الخميس، 4 سبتمبر 2014

السنة والدولة الصفوية في العراق


ما هو الهدف من تنظيم الزيارات المليونية الشيعية في العراق؟ إيران مثلا لا تقوم بنشاط مكثف كهذا. لماذا إذن هي مهتمة ببذل كل هذا الجهد والنفقات على الزيارات المليونية العراقية؟ لماذا تصر الدولة على جلب سكان الجنوب كل شهر في زيارات مليونية إلى الأضرحة المقدسة؟ ما هو السبب؟

السبب هو العامل النفسي لجعل السنة يعيشون في فضاء مليوني شيعي، يسمعون النشيد الشيعي كل يوم في بيوتهم حتى يتشيعوا مع الوقت. لهذا منعت القيادة العراقية السابقة المبالغة بهذه الطقوس لأنها تعرف الغاية التبشيرية من ورائها.

التشيع ليس دينا بل حزبا سياسيا، طقسا جماعيا وتنظيميا واقتصاديا. نحن من الآن بدأنا نعتاد على شتم عائشة وعمر وأبي بكر... بل حتى بيننا وبين أنفسنا لم نعد ننظر إلى هذه الرموز كما كنا في السابق. عقيدتنا تهتز ومع الزمن نتشيع. لأنه بالنسبة للبسطاء المهم السلامة والوظيفة والأطفال. والأخطر هو أن العلمانيين يقولون "لا فرق" بين الشيعي والسني فإذا إيران لا ترتدع عن إجرامها: "تشيّعوا" وأنقذوا حياتكم وأعراضكم وحياة أطفالكم.

ربما بدأت تصيبنا الهزيمة الروحية من الداخل. مبدأ إبن خلدون الشهير "المغلوب مولع بتقليد الغالب"
مراجع دين وكأنهم يريدون من الشيخ عبدالملك السعدي أن يصبح سيستاني معكوسا.

لماذا يبقى السني على مذهبه إذا كانت هويته مطاردة، ورموزه إما مطاردين أو فاسدين أو تحت التراب؟ ربما سيفكر كثيرون بدخول التشيع. هكذا تُقبل القبائل في وقت لاحق على التشيع كما دخلت قبائل الجنوب من قبل، فالناس تلحق رزقها وسلامتها في النهاية.

شاعر شعبي شاب من الأنبار (أحمد الهندي) يذهب يقرأ شعرا في النجف، يتملق بشكل مكشوف متناسيا دماء آلاف الشهداء. هذا ليس مشكلة ولكن المشكلة إعجاب آلاف البسطاء من أهل الأنبار بهذه القصيدة وهي دعوة صريحة لتشيع الأنبار "بس لا تگول دليم متحبّ الحسين". من المفروض في زمن كهذا أن يذهب الشاعر الأنباري الشجاع من الأنبار إلى النجف ويؤكد حبه لعمر بن الخطاب لا أن يدفع عن نفسه كراهية أهل البيت. لأن المظلوم في النجف هو عمر بن الخطاب وليس أهل البيت.

نحن نتشيع دون أن نشعر، ويصبح أمرا واقعا. الإيرانيون يؤمنون بأن الإسلام انتشر بالترهيب والقتل من جهة، وبالترغيب والبذل من جهة أخرى. هكذا يريدون نشر التشيع في العراق وسوريا. قياداتنا السنية لا يفكرون بخطورة العقيدة، ولا بعلاقتها بالسياسة والإقتصاد والتاريخ. يفكرون فقط بمصالح شخصية فردية لهذا لا نرى تضحيات من كبار السنة العراقيين. معظم التضحيات من البسطاء. بينما الشيعة وبسبب جاذبية العقيدة قدموا تضحيات من سادة قومهم وبهذا منحوا مشروعهم المصداقية. لاحظ كم قتيل من بيت الحكيم ومن بيت الصدر بينما سادتنا وشيوخنا ربما لا يريدون دخول القبور بشكل مبكر

هناك شيء مهم. الشيعي في الخارج يزور أهله، يتاجر مع بلده، يشتري بيتا أو قطعة أرض. بينما السني يهاجر ولا يعود لأن البلاد ليست بلاده، ويشعر بأنه مطرود. لا شيء يربط المهاجر السني بالعراق سوى ذكرياته. لا رواتب ولا مصالح ولا دعوات ولا ذهاب ولا إياب. المهاجر السني ميّت والمهاجر الشيعي حيّ. على العكس، المهاجر الشيعي مصدر قوة لطائفته، بينما المهاجر السني لا مصدر قوة ولا مصدر ضعف. مجرد فقيد.

لا شيء يجمع السنة لأنهم ولأجل الدولة كانوا عبدة الوظيفة (الراتب أو المعاش) يفتقرون إلى التضامن الوجداني، ثم صنعوا لأنفسهم صنما وطنيا صار اليوم عبئا عليهم.

حين هاجر الشيعة زمن النظام السابق جمعهم الحزب الديني، والحسينية، والحوزة ورجال الدين. استغلوا زمن المعارضة في تأسيس مراكز بحوث، تأليف الكتب، بناء المكتبات ومراكز الدراسات وبناء العلاقات السياسية والثقافية. لهذا حين سقط النظام السابق كانوا جاهزين. كان وعي النخبة الطائفي جاهزا لتنفيذ المشروع الصفوي. تذكروا رجلا من مؤسسي حزب الدعوة كالسيد مرتضى العسكري لم يكترث للحركة الشيوعية والقومية وبهرجة السبعينات من القرن الماضي في الكاظمية، ولا لنزول الأميركان على القمر بل بقي يكتب "معالم المدرستين" ويحلم ببغداد شيعية خالصة.

مشكلة السنة أنهم لا يهتمون بالثقافة ولا بالعمل الأهلي خارج الدولة. حتى في هذا العهد الصفوي يتهافتون على الصحوات لأنهم يريدون رواتب حكومية مضمونة. من الممكن أن يكون الواقع رديئا الآن لكن من المهم تطوير خطاب سني مقبول وراقٍ. الشيعة درسوا السنة وتاريخ العراق وصنفوا المصنفات بينما نحن بقينا نصرخ "مجوس" و"فرس" و"متعة". لقد نشأت ثقافيا على ضفاف الخطاب الشيعي، وشهدت مراحل تطوره من المعاناة والهجرة إلى السلطة والغنائم. الجماعة كانوا يعملون ليل نهار وينفقون رغم صعوبة ظروفهم تلك الأيام. عندهم مشروع وليس أهواء شخصية.

سبعمئة مليار دولار سرقات الحكومة العراقية الحالية كلها ذهبت إلى إيران. هذا وفاء منهم لمركز التشيع الذي احتضنهم وعلمهم ثلاثين سنة وليس مجرد فساد. لا أعرف متى يعثر السنة على مشروع ثقافي وروحي في اللغة والخيال قبل أن يطلقوا الصواريخ ويحملوا السلاح. لا يكفي أن نعرف ما يفعله العدو بنا، بل المهم أن نعرف نحن ما نفعل بأنفسنا.

هناك مثقفون وطنيون ثقاة من الشيعة يجادلون بأن الشيعة مضلَّلون ولا يريدون حكم الحوزة وغير مستفيدين منه. الفقر، والجوع، والفساد، وانعدام الخدمات والجهل هي الأساس في المحافظات الجنوبية العراقية. يؤكدون دائماً بأن المؤسسة الدينية والغوغاء لا يمثلون الشيعة. هذه هي المشكلة التي جعلتنا نأخذ كل هذه السنوات من الإضطهاد الطائفي حتى نعلن مطالبتنا بإقليم سني.

نحن في الحقيقة لا نرى نضالا شيعيا ولا شيوعيا ضد الفساد الحكومي والدعاية الدينية الحوزوية. على العكس. نرى أغلب المثقفين الشيعة متحمسين للعرس الطائفي الذي تزفه السلطة، وفي أحسن الأحوال شياطين خرس. باستثناء أفراد وطنيين معدودين على أصابع اليد الواحدة كالأستاذ جاسم الزيرجاوي مثلا. المثقف الشيعي في غيبوبة. نقول له فساد وسرقات يقول لنا صدام حسين كان يسرق، نقول له قتل وإعدامات بالجملة وتقارير منظمات عالمية وفضائح يقول لنا مقابر جماعية في عهد صدام. هذا ربما يكفي ليوحي لنا بأن المثقف الشيعي يتلذذ بالثأر والإنتقام من سنة العراق ولا يعارضه.

لعشر سنوات قام الكتاب الشيعة باتهام السنة بأشياء موجودة عندهم وليست عند السنة. فهم حتى لا يكلفون أنفسهم مشقة التعرف على الثقافة والبيئة السنية العراقية.

أشهر منظر للدولة الطائفية الشيعية هو الأستاذ حسن العلوي في كتابة "الشيعة والدولة القومية" الذي كانت تتناقله الحوزات الشيعية والأحزاب في سوريا وإيران زمن النظام السابق وتثقف به أمثال السيد نوري المالكي والسيد باقر الزبيدي.

الكتاب مبني على مذكرات ال مس بيل أيام الإنتداب البريطاني وهذه سيدة بريطانية موظفة صغيرة في وزارة الخارجية البريطانية ضخمها الكتاب الشيعة وجعلوا من مذكراتها قرآنا. مثلا اتهموا الأستاذ ساطع الحصري (توفي 1968م) بتأسيس تعليم طائفي في العراق، بينما الحقيقة هم أسسوا التعليم الطائفي الصريح اليوم في العراق.

اتهموا الجيش العراقي الوطني السابق بأنه جيش تأسيسه عثماني طائفي، بينما هم من أسس اليوم جيشاً عميلا بعقيدة طائفية صريحة.

اتهموا النظام العراقي السابق بأنه حكم "مماليك" بينما هم من جاء بحكومة صفوية مرتهنة بيد الحرس الثوري الإيراني والجنرال قاسم سليماني.

اتهموا حزب البعث العراقي بأنه دولة منظمة سرية، بينما هم حكموا بدولة منظمة سرية (حزب الدعوة) الغامض (سري) حتى الشيعة لا يفهمون شعاراته ولا أهدافه ولا تأسيسه ولا أفكاره. أشبه بحركة الحشاشين الباطنية التي أسسها حسن الصباح (ت 1224م) بقلعة مخيفة ومعزولة هي قلعة أَلَموت.

كما نرى الباطني لا يهتم بالظاهر والواقع بل يعيش في أوهامه وعناده وأهوائه. ربما أكون مخطئا، لكن لاحظ تناقض تنظيراتهم حين كانوا في المعارضة كتبوا بأن السنة في العراق يختلفون عن السنة العرب خارج العراق بأنهم طائفيون، أو بوصف كنعان مكية "عشائر ملثمة تحترف القتل"، فلما هيمنوا على الحكم، ودالت لهم الدولة، بدأوا بذبح السنة حتى تمكنت الدولة منهم. ثم قالوا السنة داخل العراق طيبون لكن السنة العرب والخليجيين تحديدا هم المجرمون.

لاحظ حين كانت بغداد بألف خير قالوا إن العرب مخدوعون بجاذبية بغداد التاريخية، فلما استولى الصفويون عليها وحولوا بغداد إلى خدعة ومزبلة عربية صاروا يدعون كتابهم لتمجيد بغداد التاريخية وتسميتها عاصمة ثقافية عربية. الباطني لا يؤمن بالظاهر ويتحدث إلى أهوائه تماماً مثل تفسيرهم للقرآن الكريم.

لماذا لم يحمل أكراد العراق الحقد القديم على السنة؟ دائماً أفكر بأن النظام السابق لم يقاتل الشيعة العراقيين قتالا عسكريا مكشوفا في العراق. نحن قاتلنا الأكراد، وذبحناهم، وأحرقنا مدنهم، وقامت الدولة العراقية أثناء القتال والدماء بعمليات مخجلة كالأنفال وحلبچة.

مع هذا حين سقطت الدولة السابقة لم يحمل الأكراد ذلك الإضطهاد محملا عقائديا تاريخيا لأنهم ببساطة "مسلمون سنة". ما زال الأستاذ الجامعي السني يلجأ إلى جامعة أربيل فلا يعترضه أحد، وما زال الضابط العسكري المهدد يهرب إلى السليمانية فلا يقتله أحد. وما زالت البغداديات السنيات يهربن إلى دهوك فلا يغتصبهن الأكراد.

ربما الوحدة هي وحدة العقيدة وليس وحدة اللغة كما قال ميشيل عفلق. الشيعة جلبوا الفرس والأفغان الذين لا يتكلمون اللغة العربية وجعلوا منهم سادة ومراجع وزعماء روحيين للبلاد بسبب وحدة العقيدة، بينما السنة العرب كانوا يطاردون الأكراد إخوانهم في العقيدة.

لم يحمل الأكراد الحقد القديم على السنة العرب في العراق بل حملوها محمل الحكومة الظالمة ولا ذنب على الشعب ولا على الناس. لم يوقع جلال الطالباني حتى على إعدام الرئيس صدام حسين لأنه رأى لمعان النار بعيون الشيعة ورغبة بالإنتقام الطائفي فنأى بشعبه عن هذا النوع من الحفلات.

الأكراد سنة مسلمون سواء أخذوا إقليما أو دولة يبقون لا يحملون علينا لا حقدا ولا ضغينة هذه حقيقة،

حتى إذا ظهرت داعش وقاعدة عندهم وذبحت وفجرت فأن الأكراد لا يذبحون أطفالنا، بل يقوم رجال الأمن بالقبض على المجرمين الفاعلين وتنتهي المشكلة. ربما لأنهم "سنة" أيضا لا مجال للخيال والأسطورة والمبالغة.

لماذا لا نتساءل عن سبب وقوف القوميين العرب كالأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ عبدالباري عطوان مع إيران ومشروعها الصفوي حتى بعد نزوح ستة ملايين سوري بحسب تقارير الأمم المتحدة الأخيرة؟ لماذا لا نتساءل عن وقوف بعض الأقليات العربية مع النظام السوري حتى بعد هدم الحواضر بالبراميل المتفجرة من الطائرات؟ هل هذا لأن الأغلبية السنية قد تم اختزالها إلى إرهاب وفتاوى الشيخ إبن تيمية.

أليس من حق رجل نشأ على العقيدة القومية مثلي في محنة كهذه أن يعيد النظر ويتساءل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق