققت أطماعهم-، ولات حين الذي يرجون، وأنّى لهم والصديق بين أظهرهم!! فقام حاسراً مشمراً قد رفع حاشيتيه، ورفع قطريه، فرد نشر الدين على غره -طيه-، ولمّ شعثه بطيه، وأقام أوده بثقافه -أي: قوم عوجه- فابذعر -تفرق- النفاق بوطأته، وانتاش الدين فنعشه. فلما أراح الحق على أهله، وأقر الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، وحضرته منيته؛ سد ثلمته بشقيقه في المرحمة، ونظيره في السيرة والمعدلة؛ ذاك ابن الخطاب، لله أم حملت به ودرت عليه. لقد أوحدت به -أتت به وحيداً- ففنخ -أذلّ- الكفرة وديخها، وشرد الشرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها -شقها- فقاءت أكلها، ولفظت خبئها ترأمه -تعطف عليه- ويصد عنها، وتصدى له ويأباها. ثم وزع فيأها فيها، وتركها كما صحبها؛ فأروني ماذا تريبون؟ وأي يومي أبي تنقمون؟
أيوم إقامته إذ عدل فيكم؟ أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم) [(أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) (ص77 - 79)، (السيدة عائشة أم المؤمنين وعالمة نساء الإسلام (ص229 - 231) لعبدالحميد طهماز ناقلاً عن (صفة الصفوة)].
وفي هذا الثناء كفاية إذا عمدنا إلى الثناء الذي قاله فيه عارفوه.
ولكننا في أمر أبي بكر وأمثاله نستطيع أن نتجاوز الثناء إلى مقالة الأعداء الألداء ونحن آمنون أن نسمع فيه ما يغض من فضله وينقص شيئاً من حقه. إذ ليس على عظيم من العظماء غضاضة أن يختلف فيه مختلفون، وأن يتأول أعماله متأولون. فكل عظيم من عظماء الدنيا قيل له وقيل عليه، وحسنت نيات قوم نحوه وساءت نيات آخرين؛ فليس هذا بضائره، وليس هذا بعجيب. وإنما الميزان العادل في الحكم له أن عليه دليل القائل وليس مقال القائل. فلمن شاء أن يزعم ما يشاء فيمن يشاء، ولكنه لا يوضع في الميزان إلا بدليل تؤيده الوقائع والأعمال. فهذا الذي يحسب من مقال القائلين ومن خلاف المختلفين.
فليست فضيلة أبي بكر أنه ظفر من الناس جميعاً بالثناء الذي لا معقب عليه إذ ليس هذا بممكن وليس هذا بمعقول ولا مطلوب.
وإنما فضيلته أنه قد ظفر بالثناء ممن في ثنائه صدق ولثنائه قيمة.
وإن اختلاف المخالفين لم يقم قط على دليل، ولم يأت قط من أناس يحسنون ما يقولون!.
أكثر من أمين:
وكل حكم على أبي بكر مؤيد بدليل معتمد على واقع، فهو مصور له في صورة عامة واحدة لا شك فيها، وهي صورة أمين، وأكثر من أمين؛ لأنه لم يتهم قط بخيانة في الجاهلية أو الإسلام.
وأكثر من الأمين؛ لأن الأمين هو الذي يعطي حق غيره. فأما الذي يعطي الأمانة ويزيد عليها، أو يعطي حق غيره ويعطي من حقه الذي لا يطلب منه؛ فذلك هو المفضل الذي جاوز قدر الأمانة فهو أكثر من أمين.
وكان أبو بكر يؤدي الأمانات في الجاهلية، ويزيد عليها من عنده فضل المفضل وإحسان المحسن وإغاثة المغيث.
ثم تسلم الأمانة الكبرى بعد الخلافة؛ فترك الدنيا وقد أداها كما هي وزاد عليها.
ولسنا مغالين في المجاز حين نقول: إنه صنع مثل ذلك في أمانة الخلق أو أمانة الحياة، فمات خيراً مما ولد. ونشأ ضعيفاً في بدنه كما قال رسول الله، فإذا هو يستمد من قوة باطنه لقوة ظاهره، ويلقي من مروءته على مرآه حتى أنشأ من نفسه ما لم ينشأ من بدنه، وبلغ من المهابة بالقوة التي زادها على تكوينه الظاهر فوق ما يؤتاه أمثاله في أمثال هذا التكوين.
للناس أن يعطوه وهم على ثقة أن يستردوا ما أعطوه وزيادة.
وللحياة أن تعطيه وهي على ثقة ألا ينقص عطاؤها وألا يزال معه في ازدياد.
على كل أمانة عنده كائناً ما كان معطيها حق مصون ومزيد مضمون!
صورته المجملة أنه الأمين وأكثر من الأمين!!
الأمين في الصداقة، والأمين في الحكومة، والأمين في السيرة، والأمين في المال، والأمين في الإيمان.
ثم هو في كل أولئك أكثر من الأمين.
عصمته العواصم من فتنة الغواية، فولد كريماً تعنيه العزة بين الأقوياء، ولا يعنيه الطغيان على الضعفاء.
وكبر وليس في تكوينه حدة الشعور، وحماسة اليقين، وسليقة الإعجاب، وعصمة المروءة والوقار.
وكبر وكل فضيلة فيه تكبر إلى آمادها، فلما مات كان أكبر ما كان، وأكبر ما يتأتى أن يكون!
مات وهو صاحب الدعوة الثانية في الإسلام، فكان الثاني حقاً بعد النبي عليه السلام في كل شيء:
من قبول الإسلام، إلى ولاية أمر الإسلام، إلى تجديد دعوة الإسلام بعد أن نقضت الردة دعوته الأولى، وأوشكت أن ترجع بها إلى الجاهلية الجهلاء.
ثاني اثنين، وأول مقتد، وأول مجيب.
ذلك موضعه في تلك الدعوة الإنسانية التي نشأت في أمة واحدة، ثم غيرت ما بعدها في ميع الأمم. سواء من علم بها ومن لم يعلم، وهي دعوة صديقه وصفيه ونبيه صلوات الله عليه.
قيل: إنه مات بالسم في أكلة أكلها قبل عام من وفاته، وليس لهذا القول مرجع يميل الباحث إلى تصديقه.
وقيل: إنه مات بالحمى... وانتهت حياة بلغت نهايتها في حيز الجسد، وفي حيز المجد، وفي حيز التاريخ) [(عبقرية الصديق) للعقاد (ص185 ـ 188)].
موقع البرهان
http://alburhan.com/articles.aspx?id...=5&links=false
والشيء نفسه تكرر بعد مقتل علي لولا أن تدارك الله الأمة بالحسن.
وتجددت الفتن حول ولاية الأمر بعد معاوية؛ إذ خرج الحسين في العراق وأعلن عبدالله بن الزبير العصيان في مكة، وظل الانقسام واستمر جريان نهر الدماء إلى أن جاء مروان بن عبدالملك فوحّد الأمة، لكنها ظلت تعاني من كثرة الخارجين الطامحين إلى نيل الحكم، إلى أن انقسمت ثلاثة أقسام: المشرق بيد العباسيين، والمغرب بيد الأدارسة، والأندلس بيد الأمويين.
وهل يمكن أن ينسى التاريخ الفتنة التي وقعت بعد موت الرشيد بين ولديه الأمين والمأمون؟ وما خبر انقسام دولة الأيوبيين على أيدي أبناء صلاح الدين واضمحلالها منا ببعيد.
إذاً أخطر شيء على وحدة الدولة عدم الاتفاق على من يخلف الحاكم السابق فإذا لم يحسم الأمر على أيدي الرجال الأقوياء الحكماء صار بأس الأمة بينها وأكلت بعضها بعضاً.
مشاورات الصديق في تولية الفاروق:
لقد حسم الصديق رضي الله عنه أو منع وقوع الفتنتين معاً: الفتنة السابقة لولايته والفتنة اللاحقة لها، فاختار لولاية الأمر من بعده خير الناس وأعدلهم وأشدهم في ذات الله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بعد تفكير عميق واستشارة ونقاش مع وجهاء المهاجرين والأنصار وأهل الحل والعقد منهم.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد:
(إن الصديق قد جهد في مسألة العهد جهد رأيه، وإنه كان يود أن يكل الأمر إلى المسلمين يختارون من يشاءون، فجمع إليه نخبة من أهل الرأي وقال لهم فيما قال: {قد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا من بعدي}.
فلم يستقم لهم أمر ورجعوا إليه يقولون: {إن الرأي يا خليفة رسول الله رأيك}.
فاستمهلهم حتى ينظر لله ولدينه وعباده.
ثم استقرّ رأيه على استخلاف عمر بعد مشاورة عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد وأسيد بن حضير وجماعة من المهاجرين والأنصار فكلهم قال خيراً، وسأل علياً فقال: {إن عمر عند ظنك به ورأيك فيه، إن وليته -مع أنه كان والياً معك- نحظى برأيه ونأخذ منه، فامض لما تريد ودع مخاطبة الرجل، فإن يكن على ما ظننت إن شاء الله فله عمدت، وإن يكن ما لا تظن لم ترد إلا الخير} [(عبقرية الصديق)] اهـ.
ودخل عليه طلحة، فقال: {ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد نرى غلظته؟ وكان أبو بكر مضطجعاً من شدة المرض، فقال: (أقعدوني) فلما أقعدوه قال: (أبالله تخوفني! أقول: اللهم إني استخلفت على أهلك خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من وراءك}.
وأجمع على الفاروق جميع من استشارهم الصديق، سوى أنهم ذكروا أن فيه غلظة فأجابهم أبو بكر بالرأي السديد.
سأل عنه عبدالرحمن بن عوف، فقال:
{ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني فقال أبو بكر: (وإن).
فقال عبدالرحمن:
هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة.
قال أبو بكر:
ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو فيه، ويا أبا محمد! قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت أراني الشدة عليه، ثم قال: اكتم هذا ثم استدعى عثمان، فقال:
اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس منا مثله.
وقال أسيد بن حضير:
اللهم أعلمه الخير بعدك، يرضى للرضا ويسخط للسخط، الذي يسر خير من الذين يعلن، ولن يلي هذا الأمر أقوى عليه منه}.
ثم بعد أن استقر الأمر وأجمع الرأي على عمر دعاه فأفضى إليه بوصيته، فلما خرج من عنده رفع يديه، وقال:
{اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأياً فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم.
وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم بيدك، أصلح اللهم ولاتهم واجعله من خلفائك الراشدين وأصلح له رعيته}.
يقول رفيق العظم تعليقاً على هذه الوصية:
(وفي كلامه هذا ما يؤيد قولنا السابق: إن أبا بكر إنما اختار للخلافة بعده عمر رضي الله عنه، ولم يتركها شورى خوفاً من الفتنة وثقة بكفاءته وسداً لذرائع النزاع من جهة، ومن جهة ثانية علماً منه بمكانة عمر من السياسة، وأنه لا يحيد بالأمة عن سبيل الخشونة والقناعة بالكفاف، ولا يترك لها عنان الخوض في غمرات النعيم الرومي والترف الفارسي، فتفسد أخلاقها، وتسترخي قواها، وتفتر عن بث الدعوة همتها) [(أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) (ص136)].
وقال أيضاً وهو يحلل الأسباب الموضوعية التي تجعل التخوف من وقوع الفتنة أمراً وارداً في الحساب:
(اشتد على أبي بكر المرض فلم يشغله عن أمر المسلمين، ولم يثن همته عن النظر في مصلحة الأمة، وخشي - إن هو مات ولم يعهد لأحد بالخلافة - أن تكون فتنة تضطرب لها الدهماء، وتعظم اللأواء، وفي القوم نفر ينتهي إليهم شرف السيادة في الجاهلية والإسلام، وهم في الفضل والتقدم سواء، ولكن لكل منهم مكانة في القلوب غير مكانة من عداه، وعصبية تريده على الأمر وإن هو أباه، فإن ترك منصب الخلافة شاغراً وجعله شورى بين القوم خيف من تفرق الرأي، وتعذر تأليف القلوب على واحد من أولئك النفر، إذ الشورى في الأمور وإن كان يُراد بها تمحيص الآراء لاختيار الأصلح منها والأصوب فيها، إلا أن صاحب الرأي مجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وفي الصحابة -كما قلنا- نفر هم في الفضل والشرف والأهلية كالحلقة المفرغة لا يدرى طرفاها، ولكل واحد منهم عصبية وحزب يريدونه على الخلافة اجتهاداً منهم بوجود الكفاية فيه كما هي في سواه.
إذن؛ فالاختلاف متوقع حتماً بين المسلمين فيما لو ترك أبو بكر منصب الخلافة شاغراً، والمعذرة قائمة للصحابة في هذا الاختلاف ما دام فيهم عدة من ذوي الكفاءة، وأخصهم أهل بيعة الرضوان من السابقين، كما أنها قائمة لأبي بكر أيضاً في عدم تركه الأمر شورى، والحال ما ذكر درءاً لخطر ذلك الاختلاف المتوقع من بين قوم هو أبصر بهم وأدرى بأخلاقهم.
وإنما نظر أبو بكر فيمن يختار لذلك المنصب الرفيع شأنه الحرج موقعه، فرأى أنه يحتاج إلى رجل فيه شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف. وممن توفرت فيهم هذه الصفة من الصحابة الكرام عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. إلا أن الأول كان ربما يريد الأمر فيرى في طريقه عقبة فيدور إليه، والثاني يرى الاستقامة فلا يبالي بالعقبة تقوم بين يديه؛ فهو بهذا إلى الشدة أميل منه إلى اللين.
لهذا لما استشار أبو بكر الصحابة فيمن يستخلفه أشاروا عليه بعمر··· ثم دعا عثمان فقال: اكتب: {بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن برّ وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار فلا علم لي بالغيب، والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب}.
ثم أمر بالكتاب فختمه. ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختوماً، فبايع الناس ورضوا به. ثم دعا بعمر خالياً فأوصاه ما أوصاه) [المصدر نفسه].
وتأمل قوله: في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر.
أي: إني في حال لا يمكن أن يكون في اختياري لمن يخلفني هوى أو ميل شخصي مجرد لأني لن أنتفع منه بشيء إذ أنا ميت وشيكاً.
وصدق الصديق! إذ لو كان اختياره عن هوى وعدم مراعاة مرضاة الرب والنصح للدين والمسلمين لكان اختار واحداً من أبنائه أو أحد أقربائه.
وأصاب الصديق في هذا الاختيار عين الصواب، وكان موفقاً تمام التوفيق. ولم يخيب الفاروق ظنه. لقد وطد أركان الدولة ووسع رقعتها، وعصف بالفرس والروم، ونشر رسالة الإسلام في أصقاع الأرض، ولم يكن في عهده أدنى تململ لفتنة. بل كانت الأمة في خير حال· لقد (أقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه) [(نهج البلاغة) (4/107)]، (لقد قوم الأود وداوى العمد. خلف الفتنة وأقام السنة، ذهب نقي الثوب قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته واتقاه بحق) [(نهج البلاغة) (2/222)].
وكان الفاروق وولايته على الأمة حسنة من حسنات الصديق، وهو القائل: {ليوم وليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر}. ثم ذكر أن اليوم هو يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والليلة ليلة الغار.
مسك الختام
يقول رفيق العظم:
(وأجمع الرواة أن أبا بكر لما قبض ارتجت المدينة ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه باكياً مسرعاً حتى وقف بالباب وهو يقول: {رحمك الله يا أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلاماً، وأخلقهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غنىً، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأشبههم برسول الله خلقاً وفضلاً وهدياً وسمتاً، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيراً.
صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا· وسماك الله في كتابه صديقاً فقال: ((وَ?لَّذِى جَآءَ بِـ?لصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)) [الزمر:33] يريد محمداً ويريدك.
كنت والله للإسلام حصناً، وللكافرين ناكباً.
لم تضلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف.
كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً في بدنك، قوياً في دينك، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، جليلاً في الأرض، كبيراً عند المسلمين.
لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى.
فالضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له. والقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه.
فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك} [(أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) (ص136)].
وكان علي رضي الله عنه إذا ذكر عنده أبو بكر يقول: {هو السباق، والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر}.
و(إن أحسن وصف يمثل أبا بكر -بفضائله وأخلاقه ولا يدع في النفس حاجة إلى المزيد- ما وصفته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بخطبة وجيزة العبارة عظيمة المعنى، جامعة لشمائل أبي بكر وأخلاقه.
وإذا أتيت بشيء من ذكر فضائله ومناقبه فإنما يكون تفصيلاً لما أجملت، وشرحاً لما أوجزت.
فقد روي أنه بلغها أن أناساً يتناولون من أبيها فأرسلت إليهم، فلما حضروا قالت:
أبي ما أبِيَهْ لا تعطوه -تناوله- الأيدي، ذاك والله حصن منيف، وظل مديد، أنجح إذ أكديتم -خبتم-، وسبق إذ ونيتم -فترتم- سبق الجواد إذا استولى على الأمد -الغاية-·
فتى قريش ناشئاً وكهفها كهلاً·
يريش مملقها، ويفك عانيها، ويرأب صدعها، ويلم شعثها؛ حتى حليته قلوبها.
واستشرى في دينه فما برحت شكيمته في ذات الله عز وجل؛ حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان رحمه الله غزير الدمعة، وقيذ -عليل- الجوانح، شجي النشيج -صوت البكاء- فانصفقت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به، و(( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ))[البقرة:15].
فأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت له قسيها، وفوقت إليه سهامها، فانتثلوه غرضاً -أي جعلوه هدفاً لسهامهم- فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه -أي استمر ولم يثنه شيء- حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وأرست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجاً، ومن كل فرقة أرسالاً وأشتاتاً؛ اختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما عنده، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب الشيطان رواقه، وشد طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، وألقى بركه، واضطرب حبل الدين والإسلام، وحرج عهده، وماج أهله، وعاد مبرمه أنكاثاً، وبغي الغوائل، وظن رجال أن قد أكثبت أطماعهم نهزها -تحققت أطماعهم-، ولات حين الذي يرجون، وأنّى لهم والصديق بين أظهرهم!! فقام حاسراً مشمراً قد رفع حاشيتيه، ورفع قطريه، فرد نشر الدين على غره -طيه-، ولمّ شعثه بطيه، وأقام أوده بثقافه -أي: قوم عوجه- فابذعر -تفرق- النفاق بوطأته، وانتاش الدين فنعشه. فلما أراح الحق على أهله، وأقر الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، وحضرته منيته؛ سد ثلمته بشقيقه في المرحمة، ونظيره في السيرة والمعدلة؛ ذاك ابن الخطاب، لله أم حملت به ودرت عليه. لقد أوحدت به -أتت به وحيداً- ففنخ -أذلّ- الكفرة وديخها، وشرد الشرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها -شقها- فقاءت أكلها، ولفظت خبئها ترأمه -تعطف عليه- ويصد عنها، وتصدى له ويأباها. ثم وزع فيأها فيها، وتركها كما صحبها؛ فأروني ماذا تريبون؟ وأي يومي أبي تنقمون؟
أيوم إقامته إذ عدل فيكم؟ أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم) [(أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) (ص77 - 79)، (السيدة عائشة أم المؤمنين وعالمة نساء الإسلام (ص229 - 231) لعبدالحميد طهماز ناقلاً عن (صفة الصفوة)].
وفي هذا الثناء كفاية إذا عمدنا إلى الثناء الذي قاله فيه عارفوه.
ولكننا في أمر أبي بكر وأمثاله نستطيع أن نتجاوز الثناء إلى مقالة الأعداء الألداء ونحن آمنون أن نسمع فيه ما يغض من فضله وينقص شيئاً من حقه. إذ ليس على عظيم من العظماء غضاضة أن يختلف فيه مختلفون، وأن يتأول أعماله متأولون. فكل عظيم من عظماء الدنيا قيل له وقيل عليه، وحسنت نيات قوم نحوه وساءت نيات آخرين؛ فليس هذا بضائره، وليس هذا بعجيب. وإنما الميزان العادل في الحكم له أن عليه دليل القائل وليس مقال القائل. فلمن شاء أن يزعم ما يشاء فيمن يشاء، ولكنه لا يوضع في الميزان إلا بدليل تؤيده الوقائع والأعمال. فهذا الذي يحسب من مقال القائلين ومن خلاف المختلفين.
فليست فضيلة أبي بكر أنه ظفر من الناس جميعاً بالثناء الذي لا معقب عليه إذ ليس هذا بممكن وليس هذا بمعقول ولا مطلوب.
وإنما فضيلته أنه قد ظفر بالثناء ممن في ثنائه صدق ولثنائه قيمة.
وإن اختلاف المخالفين لم يقم قط على دليل، ولم يأت قط من أناس يحسنون ما يقولون!.
أكثر من أمين:
وكل حكم على أبي بكر مؤيد بدليل معتمد على واقع، فهو مصور له في صورة عامة واحدة لا شك فيها، وهي صورة أمين، وأكثر من أمين؛ لأنه لم يتهم قط بخيانة في الجاهلية أو الإسلام.
وأكثر من الأمين؛ لأن الأمين هو الذي يعطي حق غيره. فأما الذي يعطي الأمانة ويزيد عليها، أو يعطي حق غيره ويعطي من حقه الذي لا يطلب منه؛ فذلك هو المفضل الذي جاوز قدر الأمانة فهو أكثر من أمين.
وكان أبو بكر يؤدي الأمانات في الجاهلية، ويزيد عليها من عنده فضل المفضل وإحسان المحسن وإغاثة المغيث.
ثم تسلم الأمانة الكبرى بعد الخلافة؛ فترك الدنيا وقد أداها كما هي وزاد عليها.
ولسنا مغالين في المجاز حين نقول: إنه صنع مثل ذلك في أمانة الخلق أو أمانة الحياة، فمات خيراً مما ولد. ونشأ ضعيفاً في بدنه كما قال رسول الله، فإذا هو يستمد من قوة باطنه لقوة ظاهره، ويلقي من مروءته على مرآه حتى أنشأ من نفسه ما لم ينشأ من بدنه، وبلغ من المهابة بالقوة التي زادها على تكوينه الظاهر فوق ما يؤتاه أمثاله في أمثال هذا التكوين.
للناس أن يعطوه وهم على ثقة أن يستردوا ما أعطوه وزيادة.
وللحياة أن تعطيه وهي على ثقة ألا ينقص عطاؤها وألا يزال معه في ازدياد.
على كل أمانة عنده كائناً ما كان معطيها حق مصون ومزيد مضمون!
صورته المجملة أنه الأمين وأكثر من الأمين!!
الأمين في الصداقة، والأمين في الحكومة، والأمين في السيرة، والأمين في المال، والأمين في الإيمان.
ثم هو في كل أولئك أكثر من الأمين.
عصمته العواصم من فتنة الغواية، فولد كريماً تعنيه العزة بين الأقوياء، ولا يعنيه الطغيان على الضعفاء.
وكبر وليس في تكوينه حدة الشعور، وحماسة اليقين، وسليقة الإعجاب، وعصمة المروءة والوقار.
وكبر وكل فضيلة فيه تكبر إلى آمادها، فلما مات كان أكبر ما كان، وأكبر ما يتأتى أن يكون!
مات وهو صاحب الدعوة الثانية في الإسلام، فكان الثاني حقاً بعد النبي عليه السلام في كل شيء:
من قبول الإسلام، إلى ولاية أمر الإسلام، إلى تجديد دعوة الإسلام بعد أن نقضت الردة دعوته الأولى، وأوشكت أن ترجع بها إلى الجاهلية الجهلاء.
ثاني اثنين، وأول مقتد، وأول مجيب.
ذلك موضعه في تلك الدعوة الإنسانية التي نشأت في أمة واحدة، ثم غيرت ما بعدها في ميع الأمم. سواء من علم بها ومن لم يعلم، وهي دعوة صديقه وصفيه ونبيه صلوات الله عليه.
قيل: إنه مات بالسم في أكلة أكلها قبل عام من وفاته، وليس لهذا القول مرجع يميل الباحث إلى تصديقه.
وقيل: إنه مات بالحمى... وانتهت حياة بلغت نهايتها في حيز الجسد، وفي حيز المجد، وفي حيز التاريخ) [(عبقرية الصديق) للعقاد (ص185 ـ 188)].
موقع البرهان
http://alburhan.com/articles.aspx?id...=5&links=false
==========
لقد أجمع المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم على بيعة الصديق وإمامته، وإجماع المهاجرين والأنصار حجة شرعية كاشفة عن مراد الله تعالى ورضاه.
لقد أوجب الله تعالى على أجيال الأمة جميعاً اتباع المهاجرين والأنصار، فقال: ((وَالسَّـابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالأَنْصَـارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ)) [التوبة:100].
وحذر من مخالفتهم فقال: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً)) [النساء:115].
إن الإجماع عموماً حجة شرعية فكيف بإجماع من نصَّ الله على وجوب اتباعهم وحرمة مخالفتهم وشهد على صدق إيمانهم، فقال: ((وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) [الأنفال:74].
موقف علي من بيعة الصديق:
وإذا كان الإمامية يشترطون للإجماع وجود (المعصوم) فإن علياً رضي الله عنه -الذي يعتقدون عصمته- كان ضمن المجمعين على بيعة الصديق رضي الله عنه فبيعته شرعية على قول الجميع.
سيدنا علي يقول ان ابوبكر وعمر وعثمان بيعته من رضي لله وانهم الائمة
فإنِ اجتمعوا على رجُلٍ، وسموه إماماً،كانَ ذلك لله رِضي
انه بايَعني القومُ الذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن لشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإنِ اجتمعوا على رجُلٍ، وسموه إماماً،كانَ ذلك لله رِضي، فإن خرج من أمرِهِم خارج بطعن، أو بدعة، ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبَى قاتلوهُ على اتباعهِ غير سبيل المؤمنين، وولَاه الله ما تولَّى ))
هذا قول امير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو يقول ان بيعة الخلفاء لله رضى وان الخارج عن امرهم خارج بطعن او بدعة ردوه الى ما خرج منه لاتباعه غير سبيل المؤمنين هذا هو القانون الاسلامي في البيعة وان لم يرجع ويابى قاتلوه حتى يرجع الى امر الله ويشهد ببيعتهم لماذا لان قانون الاسلام لا يقبل الخروج على الخليفة الشرعي الذي يأمر بما انزل الله وان الامام كلنا نذكر حارب الخوارج لماذا لانهم ابوا امر علي رضي الله عنه وخرجوا عليه وقالوا ان الحكم الا لله فخرجوا عنه فقاتلهم وقد اضحكني البعض حين ما قال ان هذا القول يذكرمعاوية رضي الله عنه بقانون ابو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم طيب ان كان هذا قانون ابا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لماذا طبقه واخذ به على نفسه ؟! عندما خرجوا عليه الخوارج ولماذا حارب المسلمين حسب زعمكم ؟؟ !!
===========
علياً عليه السلام
في خطبته: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر"
،["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد الشيعي ج1 ص332]
آيات نزلت في سيدنا ابوبكر الصديق رضي الله عنه
http://www.alsrdaab.com/vb/showthread.php?p=367886
=========
النبي صلى الله عليه وسلم يقول الخليفة ابوبكر وعمر رضي الله عنه ويدعوا لخلفائه
في تفسير القمي سورة التحريم
ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر ام المؤمنين حفصه رضي الله عنها
إن سيدنا ابا بكر رضي الله عنه يلى الخلافة بعده ثم من بعده سيدنا همر رضي الله عنه
سورة التحريم
قول أبو الحسن على بن أبى طالب " و إنا نرى أبا بكر أحق الناس بها , إنه لصاحب الغار و ثاني أثنين , و إنا لنعرف له سنه , و لقد أمره رسول الله بالصلاة و هو حي " شرح النهج لابن أبى الحديد 1/332
=========
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى شهدت عليا في الرحبة ينشد الناس فقال اشهد الله من سمع رسول الله يوم غدير خم يقول من كنت
مولاه فعلي مولاه لما قام فشهد
احتج علي لما كفره الخوارج واحتج بإيمانه وعدم كفره
ولم يحتج بالخلافة وأحقيته ولذلك قال أهل السنة:
فأما حديث غدير خم فلا حجة فيه لأنه إنما استخلفه في حياته على المدينة كما استخلف موسى هارون في حياته عند سفره للمناجاة
على بني إسرائيل وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود قاطبة على ان موسى مات بعد هارون فأين الخلافة
حوادث من التاريخ تحتاج للتصحيح ؟؟
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=32593
رواية شيعية العباس يكذب غدير خم وأخرى تثبت أن النبي لم يوصي بان علي وصيه
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=56159
المعصوم)) يقول عن شيعته / اللهم قد أبغضتهم وأبغضوني
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=61925
هل الخلافة بالنص او بالشورى
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=68371
هل كان سيدنا علي وصيا على الإسلام أم وصيا على المسلمين ؟
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=37643
الذين استخلفهم النبي صلى الله عليه و سلم غير سيدنا علي رضي الله عنه / استخلف
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=68363
أيهما على حق سيدنا علي ام معاوية رضي الله عنهم
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=61232
ما هي الدلالة على عدم وجود نص والالتزام بالشورى
وبالرغم مما يذكر الاماميون من نصوص حول تعيين النبي (ص) للامام علي بن ابي طالب كخليفة من بعده ، الا ان تراثهم يحفل
بنصوص اخرى تؤكد التزام الرسول الاعظم واهل البيت بمبدء الشورى وحق الامة في انتخاب أئمتها. تقول رواية يذكرها الشريف
المرتضى -وهو من ابرز علماء الشيعة في القرن الخامس الهجري - ان العباس بن عبد المطلب خاطب اميرالمؤمنين في مرض
النبي (ص) ان يسأله عن القائم بالامر بعده ، فان كان لنا بينه وان كان لغيرنا وصى بنا ، وان اميرالمؤمنين قال: دخلنا على رسول
الله (ص) حين ثقل ، فقلنا: يارسول الله.. استخلف علينا ، فقال: لا ، اني اخاف ان تتفرقوا عنه كما تفرقت بنو اسرائيل عن هارون ،
ولكن ان يعلم الله في قلوبكم خيرا اختار لكم.
=====
ومنها احجام الامام عن المبادرة لأخذالبيعة لنفسه
القينا بنظرة على هذه الروايات التي يذكرها اقطاب الشيعة الامامية كالكليني والمفيد والمرتضى ، فاننا نرى انها تكشف عن عدم
وصية رسول الله للامام علي بالخلافة والامامة ، وترك الامر شورى ، وهو ما يفسر احجام الامام علي عن المبادرة الى اخذ البيعة
لنفسه بعد وفاة الرسول ، بالرغم من الحاح العباس بن عبد المطلب عليه بذلك ، حيث قال له_ • امدد يدك ابايعك ، وآتيك بهذا الشيخ
من قريش . يعني ابا سفيان . فيقال_• ان عم رسول الله بايع ابن عمه¨ فلا يختلف عليك من قريش احد ، والناس تبع لقريش ¨ .
فرفض الامام علي ذلك
====
وقد روى الامام الصادق عن ابيه عن جده _ انه لما استخلف ابو بكر جاء ابو سفيان الى الامام علي وقال له_ أرضيتم يا بني عبد
مناف ان يلي عليكم تيم؟ ابسط يدك ابايعك ، فوالله لأملأها على أبى فصيل خيلا ورجلا ، فانزوى عنه وقال_ ويحك يا ابا سفيان هذه
من دواهيك ، وقد اجتمع الناس على أبى بكر. ما زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والاسلام ، ووالله ما ضر الاسلام
ذلك شيئا حتى ما زلت صاحب فتنة .
الامام علي والشورى
ومما يؤكد كون نظام الشورى دستورا كان يلتزم به الامام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب وعدم معرفته بنظام الوراثة الملكية
العمودية في اهل البيت ، هو دخول الامام في عملية الشورى التي اعقبت وفاة الخليفة عمر بن الخطاب ، ومحاججته لأهل الشورى
بفضائله ودوره في خدمة الاسلام ، وعدم اشارته الى موضوع النص عليه او تعيينه خليفة من بعد الرسول ، ولو كان حديث الغدير
يحمل هذا المعنى لأشار الامام الى ذلك ، وحاججهم بما هو اقوى من ذكر الفضائل
لقد كان الامام علي يؤمن بنظام الشورى « وان حق الشورى بالدرجة الاولى هو من اختصاص المهاجرين والانصار ، ولذلك فقد
رفض بعد مقتل عثمان الاستجابة للثوار الذين دعوه الى تولي السلطة وقال لهم_ ليس هذا اليكم هذا للمهاجرين والانصار من أمره
اولئك كان اميرا .
وعندما جاءه المهاجرون والانصار فقالوا _ امدد يدك نبايعك ، دفعهم ، فعاودوه ، ودفعهم ثم عاودوه فقال_ • دعوني والتمسوا غيري
واعلموا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم ,وان تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن وليتموه امركم وانا لكم وزيرا
خير لكم مني اميرا . ومشى الى طلحة والزبير فعرضها عليهما فقال _ من شاء منكما بايعته ، فقالا _ لا الناس بك ارضى ، واخيرا
قال لهم_• فان ابيتم فان بيعتي لا تكون سرا ، ولا تكون الا عن رضا المسلمين ولكن اخرج الى المسجد فمن شاء ان يبايعني
فليبايعني
ولو كانت نظرية النص والتعيين ثابتة ومعروفة لدى المسلمين ، لم يكن يجوز للامام ان يدفع الثوار وينتظر كلمة المهاجرين
والانصار ، كما لم يكن يجوز له ان يقول_• انا لكم وزيرا خير لكم مني اميرا¨ ، ولم يكن يجوز له ان يعرض الخلافة على طلحة
والزبير ، ولم يكن بحاجة لينتظر بيعة المسلمين
وهناك رواية في كتاب (سليم بن قيس الهلالي) تكشف عن ايمان الامام علي بنظرية الشورى وحق الامة في اختيار الامام ، حيث
يقول في رسالة له :_• الواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم او يقتل .. ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا
حدثا ولا يقدموا يدا ولا رجلا ولا يبدأوا بشيء قبل ان يختاروا لأنفسهم اماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة ¨ ¦
وعندما خرج عليه طلحة والزبير احتج عليهما بالبيعة وقال لهما ـ بايعتماني ثم نكثتما بيعتي ¨ ولم يشر إلى موضوع النص عليه من
رسول الله ، وكلما قاله للزبير فتراجع عن قتاله هو ان ذكره بقول رسول الله له_• لتقاتلنه وانت له ظالم وقال الامام علي لمعاوية الذي
تمرد عليه _• اما بعد .. فان بيعتي بالمدينة لزمتك وانت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا ابابكر وعمر وعثمان ، فلم يكن للشاهد
ان يختار ولا للغائب ان يرد. وانما الشورى للمهاجرين والانصار اذا اجتمعوا على رجل فسموه اماما كان ذلك لله رضا
الاجوبة على الاثناعشر خليفة /عدم ولادة المهدي /من مات بغير امام الخلافة نص اوشورى
http://www.dd-sunnah.net/forum/showt...&threadid=6279
آية تأمرنا بإتباع المهاجرين والانصار ولا آية تأمرنا بإتباع الأئمة
http://www.alsrdaab.com/vb/showthrea...C8%E6%C8%DF%D1
مولاه فعلي مولاه لما قام فشهد
احتج علي لما كفره الخوارج واحتج بإيمانه وعدم كفره
ولم يحتج بالخلافة وأحقيته ولذلك قال أهل السنة:
فأما حديث غدير خم فلا حجة فيه لأنه إنما استخلفه في حياته على المدينة كما استخلف موسى هارون في حياته عند سفره للمناجاة
على بني إسرائيل وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود قاطبة على ان موسى مات بعد هارون فأين الخلافة
حوادث من التاريخ تحتاج للتصحيح ؟؟
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=32593
رواية شيعية العباس يكذب غدير خم وأخرى تثبت أن النبي لم يوصي بان علي وصيه
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=56159
المعصوم)) يقول عن شيعته / اللهم قد أبغضتهم وأبغضوني
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=61925
هل الخلافة بالنص او بالشورى
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=68371
هل كان سيدنا علي وصيا على الإسلام أم وصيا على المسلمين ؟
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=37643
الذين استخلفهم النبي صلى الله عليه و سلم غير سيدنا علي رضي الله عنه / استخلف
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=68363
أيهما على حق سيدنا علي ام معاوية رضي الله عنهم
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=61232
ما هي الدلالة على عدم وجود نص والالتزام بالشورى
وبالرغم مما يذكر الاماميون من نصوص حول تعيين النبي (ص) للامام علي بن ابي طالب كخليفة من بعده ، الا ان تراثهم يحفل
بنصوص اخرى تؤكد التزام الرسول الاعظم واهل البيت بمبدء الشورى وحق الامة في انتخاب أئمتها. تقول رواية يذكرها الشريف
المرتضى -وهو من ابرز علماء الشيعة في القرن الخامس الهجري - ان العباس بن عبد المطلب خاطب اميرالمؤمنين في مرض
النبي (ص) ان يسأله عن القائم بالامر بعده ، فان كان لنا بينه وان كان لغيرنا وصى بنا ، وان اميرالمؤمنين قال: دخلنا على رسول
الله (ص) حين ثقل ، فقلنا: يارسول الله.. استخلف علينا ، فقال: لا ، اني اخاف ان تتفرقوا عنه كما تفرقت بنو اسرائيل عن هارون ،
ولكن ان يعلم الله في قلوبكم خيرا اختار لكم.
=====
ومنها احجام الامام عن المبادرة لأخذالبيعة لنفسه
القينا بنظرة على هذه الروايات التي يذكرها اقطاب الشيعة الامامية كالكليني والمفيد والمرتضى ، فاننا نرى انها تكشف عن عدم
وصية رسول الله للامام علي بالخلافة والامامة ، وترك الامر شورى ، وهو ما يفسر احجام الامام علي عن المبادرة الى اخذ البيعة
لنفسه بعد وفاة الرسول ، بالرغم من الحاح العباس بن عبد المطلب عليه بذلك ، حيث قال له_ • امدد يدك ابايعك ، وآتيك بهذا الشيخ
من قريش . يعني ابا سفيان . فيقال_• ان عم رسول الله بايع ابن عمه¨ فلا يختلف عليك من قريش احد ، والناس تبع لقريش ¨ .
فرفض الامام علي ذلك
====
وقد روى الامام الصادق عن ابيه عن جده _ انه لما استخلف ابو بكر جاء ابو سفيان الى الامام علي وقال له_ أرضيتم يا بني عبد
مناف ان يلي عليكم تيم؟ ابسط يدك ابايعك ، فوالله لأملأها على أبى فصيل خيلا ورجلا ، فانزوى عنه وقال_ ويحك يا ابا سفيان هذه
من دواهيك ، وقد اجتمع الناس على أبى بكر. ما زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والاسلام ، ووالله ما ضر الاسلام
ذلك شيئا حتى ما زلت صاحب فتنة .
الامام علي والشورى
ومما يؤكد كون نظام الشورى دستورا كان يلتزم به الامام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب وعدم معرفته بنظام الوراثة الملكية
العمودية في اهل البيت ، هو دخول الامام في عملية الشورى التي اعقبت وفاة الخليفة عمر بن الخطاب ، ومحاججته لأهل الشورى
بفضائله ودوره في خدمة الاسلام ، وعدم اشارته الى موضوع النص عليه او تعيينه خليفة من بعد الرسول ، ولو كان حديث الغدير
يحمل هذا المعنى لأشار الامام الى ذلك ، وحاججهم بما هو اقوى من ذكر الفضائل
لقد كان الامام علي يؤمن بنظام الشورى « وان حق الشورى بالدرجة الاولى هو من اختصاص المهاجرين والانصار ، ولذلك فقد
رفض بعد مقتل عثمان الاستجابة للثوار الذين دعوه الى تولي السلطة وقال لهم_ ليس هذا اليكم هذا للمهاجرين والانصار من أمره
اولئك كان اميرا .
وعندما جاءه المهاجرون والانصار فقالوا _ امدد يدك نبايعك ، دفعهم ، فعاودوه ، ودفعهم ثم عاودوه فقال_ • دعوني والتمسوا غيري
واعلموا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم ,وان تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن وليتموه امركم وانا لكم وزيرا
خير لكم مني اميرا . ومشى الى طلحة والزبير فعرضها عليهما فقال _ من شاء منكما بايعته ، فقالا _ لا الناس بك ارضى ، واخيرا
قال لهم_• فان ابيتم فان بيعتي لا تكون سرا ، ولا تكون الا عن رضا المسلمين ولكن اخرج الى المسجد فمن شاء ان يبايعني
فليبايعني
ولو كانت نظرية النص والتعيين ثابتة ومعروفة لدى المسلمين ، لم يكن يجوز للامام ان يدفع الثوار وينتظر كلمة المهاجرين
والانصار ، كما لم يكن يجوز له ان يقول_• انا لكم وزيرا خير لكم مني اميرا¨ ، ولم يكن يجوز له ان يعرض الخلافة على طلحة
والزبير ، ولم يكن بحاجة لينتظر بيعة المسلمين
وهناك رواية في كتاب (سليم بن قيس الهلالي) تكشف عن ايمان الامام علي بنظرية الشورى وحق الامة في اختيار الامام ، حيث
يقول في رسالة له :_• الواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم او يقتل .. ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا
حدثا ولا يقدموا يدا ولا رجلا ولا يبدأوا بشيء قبل ان يختاروا لأنفسهم اماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة ¨ ¦
وعندما خرج عليه طلحة والزبير احتج عليهما بالبيعة وقال لهما ـ بايعتماني ثم نكثتما بيعتي ¨ ولم يشر إلى موضوع النص عليه من
رسول الله ، وكلما قاله للزبير فتراجع عن قتاله هو ان ذكره بقول رسول الله له_• لتقاتلنه وانت له ظالم وقال الامام علي لمعاوية الذي
تمرد عليه _• اما بعد .. فان بيعتي بالمدينة لزمتك وانت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا ابابكر وعمر وعثمان ، فلم يكن للشاهد
ان يختار ولا للغائب ان يرد. وانما الشورى للمهاجرين والانصار اذا اجتمعوا على رجل فسموه اماما كان ذلك لله رضا
الاجوبة على الاثناعشر خليفة /عدم ولادة المهدي /من مات بغير امام الخلافة نص اوشورى
http://www.dd-sunnah.net/forum/showt...&threadid=6279
آية تأمرنا بإتباع المهاجرين والانصار ولا آية تأمرنا بإتباع الأئمة
http://www.alsrdaab.com/vb/showthrea...C8%E6%C8%DF%D1
===========
امامة سيدنا ابوبكر الصديق رضي الله عنه / وملف الفضائل
http://alsrdaab.com/vb/showthread.php?t=51446
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق