مثلما زايد "صحفيون" على جمال عبد الناصر عندما جمعهم كي يملي عليهم القواعد الجديدة لدولته "الإعلامية"، مساء 7 مارس/آذار 1954، زايد خلفاؤهم من العينة نفسها على الرئيس الجديد، عبد الفتاح السيسي، عندما جمعهم في أول لقاء له بهم في قصر الاتحادية، صباح 9 أغسطس/آب 2014. في الحالة الأولى، اقترح بعضهم من تلقاء أنفسهم مزيدا من القيود، وفى الحالة الثانية، اقترح أحدهم تخصيص يوم 14 أغسطس/آب من كل عام (يوم مذبحة رابعة) عيدا قوميّا للبلاد. في الحالة الأولى، لم أكن قد وُلدت بعد، وفى الحالة الثانية، كنت بين الحضور. لفحني ما قاله هذا فقفزتْ عيناي مسرعتين إلى لقطة مقربة على وجه الرئيس علّني أقرأ استنكارا أو اندهاشا أو حتى قليلا من التململ، لكنني لم ألتقط شيئا من هذا القبيل. كانت هذه أول مرة أحضر فيها اجتماعا من هذا النوع، وآخر مرة.
على الأقل كان عبد الناصر في ذلك المساء واضحا في فرض القواعد: "الجيش الآن لاعب أساسي في السياسة .. تذكّروا هذا جيدا في كل ما تقولون/تكتبون .. لا حديث عن محمد نجيب .. احترسوا في كل ما يمكن أن يمس السياسة الخارجية والاقتصادية". يحتوي هذا الوضوح -الذي ترجمه عمليّا في صورة رقيب مقيم في المؤسسات الصحفية- على نوع من "تحمل المسؤولية" في فرض القمع؛ إذ إنه لم يكن بعد قد اكتشف إلى أي مدى يمكن أن تذهب الرقابة الذاتية بضعاف النفوس والجبناء والمنافقين والمتسلقين ومنعدمي الموهبة/الكفاءة من الحناتير.
كان الانتقال من "فرض" القواعد إلى "افتراضها" لدى هؤلاء مسألة حتمية، لكن الأمر تطلّبَ أكثر من نصف قرن كي يتعرف خلفاء عبد الناصر على المدى الشاسع الذي يمكن أن تصل إليه الرقابة الذاتية، حتى صار ذلك المدى -الذي هو في الواقع لا حد له- كأنه "حق مكتسب" من وجهة نظر دولة عبد الناصر "الإعلامية"، تتوقعه دائما كي ترتفع ظاهريّا فوق مستوى "تحمل المسؤولية" في فرض القمع. يقترب هذا في معناه، رغم اختلاف المجال والسياق، من المعنى الذي ذهب إليه لسان حال المسؤولين في واشنطن عن فضيحة برنامج الترحيل غير العادي Extraordinary Rendition Program، الذي كانت مصر إحدى محطاته: "إذا تطلّبَ الأمر، دع الحثالة يقومون عنك بالأشياء القذرة".
بعد الثورة، ارتبط هذا الملمح طرديّا -مثلما ارتبطت أمور أخرى كثيرة- بمدى قوة الشارع. كلما زادت هذه زادت جهود النظام في ما يمكن أن نسميه "الاسترقاب الذاتي" الذي لا يريد حتى أن يتحمل مسؤولية المنع والقمع، وزادت من ثم قدرة من لديه بعض من ضمير واستقلالية ذهنية على المقاومة. الآن يستطيع القارئ أن يخمن لماذا احتجب برنامج "آخر كلام" عن الظهور أكثر من مرة ولماذا تعرض زملاء لنا بعد ذلك لما هو أسوأ.
في الأشهر الأولى لم يكن أمام النظام -وقد انفضحت الآن تجاعيد دولته "الإعلامية" على الأرصفة والطرقات- سوى ممارسة "الود" والاستيعاب، حتى مع أولئك "الإعلاميين" من داخل تلك الدولة. ومع انشقاق الصف الثوري لملمت الدولة سيطرتها على مخلفات مبارك "الإعلامية" (بالود أو بغيره)، بينما استغلت نشوء هدف مشترك مع طلاب الديمقراطية ودولة القانون، ومن لا يصلح معهم "الود"، في مواجهة أجندة إخوانية ضيقة الأفق، في المرحلة الثانية. لكنها، وهي تفعل هذا، كانت تبيّت النية وتعد العدة لما سيأتي في المرحلة الثالثة.
مثلما قسّم عبد الناصر ضباط الجيش في أعقاب 1952 إلى ثلاثة أقسام: "من معنا" و"من علينا" و"المستقلون ذهنيّا"، بقيت دولته "الإعلامية" عبر العقود التالية مخلصة لهذا التقسيم الذي امتد من وقتها ليشمل الفاعلين في الحياة العامة المدنية. لا مشكلة في التعامل مع النوعين الأولين. المشكلة الكبرى في النوع الثالث. وهذا في ما نرى أهم مفتاح لفهم ما حدث "إعلاميّا" -وسياسيّا بكل تأكيد- بعد الثالث من يوليو/تموز 2013. هذه لحظة الثأر التي كانت تنتظرها دولة "إعلامية" عجوز نُزع رداؤها على الملأ قبل أكثر من عامين وقد تهيّأ لها الآن ما يكفي من الرياح كي تحول حالة الذعر من عام الإخوان في الحكم -وقد كان لها بعض الدوافع المنطقية- إلى حالة من الهيستيريا في كل اتجاه، لا علاقة لها بأي منطق.
و"أردتم لمصر أن تتطهر؟ حسنا، خذوا الآن أقذر ما فيها". باسم الأمن القومي شُرشِح مفهوم الأمن القومي، من الآمر والمأمور معا، بلا رقيب ولا محاسب، وأُهينَ الوطن وشعبه باسم الوطن وباسم الشعب. سيتعدى الأمر إذا في النسخة الجديدة من دولة "الإعلام" كُفتة الخوابير الاستراتيجية في مصر إلى قمة العمى في التعامل مع القضية الفلسطينية، إلى قمة الانحطاط في الاستفراد باللاجئين السوريين، إلى قمة الانحلال في وصف شعب عربي آخر بالدعارة، إلى قمة الغباء في التعامل مع سفير دولة في نزاع وجودي مع مصر، من بين أمثلة أخرى كثيرة. سيدرك الآمر بعد قليل أن ذراعه ليست بعيدة عن مصدر النار، وأن الحناتير لا ضابط لها ولا دين في نهاية اليوم إلا الحظوة والدراهم.
ولأن للحظوة طاقة استيعابية وللدراهم نهاية لا بد من أن تتمكن الغيرة من الحناتير فتتفاقم المناقصة اشتعالا حتى يسمع الحيُّ كله وحتى يبلغ العرض حدّا بلا ثمن. لكنّ الحناتير في حدود ذواتهم أنواع، ومن الواضح أن آمرا لا يتمتع بحد أدنى من الذكاء والمهارة يلتقط عادة نوعا من الحناتير أقل منه في الذكاء والمهارة يتحولون بعد قليل من ذخر له إلى عبء عليه، وهذا من لطف الله في فطرته.
بكل ما له من أياد بيضاء في أمور أخرى، لا بد أن مؤسس قواعد الدولة "الإعلامية" في مصر، جمال عبد الناصر، يتلظى الآن في قبره وهو يرى دولته هذه وقد انحدرت من "قمع محسوب" إلى مسخرة بلا حدود. ولا بد أنه هو نفسه يدرك أن هذه النفخة الكبرى في جسدها المهلهل ليست في الواقع سوى سكَرات ما قبل النهاية.
مثلما زايد "صحفيون" على جمال عبد الناصر عندما جمعهم كي يملي عليهم القواعد الجديدة لدولته "الإعلامية"، مساء 7 مارس/آذار 1954، زايد خلفاؤهم من العينة نفسها على الرئيس الجديد، عبد الفتاح السيسي، عندما جمعهم في أول لقاء له بهم في قصر الاتحادية، صباح 9 أغسطس/آب 2014. في الحالة الأولى، اقترح بعضهم من تلقاء أنفسهم مزيدا من القيود، وفى الحالة الثانية، اقترح أحدهم تخصيص يوم 14 أغسطس/آب من كل عام (يوم مذبحة رابعة) عيدا قوميّا للبلاد. في الحالة الأولى، لم أكن قد وُلدت بعد، وفى الحالة الثانية، كنت بين الحضور. لفحني ما قاله هذا فقفزتْ عيناي مسرعتين إلى لقطة مقربة على وجه الرئيس علّني أقرأ استنكارا أو اندهاشا أو حتى قليلا من التململ، لكنني لم ألتقط شيئا من هذا القبيل. كانت هذه أول مرة أحضر فيها اجتماعا من هذا النوع، وآخر مرة.
على الأقل كان عبد الناصر في ذلك المساء واضحا في فرض القواعد: "الجيش الآن لاعب أساسي في السياسة .. تذكّروا هذا جيدا في كل ما تقولون/تكتبون .. لا حديث عن محمد نجيب .. احترسوا في كل ما يمكن أن يمس السياسة الخارجية والاقتصادية". يحتوي هذا الوضوح -الذي ترجمه عمليّا في صورة رقيب مقيم في المؤسسات الصحفية- على نوع من "تحمل المسؤولية" في فرض القمع؛ إذ إنه لم يكن بعد قد اكتشف إلى أي مدى يمكن أن تذهب الرقابة الذاتية بضعاف النفوس والجبناء والمنافقين والمتسلقين ومنعدمي الموهبة/الكفاءة من الحناتير.
كان الانتقال من "فرض" القواعد إلى "افتراضها" لدى هؤلاء مسألة حتمية، لكن الأمر تطلّبَ أكثر من نصف قرن كي يتعرف خلفاء عبد الناصر على المدى الشاسع الذي يمكن أن تصل إليه الرقابة الذاتية، حتى صار ذلك المدى -الذي هو في الواقع لا حد له- كأنه "حق مكتسب" من وجهة نظر دولة عبد الناصر "الإعلامية"، تتوقعه دائما كي ترتفع ظاهريّا فوق مستوى "تحمل المسؤولية" في فرض القمع. يقترب هذا في معناه، رغم اختلاف المجال والسياق، من المعنى الذي ذهب إليه لسان حال المسؤولين في واشنطن عن فضيحة برنامج الترحيل غير العادي Extraordinary Rendition Program، الذي كانت مصر إحدى محطاته: "إذا تطلّبَ الأمر، دع الحثالة يقومون عنك بالأشياء القذرة".
بعد الثورة، ارتبط هذا الملمح طرديّا -مثلما ارتبطت أمور أخرى كثيرة- بمدى قوة الشارع. كلما زادت هذه زادت جهود النظام في ما يمكن أن نسميه "الاسترقاب الذاتي" الذي لا يريد حتى أن يتحمل مسؤولية المنع والقمع، وزادت من ثم قدرة من لديه بعض من ضمير واستقلالية ذهنية على المقاومة. الآن يستطيع القارئ أن يخمن لماذا احتجب برنامج "آخر كلام" عن الظهور أكثر من مرة ولماذا تعرض زملاء لنا بعد ذلك لما هو أسوأ.
في الأشهر الأولى لم يكن أمام النظام -وقد انفضحت الآن تجاعيد دولته "الإعلامية" على الأرصفة والطرقات- سوى ممارسة "الود" والاستيعاب، حتى مع أولئك "الإعلاميين" من داخل تلك الدولة. ومع انشقاق الصف الثوري لملمت الدولة سيطرتها على مخلفات مبارك "الإعلامية" (بالود أو بغيره)، بينما استغلت نشوء هدف مشترك مع طلاب الديمقراطية ودولة القانون، ومن لا يصلح معهم "الود"، في مواجهة أجندة إخوانية ضيقة الأفق، في المرحلة الثانية. لكنها، وهي تفعل هذا، كانت تبيّت النية وتعد العدة لما سيأتي في المرحلة الثالثة.
مثلما قسّم عبد الناصر ضباط الجيش في أعقاب 1952 إلى ثلاثة أقسام: "من معنا" و"من علينا" و"المستقلون ذهنيّا"، بقيت دولته "الإعلامية" عبر العقود التالية مخلصة لهذا التقسيم الذي امتد من وقتها ليشمل الفاعلين في الحياة العامة المدنية. لا مشكلة في التعامل مع النوعين الأولين. المشكلة الكبرى في النوع الثالث. وهذا في ما نرى أهم مفتاح لفهم ما حدث "إعلاميّا" -وسياسيّا بكل تأكيد- بعد الثالث من يوليو/تموز 2013. هذه لحظة الثأر التي كانت تنتظرها دولة "إعلامية" عجوز نُزع رداؤها على الملأ قبل أكثر من عامين وقد تهيّأ لها الآن ما يكفي من الرياح كي تحول حالة الذعر من عام الإخوان في الحكم -وقد كان لها بعض الدوافع المنطقية- إلى حالة من الهيستيريا في كل اتجاه، لا علاقة لها بأي منطق.
و"أردتم لمصر أن تتطهر؟ حسنا، خذوا الآن أقذر ما فيها". باسم الأمن القومي شُرشِح مفهوم الأمن القومي، من الآمر والمأمور معا، بلا رقيب ولا محاسب، وأُهينَ الوطن وشعبه باسم الوطن وباسم الشعب. سيتعدى الأمر إذا في النسخة الجديدة من دولة "الإعلام" كُفتة الخوابير الاستراتيجية في مصر إلى قمة العمى في التعامل مع القضية الفلسطينية، إلى قمة الانحطاط في الاستفراد باللاجئين السوريين، إلى قمة الانحلال في وصف شعب عربي آخر بالدعارة، إلى قمة الغباء في التعامل مع سفير دولة في نزاع وجودي مع مصر، من بين أمثلة أخرى كثيرة. سيدرك الآمر بعد قليل أن ذراعه ليست بعيدة عن مصدر النار، وأن الحناتير لا ضابط لها ولا دين في نهاية اليوم إلا الحظوة والدراهم.
ولأن للحظوة طاقة استيعابية وللدراهم نهاية لا بد من أن تتمكن الغيرة من الحناتير فتتفاقم المناقصة اشتعالا حتى يسمع الحيُّ كله وحتى يبلغ العرض حدّا بلا ثمن. لكنّ الحناتير في حدود ذواتهم أنواع، ومن الواضح أن آمرا لا يتمتع بحد أدنى من الذكاء والمهارة يلتقط عادة نوعا من الحناتير أقل منه في الذكاء والمهارة يتحولون بعد قليل من ذخر له إلى عبء عليه، وهذا من لطف الله في فطرته.
بكل ما له من أياد بيضاء في أمور أخرى، لا بد أن مؤسس قواعد الدولة "الإعلامية" في مصر، جمال عبد الناصر، يتلظى الآن في قبره وهو يرى دولته هذه وقد انحدرت من "قمع محسوب" إلى مسخرة بلا حدود. ولا بد أنه هو نفسه يدرك أن هذه النفخة الكبرى في جسدها المهلهل ليست في الواقع سوى سكَرات ما قبل النهاية.
على الأقل كان عبد الناصر في ذلك المساء واضحا في فرض القواعد: "الجيش الآن لاعب أساسي في السياسة .. تذكّروا هذا جيدا في كل ما تقولون/تكتبون .. لا حديث عن محمد نجيب .. احترسوا في كل ما يمكن أن يمس السياسة الخارجية والاقتصادية". يحتوي هذا الوضوح -الذي ترجمه عمليّا في صورة رقيب مقيم في المؤسسات الصحفية- على نوع من "تحمل المسؤولية" في فرض القمع؛ إذ إنه لم يكن بعد قد اكتشف إلى أي مدى يمكن أن تذهب الرقابة الذاتية بضعاف النفوس والجبناء والمنافقين والمتسلقين ومنعدمي الموهبة/الكفاءة من الحناتير.
كان الانتقال من "فرض" القواعد إلى "افتراضها" لدى هؤلاء مسألة حتمية، لكن الأمر تطلّبَ أكثر من نصف قرن كي يتعرف خلفاء عبد الناصر على المدى الشاسع الذي يمكن أن تصل إليه الرقابة الذاتية، حتى صار ذلك المدى -الذي هو في الواقع لا حد له- كأنه "حق مكتسب" من وجهة نظر دولة عبد الناصر "الإعلامية"، تتوقعه دائما كي ترتفع ظاهريّا فوق مستوى "تحمل المسؤولية" في فرض القمع. يقترب هذا في معناه، رغم اختلاف المجال والسياق، من المعنى الذي ذهب إليه لسان حال المسؤولين في واشنطن عن فضيحة برنامج الترحيل غير العادي Extraordinary Rendition Program، الذي كانت مصر إحدى محطاته: "إذا تطلّبَ الأمر، دع الحثالة يقومون عنك بالأشياء القذرة".
بعد الثورة، ارتبط هذا الملمح طرديّا -مثلما ارتبطت أمور أخرى كثيرة- بمدى قوة الشارع. كلما زادت هذه زادت جهود النظام في ما يمكن أن نسميه "الاسترقاب الذاتي" الذي لا يريد حتى أن يتحمل مسؤولية المنع والقمع، وزادت من ثم قدرة من لديه بعض من ضمير واستقلالية ذهنية على المقاومة. الآن يستطيع القارئ أن يخمن لماذا احتجب برنامج "آخر كلام" عن الظهور أكثر من مرة ولماذا تعرض زملاء لنا بعد ذلك لما هو أسوأ.
في الأشهر الأولى لم يكن أمام النظام -وقد انفضحت الآن تجاعيد دولته "الإعلامية" على الأرصفة والطرقات- سوى ممارسة "الود" والاستيعاب، حتى مع أولئك "الإعلاميين" من داخل تلك الدولة. ومع انشقاق الصف الثوري لملمت الدولة سيطرتها على مخلفات مبارك "الإعلامية" (بالود أو بغيره)، بينما استغلت نشوء هدف مشترك مع طلاب الديمقراطية ودولة القانون، ومن لا يصلح معهم "الود"، في مواجهة أجندة إخوانية ضيقة الأفق، في المرحلة الثانية. لكنها، وهي تفعل هذا، كانت تبيّت النية وتعد العدة لما سيأتي في المرحلة الثالثة.
مثلما قسّم عبد الناصر ضباط الجيش في أعقاب 1952 إلى ثلاثة أقسام: "من معنا" و"من علينا" و"المستقلون ذهنيّا"، بقيت دولته "الإعلامية" عبر العقود التالية مخلصة لهذا التقسيم الذي امتد من وقتها ليشمل الفاعلين في الحياة العامة المدنية. لا مشكلة في التعامل مع النوعين الأولين. المشكلة الكبرى في النوع الثالث. وهذا في ما نرى أهم مفتاح لفهم ما حدث "إعلاميّا" -وسياسيّا بكل تأكيد- بعد الثالث من يوليو/تموز 2013. هذه لحظة الثأر التي كانت تنتظرها دولة "إعلامية" عجوز نُزع رداؤها على الملأ قبل أكثر من عامين وقد تهيّأ لها الآن ما يكفي من الرياح كي تحول حالة الذعر من عام الإخوان في الحكم -وقد كان لها بعض الدوافع المنطقية- إلى حالة من الهيستيريا في كل اتجاه، لا علاقة لها بأي منطق.
و"أردتم لمصر أن تتطهر؟ حسنا، خذوا الآن أقذر ما فيها". باسم الأمن القومي شُرشِح مفهوم الأمن القومي، من الآمر والمأمور معا، بلا رقيب ولا محاسب، وأُهينَ الوطن وشعبه باسم الوطن وباسم الشعب. سيتعدى الأمر إذا في النسخة الجديدة من دولة "الإعلام" كُفتة الخوابير الاستراتيجية في مصر إلى قمة العمى في التعامل مع القضية الفلسطينية، إلى قمة الانحطاط في الاستفراد باللاجئين السوريين، إلى قمة الانحلال في وصف شعب عربي آخر بالدعارة، إلى قمة الغباء في التعامل مع سفير دولة في نزاع وجودي مع مصر، من بين أمثلة أخرى كثيرة. سيدرك الآمر بعد قليل أن ذراعه ليست بعيدة عن مصدر النار، وأن الحناتير لا ضابط لها ولا دين في نهاية اليوم إلا الحظوة والدراهم.
ولأن للحظوة طاقة استيعابية وللدراهم نهاية لا بد من أن تتمكن الغيرة من الحناتير فتتفاقم المناقصة اشتعالا حتى يسمع الحيُّ كله وحتى يبلغ العرض حدّا بلا ثمن. لكنّ الحناتير في حدود ذواتهم أنواع، ومن الواضح أن آمرا لا يتمتع بحد أدنى من الذكاء والمهارة يلتقط عادة نوعا من الحناتير أقل منه في الذكاء والمهارة يتحولون بعد قليل من ذخر له إلى عبء عليه، وهذا من لطف الله في فطرته.
بكل ما له من أياد بيضاء في أمور أخرى، لا بد أن مؤسس قواعد الدولة "الإعلامية" في مصر، جمال عبد الناصر، يتلظى الآن في قبره وهو يرى دولته هذه وقد انحدرت من "قمع محسوب" إلى مسخرة بلا حدود. ولا بد أنه هو نفسه يدرك أن هذه النفخة الكبرى في جسدها المهلهل ليست في الواقع سوى سكَرات ما قبل النهاية.
مثلما زايد "صحفيون" على جمال عبد الناصر عندما جمعهم كي يملي عليهم القواعد الجديدة لدولته "الإعلامية"، مساء 7 مارس/آذار 1954، زايد خلفاؤهم من العينة نفسها على الرئيس الجديد، عبد الفتاح السيسي، عندما جمعهم في أول لقاء له بهم في قصر الاتحادية، صباح 9 أغسطس/آب 2014. في الحالة الأولى، اقترح بعضهم من تلقاء أنفسهم مزيدا من القيود، وفى الحالة الثانية، اقترح أحدهم تخصيص يوم 14 أغسطس/آب من كل عام (يوم مذبحة رابعة) عيدا قوميّا للبلاد. في الحالة الأولى، لم أكن قد وُلدت بعد، وفى الحالة الثانية، كنت بين الحضور. لفحني ما قاله هذا فقفزتْ عيناي مسرعتين إلى لقطة مقربة على وجه الرئيس علّني أقرأ استنكارا أو اندهاشا أو حتى قليلا من التململ، لكنني لم ألتقط شيئا من هذا القبيل. كانت هذه أول مرة أحضر فيها اجتماعا من هذا النوع، وآخر مرة.
على الأقل كان عبد الناصر في ذلك المساء واضحا في فرض القواعد: "الجيش الآن لاعب أساسي في السياسة .. تذكّروا هذا جيدا في كل ما تقولون/تكتبون .. لا حديث عن محمد نجيب .. احترسوا في كل ما يمكن أن يمس السياسة الخارجية والاقتصادية". يحتوي هذا الوضوح -الذي ترجمه عمليّا في صورة رقيب مقيم في المؤسسات الصحفية- على نوع من "تحمل المسؤولية" في فرض القمع؛ إذ إنه لم يكن بعد قد اكتشف إلى أي مدى يمكن أن تذهب الرقابة الذاتية بضعاف النفوس والجبناء والمنافقين والمتسلقين ومنعدمي الموهبة/الكفاءة من الحناتير.
كان الانتقال من "فرض" القواعد إلى "افتراضها" لدى هؤلاء مسألة حتمية، لكن الأمر تطلّبَ أكثر من نصف قرن كي يتعرف خلفاء عبد الناصر على المدى الشاسع الذي يمكن أن تصل إليه الرقابة الذاتية، حتى صار ذلك المدى -الذي هو في الواقع لا حد له- كأنه "حق مكتسب" من وجهة نظر دولة عبد الناصر "الإعلامية"، تتوقعه دائما كي ترتفع ظاهريّا فوق مستوى "تحمل المسؤولية" في فرض القمع. يقترب هذا في معناه، رغم اختلاف المجال والسياق، من المعنى الذي ذهب إليه لسان حال المسؤولين في واشنطن عن فضيحة برنامج الترحيل غير العادي Extraordinary Rendition Program، الذي كانت مصر إحدى محطاته: "إذا تطلّبَ الأمر، دع الحثالة يقومون عنك بالأشياء القذرة".
بعد الثورة، ارتبط هذا الملمح طرديّا -مثلما ارتبطت أمور أخرى كثيرة- بمدى قوة الشارع. كلما زادت هذه زادت جهود النظام في ما يمكن أن نسميه "الاسترقاب الذاتي" الذي لا يريد حتى أن يتحمل مسؤولية المنع والقمع، وزادت من ثم قدرة من لديه بعض من ضمير واستقلالية ذهنية على المقاومة. الآن يستطيع القارئ أن يخمن لماذا احتجب برنامج "آخر كلام" عن الظهور أكثر من مرة ولماذا تعرض زملاء لنا بعد ذلك لما هو أسوأ.
في الأشهر الأولى لم يكن أمام النظام -وقد انفضحت الآن تجاعيد دولته "الإعلامية" على الأرصفة والطرقات- سوى ممارسة "الود" والاستيعاب، حتى مع أولئك "الإعلاميين" من داخل تلك الدولة. ومع انشقاق الصف الثوري لملمت الدولة سيطرتها على مخلفات مبارك "الإعلامية" (بالود أو بغيره)، بينما استغلت نشوء هدف مشترك مع طلاب الديمقراطية ودولة القانون، ومن لا يصلح معهم "الود"، في مواجهة أجندة إخوانية ضيقة الأفق، في المرحلة الثانية. لكنها، وهي تفعل هذا، كانت تبيّت النية وتعد العدة لما سيأتي في المرحلة الثالثة.
مثلما قسّم عبد الناصر ضباط الجيش في أعقاب 1952 إلى ثلاثة أقسام: "من معنا" و"من علينا" و"المستقلون ذهنيّا"، بقيت دولته "الإعلامية" عبر العقود التالية مخلصة لهذا التقسيم الذي امتد من وقتها ليشمل الفاعلين في الحياة العامة المدنية. لا مشكلة في التعامل مع النوعين الأولين. المشكلة الكبرى في النوع الثالث. وهذا في ما نرى أهم مفتاح لفهم ما حدث "إعلاميّا" -وسياسيّا بكل تأكيد- بعد الثالث من يوليو/تموز 2013. هذه لحظة الثأر التي كانت تنتظرها دولة "إعلامية" عجوز نُزع رداؤها على الملأ قبل أكثر من عامين وقد تهيّأ لها الآن ما يكفي من الرياح كي تحول حالة الذعر من عام الإخوان في الحكم -وقد كان لها بعض الدوافع المنطقية- إلى حالة من الهيستيريا في كل اتجاه، لا علاقة لها بأي منطق.
و"أردتم لمصر أن تتطهر؟ حسنا، خذوا الآن أقذر ما فيها". باسم الأمن القومي شُرشِح مفهوم الأمن القومي، من الآمر والمأمور معا، بلا رقيب ولا محاسب، وأُهينَ الوطن وشعبه باسم الوطن وباسم الشعب. سيتعدى الأمر إذا في النسخة الجديدة من دولة "الإعلام" كُفتة الخوابير الاستراتيجية في مصر إلى قمة العمى في التعامل مع القضية الفلسطينية، إلى قمة الانحطاط في الاستفراد باللاجئين السوريين، إلى قمة الانحلال في وصف شعب عربي آخر بالدعارة، إلى قمة الغباء في التعامل مع سفير دولة في نزاع وجودي مع مصر، من بين أمثلة أخرى كثيرة. سيدرك الآمر بعد قليل أن ذراعه ليست بعيدة عن مصدر النار، وأن الحناتير لا ضابط لها ولا دين في نهاية اليوم إلا الحظوة والدراهم.
ولأن للحظوة طاقة استيعابية وللدراهم نهاية لا بد من أن تتمكن الغيرة من الحناتير فتتفاقم المناقصة اشتعالا حتى يسمع الحيُّ كله وحتى يبلغ العرض حدّا بلا ثمن. لكنّ الحناتير في حدود ذواتهم أنواع، ومن الواضح أن آمرا لا يتمتع بحد أدنى من الذكاء والمهارة يلتقط عادة نوعا من الحناتير أقل منه في الذكاء والمهارة يتحولون بعد قليل من ذخر له إلى عبء عليه، وهذا من لطف الله في فطرته.
بكل ما له من أياد بيضاء في أمور أخرى، لا بد أن مؤسس قواعد الدولة "الإعلامية" في مصر، جمال عبد الناصر، يتلظى الآن في قبره وهو يرى دولته هذه وقد انحدرت من "قمع محسوب" إلى مسخرة بلا حدود. ولا بد أنه هو نفسه يدرك أن هذه النفخة الكبرى في جسدها المهلهل ليست في الواقع سوى سكَرات ما قبل النهاية.
الشروق..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق