الجمعة، 18 يوليو 2014

إعلان الخلافة .. في الميزان الشرعي

إعلان الخلافة ..

في الميزان الشرعي

للشيخ أبو المنذر الشنقيطي -حفظه الله


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين .
ثار الجدل في الأيام الماضية حول مشروعية الخلافة التي أعلنتها الدولة الإسلامية في العراق والشام بين مؤيد ومعارض .
وقد رأيت أن أتناول الموضوع من زاوية شرعية بحتة , بعيدا عن التحيز لهذا الطرف أو ذالك , فأقول مستعينا بالله تعالى راجيا منه الصواب والسداد والإخلاص :
البعض يتصور أن الإمامة الشرعية يمكن أن توجد دون وجود الخلافة ..وأنهما أمران متغايران ..!
وهذا خطأ ..!
فالإمارة الشرعية هي نفسها الخلافة الشرعية لا تغاير بينهما في الشرع ..
وحيثما وجد الإمام الشرعي فهو الخليفة سواء سماه الناس خليفة أو أميرا .
والخطأ في ذالك راجع إلى عدم التفريق بين الحقيقة الشرعية والحقيقة العرفية في هذه المسألة ..
فلا بد أولا من تصور الخلافة في مفهوم الشرع تصورا صحيحا حتى نحكم عليها حكما صحيحا لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ..
ولا بد أيضا من التمييز بين المفهوم الشرعي للخلافة والمفهوم السياسي للخلافة ..
لأن الخلافة قد تكون موجودة من الناحية الشرعية ومعدومة من الناحية السياسية ..
ونحن حينما نتكلم عن ضرورة عودة الخلافة فلا يعني ذالك إقرارا منا بغيابها من الناحية الشرعية ..
بل الذي ندين الله به هو أن حكمها موجود منذ قيام الحكم الإسلامي في أفغانستان على يد حكومة طالبان .
لكن الخلافة التي مازالت غائبة هي الخلافة في المفهوم السياسي .
ولإيضاح هذا الأمر نقول :
الحقيقة الشرعية للخلافة هي " مباعية رجل من المسلمين على الإمامة العظمى" ...
حتى ولو لم يكن له لحظة البيعة أو بعد البيعة نفوذ وسلطان على بلاد المسلمين ما دام لم يُسبق ببيعة شرعية .
أما الحقيقة العرفية للخلافة "المفهوم السياسي" فهي خضوع بلاد المسلمين كلها أو جلها لإمام المسلمين وديانتها له بالسمع والطاعة مع بسط نفوذه عليها .
والأحكام الشرعية لا ترتبط بالحقائق العرفية وإنما بالحقائق الشرعية .
أي أن حكم الخليفة لا يعطى إلا لأول أمير بويع بيعة الشرعية, وإن لم يدّع أنه خليفة لأن تلك البيعة هي الخلافة في اعتبار الحقيقة الشرعية..
وهذا التصور لمفهوم الخلافة وحقيقتها لم آت به من كيسي بل هو نتيجة حتمية لمدلول النصوص الشرعية التي منعت تعدد الإمامة وأعطت الشرعية لأول من بويع له ..
فليس من السائغ الشرعا أن يبايع المسلمون في أي أرض من بلاد الإسلام إماما شرعيا وتثبت له البيعة والإمامة , ثم يأتي رجل بعد ذالك ويدعي الأمر لنفسه ويقول : أنت تمت مبايعتك على أنك أمير الدولة فقط وأنا أبايع على أني خليفة للمسلمين !!
هذا المنطق القائم على أساس التفريق بين الإمامة والخلافة ليس له أي أساس شرعي , لأنه يعتمد على الحقيقة العرفية ويلغي الحقيقة الشرعية ..
الخلافة هي ولاية أمر المسلمين ’ وكل من ولي أمر المسلمين فهو في مفهوم الشرع خليفة ..
بقي فقط أن نحدد من هو الأولى بهذا المنصب من غيره إن كان ثمة أئمة متعددون .
كما أنه لا فرق من الناحية الفقهية المحضة بين الأمير العام في قطر من أقطار المسلمين"إذا لم يكن مسبوقا ببيعة" ,وبين منصب خليفة المسلمين .
فكل ما يجب للإمام من الحقوق يجب لهما ..
وكل ما يجب عليه يجب عليهما ..
الفرق بينهما فقط هو أن الأول لم يتمكن من بسط نفوذه عل جل بلاد الإسلام أو كلها ..
والثاني تمكن من بسط نفوذه على كل بلاد الإسلام أوجلها ..
وعدم التمكن من بسط النفوذ لا يؤثر في شرعية الإمام لأن التمكن ليس شرطا في الإمامة ولأن الإمام ينال شرعيته بالبيعة لا بالتمكن .
وبهذا المعنى فإنه لا فرق من الناحية الشرعية بين الخليفة العثماني والخليفة الطالباني ..
***
ومتى أمكن توحد المسلمين تحت أمير واحد فلا يجوز لهم التفرق في إمارات مختلفة ..
وإن تفرقوا فالشرع لا يقرهم على ذالك ..
وفي هذه الحالة يكون الإمام الشرعي هو أول امير شرعي بويع له ..
لقوله صلى الله عليه وسلم : "فوا ببيعة الأول فالأول"
وأما بقية الإمارات فلا عبرة لها لأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا .
نسقط هذا الامر على واقعنا فنقول :
إذا كان توحد المسلمين في هذه الأيام تحت امير واحد غير ممكن من الناحية العملية فيشرع لكل ناحية أمكن اتصال أهلها تولية امير عليهم
فلا حرج في إقامة إمارة إسلامية في الصومال او في أزواد أو في ليبيا أو في الجزيرة او في العراق إن تعذر الاجتماع تحت أمير واحد .
وإن كان توحد المسلمين في هذه الأيام تحت سلطة امير واحد امرا ممكنا فلا يجوز تعدد الإمارات ’ وإنما يجب على سائر الإمارات أن تخضع لأول من بويع له من الأمراء وهو في هذه الحالة أمير المؤمنين الملا عمر حفظه الله .
من هو أمير المؤمنين إذا ؟
هو أول أمير بايعته جماعة المسلمين بيعة شرعية ..
سواء سميناه خليفة المسلمين أو رئيس الدولة ..
سواء ادعى لنفسه حق الخلافة أو لم يدع , فهذا الحق ثابت له بمجرد مبايعته ..
وإنما اعتبرنا الخلافة قائمة من الناحية الشرعية مع أنها غائبة من الناحية السياسية
لأن القاعدة الفقهية تقول : الموجود شرعا كالموجود حسا .
ومعنى القاعدة : أن ما حكم الشرع بوجوده له من القوة ما يُلزِم باعتباره وكأنه موجود وإن كان هو في الواقع معدوما .
لأن الاعتداد في الأمور الشرعية إنما هو بالشرع لا بالحس.
فكل ما حكم الشرع بوجوده وجب اعتبار وجوده ، ولو لم يكن موجودًا حِسًّا.
ومن أدلة هذه القاعدة :
1- عن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" رواه البخاري .
ومعلوم أن الصائم لا يسمى مفطرا حتى يتناول شيئا من المفطرات .
لكن لما انقضى وقت الصيام الشرعي سماه النبي صلى الله عليه وسلم مفطرا وإن لم يتناول شيئا من المفطرات لأن الوقت وقت إفطار ’ والصوم في هذا الوقت غير مشروع .
وبعض أهل العلم تأول الحديث على معان أخرى .
2- عن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه .
فدل هذا الحديث على أن الحكم الشرعي لا يتخلف بتخلف البينة الشرعية .
وفي هذا إثبات للبينة الشرعية وإن كانت معدومة في الواقع .
ومن تطبيقات هذه القاعدة :
- الإمام الراتب إذا صلَّى وحده فكأنما صلَّى في الجماعة؛ لأنه إنما قصد المسجد ليؤم بالجماعة، فإذا لم يحضر المسجد غيره فهو كالجماعة ويحصل له فضل الجماعة .
ولا تعاد الجماعة بعده في مسجده؛"في قول المالكية" لأن صلاته وحده بمنزلة الجماعة في تقدير الشرع، والموجود شرعًا كالموجود حقيقة .
- المرأة إذا طلقها زوجها وحرمت عليه ثم أنكر طلاقها وحكم القاضي بعدم وجود الطلاق لانعدام الشهود , يحرم عليها تمكين الزوج من الاستمتاع بها .
إذن فالخلافة وحقوقها وما يترتب عليها من أحكام تثبت بمجرد البيعة .
والخلافة كانت موجودة لأنها وجدت مع أول بيعة شرعية لإمام شرعي ..
وهو أمير المؤمنين الملاعمر حفظه الله ..
أما الإعلان عن الخلافة فهو خطوة سياسية لا تغير شيئا في الأحكام الفقهية , لأن الإحكام مرتبطة بالبيعة لا بالإعلان ..
فتسري أحكام الخلافة بمجرد وجود البيعة وإن لم يوجد الإعلان .
فالنكاح مثلا تترتب أحكامه على مجرد حصول العقد وشروطه سواء وجد الإعلان عن النكاح أم لم يوجد ..وإن كان الإعلان نفسه مطلوبا .
ثم إن هذا الإعلان عن الخلافة إن كان متأخرا عن البيعة فقد يكون موافقا للأحكام الفقهية وقد يكون مخالفا لها ..
فيكون موافقا لها إذا كان الذي أعلن عن خلافته هو الأمير الوحيد المبايع من المسلمين , أو هو أول من بويع له من الأمراء ..
ويكون مخالفا لها إذا كان الذي أعلن له بالخلافة غير الأمير الأول المبايع, إذ لا يجوز إعلان الخلافة إلا لأول من بايعه المسلمون لقول النبي صلى الله عليه وسلم "فوا ببيعة الأول فالاول" رواه مسلم .
فالمسبوق بالبيعة لا يجوز إعلان الخلافة له لان منصبها غير شاغر ..
وهو في هذه الحالة كمن يطلب الزواج من امرأة متزوجة !!
إن أول أمير شرعي بويع له بعد سقوط الخلافة الإسلامية بيعة شرعية صحيحة على الكتاب والسنة هو أمير المؤمنين الملاعمر .
وهذه البيعة الشرعية الصحيحة غير مسبوقة ببيعة اخرى .
فتثبت له بها أحكام الخلافة حتى وإن لم يعلن عن الخلافة لأن الخلافة قرينة البيعة ..
والبيعة التي بويع بها أمير المؤمنين الملا عمر ما تزال سارية ونافذة ولا يقدح فيها استيلاء الكفار على معظم البلاد في أفغانستان لأن التمكين ليس شرطا لوجود البيعة وزواله ليس مانعا من وجودها .
ولهذا فكل الإمارات التي نشأت بعد طالبان ملزمة شرعا بالتبعية لها
لقول النبي صلى الله عليه وسلم "فوا ببيعة الأول فالأول"
وكل من ادعى لنفسه هذا الامر دونها فقد نازع الأمر أهله .
نعم .. إن تشاور المسلمون وسائر الأمراء مع أمير المؤمنين الملا عمر ورضي هو أن يتولى هذا الأمر غيره فلا حرج في ذالك .
أما أن يهجم على الأمر من غير مشورته فهذا منازعة في الأمر .
إن القول بمشروعية تعدد الإمارات للضرورة لا تسلب الامير الأول حقه في الاسبقية , فإذا زالت الضرورة المبيحة لتعدد الإمارات عاد الحق في الأمارة لأول من بويع له ولم تجز منازعته .
إن قولنا بمشروعية بيعة الأمراء بيعة مستقلة في العراق وفي ليبيا وفي غيرها من بلاد الإسلام هو بناء على مشروعية تعدد الإمامة لعدم القدرة على الاجتماع تحت راية إمام واحد .
فإذا زال هذا العذر وأمكن الاجتماع تعين الرجوع إلى الأصل وهو "عدم مشروعية تعدد الإمامة " وإذا عدنا إلى هذا الأصل تعين أن نعود إلى الأصل المقارن له وهو "الالتزام ببيعة الأول" .
نحن الآن بين احتمالين كما قلت سابقا :
إما أن نقول بمشروعية تعدد الإمامة لعذر عدم إمكانية الاجتماع , وعليه يشرع لكل أهل بلد مبايعة من يمتد إليهم سلطانه من الأئمة ..أو الأقرب ولا يجوز تأثيم شخص لعدم مبايعته أميرا بعينه .
وإما أن نقول بإمكان الاجتماع فيبطل التعدد وتجب مبايعة الإمام الأول وهو أمير المؤمنين الملا عمر .
قد يعترض البعض بعدم تحقق القرشية بالنسبة لأمير المؤمنين الملاعمر ..
وبغض النظر عن كلام أهل العلم في مسألة القرشية فنقول : أن هذا الشرط كان متعذرا بالنسبة لطالبان ومنها نشأت الإمارة الإسلامية فبايعوا أمثلهم وأجمعهم لشروط الإمامة وانعقدت البيعة على ذالك .
وغيرهم من المسلمين تبع لهم .
هنالك أخطاء شرعية ارتكبها الإخوة في الدولة الإسلامية عند إعلانهم الخلافة منها :
1- إعلان الخلافة للشيخ أبي بكر البغدادي مع انه مسبوق ببيعة الملاعمر .
فإذا كان الشيخ أبو بكر البغدادي مبايعا في الأصل للشيخ الظواهري , فلا يحل له قطعا ان يدعي لنفسه الخلافة ..
وإن لم تكن له بيعة في عنقه فبيعته مسبوقة ببيعة الملا عمر فلا يسعه إلا الدخول فيها .
2- المقصود من الخلافة هو اجتماع الكلمة وحسم الخلاف وينبغي مراعاة ما يحقق هذا المقصد عند إعلان الخلافة ..
لكن اختيار الشيخ ابي بكر البغدادي جاء في ظرف نزاع كبير بين المجاهدين ,وليس من مقتضيات المشورة التي أمر الله بها أن تستبد إحدى الطائفتين المتنازعتين بهذا الامر دون الأخرى مع إمكان المشورة.
فأصبح الشكل الظاهري للإعلان وكأنه جاء بقصد إقصاء جماعة بعينها وإخضاعها لجماعة هي في نزاع معها ..
وهذا يزيد الخلاف ويعمقه ..
وزاد من الطين بلة أن الإخوة في الدولة الإسلامية وهم أصحاب المبادرة اختاروا شخصا منهم , ولو وقع اختيارهم على شخص من غير جماعتهم لكان ذالك أدعى وأقرب للوفاق .
3- عندما قامت الدولة الإسلامية بالإعلان عن الخلافة تصرفت وكأنه لا توجد إمارة شرعية في بلاد المسلمين !
فلم تستشر إمارة طالبان ولم تنسق معها لماذا !!
هل لأنها لا تعتبرها إمارة شرعية ؟
وإذا كانت تعتبرها إمارة شرعية فبأي منطق شرعي تلغي شرعيتها وتقول لأتباعها بايعوني ؟
إذا كان المقصود هو وحدة المسلمين في كيان سياسي واحد فلماذا لم تقم الدولة بحل نفسها والإعلان عن التبعية لطالبان في إطار خلافة إسلامية..؟
ما هي الآلية الفقهية التي تعطي للدولة الإسلامية الحق في حل سائر الإمارات التي سبقتها ؟
4- الإخوة في الدولة الإسلامية أخطأوا بدعوتهم إلى إلغاء بيعات سبقتهم وتحريضهم المجاهدين على نزع أيديهم من طاعة قادتهم ..
وقد يحدث بسبب هذه الدعوى فتنة عظيمة لو تابعهم البعض وخالفهم البعض .
أيها المسلمون :
إن البيعة دين نتعبد به لله عز وجل وعهد وميثاق غليظ ..
لكن بعض المسلمين اليوم يتلاعب بها فتراه يبايع هذه الجماعة , وإذا لم تعجبه انصرف إلى جماعة أخرى فبايعها ثم لا تعجبه فيبحث عن ثالثة , وهكذا يظل يتقلب بين البيعة والنكث !
حتى فقدت البيعة منزلتها ولم يعد لها من رادع في نفوس الناس أو مانع من مخالفة الأمراء أو الخروج عليهم ..
ألا فتقوا الله عز وجل واثبتوا على بيعتكم ولا تلعبوا بدينكم .
أخيرا أقول :
هذا ليس موقفا سياسيا وإنما هو بيان لحكم شرعي .
ونحن لا نحابي أحدا على حساب شرع الله عز وجل بل نقول ما علمناه واعتقدناه .
فإن كان صوابا فذالك توفيق من الله عز وجل , وإن كان خطئا فهو مني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان .
والله أعلم
والحمد لله رب العالمين .
أبوالمنذر الشنقيطي
2014/07/15

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق