الجمعة، 11 نوفمبر 2016

السلفية المنهجية: أصولها وتطبيقاتها


السلفية المنهجية: أصولها وتطبيقاتها


د.صبري محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم


تمهيد(ملخص الدراسة): تتناول هذه الدراسة أصول السلفية المنهجية وتطبيقات بعض هذه الأصول، حيث تبين أن أصول السلفية المنهجية تتمثل في: أولا: الجمع بين السلفية كمنهج ومذهب : وهى هنا تنطلق من اعتبار أن السلفية كمنهج ، هي جزء من المنهج الاسلامى في المعرفة وأصول الفقه، يحدها كما يحد الكل الجزء، وليست منهج قائم بذاته و مستقل عنه، وهى طبقا لهذا المعنى تتصف بالوحدة والثبات، أما السلفية كمذهب، فهي محصله تطبيق هذا المنهج ” السلفي” في أزمنه وأمكنه متعددة ، مما يثمر مذاهب ” سلفيه “متعددة ومتغيره ، وبالتالي لا يجوز أن نقصر صفه “السلفية “على مذهب معين، جاء محصله تطبيق هذا المنهج في زمان ومكان معين، دون غيره من المذاهب التي جاءت محصله تطبيق ذات المنهج في أزمنه وأمكنه أخرى،ويترتب على كون المذاهب السلفية هي محصله تطبيق المنهج السلفي أن الأصل في السلفية هو كونها منهج ، اما كونها مذهب فهو فرع. ثانيا: الشمول الشرعي لمصطلح السلفية والمصطلحات المتصلة ، اى انه إذا كان من الجائز أن نطلق صفه “السلفية” على مذهب معين، إلا انه لا يصح أن نقصر صفه ” السلفية ” عليه، لان هذا يعنى إلغاء عموم دعوه القران والسنة لجميع المسلمين للاقتداء بالسلف الصالح، وإنكار لقابليه المنهج”السلفي” للتطبيق على أمكنه وازمنه متعددة ،وبالتالي إنتاج مذهب”سلفيه” متعددة.وأن لمصطلح “أهل السنة ” دلالات متعددة خاصة وعامه ،وبالتالي فان وصف مذهب معين بهذا المصطلح على وجه الخصوص، لا يعنى أن هذا المصطلح مقصور عليه، لذا يجوز ان نصف به غيره من المذاهب على وجه العموم، مادامت هذه المذاهب مقيده بضوابط المصطلح الشرعية،وقد قال بمذهب الشمول الشرعي عدد من ائمه المذهب الحنبلى أشهرهم الإمام ابن تيميه. ويترتب على الالتزام بالشمول الشرعي لمصطلح السلفية والمصطلحات المتصله ،رفض مذهب “التضييق المذهبي ” الذي مضمونه قصر صفه ” السلفية ” علي مذهب معين ، و قصر دلاله مصطلح ” أهل السنة ” ايضا على مذهب معين. وهذا المذهب يستند إلى التعصب المذهبي الذي ذمه علماء أهل السنة ، ثالثا:الالتزام بفهم السلف في الأصول واتخاذ اجتهادهم نقطه بداية في الفروع: فهي تقوم في مجال أصول الدين ،على الالتزام بفهم السلف الصالح للنصوص اليقينية القطعية ، و إلغاء الإضافات التي طرأت علي فهم السلف لهذه الأصول اى البدع ، أما في مجال فروع الدين فإنها تقوم على الاقتداء بالسلف الصالح في اجتهادهم ،اى وضع قواعد فرعيه لتنظيم مجتمعاتهم ،استجابة للمشاكل التي عاشوها، وذلك بالاجتهاد في وضع قواعد فرعيه لتنظيم مجتمعاتنا ، استجابة للمشاكل التي نعيشها ، مع اعتبار اجتهاداتهم نقطه بداية لاجتهادنا – وليس نقطه نهاية له – رابعا تقرير أن الدلالة الاصليه لمصطلح “السلفية ” تتناقض مع التقليد وتتسق مع الاجتهاد، ثم تتناول الدراسة تطبيقات هذا الأصل على مفاهيم قواعد: التجديد وحجية قول الصحابي وشمول القران والبدعة، لتخلص إلى أن الفهم الصحيح لهذا المفاهيم والقواعد، يتناقض مع التقليد ، ويتسق مع الاجتهاد ومع الدلالة الاصليه لمصطلح” السلفية”. خامسا: تقرير أن السلفية اقتداء بحقبه تاريخيه مباركه، في كل زمان ومكان : مع وجوب التمييز – وليس الفصل – بين السلف الصالح ، الذين شكلوا حقبه تاريخيه مباركه ، والسلفية كمنهج يتضمن اقتداء المسلمين بالسلف الصالح في كل زمان ومكان،لان الخلط بينهما يؤدى إما إلى المساواة بين السلف الصالح وغيرهم من المسلمين في المرتبة، أو اعتبار السلفية مرحله تاريخيه ونفى كونها جزء من منهج صالح لكل زمان ومكان. سادسا: تقريران المنهج السلفي – كجزء من المنهج الاسلامى- يقوم على التلازم بين الظاهر والباطن،والذي أشارت إليه الكثير من النصوص ،و قرره علماء اهل السنه ، ويترتب على تقرير هذا الاصل، رفض الاهتمام بالمظهر” الظاهر” مع إهمال المخبر”الباطن”، والذي يأخذ أشكال متعددة منها: ا/التركيز على بعض القضايا – اغلبها متعلقة بالمظهر- بما يوحى بوجوبها أو حرمتها ، بينما حكمها لا يتجاوز الاستحباب- أو الكراه ومثال له مسالة الزى، ب/القول بالوجوب أو الحرمة دون اعتبار للكيفية المتضمنة للنية ،ومثال له مسالتى إعفاء اللحية وإسبال الثوب. سابعا: سادسا: تقرير أن العلاقة بين الدعوة والجهاد- كفرضين شرعيين- علاقة تكامل وليست علاقة تناقض. و يترتب على هذا الأصل وجوب الالتزام بالسياسة الشرعية ،التى تجعل الدين هو الأصل – والسياسة هي الفرع ، والتي يترتب عليها ان النشاط السياسى يجب ان يلتزم بجمله من الضوابط ، التي تهدف إلى تحقيق اكبر قدر ممكن من الاتساق- وليس التطابق- مع الشرع ، ومن هذه الضوابط : أولا: تقرير علماء أهل السنه ان الامامه”بمعنى السلطة” من فروع الدين، وليست من أصوله كما في المذهب الشيعي ، ثانيا : تقرير علماء أهل السنة أن “السياسة الشرعية” هي ما كل يحقق مصلحه الجماعة ولو لم يرد فيه نص، فهى اتساق وليس تطابق مع النص.
تعريف المفهوم وأدلته : السلفية نسبه إلى السلف. والسلف لغة الماضي و كل ما تقدم وسبق ، قال تعالى (عفي الله عما سلف ) (المائدة: 95 )، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة ( سلف ، السين واللام والفاء أصل يدل على تقدم وسبق، من ذلك السلف الذين مضوا، والقوم السلاف : المتقدمون.) وقال الراغب الأصفهاني في المفردات( السلف : المتقدم ، قال الله تعالى: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (الزخرف:56) أي معتبراً متقدماً… ولفلان سلف كريم: أي آباء متقدمون. )… أما السلف اصطلاحا فهم الصحابة والتابعون وتابعوهم من الأئمة الذين يقتدي بهم. يقول القلقشانى( السلف الصالح، وهو الصدر الأول الراسخون في العلم، المهتدون بهدي النبي “صلى الله عليه وسلم”، الحافظون لسنته، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، وانتخبهم لإقامة دينه، ورضيهم أئمة للأمة، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، وأفرغوا في نصح الأمة ونفعهم، وبذلوا في مرضاة الله أنفسهم). وقد دعت النصوص جميع المسلمين إلى الاقتداء بالسلف الصالح: قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه) (التوبة: 100).وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم)(خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)( رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم).
أصول السلفية المنهجية:
أولا: الجمع بين المنهج والمذهب: المنهج لغة الطريق، أما في الاصطلاح الشرعي فهو مجموعه القواعد التي مصدرها الوحي، والتي تحدد حركه الإنسان ، وقد أشار القران إلى المنهج كما في قوله تعالى ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا )، كما أشارت له السنة كما قوله صلى الله عليه وسلم (….ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) . وفى الاصطلاح المعرفي (منهج المعرفة) هو طريقه أو أسلوب حل المشاكل المتجددة ، وهو يتصف بالوحدة والثبات، أما المنهج في اصطلاح علماء أصول الفقه (المنهج الاصولى) فهو البحث في أساليب وطرق تحديد الأصول (قواعد السلوك العامة ، المجردة ،الملزمة ، التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة ) للفروع (قواعد السلوك التي مصدرها النصوص الظنية الورود ). والسلفية تجمع بين المنهج والمذهب . وهى كمنهج قائمه معرفيا ( في مجال منهج المعرفة الاسلامى)على الانطلاق من فهم السلف الصالح، لمجموعه القواعد التي تحدد نمط معرفه المشاكل التي يواجهها الإنسان (المسلم)، ونمط الفكر اللازم لحلها، وأسلوب العمل اللازم لتنفيذ هذه الحلول في الواقع، والتي مصدرها الوحي ، فهي جزء من منهج المعرفة الاسلامى يحده كما يحد الكل الجزء، وليست منهج معرفه قائم بذاته و مستقل عنه. كما أنها قائمه أصوليا (في مجال منهج أصول الفقه) على الانطلاق من أساليب وطرق تحديد الأصول للفروع ، التي وضعها السلف الصالح ، فهي جزء من منهج أصول الفقه الاسلامى، يجده كما يحد الكل الجزء، وليست منهج اصولى قائم بذاته ومستقل عنه.أما المذهب لغة فاسم لمكان الذهاب. أما في الاصطلاح الشرعي فهو:” حقيقة عرفية تطلق على الأحكام التي استخرجها إمام مجتهدٌ أو خرجت على قواعده وأصوله من قِبَلِ أصحابه المجتهدين التابعين لأصوله في التخريج”. أما في الاصطلاح المعرفي فهو: مجموعه من الحلول للمشاكل التي يطرحها واقع معين زمانا ومكانا ..أما السلفية كمذهب فهي محصله تطبيق المنهج “السلفي” في زمان ومكان معينين. وهنا يتضح لنا خطا من يقر بالسلفية كمنهج وينكرها كمذهب، لأنه لا وجود لمنهج بدون مذهب ،فالأخير هو تطبيق للأول ، وهذا يعنى أن الأصل فيها أنها منهج اما كونها مذهب فهو فرع ، غير انه يجب تقرير الاتى :
• أن صفه (مذهب) تطلق على اجتهاد بعض السلف في كل أو بعض الفروع ، مثلا مذهب الأمام احمد بن حنبل، أو مذهب الإمام الشافعي في الزكاة… ، أما كل اجتهادات السلف الصالح في كل الفروع فيطلق عليها صفه (مذاهب السلف) ، لأنهم اجتهدوا واختلفوا إلى مذاهب متعددة. أما مصطلح (مذهب السلف) فيعنى ما اتفقوا عليه في اجتهادهم- لذا فهو اقرب للمنهج منه للمذهب-
• أن تطبيق المنهج الاسلامى ، الذي تشكل السلفية جزء منه ، والذي تتصف بالوحدة والثبات ، في أزمنه وأمكنه متعددة ، يثمر مذاهب إسلاميه “سلفيه ” متعددة ، ففي مجال الفقه مثلا نجد أن المذاهب: الحنبلي والمالكي والشافعي ومذاهب الاوزاعى والثوري… كلها مذاهب فقهيه سلفيه ، ، لأنها محصله تطبيق ذات المنهج الاسلامى ، والذي تشكل السلفية جزء منه ، لكن على أزمنه وأمكنه متعددة .
ثانيا:الشمول الشرعي لمصطلح “السلفية “والمصطلحات المتصلة به : استنادا إلى الأصل السابق ، والذي مضمونه الجمع بين السلفية كمنهج وكمذهب، والذي يترتب عليه أن السلفية كمذهب هي محصله تطبيق المنهج “السلفي” في زمان ومكان معينين ،نخلص إلى الأصل الثاني للسلفية المنهجية ، وهو الشمول الشرعي لمصطلح السلفية والمصطلحات المتصلة به، ومضمونه :
ا/الشمول الشرعي لمصطلح “السلفية”: انه إذا كان من الجائز أن نطلق صفه السلفية على مذهب معين” فنقول انه مذهب سلفي “، إلا انه لا يصح أن نقصر صفه ” السلفية ” عليه، لان هذا يعنى إلغاء عموم دعوه القران والسنة لجميع المسلمين للاقتداء بالسلف الصالح، وإنكار لخصوبة المنهج الاسلامى (والذي تشكل السلفية جزء منه وليس منهج مستقل عنه )، وقابليته للتطبيق على أمكنه وازمنه متعددة ،و بالتالي إنتاج مذهب”سلفيه” متعددة.ويترتب على هذا- على سبيل المثال لا الحصر- أن المذهب الحنبلى هو مذهب سلفي وليس المذهب السلفي.
ب/ الشمول الشرعي لمصطلح “أهل السنة”: أن لمصطلح “أهل السنة ” دلالات متعددة خاصة وعامه، واستنادا إلى هذا فان وصف مذهب معين بهذا المصطلح ” أهل السنة ” على وجه الخصوص، لا يعنى أن هذا المصطلح مقصور عليه، لذا يجوز ان نصف به غيره من المذاهب على وجه العموم، مادامت هذه المذاهب مقيده بضوابط المصطلح الشرعية.
مذهب الشمول الشرعي لمصطلح ” أهل السنة “عند ائمه المذهب الحنبلي : وهناك العديد من ائمه المذهب الحنبلي قد قالوا بمذهب الشمول الشرعي ، فلم يرتبوا على وصفهم للمذهب الحنبلي بمصطلح ” أهل السنه ” ، نفى كون غيره من المذاهب هي من مذاهب أهل السنه ، مادمت مقيده بالضوابط الشرعية . ومن ائمه المذهب الحنبلي ، الذين قالوا بمذهب الشمول الشرعي لمصطلح ” أهل السنه “الإمام ابن تيميه ، الذي أورد تعريفا عاما لمصطلح أهل السنة،يمكن ان ينطبق على العديد من المذاهب حيث يقول فى تعريف أهل السنه (هم المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)(جموع الفتاوى (3/375). ويقول(فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة)( مجموع الفتاوى (3/346). كما يورد دلالتين للمصطلح ،الأولى هي الدلالة العامة له ويمكن ان يندرج تحتها المذاهب الفقهية : الحنبلي والشافعي والمالكي…والمذاهب ألاعتقاديه الكلامية: الاشعرى والماتريدي والطحاوي وأهل الظاهر- وكما هو معلوم فان بعض هذه المذاهب تشكل الأساس الفقهي والاعتقادى للتصوف السني- حيث يقول ابن تيمية ( فلفظ السنة يراد به من أثبت الخلفاء الثلاثة ، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلاّ الرافضة )(منهاج السنة/ 2/ ص 221)، وطبقا لما سبق فانه يمكن القول ان ابن تيميه يعتبر أن التصوف السني أو جزء غالب منه، يندرج تحت الدلالة العامة لمصطلح أهل السنة ، حيث يقول انه نقل التكلم بالتصوف عددا من ائمه أهل السنة ( أما لفظ الصوفية فانه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة ، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام احمد بن حنبل وأبى سليمان الدارانى وغيرهما ، وقد روى عن سفيان الثوري أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصرى) (مجموع الفتاوى / 11/ ص 5 )،كما يضع التصوف مع باقي مذاهب وفرق أهل السنة فى كثير من النصوص، كما في قوله(وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف ، فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والاثارة من العلم ، وهم المتبعون للرسالة إتباعا محضا لم يشوبوه بما يخالفه) ( مجموع الفتاوى / 12 / 36). أما الدلالة الثانية هي الدلالة الخاصة لمصطلح أهل السنة كما فى قوله ( وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة ، فلا يدخل فيه إلا من أثبت الصفات لله تعالى، ويقول : إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة ، ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة).اتساقا مع ما سبق فان الإمام ابن تيميه يعتبر أن المذهب الاشعرى هو احد مذاهب أهل السنه ،طبقا لمعيار نسبى مضمونه أن الاشاعره هم أهل السنه في البلاد التي يكون فيها أهل البدع هم المعتزلة والرافضة حيث يقول (… فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهو يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم )(نقض تأسيس المطبوع/2/87). .كما يقرر أن الاشاعره هم أقرب طوائف المتكلمين إلى السنة، حيث يقول عند ذكر ه أبي إسماعيل الأنصاري ( ويبالغ في ذم الأشعري مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة) (مجموع الفتاوي /8/230) ، كما يقول في موضع آخر( وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث ) (المصدر السابق /6/55) ، ويقول أيضا (إن الكلابية والكرامية والأشعري أقرب إلى السنة والحق من جهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم باتفاق جماهير المسلمين ) (درء التعارض /6 /292).ويذكر عن الاشاعره أنهم من المتكلمين (المنتسبين إلى السنة )( الجواب الصحيح /1/252) .وممن قال بمذهب الشمول الشرعي لمصطلح أهل السنه العلامة السفاريني الحنبلي من خلال تقريره أن مصطلح أهل السنه يشمل ثلاثة فرق : الاثريه ” الحنابله” والاشعريه والماتريديه ، حيث يقول ( أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية، وإمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، والأشعرية، وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله ، والماتريدية، وإمامهم أبو منصور الماتريدي رحمه الله تعالى) (لوامع الأنوار البهية 1 / 73) . وكذلك العـلامة ابن الشطي الحنبلي الذي قرر ما قرره السفارينى (فائدة: أهل السنة والجماعة ثلاث فرق، الأثرية وإمامهم الإمام أحمد رضي الله عنه.والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى.والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي رحمه الله تعالى) (تبصير القانع في الجمع بين شرحي ابن شطي وابن مانع على العقيدة السفارينية، الصفحة / 73) . وكذلك العلامة المواهبى الحنبلي ، الذي قرر أن طوائف أهل السنه الثلاثة أيضا (طوائف أهل السنة ثلاثة: أشاعرة، وحنابلة، وماتريدية، بدليل عطف العلماء الحنابلة على الأشاعرة في كثير من الكتب الكلامية وجميع كتب الحنابلة) (العين والأثر ص/53).
تطبيقات:
رفض مذهب التضييق المذهبي القائم على التعصب المذهبي: يترتب على الالتزام بالشمول الشرعي لمصطلح السلفية والمصطلحات المتصله ،رفض مذهب “التضييق المذهبي ” الذي مضمونه قصر صفه ” السلفية ” علي مذهب معين ، و قصر دلاله مصطلح ” أهل السنة ” ايضا على مذهب معين. وهذا المذهب يستند إلى التعصب المذهبي الذي ذمه علماء أهل السنة،يقول الامام ابن تيميَّة ( ومن تعصَّب لواحدٍ بعينه من الأئمَّة دون الباقين، فهو بِمَنْزلة مَن تعصَّب لواحدٍ بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضيِّ الذي يتعصَّب لعليٍّ دون الخلفاء الثلاثة، وجمهور الصحابة، وكالخارجيِّ الذي يَقْدح في عثمانَ وعليٍّ – رضي الله عنهما – فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسُّنة والإجماعِ أنَّهم مذمومون خارجون عن الشَّريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسولَه، فمن تعصَّب لواحدٍ من الأئمة بعينه ففيه شَبهٌ من هؤلاء، سواءٌ تعصَّب لمالكٍ أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد، أو غيرهم. )(مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية” 22/ 252 – 254)..ويقول الإمام ابن القيِّم( وأما المتعصِّب الذي جعل قولَ متبوعه عيارًا على الكتاب والسُّنة وأقوالِ الصحابة، يزِنُها به، فما وافق قول متبوعه منها قبِلَه، وما خالفه ردَّه، فهذا إلى الذمِّ والعقاب أقرب منه إلى الأجر والصَّواب؛ وإن قال – وهو الواقع -: اتَّبعته وقلَّدته، ولا أدري أعلى صوابٍ هو أم لا؟ فالعُهْدة على القائل، وأنا حاكٍ لأقواله، قيل له: فهل تتخلَّص بهذا من الله عند السُّؤال لك عمَّا حكمت به بين عباد الله، وأفتيتهم به؟ فوالله إن للحُكَّام والمفتين لموقفًا للسؤال لا يتخلص فيه إلاَّ مَن عرف الحق، وحكم به، وأفتى به، وأما من عداهما فسيَعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء )(إعلام الموقِّعين” 2/ 232).
ثالثا: الالتزام بفهم السلف في الأصول واتخاذ اجتهادهم نقطه بداية للاجتهاد في الفروع: الأصل لغة ُ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَأَصْلِ الْجِدَارِ، أَيْ: أَسَاسِهِ. وَأَصْلُ الشَّجَرَةِ، أَيْ: طَرَفُهَا الثَّابِتُ فِي الْأَرْضِ ( شرح المحلي على الورقات).أما الأصل اصطلاحا فهو كل نص يقيني الورود(من عند الله تعالى أو الرسول(صلى الله عليه وسلم)) قطعي الدلالة (لا يحتمل التأويل)، والسلفية قائمه هنا على الالتزام بفهم السلف الصالح لهذه النصوص ، وما تتضمنه من عقائد وعبادات وأصول معاملات، لذا قال العلماء أن (قول الصحابي في الأمور التي لا مجال فيها للراى أو الاجتهاد له حكم الرفع فالاستدلال والاحتجاج،وذلك حملا لقوله في هذا الباب على التوقف والسماع والتنصيص من رسول الله (صلى الله عليه وسلم )، لأنه لا يظن بهم المجازفة في القول ،ولا يجوز أن يحمل قولهم على الكذب ، فإن طريق الدين من النصوص إنما انتقل إلينا بروايتهم)(علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري ،كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، دار الكتاب العربي ،1997، ط3،ج3، ص410). كما أنها قائمه على إلغاء الإضافات التي طرأت علي فهم السلف لهذه الأصول اى البدع ، إذ البدعة هي الاضافه إلى أصول الدين. أما الْفرْعِ فهو لغة مُقَابِلُ الْأَصْلِ: اى مَا يُبْنَى عَلَى غَيْرِهِ. كَفُرُوعِ الشَّجَرَةِ لِأَصْلِهَا، وَفُرُوعِ الْفِقْهِ لِأُصُولِهِ ( شرح المحلي على الورقات)، أما اصطلاحا فهو كل نص ظني الورود أو الدلالة . والسلفية قائمه هنا على الاقتداء بالسلف الصالح ، في اجتهادهم في وضع قواعد فرعيه لتنظيم مجتمعاتهم، استجابة للمشاكل التي عاشوها، وذلك بالاجتهاد في وضع قواعد فرعيه لتنظيم مجتمعاتنا ،استجابة للمشاكل التي نعيشها ، غير أن هذا لا يعنى إلغاء القواعد الفرعية التي وضعها السلف الصالح ، بل اعتبارها تجسيدا لماضي الامه وخبرتها، وبالتالي اتخاذها نقطه بداية لاجتهادنا – وليس نقطه نهاية له- وذلك بالالتزام بالقواعد الفرعية التي وضعوها كما هي ، أو بعد الترجيح بينها ، أو وضع قواعد جديدة ، استجابة لمشاكل جديدة لم يعايشوها..
رابعا:تقرير أن الدلالة الاصليه لمصطلح”السللفيه”تتناقض مع التقليد وتتسق مع الاجتهاد :التَّقْلِيدِ بالاصطلاح الشرعي قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ بِلَا حُجَّةٍ يَذْكُرُهَا ( شرح المحلي على الورقات)، وقد ذم القران التقليد (وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه إباءنا) (لقمان:21) ، كما نهى عنه الائمه : يقول الإمام أبو حنيفة (حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتى بكلامي، فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا) ( ابن عبد البر، في فضائل الائمه والفقهاء، ص145 )،ويقول الإمام الشافعي ( من استبان له سنه الرسول ، لم يحل له أن يدعها لقول احد) ( ابن القيم، أعلام الموقعين، ج2 ، ص361 )، ويقول الإمام احمد بن حنبل ( لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وخذوا من حيث اخذوا) (ابن القيم ، أعلام الموقعين،ج2، ص302)، ويقول الإمام مالك بن انس ( ليس لأحد بعد النبي إلا يؤخذ قوله ويترك) (ابن عبد البر، الجامع ، ص112). والدلالة الاصليه لمصطلح “السلفية” تتناقض مع التقليد، لان النصوص ذمته ، ولان السلف الصالح نهوا عنه ، ولان مضمونها أما الاستناد إلى فهمهم لأصول الدين ، التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة ، لأنهم كانوا اقرب منا زمانا بعهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأكثر فهما منا لدلاله لغة القران ، وليس باعتبار أن أقوالهم مكافئه للكتاب أو السنة ، أو اتخاذ اجتهادهم في فروع الدين ، التي مصدرها النصوص الظنية الورود والدلالة ، نقطه بداية لاجتهادنا – وليس نقطه نهايه له – باعتبارهم تجسيد لماضي الامه وخبرتها. أما الدلالات التي تجعل السلفية ، اتخاذ اجتهادات السلف في فروع الدين نقطه نهاية- وليس نقطه بداية- لأي اجتهاد – وبالتالي إغلاق باب الاجتهاد – كما في المذهب التقليدي – أو التي تجعل العلاقة بين مصطلحي “السلفية” و”التقليد” علاقة تطابق – فهي دلالات طارئه وخاطئة لمصطلح “السلفية ” . أما الاجتهاد لغة فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض، أما اصطلاحا فهو بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية باستنباط الأحكام منها.
والدلالة الاصليه لمصطلح “السلفية” يتسق مع الاجتهاد، لان النصوص أمرت به، ولان السلف الصالح دعوا إليه والتزموا به، فاجتهدوا في فروع الدين ، غير أن هذا الاجتهاد ، ليس مقطوع الصلة بالماضي وبدون نقطه بداية، بل يتخذ اجتهادهم نقطه بداية له ، باعتباره تجسيدا لماضي الامه وخبرتها.
تطبيقات: وفيما يلي نعرض لتطبيقات هذا الأصل على بعض المفاهيم والقواعد الشرعية، ونبين أن الفهم الصحيح لهذا المفاهيم والقواعد- الذي هو محصله تطبيق هذا الأصل – يتناقض مع التقليد ، ويتسق مع الاجتهاد ، ومع الدلالة الاصليه لمصطلح” السلفية”.
ا/ مفهوم التجديد: التجديد لغة : أعاده الشيء إلى سيرته الأولى (لسان العرب 3/111)، أما في الاصطلاح الشرعي فهو اجتهاد في فروع الدين الاجتهادية المتغيرة مقيد (محدود) بأصوله النصية الثابتة ” التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة” ، ومن أدلته قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” (سنن أبى داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر فى قرن المائة ح رقم 3740 والحاكم في المستدرك 4/522) ، عرف العلماء التجديد في الحديث(بإحياء ما اندرس من معالم الدين، وانطمس من أحكام الشريعة وما ذهب من السنن، وخفي من العلوم الظاهرة والباطنة)(فيض القدير 1/ 10- 2/282)، كما عرفوا المجدد بأنه من (له حنكة رد المتشابهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والدقائق والنظريات من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالاته) (فيض القدير 1/10، عون المعبود 11/389،391 ).يترتب على ما سبق أن الدلالة الشرعية لمصطلح التجديد إذا لا تتطابق مع دلالته “التغريبية”، التي مضمونها تبنى مفاهيم وقيم وقواعد حضارة أخرى ” الحضارة الغربية “، وان تناقضت مع أصول الدين النصية الثابتة . كما يترتب على ما سبق أن التجديد طبقا لدلالته الشرعية، يتسق ولا يتناقض مع الدلالة الاصليه لمصطلح السلفية.
ب/ حجية قول الصحابي: تعددت أراء العلماء في حجية قول الصحابي ، ومرجع هذا التعدد تعدد الجهات التي نظر من خلالها العلماء إلى قول الصحابي وحجيته، من هذه الجهات:
أولا: طبيعة موضوع قول الصحابي : إذا كان أصلا ( من الأمور التي لا مجال فيها للاجتهاد) ،فله حكم الرفع فالاستدلال والاحتجاج (علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري ،كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي،ج3، ص410، ط3، 1997، دار الكتاب العربي).، وإذا كان فرعا ( في مسائل للاجتهاد فيها مجال) ، فالراى الغالب انه حجه، مع اختلاف العلماء في طبيعة الحجية فيه .
ثانيا:مصدر الإلزام فيه (قول الصحابي في ذاته أو النص) : النص هو مصدر الإلزام لا قول الصحابي في ذاته،عبر عن ذلك الإمام الشوكاني بقوله (… فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبيها محمدا صلى الله عليه وسلم وليس لنا إلا رسول واحد، وكتاب واحد ،وجميع الأمة مأمور باتباع كتابة، وسنة نبيه، ولا فرق بين الصحابة، و بين من بعدهم في ذلك فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية، وبإتباع الكتاب والسنة .فمن قال إنها تقوم الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله، وسنة رسوله، وما يرجع إليهما، فقد قال في دين الله بما لا يثبت وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله به) ( إرشاد الفحول ج2/997-998.)
ثانيا: مدى انتشاره أو مخالفته لقول صحابي أخر :
1/ إذا انتشر ولم يعرف له مخالف : يعد من قبيل الإجماع السكوتي وهو حجه عند الجمهور، يقول ابن تيمية ( فصل وأما أقوال الصحابة فان انتشرت ولم تنكر فى زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء ) (مجموع الفتاوى،ج20/14)
2/ إذا خالف صحابيا آخر: وجب على المجتهد أن يأخذ من أقوالهم حسب الدليل ، يقول ابن تيمية ( وان تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء)(مجموع الفتاوى،ج20/14)
3/ إذا لم يخالفه صحابي آخر، و لم يشتهر بين الصحابة:
ا/ طبيعة الإلزام (الحجية) فيه: 1- أنه حجة شرعية مقدمة على القياس ، وقال بهذا أبو حنيفة و مالك ، وهو مذهب الشافعي في القديم والجديد،ومذهب أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وجمهور أهل الحديث ( إجمال الإصابة في أقوال الصحابة،ص36،وأعلام الموقعين،ج5/ ص 482 ) ، 2- انه حجة إذا كان مما لا يدرك بالقياس، وهو قول الكرخي من الحنفية وأبو زيد ونقله العلائي عن البزدوي وابن الساعاتي،3 – أنه حجة إذا انضم إليه القياس، فيقدم حينئذ على قول صحابي آخر ، ويرى البعض انه ظاهر مذهب الشافعي في الجديد( أصول الفقه ، وهبة الزحيلي،ج2، ص81)، 4-أنه ليس بحجة مطلقا،يقول الإمام لشوكاني(وهو قول الجمهور)، ونسبه ابن القيم إلى بعض المتأخرين من الحنفية والمالكية والحنابلة ، وكثير من المتكلمين، وهو رواية عن أحمد،ونسبه أصحاب الشافعي إليه في الجديد، وهو قول أبو الخطاب من الحنابلة ( إرشاد الفحول ج2/995 ، إعلام الموقعين ج5/555، التمهيد ج3/3313.)،
ب/ من من الصحابة يعد قوله حجه : 1- قول الخلفاء الأربعة الراشدين،وقد نسبه العلانى إلى القاضي أبو حازم من الحنفية وإلى الإمام أحمد (إجمال الإصابة، ص51)، 2- قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقط ، ونقله العلائي عن جماعة من المصنفين( المرجع السابق)، قول الخلفاء الأربعة الراشدين، قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما… من العرض السابق
ج/ قاعدة شمول القران: ومن القواعد الاصوليه المقررة قاعدة شمول القران التي أشار إليها القران في عده مواضع منها قوله تعالى (وما فرطنا في الكتاب من شيء والى ربهم يرجعون)(الأنعام :38) ، غير أن هناك تفسيرين لهذه القاعدة:
التفسير الأول: أن القران تضمن أصول الأحكام وفروعها، وقال به أهل الظاهر، وهو تفسير يؤدى إلى التقليد وقفل باب الاجتهاد.
التفسير الثاني: أن القران تضمن أصول الأحكام، وترك للمسلمين الاجتهاد في فروعها، وقال به الكثير من علماء أهل السنة يقول ابن تيميه (إن الله بعث محمدا بجوامع الكلم ، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة، التي هي قاعدة عامه ، تتناول أنواعا كثيرة ، وتلك الأنواع تتناول أحيانا جزئيات، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطه بأحكام أفعال العباد ) (الفتاوى، المجلد الأول، ص 410) ، ويقول ابن القيم (الأحكام على نوعان نوع لا يتغير عن حاله واحده هو عليها… والثاني ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة زمانا ومكانا وحالا) (أعلام الموقعين) ، وهذا التفسير لا يؤدى إلى التقليد ولا يلغى الاجتهاد.
د/ مفهوم البدعة: البدعة لغة: إحداث شيء أو صفه بدون إقتداء بأصل أو مثال سابق (العين ، للفراهيدي،ج 2 ، ص54 و معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، للراغب الأصفهاني، ص36 )، أما البدعة اصطلاحا: فهي الاضافه إلى الدين، والمقصود بالدين أصوله وليس فروعه، دون الاستناد إلى نص يقيني الورود قطعي الدلالة: يقول تعالى (… ورَهبَانِيَّةً ابتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيهِمْ إلاّ ابتغاء رِضوَانِ اللهِ ….). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ” صلى الله عليه وسلم” وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) (رواه مسلم ومعناه عند البخاري من حديث ابن مسعود)..يقول ابن رجب الحنبلي: (ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدّل عليه ، أما ما كان له أصل من الشرع يدّل عليه فليس ببدعة شرعاً وإنْ كان بدعة لغةً)( جامع العلوم والحكم ، ص 160 ، طبع الهند).ويقول ابن حجر العسقلاني (أصلها ما أُحدِثَ على غير مثال سابق ، وتطلق في الشرع في مقابل السُنّة فتكون مذمومة…) ( فتح الباري ،ص 5 ، ص 156) ، ويقول ألشاطبي (البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يُقصد بالسلوك عليها ما يُقصد بالطريقة الشرعية ـ وقال في مكان آخر ـ يُقصد بالسلوك عليها : المبالغة في التعبّد لله تعالى) ( الاعتصام ،ج 1 ، ص375)، إذا رفض ألبدعه لا يؤدى إلى التقليد ولا يلغى للاجتهاد ، لأنها متعلقة بأصول الدين النصية الثابتة ،وليس فروعه الاجتهادية المتغيرة.
خامسا: السلفية اقتداء بحقبه تاريخيه مباركه فى كل زمان ومكان مع التمييز بين السلف والسلفية: والسلفية اقتداء بحقبه تاريخيه مباركه فى كل زمان ومكان ،مع وجوب التمييز – وليس الفصل – بين السلف الصالح الذين شكلوا حقبه تاريخيه مباركه، والسلفية كمنهج قائم على الاقتداء بالسلف الصالح في كل زمان ومكان،لان الخلط بينهما يؤدى إما إلى المساواة بين السلف الصالح وغيرهم من المسلمين في المرتبة، أو اعتبار السلفية مرحله تاريخيه ونفى كونها منهج صالح لكل زمان ومكان.
سادسا: الجمع بين الظاهر والباطن: المنهج السلفي – كجزء من المنهج الاسلامى- يقوم على التلازم بين الظاهر “الذي يعبر عن الأبعاد الموضوعية للإنسان”، والباطن “الذي يعبر عن الإبعاد الذاتية للإنسان” ،والذي أشارت إليه الكثير من النصوص ،كقوله تعالى الله ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) ، وقول الرسول (صلى الله عليه ونسلم )( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه ، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه ) ، واتساقا مع هذه النصوص قرر علماء أهل السنه هذا التلازم،وعلى سبيل المثال يقول الامام ابن تيمية في معرض كلامه عن كفر تارك الصلاة وقتله كفراً وردة ( فهذا الموضع ينبغي تدبره ، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يُقتل أو يُقتل مع إسلامه ، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية ، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل ، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان وأن الأعمال ليست من الإيمان ، وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب ، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءاً من الإيمان )ارتباط . وكذلك اتفق علماء أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ، أو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان ، وهو تأكيد لربط مذهب أهل السنة بين الابعاد الذاتيه ” الايمان” والموضوعية للإنسان ” الأقوال والاعمال” يقول ابن تيمية ( فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا لزم ضرورةً صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق ، كما قال أئمة أهل الحديث : قول وعمل ، قول باطن وظاهر ، وعمل باطن وظاهر ، والظاهر تابع للباطن لازم له ، متى صلح الباطن صلح الظاهر ، وإذا فسد فسد ، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلى العابث : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه )(مجموع الفتاوى :7/187).
تطبيقات:
رفض الاهتمام بالمظهر” الظاهر” مع إهمال المخبر”الباطن”: ويترتب على تقرير أن المنهج السلفي – كجزء من المنهج الاسلامى- يقوم على التلازم بين الظاهر والباطن ، رفض الاهتمام بالمظهر” الظاهر” مع إهمال المخبر”الباطن”، والذي يأخذ أشكال متعددة منها:
ا/ التركيز على بعض القضايا – اغلبها متعلقة بالمظهر- بما يوحى بوجوبها أو حرمتها ، بينما حكمها لا يتجاوز الاستحباب- أو الكراه :
مثال:
الزى: فعلى سبيل المثال يركز على زى معين للرجال “الجلباب مثلا ” ولون معين ” الأبيض مثلا” بحجه التاسى بالرسول (صلى الله عليه وسلم) ، في حين انه من الثابت أن صفه زى الرسول(صلى الله عليه وسلم) انه غير مقصور على ملابس معينه “حين انه (صلى الله عليه وسلم|) لبس العديد من الملابس” وغير مقصور على لون واحد” فرغم تفضيله (صلى الله عليه وسلم ) للون الابيض الا انه لبس ملابس بالوان اخرى ” يقول ابن القيم ( كانت له عمامة تُسمى : السحاب ، كساها علياً ، وكان يلبَسُها ويلْبَسُ تحتها القَلَنسُوة ، وكان يلبَس القلنسُوة بغير عمامة ، ويلبَسُ العِمامة بغير قلنسُوة ، وكان إذا اعتمَّ أرخى عِمامته بين كتفيه … ولبس صلى الله عليه وسلم القميص… ولبس الجُبَّةَ والفَرّوج ، وهو شبه القَباء.والفرجية …ولبس في السفر جُبة ضَيِّقَةَ الكُمَّين … ولبس الإِزار والرداء… ولبس حُلة حمراء … . ولبس الفَروة المكفوفة بالسندس …و لبس السراويل ولبس الخفين … ولبس النعل الذي يسمى التَّاسُومة …وكان له بردان أخضران. وكِساء أسود ، وكساء أحمر ملبَّد ، وكساء من شعر.. . ولبس الشعر الأسود .والبرد الأخضر)( زاد المعاد : 1/135-145) .
القول بالوجوب او الحرمة دون اعتبار للكيفية المتضمنة للنية :القول بوجوب أو حرمه بعض الأفعال، دون اعتبار لكيفيتها ، المتضمنة لجمله من الضوابط الموضوعية ، والذاتية ” ومنها النية ” –
أمثله:
ا/ مسالة إعفاء اللحية: فعلى سبيل المثال هناك من يقصر إيجاب إعفاء اللحية-على درجه الوجوب، ومن ثم يقصر منع حلقها على درجه التحريم ، في حين انه من الثابت في الفقه الاسلامى انه رغم اتفاق الفقهاء على إيجاب(طلب) إعفاء اللحية لورود العديد من النصوص الدالة على ذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم( أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى )[ رواه مسلم ]، الا أنهم اختلفوا في درجه الإيجاب إلى مذهبين: المذهب الاول يحمل هذه النصوص على الوجوب – وبالتالي تحريم مخالفتها – وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة وقول عند الشافعيه، و المذهب الثاني يرى ان الأمر فى هذه النصوص محمول على الاستحباب لا الوجوب ( و كراهية- وليس تحريم- مخالفتها)؛ لأن الأمر الوارد على الشيء التحسيني ، والتزييني يحمل على الندب والاستحباب، ويستدل هذا المذهب على سنية”استحباب” -وليس وجوب- إعفاء اللحية بقوله الله صلى الله عليه وسلم: ( عشر من الفطرة: منها إعفاء اللحية )، والمراد بالفطرة: السنة، لورود تعبير سنة بدلاً من الفطرة فى حديث أخر هو قوله صلى الله عليه وسلم ( من السنة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار )(صحيح بخارى) .وهذا المذهب هو المعتمد عند الشافعية، يقول ابن حجر الهيتمي (فَرْعٌ: ذَكَرُوا هُنَا فِي اللِّحْيَةِ وَنَحْوِهَا خِصَالًا مَكْرُوهَةً مِنْهَا نَتْفُهَا وَحَلْقُهَا … لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا كَرَاهَةُ الْأَخْذِ مِنْهَا مُطْلَقًا… ) ( تحفة المحتاج) ، ويقول الرملي (( باب العقيقة ) ( سئل ) هل يحرم حلق الذقن ونتفها أو لا ؟ ( فأجاب ) بأن حلق لحية الرجل ونتفها مكروه لا حرام , وقول الحليمي ‏في منهاجه لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه ضعيف )( الفتاوى المطبوعة بهامش فتاوى ابن حجر 4/ 69)،‏ويقول القاضي عياض ( شرح مسلم (1/154)( يكره حلقها وقصها وتحريقها أما الأخذ من طولها وعرضها فحسن) ،ويقول شطا الدمياطي في حاشيته النفيسة في المذهب “إعانة الطالبين” 2 / 240 عند قول الشارح (ويحرم حلق اللحية) ( المعتمد عند الغزالي وشيخ الإسلام _ أي القاضي زكريا الأنصاري كما هو اصطلاح المتأخرين _ وابن حجر في التحفة والرملي والخطيب _ أي الشربيني _ وغيرهم الكراهة ). كما ان القول بوجوب إعفاء اللحية وحرمه حلقها ، يقوم على تجاهل ان درجه إيجاب اى فعل (من وجوب او ندب) متوقفه على كيفيه الفعل المتصلة بمدى خضوعه لجمله من الضوابط منها القصد والنية من الفعل لقوله صلى الله عليه وسلم ” إنما الأعمال بالنيات”، فالنصوص تربط الحكم بمقصد شرعي معين هو مخالفه المشركين( خالفوا المشركين ، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب)، لذا يمكن القول بان الفعل المخالف بنيه مشابهه المشركين لا خلاف فى ان حكمه التحريم،أما الفعل المخالف بدون نية مشابهه المشركين فيرجح ان يكون حكمه الكراهة. ويدل على هذا ايراد بعض العلماء الذين قالوا بان حكم نتف اللحيه مكروه وليس محرم عددا من المقاصد من وراء ذلك ليس بينها مشابهه المشركين، يقول زكريا الأنصاري ( ويكره نَتْفُهَا أَيْ اللِّحْيَةِ أَوَّلَ طُلُوعِهَا إيثَارًا لِلْمُرُودَةِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ وَنَتْفُ الشَّيْبِ لِمَا مَرَّ في شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَاسْتِعْجَالُهُ أَيْ الشَّيْبِ بِالْكِبْرِيتِ أو غَيْرِهِ طَلَبًا لِلشَّيْخُوخَةِ وَإِظْهَارًا لِعُلُوِّ السِّنِّ لِأَجْلٍ الرِّيَاسَةِ)( أسنى المطالب 1/551 طبعة دار الكتب العلمية )،ويقول الخطيب الشربيني(ويكره نَتْفُ اللِّحْيَةِ أَوَّلَ طُلُوعِهَا إيثَارًا لِلْمُرُودَةِ وَنَتْفُ الشَّيْبِةِ وَاسْتِعْجَالُ الشَّيْبِ بِالْكِبْرِيتِ أو غَيْرِهِ طَلَبًا لِلشَّيْخُوخَةِ. )( مغني المحتاج 6/186 طبعة دار إحياء التراث العربي).
ب/ منع إسبال الثوب:كما يقول البعض بالمنع المطلق لإسبال الثوب” اى تحريمه”، دون تمييز بين كيفياته ، وهو يستدل بتقرير بعض العلماء تحريم إسبال الثوب كابن العربي والذهبي و ابن حجر العسقلاني ، واستنادا إلى النصوص الدالة عن النهى عن اسبال الازار . غير ان هذا القول لا يميز بين كيفيتين للإسبال: الأولى الإسبال بقصد الخيلاء وحكمها التحريم ، والثانية الإسبال بدون قصد الخيلاء وحكمها الكراهة ،ويمكن الاستئناس في هذا التمييز إلى أقوال كثير من العلماء الذين قرروا ان أحاديث النهي عن الإسبال مقيدة بالخيلاء، فإذا انتفى الخيلاء لم يكن الإسبال محرماً، واختلفوا بعد ذلك في الكراهة وعدمها، وممن ذهب إلى عدم التحريم إذا لم يكن للخيلاء: الشافعي وأحمد، وممن ذكر ذلك من المالكية: الباجي في كتابه المنتقى شرح الموطأ ،ومن الشافعية: النووي و زكريا الأنصاري و ابن حجر الهيتمي ….وممن نص على ذلك من الحنابلة: ابن قدامة في المغني و ابن تيمية في شرح العمدة والمرداوي في الإنصاف.يقول الباجي في المنتقى( وقوله صلى الله عليه وسلم الذي يجر ثوبه خيلاء يقتضي تعليق هذا الحكم بمن جره خيلاء، أما من جره لطول ثوب لا يجد غيره، أو عذر من الأعذار، فإنه لا يتناوله الوعيد) ويقول ابن قدامة ( ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برفع الإزار، فإن فعل ذلك على وجه الخيلاء حرام)،ويقول ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة 4/363 ( وهذه نصوص صريحة في تحريم الإسبال على وجه المخيلة، والمطلق منها محمول على المقيد، وإنما أطلق ذلك ؛ لأن الغالب أن ذلك إنما يكون مخيلة… ولأن الأحاديث أكثرها مقيدة بالخيلاء فيحمل المطلق عليه، وما سوى ذلك فهو باقٍ على الإباحة، وأحاديث النهي مبنية على الغالب والمظنة….وبكل حال فالسنة تقصير الثياب، وحدِّ ذلك ما بين نصف الساق إلى الكعب، فما كان فوق الكعب فلا بأس به، وما تحت الكعب في النار).
سابعا: العلاقة بين الدعوة والجهاد علاقة تكامل وليست علاقة تناقض : والعلاقة بين الدعوة والجهاد- كفرضين شرعيين- هي علاقة تكامل وليست علاقة تناقض، بالتالي فان التزام بأحدهما لا يلزم منه إلغاء الالتزام بالأخر،فلا يجوز الاقتصار على احدهما والقصور عن الأخر والاستغناء به عنه. وهنا يتضح لنا خطا تقسيم السلفية إلى : سلفيه دعوية وسلفيه جهادية،لان هذا التقسيم يوحي بامكانيه اتخاذ موقف “سلفي” يستغنى عن الجهاد أو الدعوة، فمثل هذا الموقف هو موقف بدعي- وليس سلفي – كمذهبي المرجئة”الذي يلزم منه الاستغناء عن الأول” والخوارج “الذي يلزم منه الاستغناء عن الثاني ” – فضلا عن عدم الالتزامهما بالضوابط الشرعية لكلا الفرضين “اى الجهاد والدعوة”.. و منهج التغير الاسلامى يقوم على تعدد أساليب التغيير (كأساليب التغيير الفكري أو السياسي أو الاجتماعي أو التربوي…)، وبالتالي فان التزام جماعه معينه بأسلوب تغيير معين، يجب ان يكون من باب التخصص لا الانفراد، ،اى دون إنكارها لأساليب التغيير الأخرى التي قد تلتزم بها جماعات أخرى، قال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(التوبة:122).
تطبيقات:
السياسة الشرعية: يترتب على الأصل السابق وجوب الالتزام بالسياسة الشرعية ،التي تجعل الدين هو الأصل – والسياسة هي الفرع، اى أن يكون الدين ” ممثلا في مفاهيمه قيمه وقواعده الكليه ” بالنسبة للسياسة بمثابة الكل للجزء، يحده فيكمله ولكن لا يلغيه . ويترتب على هذا ان النشاط السياسى يجب ان يلتزم بجمله من الضوابط ، التي تهدف إلى تحقيق اكبر قدر ممكن من الاتساق- وليس التطابق- مع الشرع ، ومن هذه الضوابط :
أولا:الامامه”بمعنى السلطة” من فروع الدين وليست من أصوله: حيث يقوم مذهب أهل السنه بتفريعاته الكلامية والفقهية المتعددة ،على أساس أن الامامه”بمعنى السلطة” هى فرع من فروع الدين ، وليست أصل من أصوله كما يقول المذهب الشيعي – يقول الآمدي ( واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ، ولا من الأُمور اللابدِّيَّات .. ) (غاية المرام في علم الكلام : ص 363) ، ويقول الإيجي ( وهي عندنا من الفروع ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا ) (المواقف : ص 395) ، ويقول الإمام الغزالي ( اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات ، وليس أيضاً من فنّ المعقولات ، بل من الفقهيات … )، ويترتب على هذا الأصل ان النشاط السياسي هو شكل من أشكال الاجتهاد ،ولا يجوز فيه تكفير المخالف.
التمييز بين الدولة والسلطة : أما الأقوال الواردة عن علماء أهل السنة عن وجوب نصب إمام فتتعلق بالدولة وليس بالسلطة ، فمفهوم الدولة اشمل من مفهوم السلطة ، ذلك أن أركان الدولة هي الشعب والأرض والسلطة، فهذه الأقوال تتعلق بالدولة كضرورة اجتماعيه، ويمكن التحقق من صحة ذلك ، من خلال استقراء هذه الأقوال ، ودراسة السياق الذي ورد فيه القول بوجوب نصب الإمام ، فعلى سبيل المثال يقول الإيجي ( نَصْبُ الإمام عندنا واجبٌ علينا سمعاً…وقال : انه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي ? على امتناع خلو الوقت عن إمام، حتى قال أبو بكر ” رضى اله عنه ” في خطبته” ألا إن محمداً قد مات، ولا بدَّ لهذا الدين ممن يقوم به ” ، فبادر الكل إلى قبوله، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله ، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا مِنْ نَصْب إمام متَّبَع في كل عصر…)(المواقف ، ص 395 ). فهذا النص يتحدث عن نصب الأمام في كل زمان ، وليس نصب الإمام في زمان معين، كما تفيد العبارات( تواتر إجماع المسلمين … على امتناع خلو الوقت عن إمام) ، و (لم يزل الناس على ذلك … مِنْ نَصْب إمام متَّبَع في كل عصر…).
نصب الإمام فرض كفاية لا فرض عين: اتساقا مع ما سبق ، من تقرير علماء أهل السنة أن الامامه – بمعنى السلطة – هي فرع من فروع الدين وليست أصل من أصوله ، وأن قولهم بوجوب نصب إمام يتصل بالدولة وضرورتها الاجتماعية، ولا يتعلق بالسلطة، فقد قرر علماء أهل السنة أن الوجوب هنا هو وجوب كفائي لا عيني، اى أن نصب الإمام فرض كفاية لا فرض عين ، يقول الماوردي ( فإذا ثبت وجوبها ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم..) ( الأحكام السلطانية: ص 5) .
ثانيا: السياسة الشرعية ما يحقق مصلحه الجماعة ولو لم يرد في نص (اتساق – وليس تطابق- مع النص) : و يتسق مع الضابط السابق تقرير علماء أهل السنة أن السياسة الشرعية هي ما كل يحقق مصلحه الجماعة ولو لم يرد فيه نص- وبالتالي فان السياسة الشرعية هي اتساق – وليس تطابق- مع النص- يقول ابْنُ عَقِيلٍ(السِّيَاسَةُ مَا كَانَ فِعْلاً يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ.) ويقول ابن القيم(إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْلِ وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ بِأَيْ طَرِيقٍ كَانَ، فَثَمَّ شَرْعُ اللهِ وَدِينُهُ، وَاَللهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَأَعْدَلُ أَنْ يَخُصَّ طُرُقَ الْعَدْلِ وَأَمَارَاتِهِ وَأَعْلَامَهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَنْفِي مَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهَا وَأَقْوَى دَلَالَةً، وَأَبْيَنُ أَمَارَةً. فَلَا يَجْعَلُهُ مِنْهَا، وَلَا يَحْكُمُ عِنْدَ وُجُودِهَا وَقِيَامِهَا بِمُوجِبِهَا، بَلْ قَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الطُّرُقِ، أَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ الْعَدْلِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَقِيَامُ النَّاسِ بِالْقِسْطِ، فَأَيُّ طَرِيقٍ اُسْتُخْرِجَ بِهَا الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ فَهِيَ مِنْ الدِّينِ، وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لَهُ.فَلَا يُقَالُ: إنَّ السِّيَاسَةَ الْعَادِلَةَ مُخَالِفَةٌ لِمَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ، بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِمَا جَاءَ بِهِ، بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَنَحْنُ نُسَمِّيهَا سِيَاسَةً تَبَعًا لِمُصْطَلَحِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ عَدْلُ اللهِ وَرَسُولِهِ، ظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ) (الأحكام السلطانية،أبي يعلى الفراء).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق