الاثنين، 14 ديسمبر 2015

ما لا تعرفونه عن المعد الديني لـ "الحور العين": حقائق فظيعة ومخزية !!


فتى الادغال

" الحورُ العينُ "
مسلسلٌ استفزازيٌّ ، أعدّهُ دينيّاً ! عبدُ اللهِ ابنُ بجادٍ العتيبيِّ ، وفي الوقتِ الذي وقفَ فيهِ أغلبُ النّاسِ ضدَّ التفجيراتِ وضدَ المُفجّرينَ ، وفي الوقتِ الذي قالَ فيهِ أهلُ العلمِ والمعرفةِ والفكرِ قولتهم وحسموا الفتنةَ ، وبينما كانوا ينتظرونَ كلمةً حانيةً تمسحُ عنهم أثر ذلك ، وتُباركُ جهودهم ومواقفهم ، وتجمعُ القلوبَ ، وتُعيدُ للمجتمعِ استقرارهُ وثباتهُ ووحدتهُ المعروفةَ ، تأتي بعضُ وسائلِ الإعلامِ التغريبيّةِ لتصبَّ الزيتَ على النّارِ ، وتقومَ باستفزازِ الصالحينَ ببثِّ مثلِ هذه المسلسلات التي تزيدُ الهوّةَ ، وتُعيدُ الفتنَ والقلاقلَ من جديدٍ .

ومن هو الذي يؤسّسُ ويخطّطُ لهذا المسلسلِ ! ، إنّهُ أحدُ الفتيةِ الذين بذروا بذورَ الغلوِّ ومارسوا التفجيرَ قديماً ، ثمَّ لمّا كفرَ برفاقِ الأمسِ ، أخذَ يزعمُ أنَّ التفجيراتِ من إنتاجِ فلان وفلان ، ونسيَ في غمرةِ ذلك نفسهُ وماضيهُ القبيحَ . في هذه المقالةِ سنقفُ جميعاً على قصّةِ ضياعٍ ، وفصلٍ من فصولِ الهزيمةِ ، حينَ ينهارُ العقلُ والتروّي ، وينهمكُ الجسدُ في خدمةِ النفسِ بدافعِ الجهلِ ، فينتجُ عن ذلكَ فكرٌ منحرفٌ ، يولّدُ أفكاراً عقيمةً عنيفةً ، يُصادمُ المُجتمعَ والوطنَ ، وقبلَ ذلكَ وبعدهُ يُصادمُ الدينَ الحنيفَ ، ذلكَ الدينَ الوسطَ العدلَ الأقومَ .

هنا سنرى الحقيقةَ الغائبةَ : هل العمليّاتُ الآثمةُ التي تجري في بلادِنا ، هي نتاجٌ لفكرِ المشايخِ والدعاةِ ، من أمثالِ : ابن جبرينٍ وسفرٍ وسلمانَ وعائضٍ والعمرِ والمنجّدِ والبريكِ وابنِ مسفرٍ — متّعهم اللهُ جميعاً بالعافيةِ - وغيرِهم ؟ ، كما يروّجُ لذلكَ ابنُ بجادٍ وصحبهُ ، عندما يصدحونَ في كلِّ محفلٍ ونادٍ بأنَّ الدعاةَ والمشايخَ هم من بذروا بذورَ الفتنةِ .

هل فعلاً بذرَ مشايخُنا بذورَ الفتنةِ ؟ ، أم أنَّ هناكَ فرقةً أخرى غيّبتْ نفسَها عمداً عن مسرحِ الأحداثِ ، كانَ لها قصبُ السبقِ في التفجيراتِ في هذهِ البلادِ المُباركةِ ، وهذه الفرقةُ تعلمُ يقيناً أنَّ المشايخَ المذكورينَ أنكروا عليهم ذلكَ في حينهِ أشدَّ الإنكارِ وأغلظهِ ؟ .

هل هناكَ حلقةٌ مفقودةٌ فعلاً ؟ .

نعم هناكَ فرقةٌ بدأتْ بالعنفِ ودعتْ لهُ ، ثمَّ انتكستْ على عقبيها ! .

هذه الفرقةُ هي فرقةُ ابنِ بجادٍ ومجموعتهُ كالنقيدانِ والذايديِّ خ ! .

هم الذين سلكوا طريقَ العنفِ ابتداءً ، وعرفوا مسالكهُ ، وعرفوا الكتبَ التي تدعو إليهِ ، بل شاركوا في تأليفِ بعضِها ، واليومَ بعدَ أن انحرفوا إلى ذاتِ الشمالِ ، أخذوا يرمونَ الأبرياءِ من أهلِ العلمِ والفكرِ ، ويلمزونهم في دينهم ، وقد صدقَ المثلُ القائلُ : رمتني بدائِها وانسلتْ .

إنَّ لمشايخِنا هفواتٍ وزلاّتٍ لا يسلّمُ منها أحدٌ من البشرِ ، وفي دعوتِهم وطريقتِهم من المؤاخذاتِ والتعقّباتِ ما فيهِ ، وصدورهم ونفوسُهم تنشرحُ لمن ينبّههم على الخطأ أو التقصيرِ ، ونحنُ لا نُقدّسُ أحداً ، أو نرفعهُ فوقَ منزلتهِ ومكانتهِ ، ولكنَّا نقولُ : العبرةُ بغلبةِ الخيرِ ، وهناكَ الكثيرُ من المواقفِ غيّرها هؤلاءِ المشايخُ ، وأصبحوا عوناً على الخيرِ ، وتراجعوا طوعاً عن الكثيرِ من آرائهم ، والمؤمنُ رجّاعٌ أوّابٌ .

وهانحنُ نرى الآن كيفَ يُهاجمُ المشايخُ الكِرامُ ، على ألسنةِ دعاةِ العنفِ - هداهم اللهُ - ، فلو كانوا شركاءَ لهم كما يزعمُ هؤلاءِ المأفونونَ ، لما جرتْ هذه العداوةُ بينهم ، ولما سارعَ المشايخُ إلى وأدِ الفتنةِ ، ووضعِ يدهم في يدِ المسئولينَ في محاولةٍ منهم لإصلاحِ الشبابِ ، وتهيئةِ وضعهم ، وعودتهم إلى جادةِ الصوابِ .

في هذه المقالةِ فصولٌ من العبرِ ، وآياتٌ من العِظاتِ ، ودروسٌ لكلِّ من قرأ الدينَ قراءةً خاطئةً ، ثمَّ جعلَ نفسهُ أهلاً للحكمِ والفصلِ في دينِ النّاسِ ، أنّهُ سوفَ يضلُّ ويزيغُ إلا أنْ يتداركهُ اللهُ برحمتهِ ، وأنَّ هذا الدينَ دينٌ عدلٌ وسطٌ ، لا غلوَّ فيهِ ولا إجحافَ ، ومن أرادَ مُباراةَ سُننهِ أو مُحادّةَ قيمهِ ، فسيهلكُ ولمّا يقطعْ من طريقهِ شيئاً .

سوفَ نرى كيفَ أنَّ الغلوَّ ذو عاقبةٍ وخيمةٍ على الدينِ والمُجتمعِ والبلادِ ، و ذو تسلسلٍ وترابطٍ ، يشدُّ بعضهُ بعضاً ، ويدعو بعضهُ إلى بعضهِ الآخرِ ، وليستِ البداياتُ الفكريّةُ إلا معبراً للدخولِ إلى القضايا العمليّةِ ، ولهذا يجبُ علينا أن نسدَّ ثغراتِ الغلوِّ الفكريِّ أوّلاً ومنافذهُ ، حتّى نأمنَ من غوائلِ الغلوِّ في العنفِ وآثارهِ المُدمّرةِ .

هذه قصّةُ شابٍ ضاعَ وتاهَ في دروبِ التطرّفِ والغلوِّ ، وترقّى في مدارجهِ حتّى صارَ من منظّريهِ ودعاتهِ ، ثمَّ انتكسَ وأصبحَ من دعاةِ الحرّيّاتِ المزعومةِ ، وتمرّدَ على الدعوةِ التي قامتْ عليها هذهِ البلادُ ، ونبذَ أمرَ الدعوةِ والتديّنِ ، وأصبحَ يدعو إلى أطروحاتٍ دخيلةٍ علينا وعلى مُجتمعِنا ، فهربَ من الغلوِّ ووقعَ في الغلوِّ المُضادِّ .

جميعُنا يفرحُ بتركِ الغلوِّ والعنفِ ، ويسعدُ بذلكَ سعادةً كبيرةً ، ولكن ليسَ إلى غلوٍّ جديدٍ ، غلوٍّ في فكرٍ يرى أنَّ النظامَ الإسلاميَّ في الحكمِ هو استبدادٌ وتسلّطٌ ، فكرٍ يرى أنَّ المناهجَ والدعوةَ السلفيّةَ هي من أسّسَ للإرهابِ ودعا إليهِ ، فكرٍ زائغٍ ساقطٍ .

نحنُ أمامَ ظاهرةٍ شاذةٍ عن مجتمعنا ، دخيلةٍ على تُراثِنا ، وساقطةٍ فكريّاً وعلميّاً ، ومليئةٍ بالغرائبِ والأعاجيبِ تسمى " عبد الله بن بجاد العتيبي " . لابدَّ لنا من تحليلِ هذه الظاهرةِ المُتمرّدةِ على القيَمِ والأصولِ الجذريّةِ ، خاصةً في ظلِّ هذه المتغيراتِ التي نواجُهها في بلادنا .

إذْ كيفَ يتحوّلُ الإنسانُ من مفجّرٍ مهووسٍ بالدمارِ وساعٍ إليهِ ، ومكفرٍ يُكفّرُ بالجملةَ دونَ تبيّنٍ أو تثبّتٍ أو تفصيلٍ ، إلى مُنتكسٍ ناكصٍ على عقبهِ ، ومهاجمٍ شرسٍ على كلِّ ما يمتُّ لفكرهِ السابقِ بصلةٍ ووشيجةٍ .

ومن المعلومِ والمُتقرّرِ لدى أهلِ العلمِ والمعرفةِ من أصحابِ القصدِ والتوسّطِ : أنَّ مناطَ الكفرِ قد يتحقّقُ في الشخصِ المعيّنِ بعدَ لأيٍّ ، إذا استجمعتْ فيهِ الشروطُ ، وانتفتْ عنهُ الموانعُ ، وخرجَ من الدينِ بيقينٍ كما دخلهُ بيقينٍ ، ولكنْ كيفَ يُمكنُ تحقيقُ مناطِ الكفرِ في أفرادِ جماعةٍ كبيرةٍ ، تختلفُ نيّاتُهم ومقاصدهم ، ولا يُمكنُ ضبطُ أحوالِهم ، ولا النظرُ في طرائقهم ، ويعتريهم — أفراداً - من عوارضِ الأهليّةِ ما يعتريهم ، ومثلُ هذا يعسرُ ضبطهُ جدّاً ، وإطلاقُ القولُ فيهِ هو من المجازفةِ والتهوّرِ في أصلِ المسألةِ ، فضلاً عن تعميمِ التكفيرِ على الجميعِ ! .

هل الأمرُ يقتصرُ على كونها مُراجعةً فكريّةً سطحيّةً ، وتغييراً لقناعاتٍ سابقةٍ - كما يزعم - ؟ ، أم هو هوسٌ بالتنقّلِ والتخبّطِ المنهجيِّ ، وشذوذٌ فكريٌّ ، وانحسارٌ لمدِّ العقلِ المُرشدِ الهادي ؟ .

هل هذهِ آخرُ محطّةٍ فكريّةٍ وسلوكيّةٍ في حياةِ هذا الرّجلِ ؟ ، أمْ أنّها مرحلةٌ يلهو فيها ويعبثُ ، ثمَّ إذا ما ملَّ منها وسئِمَ ، تحوّلَ إلى مدرسةٍ أخرى ، أو رجعَ إلى التفجيرِ والتكفيرِ ؟ .

أم هو باحثٌ لاهثٌ عن ذاتِهِ الذائبةِ في حمأةِ التحوّلاتِ المُريبةِ لهُ ولشلّةِ الأنسِ من رفاقهِ ؟ ، خاصّةً بعدَ أن لفظهمُ المُجتمعُ كلّهُ ، وعرفوا حقيقتَهم وحقيقةَ فكرهم ، وأصبحوا يعيشونَ عُزلةً كبيرةً فُرضتْ عليهم قسراً ، وتجافاهم النّاسُ وأعرضوا عنهم ، ولم تنفعهم جميعُ محاولاتِ التلميعِ والتزويقِ التي أضفوها على أفكارِهم ومناهجهم .

قمتُ مُنقّباً عن أخبارِ هذه التحفةِ العصريّةِ ، والعقليّةِ الحجريّةِ الفذّةِ في البلادةِ ، كأني أنقبُ عن أحفورةٍ من الأحافيرِ المنقرضةِ ، أو بقيّةٍ من بقايا الهياكلِ التي قضتْ نحبَها في الزمنِ الغابرِ السحيقِ .

عبدُ اللهِ بنُ بجادٍ العُتيبيُّ ، وقصّةُ البحثِ عن الذاتِ ، من حيِّ شُبرا في الرياضِ ، إلى الأضواءِ والفلاشاتِ والمانشتاتِ العريضةِ في وسائلِ الإعلامِ ، هاكم الحقيقةَ دونَ أي رتوشٍ ، أقدّمها للجميعِ حتّى نستخلصَ منها العبرَ والفائدةَ ، ونعرفَ كيفَ ينشأ الغلوُّ وكيفَ يتكاثرُ ويتوالدُ ، وما هي البيئةُ الخصبةُ التي تغذّيهِ وترفدهُ .

ولدَ ابنُ بجادٍ عامَ 1394هـ تقريباً ، ونشأ في حي شبرا ، وكانَ كغيرهِ من الشبابِ لا يميّزهُ أمرٌ ، إلا شيئاً من قرضِ الشعرِ العاميِّ ، والذي كان يطربُ له بعضُ جُلسائهِ .

في عام 149هـ حدثَ أولُ تغيّرٍ في حياةِ ابنِ بجادٍ ، حيثُ بدأ مشوارَ الالتحاقِ بالإسلاميين - كما يسميهم - وبالتحديد بالإخوانِ - إخوان من طاع الله - ، وكانت بدايتهُ عن طريق محاضرةٍ للدكتورِ : عايضٍ القرني - وفّقهُ اللهُ - . التحقَ ابنُ بجادٍ بالإخوانِ ، فكان يحرّمُ أشياءَ كثيرةً مما أحلها اللهُ - كما هي طريقةُ الإخوانِ أصلحهم اللهُ - ، شديداً على نفسهِ وغالياً في تطبيقاتهِ وفهمهِ للدّينِ ، وكان يبحثُ عن الفتاوى التي فيها شدّةٌ على نفسهِ وعلى المخالفِ " ولن يُشادَّ الدّينَ أحدٌ إلا غلبهُ " .

وهذا نوعٌ من الحيَلِ النفسيّةِ التي لا علاقةَ لها بالشرعِ والتديّنِ ، أنْ يقصدَ الشابُّ إلى التشديدِ والتقتيرِ ، إظهاراً للتميّزِ والحدّةِ ، ومُحاولةً لصُنعِ هالةٍ من الإعجابِ والافتتانِ بهِ أو بسلوكهِ ومنظرهِ ، ويا للهِ كم هي تلكَ السلوكيّاتُ التي نعتدُّ بها ديناً وشرعاً ، وهما منهُ بريئانِ تماماً ، وكم شدّدنا وضيّقنا والأمرُ ليسَ على ما نصبو أو نرومُ ، بل على نقيضهِ من السماحةِ واليُسرِ والسهولةِ . خرجَ ابنُ بجادٍ من بيتِ والدهِ وابتعد عنهُ ، وربّما قادهُ ذلكَ إلى اللامُبالاةِ بوالدهِ أو بيتهِ ، فقد خطَّ لنفسهِ طريقاً محفوفاً بالعنتِ والشططِ ، وحاول الأبُ إرجاعَ ابنه إلى دارهِ وإلى جادّةِ الصوابِ فلم يفلحْ .

فرِحَ كثيراً بلقاءِ رفيقهِ في التشدّدِ والانتكاسةِ مشاري الذايديِّ ، حيثُ جمعهما حبُّ الشعرِ وإنشادهُ ، وكان ذلك في عام 1411هـ ، وصارتْ بينهما علاقةٌ حميمةٌ جداً ، يصفُها ابنُ بجادٍ بقولهِ - وهو يتحدث عن رحلةٍ من رحلاتهما - : " ولكنَّ تلك الرحلةَ تركتْ لدى كلينا ارتياحاً عميقاً لصاحبهِ ، لم تستطعْ عوادي الأيامِ فيما بعدُ أن تفصمَ عراهُ أو تنالَ من عمقهِ " .

وقد صدقَ ابنُ بجادٍ في هذا ، فقد ترافقا شدّةً وليناً ، تديّناً ونكوصاً ، تطرّفاً وتمييعاً ، كأنّما خُلقا من تربةٍ واحدةٍ ، أو جمعهما رحمٌ واحدٌ ، وكأنَّ أرواحهم تلاقتْ في عالمِ الغيبِ وأقسمتْ على النصرةِ حقّاً أو باطلاً ، ولم يحنثْ لهما يمينٌ ، أو ينقضْ لهما عهدٌ ، بل مضوا على ذلكَ ابتداءً وانتهاءً ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا باللهِ .

كانَ الذايديُّ قد امتازَ على صاحبهِ ابنِ بجادٍ بحبّهِ للشعرِ الفصيحِ وقرضهِ ، وحاولُ ابنُ بجادٍ أن يقلّدَ صاحبهُ ويُجاريهِ في ذلكَ ، فقامَ بعدّةٍ زياراتٍ إلى الشاعرِ الكبيرِ : يوسف مُحي الدّينِ أبو هلالةٍ - أسعدَ اللهُ أيّامهُ - لعلّهُ أن يُفيدَ منهَ .

وفي تلكَ الحِقبةِ أيضاً كان مشاري الذايديِّ تناوبَ مع إبليسَ على الوسوسةِ والإغراءِ لابنِ بجادٍ بتركِ الدراسةِ ، فتركَها وهو في الثاني الثانوي التجاريِّ لأنها حرامٌ ، كما هي طريقةٌ الإخوانِ - أصلحهم اللهُ - في تحريمِ الدراسةِ ، ولهم في ذلكَ مُصنّفاتٌ مشهورةٌ ، منها شيءٌ كتبهُ جُهميانُ العتيبيُّ في رسالةٍ لهُ معروفةٌ . وممّا يؤكّدُ أثرَ فكرِ الإخوانِ على ابنِ بجادٍ ، أنّهُ كانتْ لهُ زياراتٌ مُتكرّرةٌ لهجرةِ البلازيةِ وهجرةِ المحيلاني ، حيثُ كان يجدُ نفسهُ هناكَ ، ويشمُّ رائحةَ الإيمانِ ، كما يذكرُ ذلك عن نفسهِ .

وفي المحيلاني- تحديداً - كانَ يتردّدُ على شخصٍ يُقالُ لهُ : أبو عيسى الحربيِّ ، وهو أحدُ كِبارِ الأشخاصِ في الإخوانِ قدراً وأثراً ، تقريباً كان والدَهم ، بلغ من العمر السبعين ونيّفاً ، وهو ينتظرُ متى ينصر الله الإخوانَ على أهل الباطلِ ، ومتى يُعزُّ اللهُ الدينَ ، وكان حنوناً وعطوفاً على ابنِ بجادٍ وأصحابهِ .

تردّدَ ابنُ بجادٍ أيضاً على شيخٍ قد تجاوزَ المئةَ من عُمرهِ ، وهو : شاهرُ بنُ هدباءَ المطيريُّ ، وكان شاهرٌ من رجالِ الملك عبد العزيزِ - رحمهُ اللهُ - ، ولكنّهُ تركهُ بعد معركة " السبلة " المشهورةِ بينَ الملكِ عبدِ العزيزِ وبينَ الإخوانِ ، وكان ابنُ بجادٍ من المعظّمين لشاهرٍ ، ويُكثرُ من زيارتهِ ، وكانا يرددانِ نفسَ الكلامِ ويحملانِ نفسَ الأفكارِ ، وتتلاقحُ هناكَ المناهجُ المُتشدّدةُ .

وكان ابنُ بجادٍ يردّدُ قصةً : أنَّ أحدَ الإخوانِ كان كلَّما مرَّ بديكٍ صاحَ ، وذاتَ مرةٍ مرَّ ذلكَ الرجلُ بالديكِ ، ولكنَّ الدّيكَ لم يصِحْ ! ، فعلِمَ أنّهُ وقعَ في معصيةٍ ، فحاولَ التذكّرَ فبحثَ في جيبه فوجدَ ريالاً ، والريالُ عليه صورةٌ ، فعلِمَ أنَّ الملائكةَ لم ترافقهُ ذلك اليومَ لأنّهُ يحملُ صورةً !.

في تلكَ الأيّامِ كانَ ابنُ بجادٍ سريعاً في مسائلِ التكفيرِ ، بل لمّا ناصحهُ أحدُ إخوانهِ في ذلكَ ، ردَّ عليهِ ابنُ بجادٍ قائلاً : أنا ختمي في التكفيرِ بحجمِ كفرِ السيارةِ ! .

هكذا قالَ ، وقد صغّرهُ جداً ، بل إنَّ حجمَ ختمهِ بحجمِ كفرِ الطائرةِ ، بل هو أكبرُ من ذلكَ ، فقد كانَ سريعَ الطيشِ والنزِقِ ، لا يُبالي بما يرميهِ جُزافاً من الأحكامِ والطّعنِ في دينِ النّاسِ .

وأضافَ إلى فكرهِ التالفِ السابقِ أمراً آخرَ لا يقلُّ نكارةً وسوءاً ، ألا وهو تأييدهُ المُطلقُ التامُّ لجهيمانَ العُتيبيِّ ولفكرهِ ، وكانَ يوزعُ كتبهُ بينَ الناسِ ، والويلُ والثبورُ لمن قلّلَ أو انتقصَ من أهميةِ وشرعيّةِ جهادهِ في الحرمِ ! ، فهو يعدّهُ مُجاهداً في سبيلِ اللهِ ، وأنَّ ما قامَ بهِ قتالٌ في سبيلِ اللهِ تعالى .

بلْ إنّهُ يؤمنُ بأشياءَ غريبةٍ جداً ، ومُضحكةٍ في نفسِ الوقتِ ، فقد كان يُردّدُ أنَّ محمدَ بنِ عبدِ الله القحطانيَّ هو المهديُّ الحقُّ ! ، وقد هربَ عبرَ المجاري إلى خارجِ الحرمِ ومنها إلى اليمنِ ، وهو في الجبالِ ومعهُ رشّاشٌ ليدفعَ عن نفسهِ من تلك السنينِ الغابرةِ ، وفي إحدى المرّاتِ قالَ : إنّهُ رُفعَ إلى السماءِ ! .

وقد ذكرَ ابنُ تيميّةَ - رحمهُ اللهُ - أنّهُ ما من شخصٍ خرجَ وادّعى المهديّةَ ، إلا ووقعَ بسببِ ذلكَ شرٌّ عظيمٌ ، أعظمُ من الخيرِ المرجوِّ بذلكَ ، ومن يتتبّعْ التأريخَ المُتصلَ لحركاتِ المهديّةِ والأشخاصِ الذين يدّعونها ، يرى أمراً عظيماً في الفتنةِ والشرِّ ، بل إنَّ التفرّغَ لظهورِ المهديِّ ، والبحثِ عنهُ مُخلّصاً هو لوثةٌ رافضيّةٌ ، سرتْ إلى أذهانِ بعضِ الشبابِ - هداهمُ اللهُ - ، سبّبها لهم رؤيةُ الظلمِ وضعفِ الإسلامِ ، وأُصيبوا بوهنٍ وخوَرٍ في نفوسِهم ، آثروا حينها الانكفاءَ على الذاتِ ، والتعلّلَ بانتظارِ المهديِّ .

وقد اختارَ ابنُ بجادٍ أن يُساكنَ مجموعةً من أصحابهِ ، يحملونَ أفكارهُ ويعتنقونها ، فوقعَ رأيهُ على مجموعةٍ تركتِ الدراسةَ تحريماً لها ، وذلكَ لأنَّ فيها مناهجَ تدعو إلى الكفرِ ، وتديّنَ هو ورفاقهُ بهجرِ من لم يوافقهم على تلكَ المسألةِ ، والهجرُ في عرفهم وعُرفِ من سلكَ طريقَهم أمرٌ حتميٌّ لازمٌ للمُخالفِ ، يبدأون بالإنكارِ أوّلاً ، فإن لم يستجبْ لهم الشخصُ هجروهُ وتركوهُ وجوباً . كان يردّدُ مع صحبهِ دوماً : نحنُ أهلُ الحديثِ فقط ! .

إنَّ من يرى ابنَ بجادٍ في تلك الفترةِ الغابرةِ من حياتهِ ، وقد طال شعره و تركهُ بلا عناية مُتهدّلاً بينَ كتفيهِ ومن وراءِ شماغهِ ، يظنّهُ أحدَ القدماءِ الإسكندنافيين أصحابِ ابنِ فضلان ، أو من بقايا أصحابِ الكهفِ .

كانتِ المظاهرُ عندهم هي الدّينُ كلّهُ ، فلا بطاقاتٍ شخصيّةً معهم ، وشعورُهم طويلةٌ ، وأبشارُهم غيّرتها الشمسُ ، ولم يكونوا يعتنونَ بمظهرهم أبداً ، إذا رأيتهم رأيتَ شُعثاً غُبراً ، لم يرموا عصا الترحالِ عن عواتِقهم .

ولم يقفْ هجومُهم على الدراسةِ والمناهجِ فقط ، بل ازدادَ واتسعَ حتّى وصلَ إلى مرافقِ الدولةِ الأخرى ، بما فيها الهيئةُ ! ، فقد كانوا يرونَ الهيئةَ غطاءً من الدولةِ تُغطّي بها كُفرَها وردّتها كما يزعمونَ ، ولتثبتَ للنّاسِ أنّها دولةٌ إسلاميّةٍ ، وإذا وجدوا فُرصةً أو مناسبةً تجمعهم بأحدِ من يعملُ بالهيئةِ ، فإنّهم يُهاجمونهُ هجوماً عنيفاً ، ويأمرونهُ بتركِ العملِ فيها .

حاولَ بعضُ الرّفاقِ إدخالَ عناصرَ علميةٍ جديدةٍ ، في المسكنِ الذي يؤويهم ، وذلكَ عن طريقِ بعضِ المشايخِ ، لتدريسِ جملةٍ من العلومِ الشرعيةِ ، فوقعَ الاختيارُ على الشيخِ : محمد الددو - وفّقهُ اللهُ - وآخرين ، فغضب القسم الأكثرُ تشدداً من هؤلاءِ ، فهجروا الشقّةَ إلى الدرعيةِ ، وكان على رأسهم محمّدٌ الـ .... ( أبو حاتمٍ ) والذي لم يصبرْ طويلاً ، فقد ترك التديّنَ فيما بعدُ ، كما تركه ابن بجادٍ وغيرهُ من الرّفاقِ .

قامَ ابنُ بجادٍ بزيارةٍ للشيخِ : سفرٍ الحوالي — منَّ اللهُ عليهِ بالعافيةِ ومتّعهُ بالصحّةِ - في منزله بمكة — زادها اللهُ شرفاً - وسمعَ منهُ الشيخُ بعضَ أفكارهِ الشاذةِ فوبخهُ عليها ، ممّا حدا ابنَ بجادٍ إلى مقتِ الشيخِ وكُرههِ ، وبقيَ أثرُ ذلكَ في نفسهِ حتّى اللحظةَ . وأتذكّرُ هنا قصّةً طريفةً ذكرَها شيخُنا : سفرٌ الحواليُّ ، أنَّ مجموعةً من الشبابِ زارهُ في بيتهِ في مكّةَ - حرسَها اللهُ - وذكروا لهُ أنَّ المهديَّ معهم ! ، فذكّرهم الشيخُ باللهِ ، وأعلمهم خطأ طريقِهم وضلالَ نهجهم ، فخرجوا من عندهِ وهم يضمرونَ لهُ الكراهيةَ والمُنابذةَ ، قالَ الشيخُ : فلمّا سُجنتُ في الحائرِ ، علمتُ أنّهم جميعاً ألقيَ القبضُ عليهم بسببِ أفكارِهم المنحرفةِ ، وأودعوا في السجنِ ، فقلتُ في نفسي : لقد كانوا في سعةٍ وعافيةٍ من البلاءِ ! .

فكّرَ ابنُ بجادٍ لاحقاً باعتزالِ الناسِ ، فخرجَ إلى شقةٍ في منطقةٍ نائيةٍ ، مع أربعةٍ من أصحابهِ ، ولم يستطعِ الصمودَ هناكَ ، فرجعَ للرياضِ مرّةً أخرى .

وحصلَ التغيّرُ الثاني والمنعطفُ الخطيرُ في فكرِ ابنِ بجادٍ ، فقد قرّرتْ المجموعةُ التي معهُ أن تلجَ في تجربةِ التفجيرِ ! ، وكانُ ابنُ بجادٍ على علمٍ بما يخطّطونَ لهُ وربّما شاركهم في ذلكَ ودعمهم معنوياً وجسدياً ، وكانتْ تداعبُهم فكرةُ تصفيةِ بعضِ المنافقيَن - حسبَ قولهم - .

وهذا يؤكّدُ أمراً ذكرتهُ سابقاً ، ألا وهو أنَّ الغلوَ يتسلسلُ عبرَ مُقدّماتٍ فكريّةٍ مغلوطةٍ ، يخلصُ منها إلى نتيجةٍ حتميّةٍ ، ألا وهي الإلغاءُ للمخالفِ إمّا عبرَ التكفيرِ أو التفجيرِ أو التصفيةِ ، وجميعُ هذا ليسَ من الدّينِ في شيءٍ ، والفكرةُ الصحيحةُ تثبتُ على قدمِ البيّنةِ والبُرهانِ ، لا على طريقةِ المدفعِ والرشّاشِ ، والمدفعُ والرشّاشُ حامٍ للشريعةِ ، لا هادمٌ لها ومُنفّرٌ للنّاسِ عنها .

سافرَ ابنُ بجادٍ إلى اليمنِ تهريباً عبرَ الحدودِ ، زاعماً فيما يُظهرُ للنّاسِ أنه يريد الدراسةَ على الشيخِ : مقبلٍ الوادعيِّ - رحمه الله - ، ولم يُطِلِ الدراسةَ أو المكثَ هناكَ ، بل رجعَ سريعاً ، فلم يكُنْ ممن يصبرُ على طلبِ العلم ، أو يُجالدُ على ثني الركبِ عندَ أهلِ العلمِ .

ومن مضحكاتِ أمرهِ تلكَ الأيّام أنّهُ كان يحملُ عدسةً مكبّرةً يصحبُها في كلِّ كانٍ جذلاً بها كلِفاً ، فإذا سُئلَ عنها قالَ : منِ أجلِ قراءةِ المخطوطاتِ ! .

وانكشفتْ هناكَ الحقيقةُ القاصمةُ .

فلم يكنِ الأمرُ علماً أو دراسةً ، وإنّما تمويلاً لعمليّةٍ مسلّحةٍ داخلَ البلادِ ، هرّبوا أسلحتها من اليمنِ .

قُبضَ على رفيقهم : م . ع ، الذي هرّبَ لهم الأسلحةَ من اليمنِ ، واعترفَ أنّهُ هربها بناءً على طلبِهم ، واعترفَ - أيضاً - أنَّ المجموعةَ قد خطّطتْ لنسفِ برجِ التلفازِ وتدميرِ سجنِ عليشةَ للمباحثِ ، فتم إلقاءَ القبضُ عليهم واحداً تلوَ الآخرِ ، وهناكَ وبدونِ مقدّماتٍ اعترفَ مشاري الذايدي عن عملياتهم الخالدةِ ، فاقتيدَ أناسٌ لم يكونوا ضمنَ القائمةِ الأولى على رأسهم الإنسانيُّ : منصور النقيدان .

ألا تذكرونَ الهجومَ العنيفَ من ابنِ بجادٍ على الشيخِ : سفرٍ ، حينَ زعمَ أنَّ سببَ التفجيرِ في البلادِ هو الشيخُ ! ، هل عرفتمُ الآنَ من هم أوّلُ من أذكى نارَ التفجيراتِ ، وعمِلَ على نشرِ العنفِ والدعوةِ إليها ؟ ، هل هو الشيخُ : سفرٌ ، وهو الرّجلُ الذي حاولَ كفَّ ابنَ بجادٍ عن أعمالهِ ، ودعاهُ إلى الحقِّ والعدلِ والوسطيّةِ ، فأبى وأصرَّ واستكبرَ ، أهو الشيخُ ، أم هو هذا الرّجلُ الذي خرجَ إلى اليمنِ ، وأقامَ معَ رفقةٍ لهُ تنظيماً إرهابيّاً مُناوئاً للدولةِ ولقطاعاتِها ؟ .

لا أظنُّ الأمرَ الآنَ يحتاجُ إلى بيّنةٍ ودليلٍ ، فقد اتضحَ كلُّ شيءٍ وللهِ الحمدِ ، وعرفنا لماذا يكذبُ بنُ بجادٍ ويزعمُ أنَّ الشيخَ : سفراً وإخوانهُ من المشايخِ والدعاةِ أهلِ المعرفةِ والرّسوخِ ، هم الذين أشعلوا نارَ الفتنةِ في هذه البلادِ ، مع أنّهم - والجميعُ يعرفُ هذا - من أكثرِ النّاسِ سعياً إلى إنهاءِ العنفِ والغلوِّ ، ويعملونَ جاهدينَ على جمعِ القلوبِ ورجوعِ الشبابِ إلى دائرةِ الجماعةِ ، وقد نجحوا في كثيرٍ من ذلكَ وللهِ الحمدُ والمنّةُ ، وباركَ الجميعُ جهودهم ، من المسئولينَ والعلماءِ وعامّةِ الشعبِ ، ولو كرهَ ذلكَ أمثالُ ابنُ بجادٍ ، أو كذبوا ولفّقوا على النّاسِ الباطلَ ، فرموا غيرُهم بدائهم وانسلوا ! . والأحاديّةُ في التصرّفِ والعملِ أمرٌ لهُ أضرارُ خطيرةٌ وتداعياتٌ سيئةٌ ، وهذا من الأصولِ الكِبارِ التي قامَ عليها فكرُ هذه المجموعةِ حينها ، فهم يؤصّلونَ المسائلَ كما يرونها ، ثمّ يبنونَ عليها الأحكامَ القاسيةَ ، ويُطلقونَ القولَ فيها ، ويبسطونَ الرأي ، ثُمَّ يفعلونَ ما يرونَ ، ويجرّونَ الأمّةَ كلّها إلى أتونِ الدمارِ والفتنةِ ، ويعتقدونَ أنَّ قيامَ الحجّةِ عليهم ، يلزمُ منهُ قيامهُ على الأمّةِ كلّها ! ، وأنَّ ما يرونهُ حقّاً وواجباً ، يلزمُ الأمّةَ كلّها المصيرُ إليهِ ، والعملُ بمقتضاهُ .

وطُغيانُ النزعةِ الفرديّةِ في تصرّفاتِهم ، وإغفالُ دور ِ الأمّةِ في ذلكَ ، سواءً كانَ دوراً مؤسّسيّاً ، أو دوراً بشريّاً ، أمرٌ يلحظهُ الجميعُ من المحايدينَ ، وهذه الطريقةُ هي أحدُ أسبابِ انتشارِ الفوضى في العالم ِ الإسلاميِّ ، حينَ يُناطُ العملُ بمجموعةٍ ترى في نفسِها النيابة َ عن الأمّةِ ، فترتجلُ القراراتِ والتصرّفاتِ ، دونَ النظر ِ في دور ِ الآخرينَ ، أو مدى ضرر ِ ذلكَ الفعل ِ عليهم ، ولهذا كانتْ آثارُ هذه التصرّفاتِ مرفوضة ً لدى عامّةِ النّاس ِ ، إمّا بسببِ ما لحقهم من الضرر ِ والأذى ، أو لإغفال ِ دورهم وتهميش ِ آراءهم . وهذا مزلقٌ عظيمٌ من مزالقِ الشرِّ والفتنةِ ، ويفتحُ أبوابَ الفوضى في الأمّةِ ، فإنَّ كلَّ من رأى رأياً ، أو اختارَ قولاً ، لو سلكَ فيهِ مسلكَ هؤلاءِ في إلزامِ المُسلمينَ بهِ ، لهلكتِ الأمّةُ ، وضاعَ النّاسُ ، وصاروا أسرى التجاربِ والأهواءِ .

ودخل ابن بجادٍ سجنَ الحاير ، وبقي لمدةٍ في الحبسِ الانفرادي ، ثم انتقل للقسمِ العامِ ، وبالتحديد للغرفة رقم (9) ، وفيها رفيقهُ الدائمُ مشاري الذايدي.

لم يحتملْ فكرةَ أن يكونَ في السجنِ وهو المفكرُ العظيمُ ، والباحثُ النحريرُ ، والعالُم بمقاصدِ الشريعةِ !! ، فأصيبَ بانهيارٍ عصبيٍّ تلوَ آخرَ ، وأدخل للمشفى النفسي .

وحلقَ لحيتهُ التي نبتتْ للتوِّ وكان يؤخرَ الصلاةَ عن وقتِها وربما تركها كذلكَ .

وربما أمضوا وقتهم بالنشيدِ وكان المتميّز بينهم هو مشاري ، وتارةً يمضونهُ في الشعرِ وقرضهِ ، وكانت هناك مساجلاتٌ فكريةٌ أو تكفيريّةٌ في السجنِ أيضاً .

ومن اللطائفِ أنَّ صاحبُهم م . ع كان يقولُ الشعرَ الفصيحَ ويحترفهُ ، فيُقرأ من جهتهِ مقلوباً ، وكتبَ بالعامي أيضاً ، يقول مشاري الذايدي عنهُ : " ومنّا من ظنَّ أنهُ قد وُلدَ في معتقلِ الحايرِ شاعرٌ عظيمٌ !! وخصوصاً " أبو راشدٍ " خفيفُ الظلِّ والعقلِ ! الذي توهمَ لفترةٍ أنهُ قد حقّق معجزةَ القرنِ العشرين بأشعارهِ التي يمكن أن تُقرأ بالفصحى والعامية ، ومن تحت ومن فوق ، وكلَّ شطرٍ على حدةٍ ، وكل شطرٍ مضموماً إلى الآخرِ !! لقد كان هذا الرجلُ الطيّبُ فكاهةَ السجنِ ، ولا أدري هل كان يأخذ الأمور على محمل الجد ، إلى هذه اللحظة لا أدري !! لاحقاً أصبحَ أبو راشدٍ من أشهر الأطباء الشعبيين على مستوى الخليج ، وعالج ، كما يقول ، عدداً من الفنانات المصريات منهنَّ شريهان ! " .

بعد خروجِ ابنِ بجادٍ من السجنِ ، وجد المجموعةَ السالفةَ تغيّرتْ ، فبقي هو وصديقه مشاري .

ع . ع أحدُ الذين سُجنوا معهم في حادثةِ الأسلحةِ ، ومن أخصِّ أصحابِهم وأكثرهم جلداً وبأساً ، كان قد ذكرَ عنهم أشياءَ غريبةً وقعتْ في السجنِ ، وتصرّفاتٍ لا يُمكنُ صدورها من شخصٍ مستقيمٍ لاسيّما من منصور النقيدان ، وقد ذكرَ كثيراً من هذه الأفعالِ في ذلك الوقتِ ، إلا أنّها قوبلتْ باستنكارٍ شديدٍ ، إذ كيفَ يُتهمُ هؤلاءِ وهم طلبةُ علمٍ ومجاهدونَ ! ، ومع مرِّ الوقتِ تبيّنَ أنَّ صاحبُهم كانَ صادقاً في كلامهِ عنهم .

وصاحبهم هذا استمرَّ على نفسِ النهجِ ، بينما انتكسَ الآخرونَ ، ووصلَ بهِ الحالُ إلى أن قامَ بإطلاقِ النّارِ على بعضِ رجالِ المباحثِ ، وأصابَ منهم عشرةً ، وسطا على أحدِ نقاطِ التفتيشِ في أحدِ الطرقِ السريعةِ ، وغنمَ منها — كما عبّرَ بذلكَ — مجموعةً من الأسلحةِ ، إلى أن يسّرَ اللهُ أمرَ القبضِ عليهِ ، وهذه النتيجةُ نتيجةٌ حتميّةٌ لمن يسلُكُ طريقهم .

أعجِبُ ابن بجادٍ حينها بالمسعري وطارَ بأفكارهِ فرحاً ، وكان كثيراً ما يردّدُ : قال الشيخ المسعري كذا وكذا ، على وجهِ الإعجابِ بهِ وتقبّلِ أفكارهِ وآراءهِ .

ووقعتِ الكارثةُ الكُبرى : وقعَ تفجيرُ الرياضِ الأوّلِ في حيِّ العليا ، تلكَ الحادثةُ المُنكرةُ الغريبةُ على المُجتمعِ ، فكان ابنُ بجادٍ ممن يُدافعُ عن أصحابِ ذلكَ الفعلِ ويؤيّدُ عملهم من طرفٍ خفيٍّ ، بل كانَ بعضُ المنفذينَ من أصحابهِ ومعارفهِ .

وفي هذه المرحلةِ كانَ يُكثرُ من السفرِ إلى جدة ، والتقى هناكَ بمجموعةٍ من الشبابِ الذين سبقَ لهم السفرُ للجهادِ ، واستطاعَ أن يصنعَ لهو هو وللذايدي والنقيدان حضوراً لدى أولئكَ ، ممّا جعلَ الكثيرَ منهم يتأثّرُ بأفكارهم ، وابتدأت من هناك صلتهم بيوسف الديني ، وقد كانَ يتملّقُ أولئكَ الشبابِ بمجموعةٍ من الخطاباتِ الديماغوجيّةِ ، حتّى صارَ بينهم جهةً شرعيةً مُعتبرةً .

وأحبُّ أن ألفتَ النظرَ هنا إلى أنَّ عدداً من أولئكَ الشبابِ أُلقيَ القبضُ عليهم لاحقاً ، وحُكموا بأحكامٍ وصلتْ إلى 15 عاماً من السجنِ ، وكانَ لابن بجاد وأصحابهِ نفوذاً فكريّاً ومعرفياً واسعاً عليهم ، وكانوا يفتونهم بجوازِ الكثيرِ من الانحرافاتِ النظريّةِ والتطبيقيّةِ . اشتد الأمر على الكثيرِ من النّاسِ حينَ إلقاءِ القبضِ على الشيخِ سلمانِ العودة وآخرين من الدعاةِ والمشايخِ ، فهرب ابن بجادٍ لليمنِ ، ومنها زوّرَ جوازَ سفرٍ ليهربَ إلى سوريا ، وهناك يحدث الانقلابُ الفكريُّ الثالثُ في حياةِ الرّجلِ القصيرةِ جداً ، ولن يكونَ الأخير قطعاً .

طوّفَ ابنُ بجادٍ بين مجموعةٍ من الدولِ : اليمنِ فسوريا ، ثم استقرَّ بهُ المقامُ في الأردنِّ ، ثمَّ سافرَ لقطر مدّةً ، وعاد بعدها للأردنِّ مرةً أخرى ، والعجبُ أنَّ ابن بجادٍ ومشاري الذايدي لم يذكرا أبداً رحلاتهم للهندِ !! وما هي أسبابُ تلك الرحلاتِ !!.

قال ابن بجاد وهو يحكي جزءاً من قصّتِهم في الدوحةِ : " لا أنسى أنّنا خرجنا مرةً على كورنيشِ الدوحةِ نسيرُ على أقدامنا وكان مشاري يومها مولعاً بأبي العلاءِ المعري وشبهاتهِ في العقيدةِ - كما كنتُ أسمّيها أنا - قطعنا مسافة 8 كيلومترات نقاشاً حولَ آراء أبي العلاء وإيمانهِ وفلسفتهِ ، يا رعى الله تلك الأيامُ " .

بعد هروبٍ طويلٍ ربما تجاوزَ أربعَ سنواتٍ عانى فيهِ الأمرّينِ ، قرّرَ الرّجوعَ إلى أهله ، وكانَ في تنقّلاتهِ يخرجُ مُتنكّراً ، ويُهرّبُ تهريباً ، حتّى لا يُلقى القبضُ عليهِ .

داهمهُ رجالُ المباحثِ في بيتهِ حالَ خروجهِ منهُ ، فوضعتِ القيودَ في يده ، ليتدخّلَ لاحقاً بعضُ أقاربهِ للدفاعِ عنهُ ويقومونَ بضربِ رجالَ المباحثِ حتّى سالَ الدمُ من أحدِهم ، فيتراجعُ رجالُ المباحث ويفرُّ ابن بجاد ، وبعد هنيهةٍ تُداهم قوة من الأمنِ حيّهم ، ويُلقى القبضُ على عددٍ ممن شاركَ في تلك الفعلةِ .

ويبقى أخوه تركي في السجنِ لعدةِ أشهر وعبد الله مختفٍ غير مبالٍ ، ثم يتدخلُ شيخُ قبيلتهم " ابن جامع " ويشفعُ لهُ عندَ الأميرِ الأمير سلمان بن عبد العزيز ، ليسلم له عبد الله ابن بجاد نفسهُ ويخرج أخوهُ من السجنِ ، وقد عوملَ في السجنِ معاملةً كريمةً .

وانظرْ هنا — أخي الكريم — كيفَ يفعلُ هؤلاءِ الشُذّاذُ الزاعمونَ بأنّهم على منهجِ السلفِ حينها ، فيقومونَ بمواجهةِ رجالِ الأمنِ ، ويفرّونَ منهم ليقعَ غيرُهم ضحّيةً لغلوّهم وتطرّفهم ، فقد سُجنَ أخوهُ حيناً ، وبقيَ عبدُ اللهِ هارباً ، فأينَ هذه الأفعالُ المشينةُ من فعلِ السلفِ الكرامِ ، الذين كان ابنُ بجادٍ ورِفاقهُ يتمسّحونَ بهم ويزعمونَ أنّهم على طريقتهم .

يخرجُ ابنُ بجادٍ من السجنِ ، وتلك الفترةُ كانتْ بدايةً لكتاباتِ منصور النقيدان المنحرفةِ ، وبالتحديدِ مقالهُ " هل كان ابن أبي دؤادٍ مظلوما ؟ " .

وفي لقاءاتهِ المُتكرّرةِ مع صحبهِ ورفاقهِ ، أخذَ يُبدي نوعاً من الامتعاضِ لما كتبهُ وحرّرهُ النقيدانُ ، وكان ينكر معهم الاعتداء على الإمام أحمد وعلى التأريخ ، مع أنّهُ على علمٍ بالمقالِ ، وكانَ مُتابعاً لهُ ولفكرتهِ ، وقد قال مشاري الذايدي ما نصه : " أنني كنتُ أتابعُ ولادةَ المقالِ أوّلاً بأوّلِ " .

كانَ هذا آخرَ العهدِ بالزمنِ الغابرِ : فكرهِ ، غلوّهِ ، رفاقهِ ، مآسيهِ ، لتبدأ المرحلةُ الجديدةُ .

وقبل أن نبدأَ بعرضٍ موجزٍ لأفكارهِ الحديثةِ لابدَّ أن نبينَ سببَ هذا الارتكاسِ العجيب فمن ظلاميةِ التكفيرِ والتفجيرِ والغلوِّ المقيتِ ، إلى ظلاميةِ التحرّرِ والتمييعِ والهدمِ لمعالمِ الإسلامِ وأصولهِ بحُجّةِ التنويرِ والعصرانيّةِ والتجديدِ ، ولنا أن نُفيد ابتداءً من القانونِ الفيزيائيِّ الثاني لنيوتن — وهو من الكفّارِ الذين لا يُقبلُ قولُهم ولا يؤخذُ رأيهم كما كان يراهم ابنُ بجادٍ حينها - : " لكل فعلٍ ردةُ فعل مساوية له في المقدار معاكسة له في الاتجاهِ " .

وليتَ الأمرَ وقفَ عندَ ردةِ الفعلِ فقط ، بل إنّهُ تجاوزهُ حتى وصلَ إلى مصافِّ النظريّةِ النسبيّةِ ، وللحديثِ عن النظريّةِ النسبيّةِ وتأثيرِها وقتٌ يضيقُ عنهُ هذا المقالُ ، ويمكنُ أنَّ نحيلَ هنا إلى إنشتاين ونظريّتهِ النسبيّةِ . وفي الأعمِّ الأغلبِ أنَّ من يكونُ غالياً مُتشدّداً في فكرهِ وسلوكهِ وتنظيرهِ ، فإنّ تركهُ لفكرهِ القديمِ سوف يحوّلهُ إلى فكرٍ مُخالفٍ تماماً لماضيهِ ومضادٍّ لهُ ، وقلَّ أن تجدَ لدى هؤلاءِ اعتدالاً أو توسّطاً .

وهذا التشددُ والغلوُّ يدفعُ بصاحبهِ إلى نتائجَ وخيمةٍ ، يكون ابتداءُ أمرِها السآمةُ من هذا التديّنِ المتشدّدِ فالمللُ ثم العجزُ عن إحداثِ التغييرِ في الواقعِ ، وقد يتطور الوضع تطورا كليّاً إلى كرهِ التشدّد ونبذه وأخيرا الانقلابُ والتمردُ عليهِ ، بل والانتقال من صفوف التطرّفِ الديني إلى التطرفِ المضادِ المعاكسِ وهو الانحلالُ من كلِّ المبادئ والقيم ، والتديّنُ على رأسِها .

وهذا مصداق قول النَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلمَ ـ :" إِنَّ الدِّينَ يُسرٌ ولنْ يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلاّ غلبهُ فسدِّدوا وَقاربوا وأبشرُوا " رواه البخاري ، قال ابن حجر - رحمه الله - " المعنَى لا يتعمقٌ أَحد في الأعمالِ الدِّينِيَّة ويترك الرفق إلا عَجَزَ وانقطعَ فيُغلب . قَالَ اِبن المنير : في هذا الحديث عَلَم من أعلامِ النبوَّة , فقد رأينا ورأى النَّاس قبلنا أنَّ كلّ متنطِّع في الدِّين ينقطعُ " .

وليستِ الوسطيةُ في الإسلامِ وسطيةً رياضيةً حسابيّةً ، كأنْ تكونَ الخمسةُ هي وسْطَ العشرةِ ! ، ولا هي وسطيةٌ تلفيقيةٌ كما يفعل بعض المنتسبين للإسلام من خلطِ الأوراقِ ، فيخلطُ الإسلامَ بغيرهِ من الآراء الفاسدةِ والاطروحاتِ السمجةِ ويقولُ هذا هو الإسلامُ الوسطي المعتدلُ ! ، وليستِ الوسطيّةُ ردّةً عنيفةً عن الماضي بسلوكِ طريقٍ مُخالفٍ لهُ .

بل وسطيةُ الإسلامِ تكمنُ وترتكزُ في حقيقةِ الروحِ الإسلاميةِ الصافيةِ الميسورةِ ، كما أرادها الشارعُ وكما بينها صاحبُ الرسالةِ - صلى الله عليه وسلم - ، وسطيةٌ تعتمدُ على القرءانِ والسنةِ نصّاً وفهماً وانقياداً بالتطبيقِ والسلوكِ ، وسطيةً تقومُ على الرحمةِ بالخلقِ واللينِ لهم ، وزمّهم بأمرِ الخالقِ الحكيمِ .

ومن يستعرض التاريخُ المعاصرَ يجدُ أنَّ أبلغَ الحركاتِ تأثيراً في المجتمعاتِ الإسلاميّةِ والعربيّة ، هي الحركاتُ التي قادها رجالٌ يحسبونَ على التيارِ الإسلاميِّ ، من أمثالِ : أبي الأعلى المودوديِّ ، سيّد قطب ، جمالِ الدينِ الأفغاني ، محمدِ عبده ، عبدِ الرحمن الكواكبي ، محمّد رشيد رضا ، وغيرِهم ، وهؤلاءِ على الرّغمِ من وجودِ الهفواتِ الكبيرةِ لدى كثيرٍ منهم ، والقصورِ في علمِ الشريعةِ ، والتوسّعِ في إعمالِ العقلِ ، وتماهي بعضِهم في الحضارةِ الغربيّةِ ، إلا أنّهم لم يجدوا مكانةً لدى النّاسِ إلا لما أظهروهُ من الديانةِ والتعلّقِ بالشرعِ ، بغضِّ النظرِ عمّا يوجدُ لديهم من هفواتٍ وتجاوزاتٍ عظيمةٍ ، وهذا ما جعلَ النّاسَ تُقبلُ عليهم وتثقُ في مناهجِهم .

إن العلمانية والحداثة والماركسيّةَ بل وحتّى القوميّةَ والحركاتِ الوطنيّةَ ، أضعفُ من أن تشكلَ خطراً حقيقياً على الدينِ ، لأنَّ الناسَ دائماً ما ينظرونَ لهؤلاءِ على أنهم من خارج الأسوارِ ، وعملاء ، ومن المتنكرين للأمةِ ، لكن من ينتمي للمدرسة الدينية سوف يكون لديه قدرةٌ على أشياءَ كثيرة ، أقلها المتاجرة بهذا الانتماء ، وتسويقُ الباطلِ تحتَ ستارِ التديّنِ والتمسّحِ بالشرعِ . لابد للإنسان أن يبحثَ عن نفسهِ وذاتهِ بعد عناءٍ طويلٍ طوّح فيه في غياهب السجون والضياعِ الفكريِّ والعقديِّ ، وأصبحَ دونَ هدفٍ أو فكرةٍ ، بل هو تائهٌ مُشتّتٌ بين ماضٍ مليءٍ بالتطرّفِ والجنوحِ والغلوِّ المقيتِ ، وبينَ حاضرٍ مؤلّمٍ ، تعبتْ فيهُ الرّوحُ من مسالكِ الضياعِ ودوربِ التيهِِ الشتيتةِ . عبدُ اللهِ ابن بجادٍ مثالٌ واضحٌ لشابٍ عاش حنقاً على المجتمعِ بأسرهِ ، فأشهر سيفَ التكفير ، وتلبس بأحزمةِ التفجيرِ ، وتلظّى بنارِ التشتّتِ الفكريِّ والمنهجيِّ ، ثم لمّا وجدَ أنها لا تنفعُ ولم يتحصل من وراءها على الشهرةِ التي كان يتمنّاها نكصَ على عقبيهِ ، وتبرّأ من ماضيهِ بحذافيرهِ .

إذن فهي مرحلةُ البحثِ عن الذاتِ ، وإعادةِ تشكيلِ الهويّةِ بعدَ تشظّيها في متاهاتِ العنفِ والغلوِّ ، لكنّهُ على غيرِ هُدىً من اللهِ ولا بصيرةٍ ، وإنّما هو الاتكالُ على النفسِ والثقةُ المُطلقةُ بالمُكتسبِ من المعرفةِ ، وهذا لا يُغني عن الحقِّ شيئاً .

يحقُّ للأستاذِ البحثُ عن الشهرةِ ليكونَ شيئاً مذكوراً في حياةِ الناسِ ، بعد أن عجزَ عن تحمّلِ الشريعةِ وتكاليفِها العظيمةِ ، تلكَ التكاليفُ والشرائعُ التي يجدُ فيها المسلمُ من الأُنسِ واللذةِ والراحةِ ما لا يجدهُ في غيرها من مباهجِ الحياةِ ومتعِ الدّنيا ، ولكنّها لا تتحصّلُ إلا لمن أتاها على الطريقةِ السويّةِ ، دونَ جنوحٍ أو شططٍ .

وكأني بابن بجادٍ وهو يحلمُ بقيامِ دولةٍ إسلاميّةٍ بزعمهِ ، على أنقاضِ دولتنا — حرسها اللهُ - بعد أن ذبحَ المرتدينَ وقاتلَ الطواغيتَ - وهم كثر جداً عندهُ - ولا شكَّ أنَّ ذبحهم أسهلُ عندهُ من ذبحِ الشياهِ ، فالكفرُ قد مدَّ رواقهُ وضربَ بأطنابهِ ، والإسلامُ قد بقيَ حكراً على فئةٍ من البشرِ اختارتِ الاعتزالَ في الباديةِ وتقطيعِ الوثائقِ الشخصيّةِ وتحريمِ التصويرِ .

وما زال يعتقدُ أنّهُ قد عُيّنَ مسئولاً عن امتحانِ الناسِ في عقائدهم ودينهم .

هكذا كانتْ أحلامُ ابنِ بجادٍ وهو يتردّدُ بين البلازية والمحيلاني .

ثم لما رأى أنّهُ لم يجنِ من السجنِ تلوَ السجنِ شيئاً ، فلم يهدمِ الدولةَ التي طالما حلمَ بالخروجِ عليها وإقامةِ حكمٍ جديدٍ على أنقاضِها ، ولم يوضعْ في المكانِ المناسبِ ، بل مازالَ المجتمعُ يحقرهُ ويحقرُ فكرهُ ، ولا يعتبره وبقيّةَ زمرتهِ وفئتهِ إلا شُذّاذاً لا تأثيرَ لهم ولا مكانةً .

قرّرَ حينها تغييرَ الطريقِ ، واستبدالَ المنهجِ بآخرَ أقلَ تكلفةً وأسهلَ فكراً ، لعلّهُ أن يصلَ لمنصبٍ ومكانةٍ في المجتمعِ ، أو ينالَ شيئاً من احترامِ الناسِ الذي فقدهُ طيلةَ فترةَ انحرافهِ السابقِ . لكنّهُ — وللأسفِ - لا يملكُ سوى شهادةِ المتوسطةِ ، وذلك لما سبقَ وبيّناهُ من حالهِ أنّهُ كانَ يرى تحريمَ الدّراسةِ وجميعَ الوظائفِ الحكوميّةِ ، فأي شيءٍ يفعلُ وهذه حالهُ ؟ .

لا يملكُ أيَّ ثقافةٍ تذكرُ ما خلا ثقافةَ الغلوِّ والانحرافِ الفكريِّ والمنهجيِّ المنبوذةِ ، وبعضَ التجاربِ التائهةِ في التفجيرِ وتهريبِ الأسلحةِ ، أي أنّها أشياءُ لا يمكنُ لرجلٍ سويٍّ عاقلٍ أن يبوحَ بها ويعلنها للملأ ، فضلاً عن اعتدادِها به ذخراً وحصيلةً .

وكانَ جلُّ وقتهِ في قراءةِ كتبٍ معينةٍ ، تلكَ التي تُغذّي الطريقَ المخالفةَ التي سارَ عليها ، وكانوا يفرحونَ فرحاً عظيماً بحصولِهم على نسخةٍ من أحدِ كُتبِ جهيمانَ ، أو كُتبِ الشيوعيِّ الثائرِ السعيدِ ، أو غيرِهم من الذين أعلنوا العصيانَ والخروجَ ، ولم يكونوا يهتمّونَ بمنهجِ المؤلّفِ أو فكرهِ ، بل إذا وافقَ هدفهم وغايتهم قرءوا لهُ وأوصوا بقراءةِ ما يكتبهُ ، كما كانَ مولعاً بامتحانِ عقائدِ الناسِ واختبارهم في أديانهم ، لا سيّما وهو يرى أنَّ أكثرَ الخلقِ ما بينَ كافرٍ مرتدٍ أو مسلمٍ زائغٍ منحرفٍ ، والحقُّ قد تمحّضَ في قلةٍ قليلةٍ تستوطنُ الباديةَ . يملكُ كرهاً للشبابِ الذين تعلّموا ودرسوا ففاقوهُ علماً وتحصيلاً . يملكُ بغضاً لمن كان يؤنّبهُ على أفكارهِ الظلاميةِ الفاسدةِ ، كما تقدّمَ معنا ذكرُ قصّةِ الشيخِ العلاّمةِ سفر الحواليِّ — متّعهُ اللهُ بالعافيةِ وشفاهُ - ، وكيفَ أنَّ نصيحةَ الشيخِ لهُ جعلتهُ يكرههُ كرهاً فظيعاً .

علمَ حينها أنّهُ منبوذٌ ، وماضيهِ لا يصلحُ أن يُناطَ به ما يكونُ سبباً للرفعةِ أو التوقيرِ . إذن لابدّ أن يفعلَ فعلَ الأعرابِّي الذي بالَ في ماءِ زمزمَ حتى يشتهرَ .

بدأَ ابنُ بجادٍ بالهجومِ . الهجومُ على كلِّ شيءٍ يذكّرهُ بماضيهِ المخزي ، فهو يسبُّ ماضيهِ ويصفهُ بأقبحِ الصفاتِ ، لعل أن يجدَ في ذلك سلوةً .

يسبُّ المناهجَ التي خرّجتْ آلاف الشبابِ الصالِح والنافعِ والذين لم يفعلوا فعلهُ ، بل كانوا يُناصحونهُ ويدلّونهُ على الخيرِ ، فكانَ ينكُصُ على عقبيهِ ويستكبرُ عن سلوكِ طريقهم ، حتّى وصلَ بهِ الحالُ فكفّرَ بعضهم ، ورمى آخرين بالعمالةِ والزيغِ ، وكان يسبُّ المناهجَ أيضاً من قبلُ لأنها تكرّس الكفرَ وهو حبَّ الوطنِ !! .

يسبُّ كبارَ العلماءِ المخلصين لدينهم ، وكان يسبّهم من قبلُ كذلك لأنهم أعوانُ الطاغوتِ - كما يقول - وربما زادَ عن السبِّ فحكمَ على بعضهم بالنفاقِ والرّدّةِ الصريحةِ ، كما فعلوا ذلك معَ الإمامِ عبدِ العزيزِ بن بازٍ وصِنوهِ بنِ عثيمين — رحمهما اللهُ - ، ولا زلتُ أذكرُ صاحباً لهم من خاصّتهم — وقد صارَ مثلُهم الآنَ مُنتكساً — وهو يقولُ : لو قامَ الجهادُ في هذه البلادِ فإنَّ أوّلَ من يُبدأ بقتالهِ هو ابنُ بازٍ وابنُ عثيمينَ !! ، وهذا الرّجلُ نفسهُ قالَ لي : الألبانيُّ كافرٌ ، وإن شككتَ في كفرهِ فأنتَ كافرٌ ! .

فسبحانَ اللهِ ما أوضعَ هذا الطريقَ وأسخفَ سالكيهِ ، لم يعرفوا حقّاً لأحدٍ ، ولم يُراعوا حرمةَ العلمِ وأهلهِ ، ولكنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى لهم بالمرصادِ ، فحمى أعراضَ أولياءهِ ، فماتَ أولئكَ العلماءُ وبكتهم الأمّةُ جمعاءُ ، وشهِدوا لهم بالخيريّةِ والفضلِ ، وأمّا هذه الشرذمةُ فقط تساقطوا واحداً إثر واحد في الانتكاسةِ والانحرافِ ، وما ظلمهم اللهُ ولكن أنفسهم كانوا يظلمونَ . يشتمُ ويكرهُ من كانَ يردّدُ عليهِ : يا بُنيَّ ليسَ هذا هو الطريقَ الصحيحَ ، ولا المنهجَ السويَّ ، إنّهُ يكرههم مع أنّهم حاولوا ردّهُ عن غلوّهِ ، فقد وقعَ في شيءٍ لا يقلُّ غلواً عن سابقِ حالهِِ . إن ما حصلَ لابنِ بجادٍ بعد رحلاتهِ مجرّدُ انقلابٍ لشهوةٍ نفسيّةٍ عرضتْ ، وقد يتبعهُ انقلابٌ آخرُ ، ويعودُ على إثرهِ أخطرَ من ذي قبلُ وأشدَّ زيغاً وانحرافاً ، وكُرهاً للمجتمعِ وطبقاتهِ .

وقد تكونُ هذهِ المرحلةُ مرحلةَ كمونٍ وسكونٍ ، يتبعها نشاطٌ وفورةٌ .

ولنقفْ سوياً — أيّها القارئُ العزيزُ - مع " المفكّرِ ، والباحثِ في الجماعاتِ الإسلاميّةِ " عبد اللِه بن بجادٍ ، وهو يضعُ المبضعَ على الجرحِ ليُبيّنَ للناسِ وللدولةِ بالأخصِّ سببَ الغلوِّ الموجودِ عندنا والذي بدأ مبكراً بفضلِ ابنِ بجادٍ وأمثالهِ ، لكنّهُ نسيَ أنّهُ أحدُ من نفخَ في كيرهِ وذرَّ رمادهُ في عيونِ النّاسِ .

في مقالةٍ بعنوانٍ " التطرّفُ صناعةٌ محليةٌ أم مستوردةٌ " ، في جريدةِ الرياضِ : يتحدّثُ عمّا حصلَ بين الإخوانِ - رحمهم الله - وبين الملك عبد العزيزِ - رحمه الله - فيقول : " ...وبعد أن اكتشف الملك عبد العزيز عجز الخطاب الدينيِّ الرسمي عن إطفاء الفتنةِ ، لأنّهُ بكلِّ صراحةٍ كان سبباً في المشكلةِ فكيف يشاركُ في حلّها ! " .

هل كنتَ تقولُ بهذا الرأي في ظلاميّتكَ الأولى ؟ حينَ كنتَ تُمجّدُ الإخوانَ تمجيداً عظيماً ، وتعتقدُ أنَّ الملكَ عبدَ العزيزَ ما هوَ إلا يهوديُّ الأصلِ ، ودسيسةٌ بريطانيّةٌ ، ومرتزقٌ للأعداءِ ، وكافرٌ لا يُقبلُ حكمهُ ، وكنتَ تتذاكرُ أنتَ وبقيّةُ الرّفاقِ ما كنتم تسمّونهُ بأمجادِ السبلةِ الغائبةِ !! ، هل نسيتَ تلكَ الأيّامَ القاتمةَ ، ولم يكنْ معكم فيها إلا قلّةٌ من الرّجالِ ، منهم من قُتلَ في مواجهةٍ مع رجالِ الأمنِ في هذه البلادِ المُباركةِ ، وآخرينَ انحرفوا في مثلِ طريقكَ وسبيلكَ ! .

هاهو الآن يتحوّلُ إلى الشمشونيّةِ الفكريّةِ ، ويُعمّمُ الانحرافَ بعد أن تلبّسَ بلبوسهِ وانخرطَ في طريقهِ ، ولم يكفهِ ذلك بل تحوّلَ إلى داعيةٍ من دعاةِ الشرِّ والسوءِ ، حتّى يتخبّطَ النّاسُ كما تخبّطَ هو ، وليكونوا شركاؤهُ في ألمِ الضميرِ ، ووحشةِ الصدرِ ، وضيقةِ القلبِ ، وهي أعراضٌ لازمةٌ لكلِّ من صدَّ عن سبيلِ اللهِ يبغيها عوجاً ، أو حادَّ المؤمنينَ وتنكّبَ عن طريقهم .

إنَّ الكثيرَ من أهلِ الخيرِ والطاعةِ والاستقامةِ ليوحشُ صدرهُ ، ويُظلمُ قلبهُ ، بالمعصيّةِ المُجرّدةِ التي يفعلُها ، أو الذنبِ يجترحهُ ، فكيفَ بمن يهوّنُ على النّاسِ أمرَ الديانةِ والاستقامةِ ، وكيف بمنْ يفتحُ للنّاسِ بابِ الانحرافِ الفكريِّ والسلوكيِّ ، بل كيفَ هو حالُ من أعرضَ عن ذكرِ اللهِ إعراضاً تامّاً ، وصارَ قرينهُ الشيطانُ وأعوانُ الشيطانِ ، فهؤلاءِ ولا ريب عيشتهم قلقةٌ ، وحياتُهم مليئةٌ بالوحشةِ والقتامةِ . بدلاً من أن تلعنَ الظلامَ أوقد شمعةً .

بدلاً من أن تهاجمَ من كنتَ تمجّدهم إلى حدِّ الغلوِّ والتقديسِ المنكرِ ، ضعْ حجراً لبناءِ مستقبلٍ أفضلَ لكَ أوّلاً خاصّةً ، ثُمَّ للمسلمين عامةً ، ولكنَّ ماضيكَ وعهدكَ البائدَ لم يكنْ إلا موشّحاتٍ من الإقصاءِ للآخرينَ وتكفيرهم واتّهامهم في نيّاتهم وأديانهم ، ولم يكنْ — بحسبِ اعتقادِكَ — ثمّةَ ناجٍ إلا أنتَ ونفرٌ يسيرٌ ممّن معكَ ، والآن انقلبتْ على عقبيكَ ، ولكنّكَ لم تتركِ الإقصاءَ والطعنَ والقذفَ الذي كنتَ تمارسهُ ، بل عُدتَ إليهِ أسوأ من ذي قبلُ ، فأينَ هو التغييرُ الأمثلُ والتراجعُ الصائبُ بزعمكَ ؟ .

إنّكَ تستخفُ بعقلِ القارئ ، وأنتَ تعلمُ جيّداً أنَّ كلامك كذبٌ محضٌ وإفكٌ مُفترىً ، فقد كانَ موقفُ أهلِ العلمِ واضحاً وصريحاً في وقوفِهم مع الملكِ عبدِ العزيزِ ضدَّ بعضِ تصرّفاتِ الإخوانِ وآرائهم المُخالفةِ ، وكان هذا مما أغضبَ الإخوانَ ، وصارَ أهلُ العلمِ يحذرون الناسَ منهم ، ولا شكَّ أنه قد مرَّ عليك كلامُ المشايخِ في الإخوانِ ، ولكنّهُ لم يكنْ يُرضيكَ ، بل كنتَ تراهُ نوعاً من النّفاقِ والعمالةِ والتزلّفِ ، فكيفَ جعلتهُ الآنَ موقفاَ شريفاً نبيلاً ؟ أرأيتَ أنّكَ لا تعي ما تقولُ وإنّما تُخالفُ لمُجرّدِ المخالفةِ وحُبِّ الظهورِ .

ومن المشايخِ الذين رفضوا أعمالَ الإخوانِ : الشيخُ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخُ حسن بن حسين والشيخُ سعد بن عتيق والشيخُ محمّد بن عبد اللطيف وآخرونَ — رحمهم اللهُ جميعاً - ، وكان عددٌ من المشايخِ برفقةِ الملكِ وهم الشيخُ عبد الله العنقري والشيخ عبد الله بن مزاحمٍ والشيخ أبو حبيبٍ الشثري - رحمهم الله - .

وأنتَ تعلمُ أنَّ المسألةَ كانتْ في جزءٍ كبيرٍ منها حرباً سياسيةً ، ففيصل الدويش - رحمه الله - كان سياسياً وكانت له نوايا في الحكمِ بخلافِ غيرهِ من قادةِ الإخوان - رحم الله الجميع - ، وأنت تعلم كذلكَ أنَّ الملكَ عبد العزيز - رحمه الله - هو قائدُ الإخوانِ بل لقد قالها أمام البريطانيينَ : أنا الإخوان ! ، وقد ذكر هذا جون حبيب في كتابة "الإخوان السعوديون " و قال أيضاً : "حركةُ الإخوانِ هي أطهرُ حركةٍ عرفها التأريخُ " .

ثم إن كان الملك عبد العزيز — رحمهُ اللهُ - قد عفا عنهم وتركَ قتالهم ، فمالك ولمهاجمتهم ؟! .

وإن كنتَ تجهلُ موقفَ الملكِ من قادةِ الإخوانِ الذين خرجوا عليه ، فإليكَ ما يقرّرهُ جون حبيب ودكسون فقد قالا : " كان اللقاءُ بين المتمرّدين وبين الملكِ مؤثراً ، وبعد أن انهمرت الدموعُ على خدّيَ ابن سعودٍ سمحَ لكلٍّ من الأسرى أن يقبّله في أنفهِ " .

ألا يُغيظُكَ مثلُ هذا الموقفِ من الملكِ عبدِ العزيزِ ؟ ، واللهِ إنّهُ يُغيظُكَ ، كانَ يُغيظُكَ فيما مضى ، وهو يُغيظُكَ الآنَ ، لأنّكَ لا تبحثُ إلا عن الشذوذِ والمُخالفةِ ، مثلُكَ مثلُ الجراثيمِ لا تظهرُ إلا مع العفونةِ والمرضِ ، ومثلُ الضباعِ تعشقُ مرأى الجثثِ المُبضّعةِ والأوصالِ المُقطعةِ ، وأنتَ لا تظهرُ إلا حالَ الفرقةِ والتشتّتِ وتُباركُ ذلكَ وتدعو لاستدامتهِ ، كأنّكَ غرابُ البينِ . أم أن الذي يُغيظُكَ هو موقفُ الملك عبد العزيز - رحمه اللهُ - لما قال : " الحقيقةُ أننا سلفيّون محافظونَ على ديننا نتبعُ كتابَ اللهِ وسنّةِ رسولهِ - صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - وليسَ بيننا وبيَن المسلميَن إلا كتابُ اللهِ وسنّةِ رسولهِ " .

ألم تكن تُغيظُكَ مثلُ هذهِ الكلماتِ من الملكِ عبد العزيزِ سابقاً ؟! ، وهيَ واللهِ الذي لا إلهَ إلا هوَ تُغيظُكَ الآن أضعافاً مُضاعفةً لأنّكَ تزعمُ أنَّ السلفيّةَ أسوأ الحركاتِ الإقصائيةِ ، وأنّها سببُ البلاءِ في بلادِنا — حرسها اللهُ - .

لماذا تعرضُ عامداً عن محاورةِ الملكِ عبد العزيز لبعضِ شيوخِ الإخوانِ وقادتهم — رحمهم اللهُ جميعاً — عندما ناقشوهُ وخالفوهُ في أمرِ البرقيّاتِ ، فقال لهم : " إنني على استعدادٍ لتدميرِ كل السياراتِ وأجهزةِ الهاتفِ واللاسلكيِّ ولكن بشرطِ أنْ يُدمّرَ الإخوانُ كلَّ أسلحتهم وذخائرهم التي هي من صنعِ الكُفارِ .. " .

فأقنعهم ذلكَ منهُ وتركوا هذهِ الشبهةَ ، وحصلَ بذلكَ نوعٌ من اجتماعِ القلوبِ ، وهو أمرٌ يحبّهُ اللهُ ورسولهُ ، لما فيهِ من تفويتِ الفرصةِ على هواةِ التفرقةِ وشقِّ الصفوفِ من المغرضينَ من أمثالكَ .

ولو كنتَ منصفاً — وما أبعدكَ عنها — لنقلتَ للقرّاءِ عددَ المرّاتِ التي ناقشَ فيها الملكُ عبدُ العزيزِ مخالفيهِ ، حتّى إن كثيراً منهم انضمَّ إليهِ بعد تلكَ المناقشاتِ ، وتركَ عداوتهُ .

ثمَّ مرّةً أخرى ينقلُ لنا ابنُ بجادٍ ما فعلهُ جهيمانُ في الحرمِ ، ممارساً طعناتهِ المعتادةَ في أصدقاءِ فكره الماضينَ ، فيقول:

" لقد أعادَ ذلك الخطابُ الدينيُّ إنتاج نفسهِ ، ليخلقَ جيلاً جديداً من الصادقين في تطبيقهِ ، من أولئك الذين لم تكنْ لديهم أيّة امتيازاتٍ اجتماعية أو سياسيةٍ تجعلهم يغضون الطرفَ عن التناقضِ بين النظريةِ والتطبيقِ ، ومع شروقِ شمسِ اليومِ الأوّلِ من شهرِ اللهِ المحرّم عام ألف وأربعمائةٍ خرجت علينا جماعةُ جهيمان العتيبيِّ في الحرمِ المكّي الشريفِ ، لتنتهكَ الشهرَ الحرامَ والبلدَ الحرامَ ، لا تأثّراً بفكرٍ دخيلٍ وخارجيٍّ ، ولكنّهم تخرّجوا من جديدٍ على يدِ كبارِ علماءِ الخطابِ الدينيِّ الآنفِ الذكرِ ، فاستحلّوا دماءَ المسلمين في البلدِ الحرامِ وبين الركنِ والحطيمِ ، كل هذا وهم يحسبون أنّهم يجاهدون في سبيلِ اللهِ وأنّهم يحسنون صنعاً !! " .

إذن — أيّها المُحلّلُ الفريدُ — فإنَّ المُشكلةَ تكمنُ في الخطابِ الدينيِّ وليس في فكرٍ وافدٍ .

إنّهُ خطابٌ دينيٌّ كان ابن بجاد يحسنهُ تماماً ، بل وينشرهُ عبرَ توزيع كتب جهيمانِ ، وكانَ يفرحُ فرحاً شديداً إذا وجدَ كتيّباً أو وريقاتٍ كتبها جُهيمانُ ، فيقومُ بنشرها وتوزيعِها ، ضارباً عرضَ الحائطِ بكلامِ كبارِ العلماء الذين مازالوا ينهون عن تتبّعِ تلكَ الأسفارِ ، ويحرّمونَ ذلك الغلوَّ .

خطابٌ دينيٌّ متشنّجٌ ، كان الأستاذُ يُوالي عليه ويُعادي ، فهو يقولُ بكلِّ فخرٍ : " كم طالبٍ علمٍ حصرناهُ في المجلسِ حتى يُقرَّ بتكفيرِ الدولةِ ، أو أغلقنا عليهِ الحججَ في المكتبةِ ، حتى يُقرَّ بتحريمِ المدارسِ والوظائفِ ! " .

وليسَ للآخرِ مجالٌ أو عُذرٌ عند الأستاذِ قديماً أو حديثاً ، فالطبعُ يغلب التطبّعَ ، بل هوَ واللهِ المرضُ النفسيُّ المتأصّلُ .

وهنا يؤكّدُ ابنُ بجادٍ أنَّ جُهيمانَ كان صادقاً في التطبيقِ ، بينما كانَ كبارُ العلماءِ وأئمّةُ العلمِ في ذلك الوقت من الكاذبينَ !! .

العلماءُ الذين وقفوا مع التوسّطِ والعدلِ ونبذِ العنفِ والغلوِّ كاذبونَ أدعياءُ ! ، وأمّا جهيمان فهو صادقٌ !! .

العلماءُ الذين بذلوا الوسعَ واستفرغوا الجهدَ لتجنيبِ الأمّةِ الويلاتِ والتشعّثَ والتفرقةَ = خونةٌ ، لأنَّ لهم امتيازاتٍ اجتماعيةً أو سياسيةً .

تبسمت كثيراً وأنا أقرأ هذه العبارةَ ، فهي إسقاطٌ نفسيٌّ من عمق الماضي ، فقد كان ابن بجاد يشبعُ العلماءَ سبّاً وشتماً وتخويناً وما زال كذلكَ ، بل ربما ألزمهُ صديقُ الصبا محمد الـ ... (أبو حاتم) بتكفيرِ بعضهم ، ولم يكنْ ابنُ بجادٍ متورّعاً عن تكفيرِ أحدٍ .

" المهدي محمد بنُ عبد اللهِ القحطانيِّ — الذي قُتلَ في حادثةِ جُهيمانَ - رُفع للسماءِ كما رُفعَ عيسى ابنُ مريمَ — عليهُ السلامُ - ! أو خرجَ من المجاري وهربَ لليمنِ ، ومازالَ يحملُ رشاشاً في إحدى مغاراتِ اليمن " .

هكذا يكرّرُها ابنُ بجادٍ ، وقد سمعتُها واللهِ كثيراً من رِفاقهِ وأصدقاءِ دربهِ ، بل كانَ ابنُ بجادٍ يحتدُّ ويغضبُ على من يُخالف هذه الأضحوكةَ والسخافةَ ، ويطعنُ في العلماء الذين كذّبوا المهديَّ المذكورَ .

ولا أدري هل نزلَ المهديَّ أم مازالَ في السماءِ ؟ ، ومتى ينزلُ من الجبالِ ويتركُ المغارات والأحراشِ ويلقي الرشاش !؟ .

وقد صدقَ القائلُ قديماً : الجنونُ فنونٌ ! ، فهل رأيتم جنوناً — بعد جنونِ الرّافضةِ — كجنونِ عبدِ اللهِ بنِ بجادٍ ، فهل ثمّةَ عاقلٌ يقولُ بقولهِ هذا ، أو يُفكّر فيهِ ولو للحظةٍ سريعةٍ ؟! .

وكلما قرأتُ مقالاً لابنِ بجادٍ ترحّمتُ وترضّيتُ على الإمامِ ابن عساكرٍ — جادَ اللهُ ثراهُ بمزونِ الرّحمةِ - ، فكم كانَ مُصيباً لمّا قالَ في شأنكَ وشأنِ أمثالكَ : " اعلمْ يا أخي - وفقني اللهُ وإيّاكَ لمرضاتهِ وجعلني وإيّاكَ ممّن يخشاهُ ويتقيهِ حقَّ تُقاتهِ - أنَّ لحومَ العلماءِ مسمومةٌ وعادةُ اللهِ في هتكِ أستارِ منتقصيهم معلومةٌ ، وأنَّ من أطلقَ لسانهُ في العلماءِ بالثلبِ بلاهُ اللهُ قبلَ موتهِ بموتِ القلبِ .. " .

ولو لم يكنْ من آيةٍ على صحّةِ هذه العبارةِ من كلامِ الإمامِ ابنِ عساكرٍ ، إلا ابن بجادٍ وأمثالهِ ، لكفى بها دليلاً على صدقهِ ، فقد سقطَ ابنُ بجادٍ صريعاً في الدّنيا نتيجةً لإطلاقِ لسانهِ في الأئمّةِ وأهلِ العلمِ ، ولم يسلمْ منهُ الماضونَ بلهَ المعاصرينَ ، فإنَّ ابنَ عساكرٍ — رحمهُ اللهُ — كانَ متهماً عند ابنِ بجادٍ أصلاً !! ، فقد كانَ يعتبرهُ أشعرياً مُحترقاً !! .

ونجدُ أنَّ الأستاذَ يؤكّدُ مرّةً أخرى على تجريمِ ذلك الخطابِ الدينيِّ ، فيقول :

" وبقي الخطابُ ذاتهُ مستمرّاً يقودهُ ويمثّلهُ متنفذّونَ نفعيّونَ لا يشعرونَ بأيِّ حرجٍ في تناقضِ النظريةِ والتطبيقِ لديهم لتستمرَّ السلسلة ومضتِ السنواتُ حتّى خرجَ من أبناءِ الوطنِ من يملؤهُ تفجيراً وخراباً ودمارا ً، في العليا وفي الخبرِ وفي الرياضِ ، ونحن نعالجُ الظاهرةَ ونتركُ الجذرَ ، نشتمُ النتيجةَ ونُبرئُ المقدمةَ ، نلهثُ في محو الهامشِ ونتركُ المتنَ ، فهل نمتلكُ الشجاعةَ الكافيةَ لنعترفَ أننا بحاجةٍ لمراجعةٍ كلِّ شيءٍ ، وخصوصاً خطابُنا الدينيُّ المنتشرُ في المساجدِ والمدارسِ ووسائلِ الإعلامِ وبعضِ المؤسساتِ الرسميةِ ! " .

أتعجّبُ منكَ يا أستاذُ وأنتَ تشتدُّ على من سمّيتهم بـ " متنفذون نفعيون لا يشعرون بأي حرجٍ في تناقضِ النظريةِ والتطبيقِ لديهم " ولكن من هم ؟ ، لقد حدّدتهم بكل جسارةٍ وصفاقةٍ بقولكَ : " المساجدِ والمدارسِ ووسائلِ الإعلامِ " .

فمن هو الرئيسُ العامُ للمناهجِ في بلادِنا ! . ومن هو الرئيسُ العامُّ للشؤونِ الإسلاميةِ في بلادِنا ! . ومن هو الرئيسُ العامُّ للإعلامِ في بلادِنا ! .

هل تجدُ جرأةً هنا ، كما وجدتها في إطلاقِ لسانكَ دونَ حدٍّ أو قيدٍ في شرعِ اللهِ تعالى ؟ ، أم أنَّ الخوفَ والتملّقَ يحولُ دونكَ ودونَ ذلك ؟! ، أفلا خشيتَ اللهَ واتقيتهُ وكففتَ لسانكَ سابقاً ولاحقاً عن أوليائهِ وأنصارِ دينهِ ؟! .

لماذا لا تكونُ صريحاً — يا ابنَ بجادٍ — وتقولُ : أنَّ الذين فجّروا في العليا في عام 1416 هم من أقربِ النّاسِ إلى قلبكَ ، وكنتَ ترتبطُ معهم بعلاقةِ ولاءٍ وصداقةٍ كبيرة ، بل كنتَ تُباركُ فكرهم وعملهم ، وتدعو لهم ليلَ نهارَ ، وتحثُّ الشبابَ على فعلِ المزيدِ من هذه العملياتِ التفجيريّةِ وأن يلتحقوا بركبِ الشهداءِ .

هل تستطيعُ أن تنكرَ شيئاً من هذا ؟ ، ألم يكنْ عامّةُ أهلِ العلمِ في تلك الفترةِ يحرّمونَ مثلَ هذه الأعمالِ ، ويُجرّمونَ من يقومُ بها ، بينما كنتَ أنت ترى أن الذي يُفتي بحرمتِها فهو مرتزقٌ منافقٌ عميلٌ ؟ .

ألم تكنْ تلكَ التفجيراتُ وما حصلَ بعدها من تفجيراتٍ وقوائمَ ، هي من إنتاجِ أصحابك ورِفاقكَ ومنتهجي أسلوبكَ وفكركَ ؟ ، هل نسيتَ أنَّ أبا مصعبٍ التهاميِّ — أحدُ المفجّرينَ في العليا سنة 1416 — دخلَ على زوجِ أختهِ في قاعةِ الاحتفالاتِ في ليلةِ عرسهِ ، وقام بإطلاقِ النّارِ عليهِ لأنّهُ تصوّرَ مع أختهِ ؟ والتصويرُ عندكم — حينها - جريمةٌ لا تقلُّ عن الشركِ باللهِ ، وتحوّلَ العرسُ إلى دموعٍ ودماءٍ ، وسُجنَ صاحبُكم على إثرها ! .

هل نسيتَ — يا ابنَ بجادٍ — سعود القرشيِّ ، سعود العتيبي ، إبراهيمَ الريّس ، سلطان بن بجاد ، والدخيل ، وغيرهم من قائمةِ المطلوبينَ ، ألم يكنْ هؤلاءِ يُحرّمونَ المدارسَ ، ويكفّرونَ الدولةَ ، ويتهمونَ العلماءَ بالعمالةِ والخيانةِ ، أو باختصارٍ : كانوا على نفسِ منهجكَ القديمِ وطريقتكَ ، بل كانوا من أخلصِ أصدقائكَ وأكثرهم قرباً منكَ ، فقد كانوا في وادٍ ، وأهلُ العلمِ قاطبةً في وادٍ آخرَ .

هل نسيتَ أنَّ مجموعةً كبيرةً من أصحابكَ وجلسائكَ ، حُكمَ عليهم بالسجنِ لمدّةٍ تصلُ إلى 15 عاماً ، بسببِ إنشائهم جماعاتٍ تُخططُ للسطوِ على بعضِ البنوكِ ، والقيامِ بأعمالٍ تخريبيّةٍ ، وهذه المجموعةُ كانتْ تستلهمُ منكَ ومن النقيدانِ والذايديِّ والدينيِّ وآخرين = النصيحةَ والإرشادَ والدعمَ الشرعيَّ ، ولم تكنْ تبخلُ عليهم بشيءٍ ، بل كنتَ تفتي لهم ، وتغرفُ فتاويكَ من بحرِ الغلوِّ والتطرّفِ ، حتّى كُشفَ أمرهم ، وتمَّ عقابُهم وسجنُهم ، بينما فررتَ أنتَ إلى الخارجَ !! .

لا أريدُ أن أذكرَ لكَ أسماءِ هؤلاءِ لأنَّ كثيراً منهم عادَ إلى رُشدهِ وصوابهِ ، وهم شهودٌ على غلوّكَ وضلالكَ ، وأنتَ تعرفُ أسمائهم كما تعرفُ نفسكَ وذاتكَ .

وقد قرّرَ الأستاذُ في مقالةٍ أخرى وبصراحةٍ أنَّ مسؤوليةَ التفجيرَ تقعُ على العلماءِ والسياسيين ، فقال في مقالةٍ بعنوانِ "محرقةِ التكفير " نُشرتْ في جريدةِ الوطنِ :

" إلى متى لا نعي أننا يجبُ أن نغيّر ، يجبُ أن نصلحَ ، يجبُ أن نهزّ البنيةَ المتخلفةَ التي أنتجت مثل هذا الانقلابِ الصاخبِ من جذورِها على كل المستوياتِ ، بدءاً من المستويين الدينيِّ والسياسيِّ ،لأنّهما — تحديداً - الأكثر مسؤولية عمّا جرى " . الأستاذُ يقرّرُ هنا أنّهُ يجبُ عليهِ وعلى حملةِ فكرهِ أن يهزّوا البنيةَ المتخلفةَ ، بدءاً من المسؤولين الدينيينَ والسياسيين .

وكما تعوّدنا من ابنِ بجادٍ في الماضي أنّهُ يُقحمُ جهلهُ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ ، مُعتقداً أنّهُ يملكُ من الأهليّةِ ما تجعلهُ المُجتهدَ الأوحدَ ، ومالكَ الحقِّ في الحكمِ على تصرّفاتِ العبادِ ، فإنّهُ الآن يعتقدُ في نفسهِ الصلاحيةَ المُطلقةَ للكلامِ على أحوالِ المُجتمعِ وأحداثِ العصرِ ، تلكَ الأحداثُ التي شاركَ في صنعها بفكرهِ ، بمجهودهِ ، بعملهِ ، برفاقهِ ، بل كانَ يوماً من الأيامِ يُخطّطُ لنقلِ التجربةِ إلى الخارجِ ، ولا أظنّهُ ينسى قصائدهُ الكثيرةَ في مدحِ أحداثِ الجزائرِ ، والتشوّقِ للسفرِ إلى هناكَ ، هذا عدا عن جمعِ التبرّعاتِ لهم في المساجدِ .

مع الأسفِ — يا ابنِ بجادٍ - أن المسئولين لم يستجيبوا لك حتى الآن ! ، فمكانك المناسب هناك ، في هرمِ التعليمِ لتصلحَ المناهجَ — يا ذا الشهادةِ المتوسطةِ ومُحرّمِ التعليمِ - ، أو هرمِ المؤسّساتِ الدينيةِ ، لتصلحَ الخطابَ الدينيَّ في المساجدِ والفتاوى — يا من كنتَ ترمي العلماءَ بالنفاقِ والتزلّفِ والتحالفِ مع الدولةِ - ، أو مكانك في أعلى هرمِ الإعلامِ ، لتصلحَ الخللَ في الكتبِ والمجلاتِ الدينيةِ — يا من كنتَ تُخطّطُ لتفجيرِ مبنى الإعلامِ ويا من فجّرتَ وأحرقتْ محلاّتِ الفيديو ! - .

أو أنَّ مكانك هناك في أعلى الهرمِ ، ليتحقّقَ لك حلمك في استتابةِ من كان ينتقصُكَ لأنك لم تتمَّ دارستك ، أو يحقرك لأفكاركَ التي لم تتحملها وانقلبتْ عليها سريعاً ، أو يلومك لأنّك لم تفهمْ دينكَ حقَّ الفهمِ ، أو أولئك الذين مزّقوكَ على أعمدةِ الصحفِ ، لمّا شاركت في تمزيقِ الوطنِ وتدميرِ مكتسباتهِ .

وننتقل لمقالة أخرى لفيلسوفِ العنفِ ، حيث يطالعنا في مقالة أخرى بعنوانِ " القابلية للعنفِ " في جريدةِ الرياضِ ، حيث يؤكّدُ على أنَّ سببَ العنفِ الثقافةُ المحليّةُ فيقولُ :

" لماذا العنفُ !؟ ، سيقولُ البعضُ : بسببِ الظلمِ الخارجيِّ ، ولكنّنا لا نستطيعُ أن نقتنعَ بذلك ونحن نرى الكونَ كلّهُ من حولنا مليئاً بالظلمِ الخارجي ، مما يطرحُ سؤالاً لا يقل أهمّيةً عن سابقهِ ألا وهوَ : لماذا لم يحدثْ عندهم ما يحدثُ عندنا ؟ ، ولماذا نحنُ فقط الذين نجدعُ أنوفنا نكايةً بالخصمِ !! ، لماذا نحن فقط نحرقُ أوطاننا ، ونفجّرُ وحدتنا ، ونفرّقُ كلمتنا ، ونمنح الذرائعَ تلوَ الذرائعِ لكلِّ غريبٍ قويٍّ متربّصٍ بنا ؟؟ ، أحسبُ أنَّ شيئاً من تلمّسِ الجوابِ يكمنُ في القابليةِ للعنفِ في ثقافتنا المحليّةِ ، حيثُ تختلطُ الأفكارُ الصحيحةُ بالسقيمةِ ، ببعضِ الموروثاتِ الشعبيةِ إضافةً لبعضِ المعطياتِ السياسيةِ ، لتعطينا مزيجاً متداخلاً وغريباً ، يمتلكُ أكثرَ من غيرهِ مكانَ الصدارةِ في قيادةِ أفكارِنا وتحرّكاتنا ومواقفنا. "

يا للعجبِ ! ، كأنَّ ابنَ بجادٍ يحملُ مرآةً تعكسُ صورتهُ في مقالاتهِ ، فهو لا يعرفُ إلا فكرهُ وصورتهُ السالفةَ الماضيةَ ، وجميعُ مقالاتهِ إسقاطٌ لرؤيتهِ الماضيةِ على الحالِ الحاضرةِ ، فيُعمّمُ صورتهُ القبيحةَ الشاذةَ الماضيةَ ، على صورِ النّقاءِ والطّهرِ الحاضرةِ ، زاعماً أنّها ستئولُ إلى نفسِ النتيجةِ التي آلَ إليها رِفاقهُ وأصدقائهُ الغالينَ ! .

ومرّةً أخرى يحاولُ الأستاذُ الخروجَ من قمقمِ الماضي ووحشتهِ ، إلى سرابِ المستقبلِ والحلمِ الشمشونيِّ .

يُريدُ منّا أن نجدعَ أنوفنا لنصدق أنهُ وطنيٌّ مخلصٌ ! ، وأن نسملَ أعيُننا لكي لا نرى حرقهُ للوطنِ ومُقدّراتهِ وشبابهِ .

هل التفجيرات — أيّها المُحلّلُ الفريدُ - في بلادِنا فقط ؟! ، وهل من قام بها دونَ بقيّةِ العالمِ السلفيّونَ فحسب !؟ .

ألم تسمع بمن فجّرَ في مدينة الجبيلِ الصناعيةِ ، وبمن قاتلَ رجالَ الحرسِ الوطنيِّ في مدينةِ القطيفِ ، أو بمن تقصّدَ قتلَ أميرِ مدينةِ نجرانَ ؟! ، وهل نسيتَ الذين قتلوا الحجيجَ في مكّةَ - زادها اللهُ شرفاً - عام 147هـ ، ومن فجّرَ فيها عام 149هـ .

ومن يدري ! ، فلعلَّ الأستاذَ في لحظةٍ من لحظاتِ التجلّي والكشفِ يزعمُ أنَّ من فعلَ الأفعالَ السابقةَ هم من أتباعِ دعوةِ الشيخِ محمّد بنِ عبدِ الوهّابِ !! .

ألم تسمع بمن فجّرَ في الخبرِ ؟! ، ومن يدري فلعلَّ تفجيرَ الخبرِ من فعلِ المهديِّ القحطانيِّ ، نزلَ من السماءِ ففجّرَ ثم أرتفعَ مرّةً أخرى ، أو جاءَ من جبالِ اليمنِ فعملَ هذا العملَ ثم فرَّ هارباً إليها مع المهرّبين ، كما فعلت? — ?? ???? ????? - مراراً .

ونحنُ نسألكَ : هل منْ شاركَ في التخريبِ في بلادِنا هم من الصادقين في تطبيقِ الموروثاتِ - كما تسميهم - ؟! ، فلماذا لم تذكرِ الخلايا اليساريّةَ الشيوعيةَ والناصريةَ والقوميّةَ وما فعلتهُ في بلادنا ، لا أظنّكَ تجهلهم أو تجهلُ حقيقتهم ، فهم الآن من جلسائكَ وخاصّتكَ ، أنسيتَ كيفَ كانَ الناصريّونَ يخطّطونَ لقلبِ نظامِ الحكمِ واغتيالِ الملكِ فيصل — رحمهُ اللهُ تعالى - . إنّهُ أسلوبُ التحييد للآخرِ ، وإقصاءِ المقابلِ ، بل هو تهديدُ المحاورِ ، وهذا تُحسنه جيداً يا أستاذُ ، فكنتَ سابقاً تُهدّدُ بالتكفيرِ والتفجيرِ دونَ تورّعٍ أو تردّدٍ ، والآن صرتَ تصمُ مخالفُكَ بأنّهُ إرهابيٌّ أو صانعٌ لهُ أو من الأجنحةِ السياسيّةِ للإرهابيينَ .

اختلفت كلماتك في ماضيكَ وحاضركَ ، وحقيقتها واحدةٌ ، ونفسيّتكَ المأزومةُ لم تتغيّرْ أو تختلفْ :

ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ***** يجدْ مُرّاً بهِ العذبَ الزلالا

وأنقلُ للقرّاءِ الكِرامِ هنا عدداً من أخبارِ المنظّماتِ والأعمالِ الإرهابيةِ التي لم يشاركْ فيها مسلمٌ ، من كتابٍ للباحثِ : مختار شعيب بعنوان " الإرهاب " حيث قالَ : " إنَّ أوّلَ منظّمةٍ إرهابيّةٍ عرفها التأريخُ هي منظّمةُ " السيكاري " التي شكّلها بعضُ المتطرّفين من اليهودِ من طائفةِ " الزيلوت " الذين وفدوا إلى فلسطين في نهايةِ القرنِ الأوّلِ قبلَ الميلادِ ، بهدفِ إعادةِ بناءِ الهيكلِ الذي عُرفَ بالمعبدِ الثاني " .

ويضيفُ المؤلفُ أنّهُ في نهايةِ القرنِ التاسعِ عشرَ ظهرتْ أوّلُ بوادرِ الإرهابِ الحديثِ في روسيّا بظهورِ منظمةِ " الأرض والحريّةِ " في العامِ 1876م ، ثمَّ منظمةُ " الإرادةِ الشعبيةِ " التي تشكّلتْ عام 1879 وجعلتِ الإرهابَ جزءاً متكاملاً من العمليةِ الاجتماعيةِ الروسيةِ .

ثمَّ يُضيفُ أنَّ أوّلَ استخدامٍ للقنبلةِ في العملياتِ الإرهابيةِ ، كان من جانبِ الثوّارِ الأيرلنديين في العقدِ الثامنِ من القرنِ التاسعِ عشرَ في عمليةِ الفرارِ من سجنِ " كلير كنوبل " في لندنَ .

على أنَّ الإرهابَ في مظهرهِ الحديثِ كان من ابتداعِ الثورةِ الفرنسيةِ ، التي قامتْ في عهدِ روبيسير وجان جيست بقطعِ رؤوس 14ألفِ فرنسيٍّ ، وسجن 3 ألفٍ آخرين .

وعرفتْ أوروبا خلالَ مرحلةِ الحربِ الباردةِ منذ بدايةِ خمسينياتِ القرنِ العشرين ما سُمّيَ بالإرهابِ الأحمرِ اليساريِّ ، الذي ارتبطَ بالتنظيماتِ الشيوعيةِ التي وجهتْ عملياتِها ضدَّ الدولِ الغربيةِ ، وضدَّ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ بصفةٍ خاصةٍ . كما عرفتْ أوروبا ما سُمّي بالإرهابِ الأسودِ الذي ارتبطَ بالتنظيماتِ الفاشيةِ والنازيةِ في إيطاليا وألمانيا والنمسا ، وعرفتْ كذلك الإرهابَ الانفصاليَّ الذي تقومُ به بعضُ الجماعاتِ الانفصاليةِ ، بهدفِ تحقيقِ انفصالِ أقليةٍ معينةٍ ، تقطنُ إقليماً معيناً عن الدولةِ الأمِّ ، كما في حالةِ الجيشِ الجمهوريِّ الأيرلنديِّ في بريطانيا ، وحركةِ " إيتا " في إقليمِ الباسكِ بأسبانيا ، وحزبِ العمال الكردستانيِّ في تركيّا .

ويضيفُ المؤلف أنّهُ منذ بدايةِ الستيناتِ عانى المجتمعُ الدوليُّ من أشدِّ العملياتِ الإرهابيةِ خطورةً وقسوةً ، وهي تلك التي تمارسُ ضدَّ الطائراتِ المدنيةِ التي تُستخدمُ في نقلِ الركابِ بين الدولِ ، والسيطرةُ عليها ، وإجبارُها بالقوةِ على تغييرِ مسارِها ، وحجزِ ركابها داخلها ، لتحقيقِ مطالبَ معيّنةٍ لخاطفيها الذين أُطلقَ عليهم مسمّى " قراصنة الجوِّ " ، حيث كان أولُ حادثِ اختطافِ طائرةٍ مدنيةٍ في البيرو عامَ 193 ، غيرَ أن هذهِ الظاهرةَ لم تستفحلْ إلا في النصفِ الثاني من القرنِ العشرينِ .

وبينما كانت المنظماتُ الإرهابيةُ خلال السبعيناتِ إما يساريةً أو فوضويةً ، وهي حركاتٌ تسعى إلى الحكمِ ، وأشهرها " الألوية الحمراء " في ايطاليا ، و" بادرماينموف " الألمانية و" لواء الغضب " البريطانيةُ ، و" العمل المباشر " الفرنسيةُ ، و" توبا ماروس " في أمريكا الجنوبية.

وقد استخدمتْ هذهِ التنظيماتُ العنفَ ضد الحكوماتِ ، وأهدافٍ مختارةٍ ، من المنشآتِ أو الأشخاصِ .

وفي عقدِ التسعينياتِ ، تحولتْ إلى عملياتٍ تهدفُ إلى الإضرارِ العامِ ، مثل عمليةِ نشرِ غازِ الساري في أحدِ أنفاقِ طوكيو ، التي ارتكبتها جماعةٌ دينيةٌ يابانيةٌ متطرفةٌ ، هي جماعة " اوم شيزيكيو " أو " الحقيقة السامية " ، وذلك إضافةً إلى عمليةِ أوكلاهوما سيتي بالولايات المتحدةِ ، التي وقعت في 19 ابريل (نيسان) 1995، وقتل فيها 168شخصاً ، والتي قام بها ديفيد كورش أحدُ أعضاءِ المليشياتِ البيضاءِ في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ .

وأستطيعُ أن أنقلَ لك — أيّها المُحلّلُ الكذوبُ - أكثرَ مما نقلتُ ، وأنا أعلم أنّك تعلمُ أضعافَ ما كتبتهُ لكَ ، ولكنّكَ كالعادةِ تريدُ أن تخفيَ الحقائقَ عن أعينِ القارئ ، ممُارساً بذلك وصايتكَ القديمةَ على الآخرينَ .

رفقاً بنفسك يا أستاذُ ! ، فأنتَ لا تخاطبُ صُمّاَ ولا بُكماً ولا عُمياً ، وكفاك استعمال أسلوبِ الفراعنةِ " ما أريكم إلا ما أرى ما أهديكم إلا أسلوبَ الرشادِ " .

وننتقلُ لفكرةٍ أخرى من أفكارِ الأستاذِ ، ألا وهي محاربةُ الحوارِ مع المفجّرينَ أصدقاءَ الماضي ، بل ضمّت القوائمُ الأخيرةُ كثيراً من أخصِّ أصحابهِ ، واتهامه من يحاولُ محاورتهم ، أو إقناعهم بمراجعةِ الحقِّ وتسليمِ أنفسِهم = أنّهُ منهم . إنّهُ لمن المخجلِ ، بل مما يُضحك الثكلى ، أن يُتهمَ الشيخُ سفر الحوالي — شفاهُ اللهُ وعافاهُ - بأنّهُ على صلةٍ بأصحابِ فكركَ البائدِ يا أستاذُ .

الشيخُ سفر الذي ألّفَ رسالةً كنتَ تمقتها قديماً ، وهي بعنوانِ " التوحيد أهم فروض الأعيانِ " ، في الرد على الشهيدِ السعيدِ المجاهدِ عبد الله عزام - برّدَ اللهُ عليهِ مضجعهُ - : في كتابه " الجهاد أهم فروض الأعيان " .

الشيخ سفر الذي لم يؤيّدْ الذهابَ إلى أفغانستان ولا البوسنةِ ولا غيرها ، لا قديماً ولا حديثا ، أفيكونَ الآنَ زعيماً سياسياً للمفجرين ! ، مالكم كيف تحكمونَ وتفكّرونَ . ودعني — يا ابنَ بجادٍ - أهمسُ في أذنك فأرعني سمعكَ : هل قلتَ كلامكَ هذا بسببِ توبيخ الشيخِ لكَ وتعنيفهِ عليك فيما مضى ! ، وكأني أراه آخذاً بأذنكَ يفركُها لكَ مؤدباً ، فأبغضتهُ من تلك الفترةِ ، وحفظتها في نفسكَ ، وجاء وقتُ الانتقامِ .

يقولُ ابن بجادٍ ما نصّهُ :

" ويقول - أي الشيخ سفر - إنهم يعرفونَ بيتهُ ومنزلهُ وتاريخهُ ، وإنّهُ يُحسنُ الظنَّ بهم ، إنَّ أفكاركَ المنحرفة - يا دكتورُ - هي التي أدّتْ بهم إلى ذلك السبيلِ المشينِ ولذلك جئتَ اليوم تساومُ الحكومةَ والمجتمعَ ، وكأنّكَ جناحٌ سياسيٌّ ، يريدُ أن يستثمرَ ما يعتبرهُ نجاحاتٍ للجناحِ العسكريِّ " . نعم ! المفجرونَ يعرفونَ بيتهُ ، لأنّهُ ينصحُ لهم ويأخذُ على أيديهم ويُكرّرُ النصحَ لمن يحضر عندهُ ، كما نصحك من قبلُ . يعرفون بيتهُ كما تعرفُ بيتهُ جيّداً ، يوم جئته تحاوره ، فوبّخكَ ونهاكَ عمّا جئتَ من أجلهِ ، ومن يومها بلغَ الحقدُ في قلبكَ عليهِ ، فقد ظننتَ نفسكَ قريناً للشيخِ ومثلهُ في المكانةِ ، فلمّا أعرضَ عنكَ وحملَ على فكركَ ووضعكَ في حجمك الطبيعي ، وأعلمكَ أنّكَ لا شيء :

ويُقضى الأمرُ حينَ تغيبُ تيمٌ ***** ولا يُستأمرونَ وهم شهودُ

أخذتكَ حينها العزّةُ بالإثمِ ، وبلغتَ في نفسكَ الذروةَ من الحملِ عليهِ . ثمَّ ما هي أفكاره المنحرفة كما تزعمُ ، أهي منحرفةٌ في نظرك السابقِ ، كما كنتَ تراها ، أم منحرفةٌ بنظركَ الحاليِّ ! .

أهي مُنحرفةٌ لأنهُ نهاكَ يومها عن الغلوِّ ، والإفساد في الأرض بالتفجيرِ ؟! . أم هي منحرفةٌ لأنّهُ لم يقبلكَ بعد أن صرتَ تلعنُ أخطاءَ الماضي ، وتُسقطها على الآخرينَ ، وتتوسّلُ إلى من يعرفك أن ينسى أيّام التفجيراتِ والفكرِ المنحرفِ ، وأن لا يُصرّحَ بشيءٍ من ماضيكَ .

ما الذي يضيرُك من محاولةِ الشيخِ سفر لإخمادِ هذه التفجيراتِ ، وإقناعِ مرتكبيها أن يُسلّموا أنفسهم ؟! ، وهي جهودٌ باركها أوّل من باركها المسئولون أنفسهم .

هل لأنّكَ لم تجدْ مساحةً أو مكانةً لدى النّاسِ ليقبلوا بكَ مؤثّراً أو صانعاً للأحداثِ في حياتِهم ، فصرتُ تحقدُ على من يجدُ حظوةً وقبولاً لدى النّاسِ ، بينما بؤتَ أنتَ بخزي الدّنيا ، فرماكَ الأقربونَ والأبعدونَ ، وصرتَ كالبعيرِ الأجربِ لا يُخالطهُ إلا أجربُ مثلهُ ؟! . أم أنك تريدُ للأحداثِ الداميةِ أن تبقى ، حتى يُزجَّ بالشبابِ في السجون - حيث كنت - ، وتمتلئَ البلادُ بالنيرانِ لترتويَ نفسك المريضةُ المهووسةُ بالدماءِ .

ألم تحذّرْ من وضعِ الجزائرِ ، فقلتَ في مقالتكَ " محرقة التكفيرِ " :

" الجميعُ بلا استثناءٍ مطلوبٌ منهم العملُ والجدُّ ، حتى لا نتحوّلَ غداً إلى جزائرَ جديدةٍ ، تأكلُ أبناءها ، وتدمّرُ مكتسباتها " .

الجميعُ لا بُدَّ أن يُشاركَ ، ولكنَّ الشيخَ سفر محرّمٌ عليهِ أن يحظى بهذا الشرفِ ! ، وأنتَ تزعمُ خوفكَ على البلادِ أن تُصبحَ جزائرَ أخرى ، بينما كنتَ في زمنِ انحرافكَ أحدَ الذين يدفعونَ الشبابَ السعوديَّ لأن يذهبوا للجزائرِ مُشاركين فيما كنتَ تراهُ جهاداً مُقدّساً ، وكتبتَ فيها أنواعَ القصائدِ .

إنّك تريدُ أن يشتركَ الجميعُ في حلِّ هذهِ المعضلةِ ، وتعرفُ تماماً أنَّ الوضعَ الجزائريَّ أنتهتْ كثيرٌ من فصلهِ بعد الحوار مع المقاتلين وتسليمِ أنفسهم ، وقامَ بذلك العقلاءُ ، إلا أنّكَ كفرتَ بالحوارِ والدعوةِ إلى تسليمِ النفسِ ، لمّا رأيتَ أنَّ من قامَ بها هو الشيخُ سفر ، الذي كانَ ينهاكَ قديماً عن الاستمرارِ في الغوايةِ والانحرافِ الفكريِّ ! . وإنّي أسألك : كيف انتهى موضوعُ فراركَ من رجالِ الأمنِ ، وتشتّتكَ بعد الهروبِ وتزويرِ الأوراقِ الرسميةِ ؟ .

ألم يتدخّلْ شيخُ قبليتك ابنُ جامع ، ويقومَ بتسليمك ، بعد أن شفعَ لكَ عندَ الأمير سلمان ، فقامَ الأمير مشكوراً بقبولِ شفاعتهِ ، وشعرت حينها بالأمنِ والطمأنينةِ ، وعوملتَ أحسنَ معاملةٍ ، وخرجتَ بعد مدّةٍ يسيرةٍ ، بينما حُكمَ على الذين تأثّروا بفكركَ وقاموا بأعمالٍ لا تُقرّها الشريعةُ بـ 15 سنةً ، بفضلِ انحرافكَ وزيغكَ .

ألم تسمعْ ما قالهُ اللواء المصريُّ فؤاد علام ، حيث قالَ في قناة العربية : " وجدنا بعدَ فترةٍ طويلةٍ ، أنَّ الحوارَ هو الحلُ الأمثلُ مع هؤلاءِ ، فأرسلنا الأحمدي فحاورهم مدّة 28 يوماً ، وبعدها انتهى كل شيء " .

فلماذا تريد أن تحرم هؤلاءِ فرصة الرجوع عما هم فيه ؟ ، ولعلّي أغيظُكَ حين أقولُ : أنَّ الدولةَ قامتْ بانتخابِ مجموعةٍ من أهلِ العلمِ الأفذاذِ لمناقشةِ ومحاورةِ الشبابِ في السجونِ ، وذلك لثقتِها في أنَّ تطويقَ الفكرِ المنحرفِ إنّما يكونُ بأهلِ العلمِ ، وليسَ بأمثالكَ من الزائغينَ المُتخبّطينَ ، ومع ما تفعلهُ وتكتبهُ ، إلا أنّكَ لن تجدَ مكاناً في الإصلاحِ أو جمعِ القلوبِ ، فالجميعُ يُدركُ أنَّ حقيقةَ فكركَ الجديدِ هو بثُّ التفرقةِ ، والطعنُ في المبادئِ والقيمِ ، باسمِ المراجعةِ الفكريّةِ .

وأختمُ المعركةَ الفكريةَ - كما يسمّيها ابنُ بجادٍ - بالمقالةِ التي نُشرتْ في جريدةِ الوطنِ بعنوانِ " الهجوم على نقَّاد الحوالي وصناعة التكفير " ، وروى فيها روايةً عن شابٍّ يُقرّرُ قتلَ المنافقين الذين ذكرهم له أستاذه ، بعد قراءة مقالٍ للشيخِ الدكتورِ ناصر العمر !! وممّا قاله :

" صادف محمّدٌ يوماً وهو خارجٌ من صلاةِ العصرِ جارهم الشابَّ المعروفَ بجهادهِ ، و شدّتهِ في الحقِ ، وإنكارهِ للمنكرِ ، وصراحتهِ التي يعدُّها بعضُ الجيرانِ وقاحةً ، فتحدّثَ محمدٌ معهُ عن قصّتهِ ، وأجوبتهِ التي جمعها من كلامِ الشيخِ العمرِ ، وملف المدرسِ ، المستندةِ جميعاً إلى كلامِ اللهِ الذي يحفظهُ ، وعلم الشيخ العمرِ الشرعي ، والواقعيِّ ، وتفاني مدرّسهِ في الخيرِ والصلاحِ ، .....انصرف محمّدٌ واجماً، عازماً على جهادِ نفسهِ ، حتى لا تُقعدهُ الأعذارُ السخيفة " . وهذهِ القصّةُ مُجرّدُ إسقاطٍ نفسيٍّ آخرَ ، لفترةٍ كان يُداعبُ فكرَ الأستاذِ اغتيال بعضِ المنافقين ، بل كانَ أحدُ أقربَ أصحابهِ إلى قلبهِ يُصرّحُ أنّهُ إذا قامتِ الخلافةُ فسوفُ يعمدُ إلى جميعِ المتبرجاتِ ويقتلهنَّ واحدةً تلوَ الأخرى بالكلاشينكوف !! ، وقد انتكسَ هذا الرجلُ الآن ، وصارَ خديناً للمتبرّجاتِ ، عدوّاتِ الأمسِ ! .

وأنا أكادُ أجزمُ أنَّ هذهِ القصةَ تتضمّنُ فترةً من حياةِ الأستاذِ الماضيةِ ، يوم أنْ كان التكفيرُ والتفجيرُ هاجساً لهُ ، وربما كان هو ذلك الشاب ، وكان وقتها يرى أنَّ كثيراً من العلماءِ والدّعاةِ والكُتّابِ منافقينَ .

وبعدُ : فماذا تُريدُ يا ابنَ بجادٍ ، وإلى أين ترغبُ في الوصولِ ، وإنّما هذه التفجيراتُ والحركاتُ المتماديةُ غلوّاً في التكفيرِ ، كانتْ من صُنعكَ وصُنعِ نُظرائكَ ، وكانتْ من بقايا تفكيركم المتحجّرِ ، ولا تمثّلُ ظاهرةً أو حركةً متناميةً ، إنّما هم قلّةٌ لا يُمثلونَ إلا أنفسهم فحسب ، بل لن أكونَ مبالغاً إذا قلتُ أنّهم يمثّلونكم ويمثّلون ماضيكم ، وما عجزتم أنتم عن فعلهِ بعد أن بذرتم بذوره ، جاءَ هؤلاءِ ليأخذوا الرايةَ بدلاً عنكم .

واليومَ : تظهرُ أنتَ في ثوبِ الناصحِ الأمينِ ، وبزّةِ المحلّلِ البارعِ ، وتتنصّلُ من ماضيكَ ومشاركتكَ في صناعةِ هذه الفتنةِ ، لتُشخّصَ حالةً ، يكفي في تشخيصِها أن نقرأ سيرتكَ ، ويكفي في معرفةِ خطرها وضررها أن ننظرَ إلى حاضركَ ، فإنَّ من سلكَ هذه الطريقةَ إمّا أن يكونَ صريعاً في مواجهةٍ مسلّحةٍ داخليةٍ والعياذُ باللهِ ، أو أن يسلكَ طريقاً آخرَ لا يقلّلُ ضرراً وخطراً عن التفجيرِ والتكفيرِ ، ألا وهو فكرُكَ وطريقتُكَ الحاليةُ يا ابنَ بجادٍ .

واللهُ غالبٌ على أمرهِ ولكنَّ أكثرَ النّاسِ لا يعلمونَ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق