الرد عن / أوجه التعارض في الحديث الشريف
أوجه التعارض في الحديث الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على رسوله الهادي الآمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد :
فهذا جزءٌ من رسالتي الدكتوراه الموسوم بـ (( التعارض في الحديث )) أحببت أن أخص به إخواني في ملتقى أهل الحديث ، والجزْ المعروض هنا هو الباب الثاني من الرسالة ويتعلق بأوجه التعارض في الحديث الشريف ، وأعتذر للجميع عن بعض الخلل أحياناً في التنسيق نظراً لأني استخرجت هذا من عدة ملفات وعدة أقراص محفوظة منذ عشر سنين ، وأحمد الله أني وجدت أعلب الملفات صالة لكنها تحتاج إلى بعض التنسيق ولم يُتح لي ذلك ، بالإضافة إلى وجود بعض الصفحات غير مصححة لأني وجدت ملفاتها المصححة غير صالحة وهي قليلة جداً ، وعلى كل خال أظن أن وجود هذا القدر بهذه الكيفية الآن سكون مفيداً إن شاء الله ، راجياً من كل من يستفيد من هذا الموضوع دعوة صالحة للكاتب ووالديه .
الباب الثاني
أوجه التَّعارض في الحديث
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأوّل : توهُّم تعارض النَّصين
الفصل الثَّاني : توهُّم تعارض الحديث مع أُصول الدِّين والشَّريعة
الفصل الثَّالث : توهُّم تعارض الحديث مع العقل ،والواقع
ونواميس الكون .
تمهيدٌ :
قد يفهم ناظرٌ إلى عنوان الرِّسالة " التَّعارض في الحديث " أنَّ المقصود بالبحث ، التَّعارض الواقع بين الأحاديث بعضها ببعضٍ ، وهذا وإن كان حقاً ، إلاّ أنَّه يُمثل جزءً من المراد لا كلَّه.
فبعد الاستقراء يمكنني القول أنَّ التَّعارض لم يرد على وجهةٍ واحدةٍ ، أو نمطٍ موحَّدٍ ، بل لقد اختلفت الأنماط وتنوَّعت الحالات.
فهناك التَّعارض الواقع بين النُّصوص ، وهذا يشمل القرآن والسُّنة ، وهناك التَّعارض بين الأحاديث والحوادث والوقائع ، والتَّعارض بين الحديث والعقل والرَّأي والقياس ، إلى غير ذلك من الوجوه والحالات .
ولسوف أتناول بالتَّفصيل في المباحث المقبلة كلَّ هذه الوجوه ، وما يندرج تحت كلِّ وجهٍ أو حالةٍ من الحالات.
واعتمدت في أمثلة التَّعارض على أقوال العلماء ومناقشاتهم في الغالب لأحاديث عدُّوها متعارضةً ومُشكلةً ، ثمَّ بناءً على استقرائي لعددٍ من كتب الرِّواية والدِّراية عندما وجدت أنَّ هذا الحديث يمكن أن يُصنَّف ضمن المتعارض .
وما ذكرته هنا في الفصول المقبلة لا يمثِّل إلاّ جزءً يسيراً ممَّا وقفت عليه من الأحاديث ، وما ذكرته لا يمثِّل إلاّ نماذج وعيِّناتٌ يندرج تحت كلِّ حالةٍ منها عددٌ من الأحاديث ، ولعلِّي أُوفَّق لجمع الأحاديث الّتي قيل عنها مُشكلةً أو متعارضةً في مصنَّفٍ مُستقلٍّ أُخصِّصه لدراستها ونقدها.
الفصل الأوّل
توهُّم تعارض النَّصين
وفيه مبحثان
المبحث الأوّل : تعارض الحديث مع القرآن
المبحث الثَّاني : تعارض الحديثين.
كما أسلفت سابقاً أنَّ التَّعارض مستحيلٌ بين النُّصوص ، وإنِّما هو توهُّم أو ظنُّ التَّعارض والتَّدافع ظاهريـًَّا ، والمقصود بتعارض النَّصين ، هو التَّعارض الّذي يظهر بين الآية والحديث ، أو بين الحديث والحديث ، مع اعتبار التَّقسيمات الّتي يتفرَّع إليها الحديث من قولٍ وفعلٍ وتقريرٍ ، وبخاصَّةٍ فيما يتعلَّق بتعارض الحديث كما سيأتي ، وهذا بيان المقصود والشُّروع في المطلوب .
المبحث الأوّل
تعارض الحديث مع القرآن الكريم
إنَّ القرآن الكريم ، والحديث الشَّريف كلاهما وحيٌ ، وخرجا من مشكاةٍ واحدةٍ ، وإن اختلفا في شيءٍ فإنَّما يختلفان في طريقة الوُرود ( المتواتر والآحاد ) وطريقة جواز الأداء ( بالَّلفظ الحرفي / المعنى) ولهذا لا يمكن للوحيِّ أن يتعارض أو يتناقض.
وإن تُوهِم ذلك ، أو وُجد بما لا يدع مجالاً للشَّكِّ ، ولم نستطع التَّوفيق بأيِّ وجهٍ من الوجوه بين طرفي الوحي ، فلا مناصَ حينئذٍ من تقديم ظاهر الكتاب على دلالة السُّنَّة . ولكنَّ واقع أغلب ما يُدَّعى عليه التَّعارض والتَّناقض هنا ، يمكن فيه الجمع والتَّوفيق .
ثمَّ إنَّ التَّعارض المتوهَّم قد يكون بين صريح الكتاب وصريح السُّنَّة ، أو بين مفهوم الكتاب وصريح السُّنَّة ، وغير ذلك ، ولكُلِّ حالةٍ طريقة تناولٍ ومنهج دراسةٍ ، أبيِّنُها في هذه المطالب:
المطلب الأوّل : تعارض صريح الكتاب مع السُّنَّة .
وهو ما تكون دلالة القرآن فيه صريحةً في مسألةٍ ما ، وتُعارِضُها دلالة الحديث الصَّريحة كذلك.
مثال ذلك : ما أورده ابن قتيبة (1) عن الطَّاعنين أنَّهم قالوا : ( رويتم عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أنَّه قال : " صِلَةُ الرَّحْمِ تَزِيْدُ فِي العُمْرِ"(2) ، والله تبارك وتعالى يقول : { فِإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُوُن }(1) فكيف تزيد صِلة الرَّحم في أجلٍ لا يُتأخَّر عنه ولا يُتَقدَّم ) ؟
فالنَّاظر يجد ما اعترض به أمراً وارداً ، والتَّدافع يكاد يكون أمراً واقعاً ، ولكن بنظرةٍ فاحصةٍ ، وبجمع طرق روايات الحديث ، واستقصاء ألفاظه نتوصَّل إلى حقيقتين :
الأولى : إنَّه لا يمكن ترجيح الآية على الحديث هنا لأن أحاديث زيادة العمر تصل إلى درجة التَّواتر ، فالآية والحديث كلاهما متواترٌ(2) .
الثَّانية : -يجب المصير إلى الجمع ، ومن خلال النَّظر في أجوبة العلماء عن هذا الحديث يمكن أن تحمل أقوالهم في الحديث على أمرين.
1- الزِّيادة الحقيقيَّة ، وهذا ما ذهب إليه عددٌ من العلماء منهم : ابن قتيبة(3) ، وابن فُورَك(4) ، وابن حجرٍ العَسْقَلانيُّ فقال (5) : ( وثانيها : إنَّ الزيادة على حقيقتها ، وذلك بالنِّسبة إلى علم الملك المُوكَّل بالعمر ، وأمَّا الأوّل الّذي دلّت عليه الآية فبالنِّسبة إلى علم الله تعالى ، كأن يُقال للملك مثلاً : إنَّ عمر فلانٍ مِئة سنةٍ مثلاً إن وصل رحمه ، وستون إن قطعها ، وقد سبق في علم الله أنَّه يصل أو يقطع ، فالّذي في علم الله لا يتقدَّم ولا يتأخَّر ، والّذي في علم الملك هو الّذي يمكن فيه الزِّيادة والنَّقص ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ }(6) فالمحو والإثبات بالنِّسبة لما في علم الملك ، وما في أمِّ الكتاب هو الذي في علم الله- تعالى- فلا محو فيه ألبته).
فحَمْلُ الزِّيادة على الحقيقة أمرٌ يقبله العقل ، ويؤيِّده النَّقل ، لما في هذا القول من وجاهةٍ ، واحتمال للصَّواب ، وذلك بالتَّفريق بين علم الله الأزليِّ ، وما هو معروفٌ عند الملَك المُوكَّل بالأجل والرِّزق وما إلى غير ذلك.
وهذا التَّفسير اختاره الغُماريُّ(1) واقتصر عليه فقال (2) : ( للمسلم عُمْران ؛ عمرٌ محدَّدٌ عند الله لا يُعلم غيره ، وعمرٌ مُردَّدٌ بين الزِّيادة والنَّقص عند ملَك الموت ، يقال له : عمر فلانٍ سبعون سنةً إن تصدَّق أو برَّ والديه ، وخمسون سنةً إن لم يفعل ذلك ، وهذا هو المُراد في الحديث ).
2- الزِّيادة المجازيَّة ، أي إنَّ هذه الزِّيادة كنايةٌ عن البَركة في العُمر بسبب التَّوفيق إلى الطَّاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة(3) ، وفي " نوادر الأُصول "(4) : " إنَّ العبدَ إذا عُمِر بالإيمانِ َوبِحياةِ القلب فذلك كثيرٌ وإن قلَّ مدته ، لأنَّ القِصَر من العُمْر إذا احتشى من الإيمان أربى على الكثير لأنَّ المتبقي من العمر العبودية لله- تعالى- ، كي يصير عند الله وجيهاً".
أو السَّعة والزِّيادة في الرِّزق وعافية البدن ، وقد قيل : " الفقر هو الموت الأكبر"(5) وانفرد ابن فُورَك بتفسيرٍ للزِّيادة فقال (6) : " إنَّ معنى الزِّيادة في العمر: نفي الآفات عنهم والزِّيادة في أفهامهم وعقولهم وبصائرهم ".
وهناك فهمٌ آخر للزِّيادة يمكن استنتاجه من جمع ألفاظ الحديث ، والمقارنة بينها، وهو أنَّ زيادة العمر هي بقاء أثر الواصل بعد موته ، وهذا مأخوذٌ من بعض ألفاظ الحديث مثل (7) :" مَنْ سَرَّه أن يُبسَط لَه في رِزقه ، ويُنْسأُ لَهُ في أثره فَليَصِل رَحِمَهُ" .
وهذا الفهم نقله صاحب "فيض القدير"(1) ، عن الزَّمَخْشريِّ أنَّه قال : معناه أنَّ الله يُبقي أثر واصل الرَّحم في الدُّنيا طويلاً ، فلا يضمحلّ سريعاً كما يضمحلُّ أثر قاطع الرَّحم. فحُمِل الأجل هنا على الأثر ، وهو تأويلٌ سائغٌ ، وتفسيرٌ محتملٌ.
وهناك وجهٌ آخر معناه قريبٌ من التَّأويل الأخير ، ورد في حديثٍ ضعيفٍ أخرجه الطَّبرانيُّ في " المعجم الأوسط(2)"، عن أبي الدَّرداء -رضي الله عنه - قال:"ذُكر عند رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم - من وصل رحمه أُنْسِىءَ له في أجله ، فقال: "إنَّه لَيْس زيادة فِي عُمْره ، قال الله تعالى : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ } ولكِنَّ الرَّجلَ تَكُون لَهُ الذُّرِيَّة الصَّالحة يَدْعُونَ لَهُ مِن بَعْدِهِ " .
ففي التَّفسير السَّابق : جَعَل الزِّيادة في العمر زيادةً في أثره وذِكْرِهِ الطَّيِّب ، وفي الثَّاني ، أنَّ أبْنَاءَ المرء الصَّالحين يدعون له ، فكأنَّه بقيَ وعَمِل وازداد من الحسنات.
وبالجملة فهذه التَّفسيرات والتَّأويلات كلُّها مُحتملةٌ ، فلا ينبغي أن يُردَّ الحديث لشُبهةٍ ، أو استشكالٍ ، فالنَّقص من الحديث بِرَدِّهِ أو تضعيف ما ليس بضعيفٍ، كالزِّيادة أو تصويب ما ليس بصحيحٍ ، وكلاهما غير جائزٍ ،بل قد يصل إلى درجة الكذب على رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم- . وغير خافٍ الوعيد الشَّديد على من هذه حالُه ، وهذا عمله.
وقد يكون التَّعارض صريحاً بين نصين ، لكنَّه لفظيٌّ ، أي أن تكون لفظةٌ محدودةٌ وردت في نصِّ حديثٍ أو آيةٍ وعلى هذه الّلفظة مدار النَّهي أو الأمر ، وتأتي هذه الّلفظة ذاتها في نصٍّ آخر في موضعٍ مُخالفٍ تماماً لما جاءت عليه في النَّصِّ الأوّل ، ومثال ذلك : ما رواه البُخاري(3) مُسلمٌ (4) وأصحاب السُّنن عن أبي هُريرة-والّلفظ لمُسلمٍ - أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال :" إذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا وَأنْتُم تَسْعُونَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ ،وَعَلَيْكُمُ السَّكِيْنَةُ ، فَمَاأدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأتِمُّوا "(1) .وبمقابل هذا قول الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِيْن آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللهِ ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُم تَعْلَمُون }(2) .
فالملاحظ أنَّ الآية تحثُّ على السَّعي إلى الصَّلاة ، والحديث ينهى عن السَّعي إلى الصَّلاة وعلى هذا فإن اعترض معترضٌ ، أو استشكل أمرؤٌ فعنده ما يستند إليه ، وأغلب الظَّنِّ أنَّ الاستشكال قد حصل ، لأجوبة العلماء وكلامهم على الحديث والآية ، فمثلاً ذكر النَّوويُّ(3) في شرحه للحديث ما يُشعر بذلك فقال : ( فيه النَّدب الأكيد إلى إتيان الصَّلاة بسكينةٍ ووقارٍ ، والنَّهي عن إتيانها سعياً سواءٌ فيه صلاة الجمعة وغيرها ، سواءٌ خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا ، والمراد بقول الله تعالى " فاسعوا إلى ذكر الله : الذَّهاب ، يقال : سعيت في كذا أو إلى كذا إذا ذهبت إليه وعملت فيه).
وذكر ابن كثيرٍ في تفسيره للآية أنَّ السَّعي هو الاهتمام فقال (4) : ( أي اقصدوا واعمدوا اهتموا في سيركم إليها ، وليس المراد بالسَّعيِّ ها هنا المشي السَّريع ، وإنَّما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى :{ وَمَنْ أرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ }(5)) ومثل هذا التَّفسير مرويٌّ عن الشَّافعي- رحمه الله - حيث يقول(6): ( ومعقولٌ أنَّ السَّعي في هذا الموضع العمل لا السَّعي على الأقدام ، قال تعال :{ إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى }(7) قال :{ وَمَنْ أرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قال :{ وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورَاً } (8) وقال: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيْهَا }(9). وممَّا يؤيِّد هذا الفهم ، ما رواه البَيْهقيُّ(1) : عن عبدالله بن الصَّامت قال : خرجت إلى المسجد يوم الجمعة ، فلقيت أباذرٍ - رضي الله عنه - فبينا أنا أمشي إذ سمعت النِّداء ، فرفعت في المشي لقول الله عز وجل { إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللهِ } فجذبني جذبةً كدت أن أُلاقيه فقال : " أو لسنا في سعيٍ" ؟ لذلك كان عمر بن الخطَّاب وابن مسعودٍ - رضي الله عنهما - يقرآنها : فامْضُوا إلى ذكر الله بدلاً من فاسعوا ،(2) وهو ما يؤيِّد ما قدَّمت من أجوبةٍ للعلماء ، وأفعالٍ للصَّحابة.
ولهذا لا اختلاف ولا تعارض بين ما أمر به الكتاب العزيز ، ونهت عنه السُّنَّة المُشرَّفة لأنَّ اتِّفاق الَّلفظيين ، لا يعني اتِّفاق المعنيين وهذا ما أكَّده وركَّز عليه ابن خُزَيمة حيث قال (3) : ( باب الأمر بالسَّكِينة في المشي إلى الجُمُعة ، والنَّهي عن السَّعي إليها والدَّليل على أنَّ الاسم الواحد يقع على فعلين يُؤمر بأحدهما ويُزْجر عن الآخر بالاسم الواحد ، فمن لا يفهم العلم ولا يُميِّز بين المعنيين قد يخطر بباله أنَّهما مختلفان ، قد أمر الله- عزَّوجلَّ-في نصِّ كتابه بالسَّعي إلى الجمعة في قوله { يَا أيُّهَا الّذِيْن آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاِة مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلىذِكْرِاللهِ } والنَّبيُّ المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم - قد نهى عن السَّعي إلى الصَّلاة فقال - صلّى الله عليه وسلّم - : " إذَا أتيْتُم الصَّلاة فَعَلَيْكُم السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ " وقال - صلّى الله عليه وسلّم -:" فَإِذَا أتَيْتم الصَّلاة فلا تَسْعُوا إليهَا وامْشُوا وَعَلَيْكُم السَّكِيْنَةُ " .
فالله- عزَّوجلَّ -أمر بالسَّعي إلى الجُمُعة ، والنَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - قد نهى عن السَّعي إلى الصَّلاة . فالسَّعي الّذي أمر الله به إلى الجمعة هو المُضيُّ إليها ، غير السَّعي الَّذي زجر النَّبي - صلّى الله عليه وسلّم - في إثبات الصَّلاة ، لأنَّ السَّعي الَّذي زجر النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - هوالخَبب وشدَّة المشي إلى الصَّلاة الّذي هو ضدّ الوقار والسَّكينة ، فما أمر الله- عزَّ وجل به غير ما زجر النَّبي - صلّى الله عليه وسلّم - عنه ، وإن كان الاسم الواحد يقع عليهما جميعاً ).
وكلُّ ما قدَّمته عن السعي والمراد بكلٍّ منهما في القرآن وفي الحديث تؤيِّده الُّلغة ويعضده فهم الُّلغويين ، حيث قال ابن منظورٍ(1) : ( السَّعي : عَدْوٌ دون الشَّدِّ ، سعى يسعى سعياً ، وفي الحديث : " إذا أقيمت الصَّلاة .... " ، فالسَّعي هنا العدْو ، سعى إذا عدا ، وسعى إذا مشى ، وسعى إذا عمل وسعى إذا قصد ، وإذا كان بمعنى المُضِيِّ عُدِّي بإلى ، وإذا كان بمعنى العمل عُدِّيَ بالَّلام ، والسَّعي : القصد ، وبذلك فُسِّر قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله ، وليس من السَّعي الّذي هو العَدْو).
المطلب الثَّاني: توهُّم تعارض مفهوم الكتاب مع صريح السُّنَّة:
وهو ما تتعارض فيه دلالة السُّنَّة الصَّريحة مع ما يفهم من القرآن الكريم، ومثال ذلك: قول رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم -: الوَائِدَةُ وَالمّؤودَةُ فِي النَّار"ِ(2) “ وهناك رواياتٌ أُخرى بزيادة: "إلاّ أنْ تُدْرِكَ الوَائِدَةُ الإسلامَ فَتُسْلِمَ ".
فدلالة هذا الحديث الصَّريحة تقول أنَّ الوائدة والمؤودة كلتاهما في النَّار، وهذا يعارضه ويضادُّه مفهوم قول الله تعالى:{ وَإِذَا المَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } إذ يُفهم من قول الله هذا أنَّ الموؤدة لا ذنب لها فتُقتل، وهذا السُّؤال إنَّما هو ذمٌ وتقريعٌ لقاتلها، كونه قتلها بلا سببٍ. قال الرَّازي وغيره: "وسؤالها هو على وجه التَّبكيت لقاتِلها ". وقد استدلَّ ابن عبَّاس بهذه الآية على أنَّ أطفال المشركين في الجنَّة إن صحَّت الرِّواية عنه ؟!.
ممَّا تقدَّم يتَبيَّن أنَّ الاختلاف واضحٌ جليٌّ، والتَّعارض واقعٌ ملموسٌ، ولا يمكن إزالته بكلمةٍ أو جملةٍ، وقد خاض العلماء في هذين النَّصَّين لمحاولة التَّوفيق بينهما والتَّقريب بين مدلوليهما، فبعضهم اكتفى بالنَّظر إلى الأسانيد فحسب وحكم من خلالها بضعف الحديث، وبعضهم خاض في المتن لدفع الاستشكال عنه.
وقد توسَّع الدَّارقُطنِي(1) في إيراد أسانيد الحديث ليُبيِّن اختلافها واضطرابها، والكشف عن عللها وضعفها، وكذا فعل البُخاريُّ(2) عندما روى الحديث.
فذكر الدَّارقُطنِيُّ أن هذا الحديث روي مرسلاً عن الشَّعْبيِّ، وروى عن الشَّعْبيِّ عن علْقَمة، عن عبد الله بن مسعود، واختُلف فيه عن ابن مسعودٍ في رواياتٍ كثيرةٍ. ورُوي مُتَّصلاً عن الشَّعْبيِّ عن ابني مُلَيْكَة، واخْتُلف فيه عن ابنيْ مُلَيْكَة كذلك، فبعضهم أدخل عَلْقَمة بين الشَّعْبيِّ وبينهما، وبعضهم زاد كذلك ابن مسعود، إلى غير ذلك من الوجوه الكثيرة الّتي ذكرها الدَّارقُطنيُّ، ونبَّه على أغلبها البُخاريُّ.
وهذا التَّلوُّن الشَّديد في الحديث مع اتِّحاد مخرجِهِ يُسوِّغ قول من ضعَّفَهُ وردَّه بمخالفة الأَحاديث الصَّحيحة ومفهوم الآيات.
ولهذا فقد قال ابن الوزير(3) : “وقد بالَغتُ بالبحث عن صحَّة هذا الحديث حتَّى وجدتُ ما يمنع القطع بصحَّتهِ، فسقط الاحتجاج به وللّه الحمد(4) .
والحديث المقصود هو حديث سَلَمة بن يزيد الجُعْفِيِّ وأخيه، إذ هو الوحيد الَّذي ظهر أنَّه ذو إسنادٍ لا بأس به، كما قال ابن القَيِّم(5) .
أمَّا باقي الأحاديث الَّتِي تنُصُّ على دخول أطفال المشركين النَّار فهي ضعِيفةٌ، كما قال السُّبكِيُّ(1) واستثنى حديث سلمة بن يَزِيدٍ، وقال: " فإنَّه صحيح الإسناد، لكنَّهُ غير عامٍّ، وإنَّما هو نصٌّ في موؤدةٍ بعينها، فاحتمل التَّأويل.
ولو ترجَّحَ ضعف الحديث على صحَّتِهِ لاكتفيت بإيــراد ما أوردت ، ولاستغنيت عن إيراد الأوجه والاحتمالات الّتي يمكن أن يُحمل الحديث عليها،كما أنَّ الحديث لم يصل إلى المرتبة العُليا من الصَّحيح.
ولهذا فسأذكر بعض الأقوال في توجيهِهِ، وقد تكون هذه الأقوال قريبةً لكنَّنِي لا أتبنَّاها، أو تكون ضعيفةً فأُنبِّه عليها.
قال ابن عبد البَرِّ (2) عن الحديث - أي حديث ابني مُلَيْكة -: "وهو صحيح الإسناد، إلاَّ أنَّه مُحتملٌ أن يكون خرج على جواب السَّائل في عينٍ مقصودةٍ، فكانت الإشارة إليها، وهذا أولى ما حُمل عليه هذا الحديث لمعارضةِ الآثار له، وعلى هذا يصحُّ معناه واللّه أعلم".
وقد فسَّر ابن حَزْمٍ كيف يكون هذا الحديث خاصَّاً بحادثة عينٍ فقال(3) : "وهذه اللَّفظَة - يعني لم تبلغ الحِنْث - ليست بلا شكٍّ من كلام رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - ولكنَّها من كلام سلَمة ابن يزيدٍ الجُعْفيِّ وأخيه، فلمَّا أخبر - عليه السَّلام - بأنَّ تلك الموؤدة في النَّار كان ذلك إنكاراً وإبطالاً لقولهما: إنَّها لم تبلغ الحِنْث وتصحيحاً، لأنَّها قد كانت بلغت الحِنْث بخلاف ظنِّهما... وهذا القول حكاه ابن الوزير(4) - على فَرَضِ صِحَّة الحديث - لأنَّه قد مرَّ معنا قبل قليل أنَّه يُضَعِّف الحديث.
وهذا أولى ما حُمِل الحديث عليه عند من ارتَضَوهُ سنداً، ولقد أشْكَلَ على البعض هذا التَّوجِيهِ بِحمْلِ الحديث على الخُصُوصِيَّة، ولكن عند البحث والتَّنْقِيب لا نرى إشكالاً في الأمر،بل إِنَّ الجُنُوح لهذا التَّفسير أولى من بعض التَّفسيرات البعيدة والمُتكلَّفة.
وبيان ذلك بمعرفة ماذا كان يُقصد بالوأد عند العرب، وكيف كانوا يَئِدون .
وعند التَّساؤل الأولي: ما هو الوأد؟ قد تكون الأجابة حاضرةً: هو دفن البنت في حالة الحياة خوف الفقر أو العار . ولكنَّ هذه الإجابة غير كافيةٍ، ولابُدَّ من الرُّجوع للمصادر لمعرفة مرادهم بذلك، ومن الَّذِي كان يقوم بالوأد، ومن كان يستعمله منهم ؟
يقول د. جوادعلي(1) : "الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطِبةً، فكان يستعمله واحدٌ ويتركه عشرةٌ، فجاء الإسلام وقد قلَّ ذلك منها إلاَّ من بني تميمٍ، فإنَّهم تزايد فيهم ذلك قُبيل الإسلام، وقبيلة كِنْدة، وقيس، وأسد، وهُذَيل، وبكرُوائلٍ من القبائل الَّتي عُرف فيها الوأد".
وقد كان العرب في الجاهلية يَئِدون أولادهم بطريقتين(2) : إمَّا أن تأتي المرأة إلى حُفرةٍ وتَلِدَ عندها فإن كان ولداً أمسكوه، وإن كانت بنتاً رمَوْها في الحفرة وأهالوا عليها التُّراب، وإمَّا أن يتركوها تكبر حتَّى تبلع ستَّ سنواتٍ، فيأخذها أبوها ويئدها، وفي الغالب كان الأب يقوم بهذا العمل.
فالوأد عمليةٌ مشتركةٌ قد يقوم بها الأب، أو الأمُّ، ولكلٍ منهما طريقةٌ ، ونصيب الأب فيها أكثر، فلو كان الحديث عامَّاً لكان نصُّه: الوائد والموؤدة في النَّار، ولكن لمَّا لم يكن كذلك، والوائدة هنا لم تكن قد وأدت ابنتها بالطَّريقة المعهودة - أي عند الولادة - فصبرت عليها حتَّى كبرت - وهو المفهوم من كلام السَّائِلين - لم تبلع الحِنْث - ووأدتها بنفسها بطريقة لم تُعهد للنِّساء ، كانت دعوى الخُصوصِيَّة وجِيهةً ، ولا غرابة فيها.
وهناك وجهٌ آخر لتأويل الحديث ذكره القارى وغيره ، وهو مُستبعدٌ، بل مُستَغْربٌ، فقال(3) : "وقد تُؤوَّل الوائدة بالقابلة لرضاها به، والمؤودة، بالمؤودةِ لها، وهي أمُّ الطِّفل فحُذِفت الصِّلة، إذ كان من دَيْدَنِهم أنَّ المرأة إذا أخذها الطَّلْقُ حفروا لها حفرةً عميقةً فجلست المرأة عليها، والقابلة وراءها ترقب الولد.
فإن ولدت ذكراً أمسكته، وإن ولدت أنثى ألقتها في الحُفرة، وأهالت التُّراب عليها. وهو بعيد كما قدَّمت، ولكنَّ البعض قَدَّمه على قول من جعله بسببٍ خاصٍّ(4) .
وعلى هذا فإزالة الإشكال في هذا الحديث تحتمل وجهين:
أولاً: أن نحكم على الحديث بالضَّعف ، كما فعل بعض العلماء، ولا نتشاغل بالتماس أوجه التَّوفيق والجمع.
ثانياً: أن نحمل هذا الحديث على سببٍ خاصٍّ قيل فيه، وهو سببٌ وجيهٌ كما بيَّنت قبل قليلٍٍ.
المطلب الثَّالث: توهُّم تعارض مفهوم الكتاب مع مفهوم السُّنَّة:
لم أُرد من هذا العنوان ما يتبادر إلى الذِّهن من تعريف المفهوم في علم الأُصول الّذي جاء فيه بيان المنطُوق والمفهوم، وتعريف المفهوم وتقسيمه إلى مفهوم مُوافَقةٍ ومُخالفةٍ وما إلى ذلك، ولكنِّي أردت ببساطةٍ أن أُظهر توهُّم التَّعارض بين الكتاب (القرآن) والحديث لا من حيث نصُّ كُلٍّ منهما على نقيض الآخر، بل من حيث ما يُستفاد من الآية وتَناقُضُه مع ما يُفهم من الحديث، مُستعيناً بالتَّعريف الأيسر للمفهوم وهو :" حُكم غير المنطوق في النَّص"(1) ، ولهذا فالمُراد من المفهوم هنا ما مايُقرأ بين السُّطور .
ومثال ذلك قوله تعالى: { وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْه سَبِيْلا }(2) فيُفهم من هذه الآية أنَّ الرِّجال والنِّساء جميعاً داخلون فـي الخِطَاب، لأنَّ لفظ النَّاس يتناولهما جميعاً، ثمَّ لاستوائهما في التَّكليف.
وهذا النَّصُّ عارضه نصٌّ حدِيثِيٌّ قَيَّده، فعن عبداللّه بن عمر أنَّ النَّبيَّ- صلّى اللّه عليه وسلّم - قال:(3) " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ تُسَافِرَ مَسِيْرَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، إلاّ وَمَعَها ذُومَحْرَمٍ ". فهذا الحديث يدلُّ على عدم جواز سفر المرأة وحدها دون محرمٍ.
ووجه التَّعارض بين الحديث والآية جاء ممَّا يلي:
* إنَّ الحجَّ مكتوبٌ على المرأة كما هو على الرَّجل، والحجُّ غالباً ما يَقْتضِي السَّفر، ممَّا يُوجِبُ على المرأة أن تُسافر لِتحُجَّ.
* ورد في النَّصِّ الحَدِيثيِّ عدم جواز سفر المرأة وحدها دون مَحرمٍ، وعلى هذا فلا يجوز سفرها للحجِّ وحدها كما لا يجوز لغيره، ولهذا تعارض مفهوم الآية الَّذي يُوجب عليها الحجَّ ومن ثَمَّ السَّفر له، ومفهوم الحديث الَّذي منعها من السَّفر بإطلاقٍ ومعه السَّفر إلى الحجِّ.
وهذا ما فَهمه عددٌ من العلماء عندما ذكروا هذا الحديث في أبواب الحجِّ والمناسك، مِمَّا يُعدُّ قولاً لهم في عدم جواز سفر المرأة للحجِّ دون مَحرمٍ.
وقال التِّرْمِذِيٌّ في "الجامع"(1) :" والعمل على هذا عند أهل العلم، يكرهون للمرأة أن تسافر إلاّ مع ذي مَحرم.
واختلف أهل العلم في المرأة إذا كانت مُوسِرةً ولم يكن لها مَحرمٌ هل ، تحجَّ؟
فقال بعض أهل العلم: لا يجب عليها الحجَّ، لأنَّ المَحرم من السَّبيل لقول اللّه - عزَّ وجَلَّ -: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيْلاً} فقالوا: إذا لم يكن لها مَحرمٌ فلا تستطيع إليه سبيلاً، وهو قول سفيان الثَّوريِّ وأهل الكوفة.
وقال بعض أهل العلم: إذا كان الطَّريق آمناً، فإنَّها تخرج مع النَّاس في الحجِّ وهو قول مالكٍ والشَّافِعيِّ ".
فواضِحٌ أنَّ اختلاف العلماء في هذه المسألة نابعٌ من إدْراكِهم للتَّعارض بين مفهومي الآية والحديث، فتَفَرَّعت بناءً على ذلك مذاهبهم وآراؤهم.
وقد أشار المَازِريُّ لهذا التَّعارض وإلى مذاهب العلماء فقال(2) : "أبو حنيفة يشترط في وجوب الحجِّ على المرأة وجود ذي مَحرمٍ، والشَّافِعيُّ يشترط ذلك أو امرأةً واحدةً تحجَّ معها، ومالكٌ لا يشترط من ذلك شيئاً.
وسبب الخِلاف معارضةُ عُموم الآيةِ بهذا الخبر، فعموم الآية قوله تعالى: من استطاع اليه سبيلا* يقتضي الوجوب وإنْ لم يكن ذو مَحرمٍ، والحديث يُخصِّصُ ذلك، فمَنْ خصَّصَ الآية به اشترط المَحرم، ومَنْ لم يُخصِّصْها لم يشترط، وقد يَحْمل مالك الحديث على سفر التَّطَوُّع.
ويُؤيِّد مذهبه أيضاً أن يقول: اتُّفِق على أنَّ عليها أن تهاجر من دار الكفر وإنْ لم يكن معها ذو مَحرمٍ لمَّا كان سفراً واجباً، وكذلك الحجُّ. وقد ينفصل عن هذا بأن يقال: إقامتها في دار الكفر لا تَحِلُّ ويُخشى على دينها ونفسها، وليس كذلك التَّأخير عن الحجِّ”.
وأرى أنَّ مَن جمع بين المُتعارضين بحَمْلهما على العُموم والخُصوص فيكون الحديث مُخصِّصاً للآية أقرب للصَّواب من غيره، ولهذا فقد خالف الإمام النَّوَويُّ مذهبه ورجَّح رأي الجمهور الَّذي لا يرى جواز سفر المرأة للحجِّ إلاّ مع زوجٍ أو مَحرمٍ وقال (6) :"وهذا هو الصَّحيح للأحاديث الصَّحيحة".
المبحث الثَّاني: تعارض الحديثين
إنَّ التَّعارض بين الأحاديث هو ميدان هذا الفنِّ الأكبر، بل إنَّ الذِّهنَ لينصرف إليه عند سماع كلمة تعارض، وما ذلك إلاّ لكثرته واشتهاره، ولمّا كان الحديث يشمل القول والفعل والتَّقرير، فإنَّ القول قد يتعارض مع القول أو القول مع الفعل، أو القول والفعل مع التَّقرير، وهذه الأمور سوف يكون عليها مدار الكلام في هذا المبحث.
المطلب الأوّل: تعارض القولين:
وهذا الّلون من التَّعارض موجودٌ بكثرةٍ كما مرَّ قبل قليلٍ، وهذا التَّعارض قد يكون صريحاً منطوقاً به في كلا الحديثين، وقد يكون صريحاً في حديثٍ، غير صريحٍ في آخر لكنَّ مفهومه يدلُّ على التَّعارض، وهذه أمثلةٌ على ذلك .
أولاً: ورود التَّعارض بين قولين لفظهما صريحٌ، ومثاله: قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -: "لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلاّ فِي فَرِيْضَةٍ، وَإنْ لَمْ يَجِدْ أحَدُكُمْ إلاّ عُودَ كَرْمٍ أوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ"(1) .
وهذا الحديث يتعارض مع أحاديث مُتنوِّعةٍ تُجيز صيام السَّبت، ومنها الحديث الّذي أشار إليه الحاكم بأنَّه معارضٌ لهذا الحديث، حيث قال عند روايته(2) :"صحيحٌ على شرط البُخاريِّ ولم يُخرِّجاه، وله مُعارضٌ بإسنادٍ صحيحٍ قد أخرجاه(1) : حديث همام عن قتادة عن أبي أيوبٍ العَتَكِيِّ، عن جُويْرِيَّة بنت الحارث أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - دخل عليها يوم الجُمعة وهي صائمةٌ فقال: "صُمْتِ أمْسِ"؟ قالت: لا، قال: "فَتُرِيْدِينَ أنْ تَصُومِي غَدَاً "؟ الحديث.
ومنها الحديث الّذي أخرجه البُخاريُّ(2) عن أبي هُريرة قال: سمعت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم - يقول: "لا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلاّ يَوْمَاً قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ ".
فواضحٌ أنَّ بين هذين الحديثين وحديث النَّهي عن صيام السَّبت تعارُضاً ظاهراً، إذ هما يُجيزان للمرء أن يصوم السَّبت إن صام قبله الجُمُعه، وواضحٌ أنَّ سِياق الحديثين لم تذكرالفريضة فيهما، بل ما تَطوُّعٌ محضٌ، بعكس حديث الباب. ولا يفهم من استشهادي بهذين الحديثين أنَّهما المعارضان لحديث النَّهي عن صيام يوم السَّبت فحَسبُ، إذ أنَّ هناك أحاديث أُخرى يُفهم من سياقها التَّعارض والتَّناقض. ومنها: حديث صيام داود(3) أنَّه كان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ممَّا يُوجب أن يقع ضمن صيامه يوم السَّبت مرتين كلَّ شهرٍ على الأقلِّ، وكذلك صيام الأيام البِيْض(4) من كلِّ شهرٍ، فإنَّه لابدَّ أن يُصادف السَّبتُ أحدَ هذه الأيام إلى غير ذلك من الأحاديث المُعارضة.
وعلى هذا فإنَّنا يجب أن نفهم أن هذا الحديث معارضٌ لجملةٍ من الأحاديث، وليس لحديثٍ واحدٍ، ولذلك اختلفت أقوال العلماء في الحديث، وفي توجيه التَّعارض والتَّناقض في الحديثين، في كلام يطول ويتفرَّع، وسوف يكون كلامي على هذا الحديث من وجهين ؛ أوّلهما: النَّظر في صحَّة الحديث، وثانيهما: النَّظر في توجيهه في مقابلة هذه الأحاديث المعارضة له.
أمَّا بالنِّسبة للنَّظر في صحَّة الحديث فقد اختلف العلماء والباحثون قديماً وحديثاً في صحَّة هذا الحديث، وفي حُجِّيته، فمن كاتمٍ ومُكذِّبٍ ومُضَعفٍ له، إلى مُصحِّحٍ له ،بل إلى من يضعه في أعلى درجات الصِّحَّة، ويجعله أصلاً تتفرَّع عنه مسائل.
وللوقوف على حقيقة ذلك أنقل ما يلي:
روى أبو داود(6) عن مالك أنَّه قال: هذا حديثٌ كذبٌ.
طريقة من صحَّحَه، ورجَّح عبد الحقِّ الرِّواية الأولى، وتَبِع في ذلك الدَّارقُطني، لكنَّ هذا التَّلوُّن في الحديث الواحد، بالإسناد الواحد، مع اتِّحاد الَمْخرج، يُوهِّن روايه، ويُنْبِىءُ بِقلَّة ضَبطِهِ، إلاّ أنْ يكونَ من الحُفَّاظ المُكثرين المعروفين بجمع طُرق الحديث فلا يكون ذلك دالاً على قِلَّة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا، بل اخْتُلِف فيه أيضاً على الرَّاوي عن عبد الله بن بُسرٍ أيضاً".
وقد بحث ابن القيِّم(1) هذا الحديث بحثاً طويلاً تناول فيه أقوال من رفَض الحديث وضعَّفه، أو حمله على النَّسخ أو غيره فأجاب عما احتوته، وتعرَّض لأقوال من كرِه الحديث وتعرَّض لحُجَجهم ثُمَّ قال(2) :"واحتجَّ الأثرم بما ذُكر في النُّصوص المتواترة على صوم يوم السَّبت، يعني أن يُقال: يمكن حمل النُّصوص الدَّالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النَّهي على صومه وحده، وعلى هذا تتَّفقُّ النُّصوص.
وهذه طريقةٌ جيِّدةٌ لولا أنَّ قوله في الحديث: "لا تَصُوُمُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلاّ فِيْمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ " دليلٌ على المنعِ من صومه في غير الفرض مُفرداً أو مضافاً، لأنَّ الاستثناء دليل التَّناول، وهو يقتضي أنَّ النَّهي عنه يتناول كُلَّ صُور صومه، إلا صورة الفرض، ولو كان إنَّما يتناول صُورة الإفراد لقال: لا تصوموا يوم السَّبت إلا أن تصُوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، كما قال في الجُمعة.
فلمَّا خصَّ الصُّورة المأذون في صَومها بالفريضة، عُلم تناول النَّهي لما قابلها، وقد ثَبت صوم يوم السَّبت مع غيره بما تقدَّم من الأحاديث وغيرها، كقوله في يوم الجمعة: "إلا أنْ تَصُومُوا يَوماً قبله أو يَوْماً بَعْدَه" فدلَّ على أنَّ الحديث غيَر محفوظٍ وأنَّه شاذٌّ ، وإلى مثل هذا ذهب شيخه ابن تَيميَّة قبله وقال(3) : بعد أن ساق أقوال بعض من رفض الحديث: "وعلى هذا فيكون الحديث إمَّا شاذّاً غير محفوظٍ وإمَّا منسوخاً، وهذه طريقة قُدماء أصحاب أحمد الذين صحِبوه، كالأثرم، وأبي داود..."وقال(4) :"وأمَّا أكثر أصحابنا ففهِموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحملِه على الإفراد، فإنَّه سُئِل عن عين الحكم فأجاب بالحديث، وجوابُه بالحديث يقتضي اتِّباعُهُ ".
وخلاصة القول في هذا الحديث بأنَّه يحتمل أحد أمرين:
أوّلاً: الجمع ، وهذا يقود إلى قبول قول من حمل النَّهي على أنَّه نهيٌ عن إفراد الصَّوم يوم السَّبت، لا منع الصَّوم مُطلقاً.
ثانياً: التَّرجيح وهنا يرجح قول من - ذكر أنَّ الحديث شاذٌّ.
لذا فإنِّي أُرجِّح القول الأول، مختتماً ومستشهداً بكلمة لمرعي الكرمي(1) وهي نهايةٌ في التَّحقيق حيث قال(2) : فهذا الشَّارع قسَّم الأيام باعتبار الصَّوم ثلاثة أقسامٍ:
قسمٌ شُرع تخصيصه بالصِّيام إمَّا إيجابا كرمضان ، أو استحباباً كيوم عرفة وعاشوراء .
وقسمٌ نُهي عن صومه مُطلقاً كيوم العيدين.
وقسمٌ نُهى عن تخصيصه كيوم الجُمعة، وسُرَر شعبان، وإفراد صوم السَّبت، وإفراد رجب ، فلو صِيم مع غيره، أو وافق عادةً لم يُكره.
ثانياً: ورود التَّعارض في قولين ؛ أحدهما دلالته ظاهرةٌ، والآخر دلالته مُستنبطةٌ ، ومثال ذلك: قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - لرجل عندما وجده يمشي بين القُبور وعليه نعلان فناداه النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - "يَا صَاحِبَ السَّبْتِيَّتَيْنِ وَيْحَكَ ألْقِ سِبْتِيَّيَتْكَ" فنَظر الرَّجل فلمَّا عرف رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - خلعهما فرمى بهما(3) .
فهذا الحديث الصَّريح في منع المشي بين القُبور بالنِّعال يُعارضه حديثٌ آخر فُهِم منه جواز المشي بين القبور بالنِّعال ، وهو ما روى البُخاريُّ(4) ومُسلمٌ (5) والّلفظ له - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -:"إنَّ الميِّت إذا وُضِع في قَبْره، إنَّه لَيَسمع خَفْق نِعالِهم إذا انْصرفوا".
فيُفهم من هذا الحديث جواز المشي بين القُبور بالنِّعال، وإلا لم يقل: "ليَسْمع خَفْقَ نِعالِهم". وهذا ما فهمه غيُر واحدٍ من العلماء من هذا الحديث ومنهم الطَّحاويُّ(1) إذ قال قبل روايته لهذا الحديث: "وقد رُوي عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ما يدلُّ على إباحة المشي بين القُبور بالنِّعال، ثُمَّ ساق هذا الحديث.
ولإزالة هذا التَّعارض الوارد بين الحديثين لجا بعض العلماء إلى الجمع بينهما وذهب آخرون إلى التَّرجيح.
أمَّا الّذين ذهبوا إلى الجمع فقد قال بعضهم: إن النَّهي الّذي كان في حديث بشير - أي الحديث الأول - للنجاسة التي كانت في النعلين لئلا ينجس القبور، كما قد نهى أن يتغوط عليها أو يبال. والى هذا الرأي ذهب الطحاوي(2) والبيهقي(3) ، وأبو عبيد(4) وذكره النووي(5) كأحد أوجه الجمع بين الحديثين.
والتسليم لهذا الرأي فيه نظر اذ يعوزه النقل، ولو كان في النعل قذر أو نجاسة لنقل هذا في احدى روايات الحديث ، ولهذا شن ابن حزم بأسلوبه المعهود هجوما على أصحاب هذا الرأي فقال(6) : “وقال بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه فقال: لعل تينك النعلين كان فيهما قذر.
قال أبو محمد - أي ابن حزم - من قطع بهذا فقد كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، اذ قوله ما لم يقل، ومن لم يقطع بذلك فقد حكم بالظن، وقفاما لا علم له به”.
قلت: فاني وان لم أوافق ابن حزم على عباراته، الا اني أرضى استنتاجه.
وذهب آخرون الى أنه - صلى الله عليه وسلم - وانما نهى عن النعال السبتية - وهي المدبوغة بالقرظ - لما فيها من الخيلاء، قال الخطابي(7) : “وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم، قال الشاعر يمدح رجلا: ويحذي نعال السبت ليس بتوأم(8) .
وقال أبو عبيد(9) : وانما ذكرت السبتية لأن أكثرهم في الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة، الا أهل السعة منهم والشرف.
وهناك رأيٌ آخر في الجمع هو لابن حزم(1) ، اذ أنه رأى أن النهي عن المشي بين القبور مختص بالنعال السبتية، لأنها سبتية دون أن يعلل جريا منه على حمل المراد على ظاهر اللفظ، فقال بعد رواية حديث “ان العبد اذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم” فهذا اخبار منه - عليه السلام - بما يكون بعده، وأن الناس من المسلمين سيلبسون النعال في مدامن الموتى الى يوم القيامة على عموم انذاره - عليه السلام - بذلك، ولم ينه عنه، والأخبار لا تنسخ أصلا، فصح اباحة لباس النعال في المقابر، ووجب استثناء السبتية منها، لنصه - عليه السلام - عليها. والى هذا الراي الأخير مال القاضي أبو يعلى حيث قال(2) : “ذلك مختص بالنعال السبتية لا يتعداها الى غيرها، لأن الحكم تعبدي غير معلل، فلا يتعدى مورد النص.
أما الذين ذهبوا الى الترجيح فقد تمسكوا بظاهر النهي، وحملوا المراد بالنعال على العموم ولم يخصوها بالسبتية، فقد نقل ابن القيم(3) أن الامام أحمد قال عن اسناد هذا الحديث الذي فيه النهي: انه جيد، وأنه يذهب اليه الا من علة.
وقال ابن القيم عن تعارض الحديثين(4) : “وأما معارضته بقوله - صلى الله عليه وسلم - “انه يسمع قرع نعالهم” فمعارضة فاسدة فان هذا اخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالواقع ، وهو سماع الميت قرع نعال الحي، وهذا لا يدل على الاذن في قرع القبور والمشي بينها بالنعال، اذ الاخبار عن وقوع الشيء لا يدل على جوازه ولا تحريمه ولا حكمه، فكيف يعارض النهي الصريح به”.
والى قريب منها ذهب ابن حجر (5) - رحمه الله - فقال بعد حكايته الحديث: واستدل به على جواز المشي بين القبور ولادلة فيه. ... وقال أيضا: وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء فإنَّه متعقَّب بأنَّ ابن عمر كان يلبس النِّعال السِّبْتيَّة ويقول: إنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - كان يلبسها، وهو حديثٌ صحيحٌ(1) .
قلت: ولا يمنع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس هذه النعال في حياته المعتادة أن ينهى عنها عند دخول المقابر، لأنه لا يتلاءم مع ما يجب أن يكون عليه المؤمن من خشوع وخضوع وتواضع، لذا أراني أميل الى رأي الخطابي مع هذه الملاحظة التي ربما فاتت البعض من العلماء وبنه عليها النووي(7) . وبهذا يزول التعارض دون الحاجة الى أهمال أحد الحديثين.
ويلتحق بهذا المطلب وجود التعارض في القول الواحد، أي في الحديث نفسه كما زعم من ادعى التناقض على الأحاديث، ومثاله ما أورده ابن قتيبة عندما قال(8) : “قالوا حديث يفسد أوله آخره، قالوا: رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: “اذا قام أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا، فانه لا يدري أين باتت يده”(9) قالوا: وهذا الحديث جائز لاولا قوله فانه لا يدري أين باتت يده، وما منا أحد الا وقد درى أن يده باتت حيث بات بدنه، وحيث باتت رجله، وأذنه ، وأنفه وسائر أعضائه ، وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه في نومه، ولو أن رجلا حس فرجه في يقظته لما نقض ذلك طهارته فكيف بأن يمسه وهو لا يعلم، والله لا يؤاخذ الناس بما لا يعلمون.
فالمعترضون على هذا الحديث كما يظهر اعترضوا على أمرين، وجدوا أنهما غير معقولين.
أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم - : “أين باتت يده” حيث فهموا منه أن جسمه يبات في مكان ويده في مكان آخر، ولهذا أوردوا الاعتراضات التي تبين ذلك حيث جاء: وما منا أحد الا وقد درى أن يده باتت حيث بات بدنه وحيث باتت رجله. وهذا الاعتراض منقوض بالروايات الأخرى عند ابن خزيمة(10) والدارقطني(11) بزيادة لفظه منه، فقد قال ابن خزيمة(12) : باب ذكر الدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انما أراد بقوله: “فانه لا يدري أين باتت يده منه”، أي أنه لا يدري أين باتت يده من جسده، ثم روى الحديث ولفظه: “اذا استيقظ احدكم من نومه فلا يغمس يده في انائه، أو في منوئه حتى يغسلها فانه لا يدري أين باتت يده منه”. واسناده في هذا الحديث صحيح. فبهذا ينتقض الاعتراض الأول.
وثانيهما: انه يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - أين باتت يده ، أي على أي جزء من أجزاء جسمه وهذا لا يوجب غسلا لليد، لأن أقصى ما يمكن أن تمسه الفرج، ويرى المعترضون أن الوضوء من مس الفرج في اليقظة لا يوجب غسلا لليد أو وضوءا فكيف بالنوم وهو مقام احتمال ليس الا؟
وقد ذكر النووي تعليل هذا الأمر عن الشافعي فقال(1) : سببه ما قاله الشافعي - رحمه الله - وغيره أن أهل الحجاز كانوا يقتصرون على الاسنجاء بالأحجار وبلادهم حارة، فاذا نام أحدهم عرق، فلا يأمن أن تطوف يده على المحل النجس أو على بثره أو قمله ونحو ذلك فتتنجس”. فالعلة اذا ليست مجرد الخوف من مس الفرج بل الخوف من التنجس ولهذا قال الشاطبي(2) : “اذ النائم قد يمس فرجه فيصيبه شيء من نجاسة في المحل لعدم استنجاء تقدم النوم، او يكون قد استجمر فوق موضع الاستجمار، وهو لو كان يقزظان فمس لعلم بالنجاسة اذا علقت بيده فيغسلها قبل غمسها في الاناء لئلا يفسد الماء، واذا أممكن هذا لم يتوجه الاعتراض”.
فبهذا التعليل يندفع الاعتراض التثاني، وهو تعليل مقبول ومعقول اذا الخشية لابد مترتبة من خوف اصابة النجاسة، ولهذا نقل ابن عبد البر(3) الاجماع عن جماهير العلماء في الذي يبيت في سراويله وينام فيها، ثم يقوم من نومه ذلك أنه مندوب الى غسل يده قبل أن يدخلها في اناء وضوئه، قال: وفهم من أوجب عليه مع حاله هذه غسل يده فرضا. وعلل ابن عبد البر(4) الندب فيمن هذه حالة بأن من بات في سراويله لا يخاف عليه أن يمس بيده نجاسة في الأغلب من أمره.
المطلب الثاني: توهم تعارض القول مع الفعل:
وذلك أن يرد قول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه نهي عن أمر ما ثم ينقل لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قام بهذا الأمر وفعله، مما يجعل الناظر إلى هذين النَّصين في حيرة واضطراب، ان لم يكن في شك وارتياب.
وابتداء قد تكون الإجابة حاضرة وميسورة بأن نقدم الآخر على الأول منهما، أي أن نحمل الأمر على النسخ ان استطعنا معرفة زمن كل منهما، عند من يقولون بجواز نسخ القول بفعل، أو أن نرجح القول على الفعل، لأن دلالة القول أقوى من دلالة الفعل ، ولا يعتريه ما يعتري الفعل من احتمالات تصرفه عن أن يكون بقوة القول ، كأن يكون من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن هذه الاجابات لا تكون الا بعد دراسة النصين سندا او متنا، وتقديم أجوبة مقبولة مقنعة، مع الأخذ بعين الاعتبار القواعد الحديثية والأصولية.
أما ادعاء الخصوصية فهيهات، اذ لابد من نص يثبت التخصيص، والخصوصية لا تثبت بالاحتمال، ولا يمكن ادعائهما بمجرد التعارض والتضاد، ثم اني أفهم الخصوصية التي خص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبخاصة في احكام العبادات تميل نحو التشديد عليه لا العكس، اذ لا يعقل أن يامر أمته بأمر فيه عزيمة، ثم يترخص لنفسه - صلى الله عليه وسلم - فمثلا التهحد سنة على المؤمنين، لكنه فرض عليه - صلى الله عليه وسلم (5) - كما ذهب الى ذلك أغلب المحققين وكذا عند أكثر المفسرين في تفسيرهم لقوله تعالى(6) : {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} قال البغوي(7) : وكانت صلاة الليل فريضة على - النبي صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى(8) : {يا أيها المزمل قم الليل الا...} ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات الخمس، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى(9) : {فأقرؤا ما تيسر منه} وبقي الوجوب ثابتاً في حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله(10) :{نافلة لك} أي زيادة لك، يريد فريضـــــــة زائدة على سائر الفرائض.
وهذا القول مروي عن ابن عباس، فقد ذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: يعني النافلة، أو بقيام الليل وكتب عليه، وذكر أن مجاهدا قال: انها نافلة وليست فرضا، وعقب بقوله: وأولى القولين بالصواب في ذلك القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل دون سائر أمته، فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك فقول لا معنى له.
فبعد هذا الاستطراد الذي اضطررت اليه لتأييد ما ذهبت اليه من أن الخصوصية في العبادات تميل في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وأمته من بعدهم بالشيء الذي فيه عزيمة، ثم يأتيه بدعوى التخصيص، ومن أدعى هذا فعليه البينة.
ومن أمثلة التعارض بين القول والفعل ما رواه البخاري(11) ومسلم(12) في صحيحهما - واللفظ للبخاري - عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: “اذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا”.
ثم ما نقله البخاري(13) عن ابن عمر أنه كان يقول: “ان ناسا يقولون اذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر، لقد ارتقيت يوما على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته”.
ولقد اختلفت أنظار العلماء لهذين الحديثين مع أحاديث أخرى انضافت اليهما، ولكنها لا تخرج عما فيهما - وبناء على ذلك اختلفت اجتهاداتهم ومذاهبهم، ولا أريد أن أدخل في تفصيلات المذاهب من حيث النهي عن الاستقبال، أو الاستدبار، وهل هو عنهما معا، وهل يجوز الاستقبال دون الاستدبار، أم هما مباحان معا، لأن هذا وان كان متعلقات، الباب الا أنه لا يقذم كثيرا أو لا يوخر كما أرى، ولهذا فلسوف ابحث في قضية النهي عن الاستقبال والاستدبار معا، كما نطق بذلك الحديث، وما نقل الينا من استقبال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو استدبار القبلة كما نقل الينا من فعله، فالذي يهمني بالدرجة الأولى هو بحث تناقض القول مع الفعل. وللتوفيق بينهما نجد عدة اراء.
منها أن البعض ذهب الى أن النهي على ما هو عليه، والفعل مختص به - صلى الله عليه وسلم - قال السيوطي(1) : “وقال آخرون: هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والأحاديث الدالة على المنع باقية بحالها، وأيده ابن دقيق العيد: بأنه لو كان هذا الفعل عاما للأمة لبينه لهم باظهار بالقول، فان الأحكام لا بد من بيانها. وقد رد ابن حجر هذا الرأي فقال(2) : “ودعوى خصوصية ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا دليل عليها اذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال”.
وذهب آخرون الى النسخ كما يوحي بذلك ضيع ابن شاهين(3) حيث ساق بعد حديث النهي عدة أحاديث، منها حديث ابن عمر المتقدم آنفا، وحديث جابر ابن عبد الله، قال(4) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا أن نستدبر القبلة، أو نستقبلها بطروحنا اذا أهرقنا الماء، ثم قد رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة. وعقب على هذه الأحاديث برايين أحدهما قوله: وهذا يدل على أن حديث النهي نسخ بغيره والى هذا جنح الحازمي(5) وغيره.
وقد تعقب عدد من العلماء من ذهب الى هذا فهم ابن الجوزي حيث قال(1) : “وقد ظن جماعة نسخ الأول بالثاني وليس كذلك”، وقال النووي(2) : “وأما قولهم ناسخان فخطأ ، لأن النسخ لا يصار اليه الا اذا تعذر الجمع، ولم يتعذر هنا”.
ثم انه قد غاب عن الأذهان أن الفعل لا ينسخ القول، بل ان من زعم النسخ لا يستطيع أن يدافع عن شبهة خطيرة، وهي لو لم يرتقي ابن عمر، أو يشاهد جابر فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما نقل الينا الخلاف، فيكون عمل الأمة جميعا على الحديث المنسوخ، وهذا باطل بين البطلان.
وذهب فريق ثالث، وهو أعدل الأقوال وأحكمها الى التفريق بين قضاء الحاجة في الخلاء، وبين قضائها في البنيان، فمنعوا الأول، وأجازوا الأخير.
قال الشافعي(3) : كان القوم عربا، انما عامة مذاهبهم في الصحاري، وكثير من مذاهبهم لا حش فيها يسترهم، فكان الذاهب لحاجته اذا استقبل القبلة أو استدبرها استقبل المصلي بفرجه أو استدبره، ولم يكن عليهم ضرورة في أي بشرقوا أو يغربوا، فأمروا بذلك. وكانت البيوت مخالفة للصحراء فاذا كان بين اظهرها كان من فيه مستترا لا يراه الا من دخل أو أشرف عليه، وكان المذاهب بين المنازل متضايقة لا يمكن من التحرف فيها ما يمكن في الصحراء ، فلما ذكر ابن عمر ما رأى من رسول الله من استقباله بيت المقدس، وهو حينئذ مستدبر الكعبة دل على أنه انما نهى عن استقبال الكعبة واستدبارها في الصحراء دون المنازل.
وقد صح ابن عبد البر هذا الرأي وارتضاه فقال(4) : “والصحح عندنا الذي يذهب اليه ما قاله مالك وأصحابه، والشافعي لأن في ذلك استعمال السنن على وجوهها الممكنة فيها دون رد شيء ثابت منها.
وهو من أسلم الأداء وأحكمها، ويؤيده ما نقل عن مروان الأًغر قال(5) : “رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول اليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ، أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى، انما نهي عن ذلك في الفضاء، فاذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس”.
ويلتحق بتعارض القول مع الفعل، تعارض الهم بالفعل مع القول، ولا شك أن الهم بالفعل ليس بفعل ، وان كان الله - تعالى - يثيب على الهم بالحسنة، ولا يعاقب على الهم بالسيئة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : “من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فان هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة”(6) .
والهم مرحلة تسبق الفعل مباشرة تسبقها مراحل، اذ نقل السيوطي(7) عن السبكي (8) انه قال: الذي يقع في النفس من قصد المعصية على خمسة مراتب: الأول: الهاجس، وهو ما يلقي فيها، ثم جريانه فيها وهو الخاطر، ثم حديث النفس، وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا؟ ثم الهم، وهو ترجيح قصد الفعل، ثم العزم، وهو قوة ذلك القصد والجزم به.
ورأى القرافي(9) أن الهم والعزم مترادفان فقال(10) بعد تعريفه للهم والعزم: “فظاهر أنه -أي الهم - مراد في للعزم، وأن معناهما واحد”.
ويرى الغزالي(11) أن أحوال القلب قبل العمل بالجارحة أربعة(12) : الخاطر، وهو حديث النفس، ثم الميل، ثم الاعتقاد، ثم الهم.
اذا فالهم عند جميعهم - تقريبا - هو المرحلة التي تسبق الفعل تماما.
أما مثال تعارض الهم مع أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو ما ورد في الصحيحين(13) واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: “والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف والى رجال فأحرق عليهم بيوتهم،...”.
وهذا يتعارض مع حديث آخر رواه البخاري(14) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث، فقال: “ان وجدتم فلانا وفلانا، فاحرقوهما بالنار” ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: “اني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وان النار لا يعذب بها الا الله، فان وجدتموهما فاقتلوهما”.
وواضح جلي أن الهم بالتحريف، يتعارض مع نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحرق بالنار، ولدفع التعارض يرى ابن حجر(15) أن التحريق كان ثم نسخ، وذكر هو وغيره الاجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.
المطلب الثالث: توهم تعارض الفعلين:
ان ادعاء تعارض الأفعال على النبي - صلى الله عليه وسلم - من مستشنع الأمور، اذ كيف يعزى تضاد الأفعال لرجل ما فضلا عن نبي مشرع يوحي اليه، ولهذا يجب التأني والتريث عند ادعاء التعارض، فان كنا نستطيع حمل تعارض القولين على النسخ أو غيره، وحمل تعارض القول والفعل على الخصوصية وما شابهها، فاننا نجد صعوبة عند ورود تعارض الفعلين.
ولمزيد القاء الضوء على قضية تعارض الفعلين لابد من استطراد أصولي بين أقوال العلماء في هذه المسألة، وقد لخص أقوالهم ورتبها الدكتور محمد سليمان الأشقر، فهائنذا أنقل من كتابه(16) بتصرف قال:
1 - ذهب القاضي الباقلاني الى القول الأول، فرأى أن الفعلين لا يتعارضان، وأن التعارض فيهما محال، يقول في كتابه التقريب: “دخول التعارض على الفعلين محال، لأنه ان وقعا من شخصين، أو من شخص واحد في وقتين، أو على وجهين مختلفين لم يكن بينهما تعارض، لأن الفعل يكون من أحد الفاعلين قربة، ويكون من الآخر معصية، ويكون من الشخص الواحد في وقت قربة، وفي وقت آخر حراما”(17) .
وقال العلائي(18) : هذا القول هو الذي اطبق عليه جمهور أئمة الأصول”.
2 - وذهب جمع آخر من العلماء الى القول الثاني، وهو ان وقوع التعارض يفيد جواز فعل الأمرين، أو نسخ الأشد للأيسر كنسخ الوجوب للندب، أو نسخ التحريم للأقل وهكذا.
وحقيقة الأمر أن التعارض قد يرد، وواجبنا حينذا أن ننظر في كيفية ازالة هذا التعارض، لا في نفيه، أو القول باستحالته، وعلى هذا يجب التعامل مع الأمثلة اللاحقة.
ومثال ما وقع التعارض فيه بين الأفعال ما رواه البخاري(1) في “صحيحه” عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة.
ثم ما رواه ايضا(2) عن عبد الله بن زيد ان النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين.
وما رواه(3) عن عثمان بن عفان أنه دعا باناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الاناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه الى المرفقين ثلاث مرارظ، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار الى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه.
وشاهدي من سياقة هذه الأحاديث اظهار الاختلاف بين روايات هؤلاء الصحابة فقائل ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وآخر ذكر أنه توضأ مرتين مرتين، وثالث قال انه توضأ ثلاثا ثلاثا. فلو اعترض معترض على هذه الأفعال بالتناقض أو التدافع لوجد من يؤيده ويقف في صفه.
ولكن الفهم العميق، والتدقيق في اطلاق الألفاظ يأبي علينا الموافقة على تعارض هذه الأحاديث والأفعال، اذ من الممكن توجيهها وازالة الاختلاف عنها.
ولازالة التعارض يمكن حمل الأمر على الجواز، أي جواز الوضوء مرة مرة، وجوازه مرتين، وثلاثا. وقد جعل الشافعي(4) وابن خزيمة هذا الاختلاف من باب اختلاف المباح، قال الشافعي: “ولا يقال لشيء من هذه الاحاديث مختلف مطلقا، ولكن الفعل فيها يختلف من وجه أنه مباح، لا اختلاف الحلال والحرام، والأمر والنهي ، ولكن أقل ما يجزيء من الوضوء مرة، وأكمل ما يكون من الوضوء ثلاث”.
وقال ابن خزيمة(1) : “باب اباحة الوضوء مرة مرة، والدليل على أن غاسل اعضاء الوضوء مرة مرة مؤد لفرض الوضوء، اذ غاسل أعضاء الوضوء مرة مرة واقع عليه اسم غاسل، والله - عز وجل - أمر بغسل أعضاء الوضوء بلا ذكر توقيت، وفي وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، واعضاء الوضوء شفعا، وبعضه وترا دلالة على أن هذا كله مباح، وأن كل من فعل في الوضوء ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأوقات مؤد لفرض الوضوء، لأن هذا من اختلاف المباح، لا من اختلاف الذي بعضه مباح وبعضه محظور".
وهذا منهما محمل حسن، وهو نظير قولهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في المغرب بكذا وكذا، واخبار آخر أنه كان يقرأ بسور مختلفة وهكذا فان هذا كله لا يقال له اختلاف، انما هو من باب المباح. ولقد رأيت ابن حبان والبيهقي وابن عبد البر يسلكون هذا المسلك لدفع التعارض عن الافعال. وكذا غير واحد من العلماء غيرهم، الا أني رأيت ابن تيمية قد اطلق على اختلاف المباح اختلاف التنوع، وعلى ضده اختلاف التضاد، وهو اطلاق حسن .
قال ابن تيمية(2) : أما أنواع الاختلاف فهي في الاصل قسمان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه، منه ما يكون كل واحد من القولين أو أو الفعلين حقا مشروعا كما في القرآءات التي اختلف فيها الصحابة... ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والاقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازه الى غير ذلك مما شرع جميعه...".
فعلى هذا فتعارض الفعلين هنا غير مؤثر، وانما هو اختلاف مباح وتنوع يجوز الاقتصار فيه على الوضوء مرة ويجوز مرتين، وتجوز ثلاثا. وهذا التعارض لم يؤثر على المقولات الفقهيه، اذ لم يوجد من الفقهاء من تحيز لهذا الفعل، ومنهم من تحيز لذاك، ولكن هناك أنواعا من تعارض الفعل قد أثرت ، وكان لها صدى في مجال الفقه ومثالها:
ما روي البخاري في صحيحه(3) عن عبدالله بن بحينه - رضي الله عنه - أنه قال ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك.
وروى أيضا عن عبد الله - وهو ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعدما سلم.
فهذا فعلان مختلفان، رويا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد صحيحة.
وهذا الاختلاف ليس كسابقه، اذا ترتب عليه اختلاف أحكام سجود السهو بين العلماء، وبناء على ذلك اختلفت اجتهاداتهم في هذه المسألة.
فمنهم من ذهب الى أن السجدتين قبل السلام مطلقا وهم الشافعية(1) ، ومنهم من ذهب الى انه بعد السلام مطلقا وهم الحنفية(2) ، وذهب آخرون الى التفصيل وهم المالكية(3) فقالوا: ان كان السهو بزيادة فالسجود له بعد السلام، وان كان بنقصان فالسجود قبل السلام. أما أحمد والظاهرية فقالوا بالعمل بالأحاديث جميعا، أي السجود قبل السلام أحيانا، وبعد أحيانا أخرى حسب ما كان يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ويجب التنبيه هنا الى أن اختلافاتهم الكثيرة في شأن سجود السهو لم يكن مصدرها هذين الحديثين فقط، بل كان الاعتماد على عدد آخر من الأحاديث، ولكن الحديثين الذين وصفا فعل النبي كانا اساسيين في المسألة ومرجحين عند حصول الاشكال. وقد ذكر النووي (4) الاحاديث التي اعتمد عليها العلماء عند بيانهم أحكام سجود السهو، وبين أقوال كل منهم.
وأرى أن تفصيل المالكية تفصيل حسن يذهب التعارض والتضاد، وان كان رأى الشافعية كذلك لا يخلو من قوة ووجاهة. والكلام في هذه المسألة قد يطول فأكتفى بما نقلت من أقوال العلماء محيلا على كتبهم، وأرى أن أهمها كتاب العلائي(5) "نظم الفرائد لما تصمنه حديث ذي اليدين من الفوائد" فهو مخصص لهذه المسألة. مستوعب لأقاويل العلماء ومناقشتها.
المطلب الرابع: توهم تعارض التقرير مع القول والفعل.
عرف ابن حجر(6) التقرير بأنه ما يفعل بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يقال ويطلع عليه بغير انكار.
وقال أبو شامة(7) : اذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا صادرا من مسلم مكلف، أو سمع منه قولا، أو بلغه ذلك ولم ينكره مع فهمه له، دل على رفع الحرج في ذلك الفعل، فانه لو كان منكرا لأنكره.
ووجه دخول هذا المطلب تحت هذا المبحث، هو أن التقرير جزء من الحديث أو السنة، اذ أن تعريفها المتفق عليه بين الأصةوليين والمحدثين(1) : "ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير".
ولذلك عندما يتعارض تقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قول أو فعل، فانما هو تعارض واقع بين حديثين، وعند حصول هذا التعارض لا نستطيع تقديم اجابات جاهزة بان نقول ان دلالة القول أو الفعل أقوى من دلالة التقرير، اذ هما فعل، والتقرير غالبا ما يكون سكوتا، أو أن يكون سكوت مقرون بتبسم أو اهتزاز، يفهم منه رضي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الأمر وعدم انكاره(2) .
ومن أمثلة تعارض التقرير مع القول ما رواه الشيخان(3) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت ألعب البنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذا دخل يتقمعن منه، فيسر بهن الى فيلعبن معي.
فيستفاد من هذا الحديث اقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وصوبحاتها على اللعب بالبنات، وهن اللعب المصورة، وهذا التقرير يتعارض مع أحاديث قوليه نهت عن الصور صنيعها، اتخاذها، بيعها. منها الحديث الذي رواه البخاري(4) عن عائشة - رضي الله عنها - أنها أخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخله، فعرفت في وجهه الكراهة، فقلت يا رسول الله أتوب الى الله والى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ان أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: "ان أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم" وقال: "ان البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة".
وقد تنبه العلماء وبخاصة شراح الصحيحين لهذا التعارض، فحاولوا الاجابة عنه بأجوبة متعددة، منها: ما ذكره النووي(5) عن القاضي عياض(6) من جواز اللعب بهن - أي اللعب - قال: وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث. ونقل أن الجمهور يرى جواز اللعب بهن.
ومن الأجوبة أن حديث اللعب منسوخ حكاه النووي وابن حجر(7) وعزياه لطائفة من العلماء، والنسخ يحتاج لدليل أو قرينة، والدليل منتف في هذا الحديث.
ولذلك أراني أميل للرأي الأول من جواز لعب الصغار بالبنات والجواز باق على حاله، لم يتسخ ولم يتغير، والنهي يحمل على من أراد التلهي أو اجلال وتعظيم الصور، وهذا ما يفسر اجازة العلماء للستور التي عليها الصور ان كانت ممتهنة.
قال الخطابي(8) : في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وانما أرخص لعائشة فيها لأنها اذاك كانت غير بالغ. ونقل ابن عبد البر(9) عن عكرمة أنه قال: "كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا، ولا يرون بأسا بما وطئته الأقدام" ، وذكر نظير هذا عن ابن سيرين، وسعيد بن جبير، وسالم بن عبد الله.
أما عن تعارض الفعل مع التقرير فله صورتان، وهما: "أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ويقر أحدا على تكره، أو أن يترك شيئا ويقر أحدا على فعله"(10) .
وأنا على يقين من وجود الصورتين جميعا في الكتب الا أنني لم أوفق لاستلال أمثلة على الحالة الأولى خاصة من كتب السنة، ولعلي استدرك هذا بعدما أجده وفيما يخص الحالة الثانية فاستطيع أن أمثل لها بما رواه مسلم(11) عن عبد الله بن عباس أن خالد بن الوليد الذي يقال له: سيف الله أخبره أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضبا محنوذا(12) قدمت به حفيدة بنت الحارث من نجد، فقدمت الضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قلما يقدم اليه طعام تحدث به ويسمى له، فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده الى الضب فقالت أمرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟! قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه.
قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله ينظر فلم ينهي.
فكما يظهر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع عن فعل ، ولكنه أقره من غير نكير، الا أن التعارض الظاهر هنا مرفوع بنص الحديث، لأن ترك الفعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عيافة له، وهو من الأمور الجبلية التي لا تدخل في التشريع.
الفصل الثاني
توهم تعارض الحديث مع أصول الدين والشريعة
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول : تعارض الحديث مع قواعد العقائد.
المبحث الثاني : تعارض الحديث مع القواعد الشرعية والأصولية الفقهية.
المبحث الأول
توهم تعارض الحديث مع قواعد العقائد
إنَّ البحث في هذا الأمر عويصٌ ومعقّدٌ ، نظراً للاختلاف الواسع في نظر العلماء على تعدُّد مشاربهم ، للعقائد وقواعدها، وما يجب أن يكون أصلاً وما يتفرَّع منه، بل ما هو منها محكمٌ ينبغي اتِّباعه مع ما هو متشابه يجب ردّه إلىلمحكم. ولا يستطيع المرء إلا أن ينزع دوماً نحو رأيه واعتقاده ، سيّما وأنَّ المتعلِّق بهذه النُّقطة هو اعتقاده وما يجب عليه في حقِّ الله -جل وعلا-وما لا يجب ، وهذا بحدِّ ذاته غير شائنٍ لأهله، إلا إنَّ الخطأ والخطل يكمنان عندما يجعل المرء نفسه مقياساً للصَّواب والخطأ، منه ينبع الصَّواب، ومن غيره دوماً التَّجديف والخطأ، فكلُّ ما وافق رأيه من نصوصٍ هو أيضاً صوابٌ، وما خالفه فمِن ضمن المشكلات المتعارضات، ويُطلق على هذا اللون الذي خالف وجهة نظرٍ ما ـ زوراً وبهتاناً - التَّعارض مع قواعد العقائد!! ولو تواضع أحدهم قليلا لقال: إنَّ هذا متعارضٌ مع العقائد فيما يبدو لي وهو صوابٌ قد يحتمل الخطأ، ولهذا (1) " لا يصح القول بأنَّ هذا الحديث أو ذلك مخالفٌ للعقيدة هكذا باطلاقٍ! فأحاديث الصِّفات - مثلاً - تشتشكل أولاً على ضوء ما يتبنَّاه الباحث، وهكذا أحاديث القَدَر وغيرها من مسائل الأصول المختلف فيها.
فلابدَّ - إذن - من إضافة قيدٍ على توهُّم الإشكال في أيِّ مجالٍ من مجالات هذا النَّوع فنقول: هذا الحديث يوهم التَّشبيه بالنَّظر إلى الباحث، أو فيما يتعلَّق بعقيدة الباحث المُتبناة... وهكذا".
أمَّا عن سيري في هذا المبحث فسوف يكون بإيراد عناوين أشبه بقواعد، أو بمسائل من الأُمهات في هذا المجال، ثم أشرع في إيراد الأمثلة على ما قصدت، وقد جعلت ذلك كلَّه في مطالب هذا بيانها.
المطلب الأول: التنزيه:
تكاد تتَّفِق الفِرق جميعاً - سوى المخذولين منهم الذين انسلخوا عن الإسلام - على تنزيه الله - سبحانه وتعالى - عن المُشاكلة والمُشابهة لأيٍّ من المخلوقات.
فالمعتزلة، والجهميَّة، والخوارج، والأشاعرة، وأصحاب الحديث... إلخ، كلُّهم يُقرُّون نظرياً بوجوب تنزيه الله - تعالى -، وهذه نقولٌ توضِّح ما قدَّمت له(2) .
قال القاضي عبد الجبار(1) : "لا خلاف بين الأمَّة أنَّ ما في سورة الصَّمد حقيقةٌ، وكذلك ما في آية الكرسي، وأن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(2) حقيقةٌ في التَّوحيد.
وقال أبو القاسم الكَعْبي(3) : "المعتزلة مجمعةٌ على أنَّ الله جلَّ ذكره شيءٌ لا كالأشياء، وأنَّه ليس بجسمٍ ولا عرَضٍ، بل هو الخالق للجسم والعَرَض، وأنَّ شيئاً من الحواس، لا يُدركه في دنيا ولا آخرة، وأنَّه لا تحصره الأماكن، ولا تحدُّه الأقطار، بل هو الذي لم يزل ولا مكان، ولا زمان، ولا نهاية ولا حدٍّ، ثمَّ خلق ذلك أجمع وأحدثه مع سائر ما خَلَق ، لا من شيءٍ ، وأنَّه القديم وكلُّ ما سواه محدثٌ، وهذا هو التَّوحيد".
وقالت الجَهْميَّة(4) : لا يجوز أن يُوصَف الباري - تعالى - بصفةٍ يُوصف بها خلقه لأنَّ ذلك يقضي تشبيهاً.
وذكر الغزالي التَّنزيه كأوَّل قاعدةٍ من قواعد العقائد فقال(5) : (( التَّنزيه: وأنَّه ليس بجسمٍ مُصوَّر، ولا جوهر محدود مقدر، وأنَّه لا يماثل الأجسام لا في التَّقدير، ولا في قبول الانقسام، وأنَّه ليس بجوهرٍ ولا تحلُّه الجواهر، ولا بِعَرَضٍ ولا تحلُّه الأعراض، بل لا يماثِلُ موجوداً، ولا يماثِلُه موجودٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }ولا هو مثل شيءٍ )).
وقرَّر الّلقَّاني(6) في منظومته أن:
وكلُّ نَصٍّ أوهم التُّشْبِيها أوِّله أو فَوِّض ورُمْ تَنْزِيها.
وقال شارحاً عقب ذلك(7) : (( أي اقصد واعتقد مع تفويض علم ذلك المعنى (تنزيهاً) له - تعالى - عما لا يليق به، فالسَّلف ينزِّهونه - سبحانه - عمَّا يوهمه ذلك الظاهر من المعنى المحال، يُفوِّضُون علم حقيقته على التَّفصيل إليه تعالى، مع اعتقاد أنَّ هذه النُّصوص من عنده سبحانه، فظهر ممّا قرَّرنا اتِّفاق السَّلف والخَلف على تنزيهه - تعالى - عن المعنى المحال..)).
وإلى هذا ذهب الباجُوري(1) كذلك فقال عند شرحه جملة (ورُمْ تَنْزِيها)(2) : ((اقصد تنزيهاً له تعالى عمّا لا يليق به )).
وقال القُشيريُّ(3) في بيان اعتقاد الصُّوفِيَّة(4) : ((اعلموا -رحمكم الله - أنَّ شيوخ هذه الطَّائفة، بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحةٍ في التَّوحيد صانوا بها عقائدهم عن البِدع، ودانوا بما وجدوا عليه السَّلف وأهل السُّنَّة من توحيدٍ ليس فيه تمثيلٌ ولا تعطيلٌ )).
وقال الصَّابُوني(5) - في بيان عقيدة أصحاب الحديث(4) -: "أصحاب الحديث، حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم، يشهدون لله تعالى بالوحدانيَّة، وللرسول - صلّى الله عليه وسلّم - بالرِّسالة والنُّبوَّة، ويعرفون ربَّهم - عزَّ وجل - بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله - صلّى الله عليه وسلّم - على ما وردت الأخبار الصِّحاح به، ونقلته العدول الثِّقات عنه، ويُثبتون له - جلَّ جلاله - ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلم - ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنَّه خلق آدم بيده، كما نصَّ سبحانه عليه في قوله - عزَّ من قائل -: {يا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }(1) ولا يحرِّفُون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النِّعمتين، أو القُوَّتين تحريف المُعتزلة الجهميَّة - أهلكهم الله -، ولا يُكيِّفُيونَهما بكيفٍ، أو تشبيههما بأيدي المخلوقين، تشبيه المشبِّهة - خذلهم الله -وقد أعاذ الله - تعالى - أهل السُّنَّة من التَّحريف والتَّكييف، ومَنَّ عليهم بالتَّعريف والتَّفهيم، حتى سلكوا سُبل التَّوحيد والتَّنزيه، وتركوا القول بالتَّعليل والتَّشبيه، واتَّبعوا قول الله - عزَّ وجل - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وهُو السَّميع البَصير}(2))) .
فهذه النُّقول تبيِّن أنَّ أغلب الفِرق تقول بالتَّنزيه، ولكنَّنا عند التَّطبيق نجد اختلافاً وتنافُراً بين ما سلكوه عملياً وما ارتضَوه نظرياً، وذلك لأنَّ كل فرقةٍ ترى التَّنزيه بمنظارها ووفق أصولها، حتَّى عُدَّ التأويل تنزيها !! ونفى الصِّفات تنزيهاً !! في اختلافٍ كبيٍر ليس هذا محلّه(3) .
وبناءً على ذلك فقد رأت كلُّ فرقةٍ كلَّ حديثٍ يُناقض أصولها مناقضاً للتَّوحيد والتَّنزيه، فردَّت بذلك أحاديث كثيرةً، دون وجه حقٍّ، وقد كان هذا الرَّدُّ صريحاً عند بعضهم، وغير صريحٍ عند آخرين، وبخاصَّةٍ في الأحاديث التي تتعلَّق بالصِّفات، إذ هي الأكثر إثارةً للجدل في تاريخ الفكر الإسلامي.
ولسوف اتعرَّض لنماذج من الأمثلة، وهي كثيرةٌ متعدِّدةٌ ، لا أستطيع استيعاب ولو نسبةٍ ضيئلةٍ منها، وما سأذكره يندرج تحته مثيله ونظيره، ومن النَّماذج:
أوّلاً: تنزيه الله عن الجسميَّة ومتعلّقاتها: لقد وردت آياتٌ وأحاديثُ كثيرةٌ تثبت لله تعالى بما يُوهم الجسمية ومُشابهة المخلوقات، كالعين، واليدين، والوجه، ومن الأحاديث الأصابع، القدم، النَّزول، ...إلخ.
فالمعتزلة يقتصرون على ما نطق به القرآن، ويرفضون ما جاءت به السُّنَّة من هذا القبيل ثمَّ يَعمَدُون إلى النُّصوص القرآنيّة، فيصرفونها عن ظاهرها.
أمَّا أهل السُّنَّة فيؤمنون بما جاءت به الآيات والأحاديث ، دون تأويلٍ أو تحريفٍ أو تعطيلٍ ، وقد جعل البعض لفهم أهل السنَّة ومن يلتحق بهم لهذه الأحاديث منهجين:
منهج السَّلف: وهو الإيمان بما ورد في هذه النُّصوص، وإثباته مع تفويض كيفيته إلى الله تعالى.
منهج الخلَف: وهو تأويل ما يوحيه ظاهر النُّصوص ليتَّسق مع تنزيه الله عن الجسميَّة والجارحة.
ومن أمثلة هذا الضَّرب من الأحاديث ما رواه البُخاريُّ(1) ومُسلمٌ(2) عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: (( يَنْزِلُ رَبُّنَا - تَبارك وتعالى - كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّيْنَا حِيْنَ يَبْقَى ثُلُثُ الّليلِ الآخِر يقُول: مَنْ يَدْعُوني فَأسْتَجِيْب لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَه، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ )).
فمع اتِّفاق الجميع - كما قدَّمت - على التَّنزيه، الا إنَّ طرائق تناولهم لهذا الحديث وأشباهِهِ قد اختلفت وتباينت وتنوَّعت.
قال ابن حَجَرٍ(3) : ((وقد اختُلِف في معنى النزول على أقوالٍ؛ فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبِّهة - تعالى الله عن قولهم ـ. ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملةً وهم الخوارج والمعتزلة ، وهو مكابرةٌ ، والعجب أنَّهم أوَّلوا ما في القرآن من نحو ذلك ،وأنكروا ما في الحديث إمَّا جهلاً وإمَّا عناداً.
ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال، مُنزِّهاً الله تعالى عن الكيفيَّة والتَّشبيه وهم جمهور السَّلف ، ومنهم من أوَّله على وجهٍ يليق مُستعملٍ في كلام العرب ، ومنهم من أفرط في التَّأويل حتى كاد يخرج إلى نوعٍ من التَّحريف )).
فالمعتزلة ينفون هذا الحديث، لأنَّه عندهم خبر آحادٍ، ويكفى لنفي صفةٍ لم تَرِد في القرآن أن يقولوا فيها أنَّها من أخبار الآحاد(4)!! . ولذلك عندما تعرَّض القاضي عبد الجبار(5) لتأويل بعض الصِّفات، لم يتعرَّض لصفاتٍ استقلَّت السُّنَّة بإثباتها .
ولهذا لم يتعرَّض لحديث النُّزول، ولا عرَّج عليه. مع أنَّ نظائر أكثر الآيات التي تعرَّضوا لها نطقت به السُّنَّة __.__
قال ابن فُورك(1) : ((واعلم أنَّه قلَّما يَرِد في هذه الأخبار من أمثال هذه الألفاظ إلا ونظائِرها موجودةٌ في الكتاب. وهي إذا وردت في الكتاب محمولةٌ عندهم على التَّأويل الصَّحيح، مخرَّجه على الوجه الذي يليق بصفاته تعالى. وإذا وردت في الأخبار أبطلوها مناقضةً منهم لأصولهم كسائر مناقضاتهم في مذاهبهم المبيَّنة على آرائهم الفاسدة، ممّا لم يشهد بها كتابٌ ولا سنّةٌ ولا بان فيها اتِّفاق الأمَّة، وذلك لجحدهم سنن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - واستخفافهم بأهل النَّقل واستهاناتهم برواياتهم )).
أمَّا الخلَف، أو الأشاعرة والماتريديَّة، فإنَّهم يتأوَّلُون النُّزول على أكثر من تأويلٍ(2) أشهرها: أنَّ النُّزول نزول الأمر والرَّحمه، أو أنَّه يُنْزِل مَلَكاً فينادي ... الحديث.
وقد استدلوا لهذا بما ذكره ابن فُورك عن بعض أهل النَّقل بلفظ "يُنْزِل" لا "يَنْزِل" وقال: وذكر أنَّه ضبطه عمَّن سمعه من الثِّقات الضابط_ين ولم يذكر من هو هذا الّذي ضبط ذلك، ولا من هم الثِّقات الضَّابطون _________. __________________
ون_قل ابن حَجرٍ(3) هذا الرَّأي مرتضياً له، وقال: ويقوّيه ما رواه النَّسائي(4) من طريق الأغر، عن أبي هُريرة وأبي سعيد بلفظ: (( إنَّ الله يُمْهِل حتّى يمضِى شطْرُ الليلِ ثُمَّ يأمر مُنادياً فيقول..)). ولم يذكر ابن حجر أو غيره، عن أيِّ راوٍ من رواة صحيح البُخاري هذا الضَّبط لهذه اللفظة، واقتصر محقِّق "دفع شبه التشبيه"(5) على لفظ "يُنْزِلُ"!! وهو غير ثابتٍ، وغيُر معروفٍ قائِلُه، وحاول أنْ يُلصِق هذا القول بابن حجر، والحال أنَّ ابن حَجَرٍ قد نقله عن ابن فُورك.
ثُمَّ إنَّ الأصبهانيَّ(1) قال في "الحجه"(2) : ((ذكر علي بن عمر الحَرْبي(3) في كتاب "السُّنة" أنَّ الله تعالى يَنزِل كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدُّنيا، قاله النبي - صلّى الله عليه وسلّم - من غير أن يقال كيف.
فان قيل: يَنْزِل أو يُنْزِل؟ قيل: يَنْزِل - بفتح الياء وكسر الزاي -، ومن قال: يُنْزِل - بضم الياء فقد ابتدع )). ويؤيِّده لفظ البُخاري كما في الدَّعوات والتَّوحيد: "يتنزَّل" .
أمَّا جمهور السَّلف وأهل الحديث فإنَّهم يُقرُّون بنزول الله - سبحانه وتعالى - نُزولاً يليق به، دون تشبيهٍ بمخلوقٍ ولا تكييف.
قال الصَّابونيُّ(4) : ((وثبَّت أصحاب الحديث نزول الرَّب سبحانه وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدُّنيا، من غير تشبيهٍ بنزول المخلوقين، ولا تمثيلٍ ولا تكييف، بل يُثبتون ما أثبته رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وينتهون فيه إليه، ويُمرُّون الخبر الصَّحيح الوارد ذكره على ظاهرِهِ،ويكون علمه إلى الله)) .
وروى البَيْهقيُّ(15) عن الأوزاعِيِّ، ومالك، وسفيان الثَّوري ، والليث بن سعد أنَّهم قالوا في هذه الأحاديث: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيفيَّةٍ.
والملاحظ أنَّ من نفى الأحاديث وأنكرها قد انطلق من التَّشبيه، وكذا من أوَّل وحاول صرف الألفاظ عن ظواهرها، لأنَّ التَّشبيه قد تبادر لأذهان هؤلاء فاضطروا للإنكار والتَّأويل.
والذي به أجزم أنَّ الفئة الوحيدة التي برئت من التَّشبيه هي التي أثبتت لله - سبحانه - هذه الصفات وآمنت بها وأقرت، وفوَّضت كيفيتها لله - سبحانه وتعالى - وهو مذهب جمهور السَّلف، وبه أقول واعتقد فهم المنزِّهون حقاً.
ولهذا فمقولة:مذهب السَّلف أسلم، ومذهب الخلَف أحكم غير سليمةٍ،(( فمذهب السَّلف أسلم، ودع ما قيل من أنَّ مذهب الخلَف أعلم، فإنَّه من زُخرف الأقاويل، وتحيُّن الأباطيل، فإنَّ أولئك قد شاهدوا الرَّسول والتَّنزيل، وهم أدرى بما نزل به الأمين جبريل ))(1) .
وما ينطبق على هذا الحديث من بحثٍ ينطبق على غيره من أحاديث الصِّفات، فظهر أنَّ التَّعارض مع قاعدة التَّنزيه، في هذا الباب متساقطٌ مرجوحٌ.
ثانياً: تنزيه الله عن التَّحيُّز والمكان.
ومن الأمور التي يدَّعُون فيها التَّنزيه أيضاً وبخاصَّةٍ المعتزلة، مسألة رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، إذ يرى المعتزلة ومن وافقهم أنَّ القول بالرُّؤية يقتضي التَّحيُّز والمكان، والله - تعالى - مُنزَّهٌ عنهما. فهم قد انطلقوا من التَّشبيه لينتهوا حسب زعمهم إلى التَّنزيه، وأنَّي لبدايةٍ غير سليمةٍ أن تُثمر نتائج صحيحةً؟.
قال السَّالمي(2) من الإباضية: ((رؤية الله تعالى من الأشياء التي لا يُتصوَّر في العقل صحَّة وجودها، لأنَّ العقل يحيل ذلك، وذلك أنَّ مِن لوازم الرُّؤية وشرائطها أن يكون المرئِيُّ متحيِّزاً، أي مُتشخِّصاً، والرَّب - تعالى - يستحيل عليه التَّشخيص، ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِي متكيِّفاً، أي ذا كيفٍ: أي لون، وذلك على الله محالٌ، ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِيُّ متبعِّضاً، أي ذا أبعاضٍ: أي أجزاء.
يتبع 1
10-21-2008
قتيبة
تابع 1
لأنَّ النَّظر إمَّا أن يحيط به كلَّه، وكلُّ محاطٍ به مُتبعِّضٌ ضرورةً وإمَّا أن يدرك بعضه، فظهر فيه البعض حيث أدرك فيه، وذلك في حقِّه - تعالى محالٌ. ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِيُّ مُتحيِّزا في جهةٍ من الجهات، أي حالاًّ فيها دون غيرها، والتَّحيُّز في حقِّه - تعالى محالٌ، ويستحيل عليه المكان أيضاً، ومن لوازمها أيضاً أن تكون الجهة التي فيها المرئِيُّ مقابلةٌ للرَّائي، لأنَّ النَّاظِر لا يرى إلا ما يُقابله، وذلك في حقِّه تعالى محالٌ، فاستحالت الرُّؤية في حقِّه لاستحالة لوازمها.
فظاهرٌ من هذا النَّقل أنَّ الخوارج والمعتزلة نفوا رؤية الله - سبحانه وتعالى - فِراراً من التَّشبيه فوقعوا في شرٍّ منه، ومسألة ورود التَّشبيه عليهم ظاهرةٌ من خلال ما تمَّ نقله عن السَّالمي.
والمعتزلة في النفي سلكوا نفس الدرب، ولكن بحجج عقليه أحيانا وحجج سمعية حينا آخرا ومنه قال القاضي عبد الجبار(1) : "ومما يجب نفيه عن الله - تعالى - الرؤية ، وهذه مسألة خلاف بين الناس، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة يتحقق بيننا وبين هؤلاء الأشعرية الذين لا يكيفون الرؤية، فأما المجسمة فهم يسلمون أن الله تعالى لو لم يكن جسما لما صح أن يرى، ونحن نسلم لهم أن الله تعالى لو كان جسما لصح أن يرى، والكلام معهم في هذه المسألة لغو.
ومسألة نفي الرؤية مسألة اجماع عند المعتزلة، تعاضد على انكارها كل واحد منهم، وحاول أن يدعمها بكل ما أوتي من قوة سواء عن طريق العقل أو النقل، لذا نجد أن مفسريهم جنحوا أيضا نحو تدعيم هذه الفكرة والاقتصار لها.
قال الزمخشري(2) عند تفسير قوله تعالى: *للذين أحسنو الحسنى وزيادة*(3) : "وزعمت المشبهة والجبرة أن الزيادة: النظر الى وجه الله تعالى، وجاءت بحديث مرفوع(4) : "اذا دخل أهل الجنة الجنة.." الحديث.
وقال الجشمي(5) عند تفسير الآية ذاتها: "وأما من حمل الزيادة على الرؤية فقد أخطأ لوجوه: منها: أن حجج العقل والسمع دلت على أنه تعالى لا يجوز عليه الرؤية، ومنها: أنه ليس في الآية من ذكر الرؤية شيء، ومنها أنه لو كان المراد بالزيادة الرؤيا لكانت هي الأصل لا الزيادة، وما يروونه من أحاديث الرؤية من أخبار الآحاد فلا يصح قبول ذلك فيما طريقه العلم، وخبر تفسير الزيادة بالرؤية لا يثبت عند الرواة".
ونقل القاضي عبد الجبار(6) عن الشيخ أبي علي أنه قال: "واحتجوا بقوله *وجو يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة*(7) وهذا لا حجة لهم فيه، لأن النظر ليس هو الرؤية، فتحمل الآية على النظر الى الثواب، أو الانتظار كما روى عن كثير من الصحابة".
قال :" وبيَّن رحمه الله - أي أبو علي - أنَّ قولهم هذا أدَّاهم إلى التَّصديق بأخبارٍ رووها ، نحو " إنَّ ربَّ العالمين يتجلَّى لعبادهِ يوم القِيامة ويكشِف عن ساقِهِ ، ويقول : أنا ربُّكم فيقولون : نعوذ بالله منك (1) " إلى غير ذلك مما يدخل في باب السُّخف .
وأقرب ما روي في ذلك ، أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم- قال(2) :" تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ ، لا تُضَامُّون في رُؤْيَتِهِ " وقد قال أصحابنا :إنَّ خبر الواحد لا يُقبل في مثل ذلك ، وإنَّما يقبل خبر الواحد فيما طريقه العمل .
وقالوا : لو قال النَّبيُّ - عليه السَّلام - لتأوّلناه وحملناه على العلم ، وأنَّه - عليه السَّلام - بشَّر أصحابه بأنَّهم يعرفون ربَّهم في الآخرة ضرورةً بلا كُلفةٍ ونظرٍ " .
فهذه النُّقول عن أئمة المعتزلة ومُفكِّريهم تبيِّن ضعف حجَّتهم ، وعُموميَّة اعتراضاتهم فيما يخصُّ النَّقل ، إذ يكفي عندهم أن يردُّوا الأخبار بأنَّها أخبار آحادٍ !! حتَّى حججهم العقليَّة غير مقنعةٍ وتأويلاتهم بعيدةٌ ،وهذا قادهم إلى تحريف أقوال الصَّحابة وتفسيراتهم، فقال عبد الجبار(3): " وروي عن عائشة أنَّها لمَّا سمعت بأنَّ القوم يقولون : بأنَّ الله يُرى ، قالت : لقد قفَّ شعري مما قلتموه ، ودفعت ذلك بقوله :{ لا تُدْرِكْهُ الأبْصَارَ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ }[الأنعام :103] ومعلومٌ أنَّ عائشة- رضي الله عنها لم تقل قولها في السِّياق الَّذي ذكره عبد الجبار ، وإنَّما قالته في الرَّدِّ على من زعم أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - قد رأى ربَّه ليلة المعراج كما روى ذلك البُخاريُّ وغيره .
وسلك القاضي عبد الجبار مسلكاً آخر في كتابه " شرح الأُصول الخمسة "(1) إذ حاول الرَّدَّ على حديث الرُّؤية حديثيَّاً يحسن إيراده كاملاً للرَّدِّ عليه فقال : " وممَّا يتعلقون به أخبارٌ مرويَّةٌ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وأكثرها يتضمَّن الخبر(2) والتَّشبيه ، فيجب القطع على أنَّه - صلّى الله عليه وسلّم- لم يقله ، وإن قال فإنَّه قال حكاية عن قومٍ ، والرَّاوي حذف الحكاية ونقل الخبر .ومن جملتها وهو أشفُّ ما يتعلَّقون به ، ما يُروى عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم-أنَّه قال : "سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا ترَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ ".ولنافي الجواب عن هذا طرقٌ ثلاثةٌ :
أحدها : هو أنَّ هذا الخبر يتضمن الجبر والتَّشبيه ، لأنَّنا لا نرى القمر - إلاَّ مُدوَّراً عالياً مُنوِّراً ، ومعلومٌ أنَّه لا يجوز أن يُرى القديم تعالى على هذا الحدِّ ، فيجب أن نقطع على أنَّه كذبٌ على النَّبيِّ - صلّىالله عليه وسلّم - وأنَّه لم يقله ، وإنْ قاله ، فإنَّه قاله حكايةً عن قومٍ كما ذكرنا .
والطَّريقه الثَّانية: هو أنَّ هذا الخبر يُروى عن قيس بن أبي حازمٍ، عن جرير بن عبد الله البَجَلي ، عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وعلى آله - وقيس هذا مطعونٌ فيه من وجهين:
أحدهما ، إنَّه كان يرى رأي الخوارج ، يروى أنَّه قال : منذ سمعت علياً على منبر الكوفه يقول : أُنظروا إلى بقيَّة الأحزاب - يعني أهل النَّهروان - دخل بُغضُه قلبي ، ومن دخل بغض أمير المؤمنين قلبه فأقلُّ أحواله أن لا يعتمد على قوله ولا يحتجَّ بخبره .
والثَّاني : قيل إنَّه خُولط في عقله آخر عمره ، والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التَّمييز ، ولا ندري أنَّ هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلط العقل ......
وأمَّا الطَّريقة الثَّالثة : هو أن يُقال : إن صحَّ هذا الخبر وسلم ، فأكبر ما فيه أن يكون خبرًا من أخبار الآحاد ، وخبر الواحد مما لا يقتضي العلم ، ومسألتنا طريقها القطع والثَّبات ، وإذا صحَّت هذه الجمله بطل ما يتعلَّقون به . ثمَّ إنَّ هذا الخبر مُعارَضٌ بأخبارٍ رُويت منها ما روى (1) أبو قُلابه عن أبي ذرٍّ أنَّه قال للنَّبيِّ : هل رأيت ربك ؟ فقال : " نُورٌ هُو أنَّى أرَاهُ " أي : أنورٌ هو ؟ كيف أراه ؟ .
وقد تكفَّل الإمام أبو الحسن الأشعري (2) بردِّ الحجج العقليَّة وتأويلات المعتزله ، وتوسَّع في ردِّها .
أمَّا ما استشهد به لتضعيف الحديث بتوهين قيس بن أبي حازمٍ فهو غير مُسلَّمٌ ، وإن سُلِّم فإنَّ صنيع عبد الجبار يُشعر بأنَّ الحديث يدور على قيسٍ هذا ، والحال ليس كذلك ، إذ أنَّ ذكر قيس بن أبي حازمٍ لم يَرِد إلاّ في رواية جريرٍ ، والحديث رواه غير جرير من الصَّحابة ، أوصلهم الكتَّانيُّ إلى(28 )صحابياً فالحديث متواترٌ. ورواية جريرٍ أيضاً لا تدورعلىقيس عنه ، إذ رواه الدَّارقُطنيُّ(3) عن يزيد بن جرير عن أبيه ، وعن إبراهيم ابن أخي جريرٍ عن جرير بإسنادين ضعيفين ، ورواه عن عُبيد الله بن جرير عن أبيه بإسنادٍ قويٍّ . فأيُّ حُجَّةٍ بعد ذلك في الاقتصار على رواية قيسٍ وجعلها حجر الرَّحى في المسأله ؟؟ .
وحديث قيس بن أبي حازم عن جرير مخرَّجٌ في الصَّحيح ، وقيسٌ هذا قال عنه الذَّهبي(4) : " ثقةٌ حجَّةٌ كاد أن يكون صحابياً ، وثَّقة ابن معينٍ والنَّاس ، وقال علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد : مُنكر الحديث ، ثمَّ سمَّى له أحاديث استنكرها فلم يصنع شيئاً ، بل هي ثابتةٌ ، لا يُنكر له التَّفرُّد في سعة ما روى ...، ثمَّ قال: قلت: أجمعوا على الاحتجاج به ، ومن تكلَّم فيه فقد آذى نفسه ، نسأل الله العافية وترك الهوى " .
وقال ابن حجرٍ (1) عند تعرُّضه للرُّواة المتكلَّم عليهم في صحيح البُخاريِّ :" احتج به الجماعه ، ويقال إنَّه كبر إلى أن خرف ، وقد بالغ ابن معين فقال : هو أوثق من الزُّهريِّ ، وقال يعقوب بن شَيْبة تكلَّم أصحابنا فيه ، فمنهم من رفع قدره وعظَّمه وجعل الحديث عنه من أصحِّ الأسانيد ، ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير ، ومنهم من حمل عليه في مذهبه ، وأنَّه كان يحمل على عليٍّ ، والمعروف عنه أنَّه كان يُقدِّم عثمان ، ولذلك كان يتجنب كثيرٌ من قدماء الكوفيين الرِّاوية عنه ، قلت : فهذا قول مبيَّنٌ مفصَّلٌ " .
أمَّا عن اختلاطه فقد ذكره غير واحدٍ ، وبخاصَّة من صنَّف في هذا الفنِّ (2) إلاّ أنَّهم ذكروا أنَّ من تكلَّم في اختلاطه وأثبته هو اسماعيل بن أبي خالدٍ ، راوي حديث الرُّؤية عنه فهل يُعقل أن يُؤرِّخ لاختلاط الرَّجل ثمَّ يروى عنه ؟؟ ولهذا فيمكن الجزم بأنَّ رواية إسماعيلٍ عن قيسٍ كانت قبل اختلاطه ،والله أعلم .
وبالنِّسبة لانتقاد عبد الجبار الثَّالث أنَّه حديث آحادٍ ، فإنَّ هذا غير مُسلَّمٍ بما قدَّمته عن الكتَّانيِّ من ورود هذا الحديث عن (28 )صحابياً ، فهو متواترٌ .
ولقد صنَّف غير واحدٍ من العلماء (3) مصنفاتٍ جمعوا فيها أحاديث الرُّؤية وأوصلوها إلى درجة التَّواتر ردَّاً على ادِّعاء المعتزلة .
وبهذا يظهر أنَّ هذا الحديث غير متعارضٍ مع قاعدة التَّنزيه ، وأنَّ قياسهم على الذي يرى يجب أن يكون جسماً قياسٌ فاسدٌ ، قاسوا فيه الغائب عنهم على الشَّاهد ،وهو قياسٌ فاسدٌ باتِّفاقٍ.
المطلب الثَّاني : القَدَر وأفعال العباد .
مسألة القدر إثباته أو نفيه ، أو المبالغة في الإثبات مسألة شغلت الفكر الإسلاميَّ في القرنين الثَّاني والثَّالث ، وتفرَّع عن ذلك عدَّة مدارس ، وما يهمنا هنا الإشارة إلى مدرستين على طرفي نقيضٍ في تناول هذه المسأله ، وكان لهما الأثر البالغ في فهم النُّصوص والتَّعامل معها .
المدرسه الأُولى : الجبريَّة ، والجبر (1) : هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته للرَّب تعالى ، وهم أصنافٌ :
فالجبريَّة الخالصة : لا تُثبت للعبد فعلاً ولا قدرةً على الفعل أصلاً .
والجبريَّة المتوسِّطة :هي التي تثبت للعبد قدرةً غير مؤثِّرةٍ أصلاً .
أمَّا القدريَّة فهم على النَّقيض من الجبريَّة ، إذ يُنفون القدر ويجعلون العبد مختاراً لأفعاله مُحدِثاً لها وليس الله- سبحانه وتعالى- هو الّذي خلقها فيه ، وروى مُسلمٌ (2) في صحيحه عن يحي بن يَعْمرٍ قال : كان أوّل من قال في القدر بالبصره مَعبد الجُهَني ، فانطلقت أنا وحميد ابن عبد الرَّحمن الحِمْيري حاجِّين أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطَّاب داخلاً المسجد ..... فقلت : أبا عبد الرَّحمن ، إنَّه قد ظهر قِبَلَنا ناسٌ يقرؤون القرآن ، ويتقَفَّرُون(4) العلم ، وذكر من شأنهم ،وأنَّهم يَزْعُمون أن لا قدر ،وأنَّ الأمر أُنُفٌ(1) . قال : فإذا لقيت أُولئك فأخبرهم أنِّي بريءٌ منهم ، وأنَّهم برءآء مِنِّي .
وقد تلقَّف المعتزلة هذه المقولة-أي لا قدر وأنَّ الأمر أُنُف- وجعلوها أصلاً من أُصولهم ، وذهبوا إلى أنَّ العبد يخلق أفعال نفسه ، قال الكَعْبيُّ(2) : " وأجمعوا على أنَّ الله لا يحبُّ الفساد ، ولا يخلق أعمال العباد ، بل العباد يفعلون ما أُمروا به ونُهوا عنه ".
وينطلق المعتزلة من فلسفةٍ تقول: إنَّ الله لو قدَّر على العباد ما سيفعلونه منذ الأزل لظلمهم ، إذ أنَّه اختار لهم أفعالهم ، والله لا يفعل الظُّلم ، قال القاضي عبد الجبار(3) :" وأحد ما يدل على أنَّه تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأفعال العباد هو أنَّ في أفعال العباد ما هو ظلمٌ وجَورٌ فلو كان الله خالقاً لها لوجب أن يكون ظالماً جائراً ، تعالى الله عن ذلك عُلوَّاً كبيراً " .
وبناءً على ذلك فقد نفوا علم الله المُسبق بالأُمور،وقالوا إنَّ الله يعلمها بعد حدوثها !! فلا غرابة إذاً إن وجدناهم يرفضون أحاديث بحجَّة أنَّها مناقضةٌ لأصل العدل عندهم ، وبخاصَّةٍ إذا كانت تلك الاحاديث تدلُّ على تقدير الأفعال ، أو علم الله المُسبق بكلِّ شيءٍ ، وما يتدرج تحت هذين الأمرين .
والكلام على تعارض الحديث مع قاعدةِ القدر سيتَّخذ طريقين :
أوّلاً :توهُّم تعارض الأحاديث مع ما يُوهم الجبر ونفي اختيار العبد ، إذ سبق أن بيَّنت أنَّ الجبريَّة ينفون قدرة العبد ، وبالتَّالي فهم يقولون بأنَّ العبد مجبٌر على أفعاله ، وليس له أيُّ اختيارٍ في أفعاله ، وعلى النَّقيض منهم المعتزله ومن وافقهم من القَدَريَّة - الَّذين ينفون تصرُّف الله في إدارة أعمال العباد ، وبالتّالي ينفون علمه بالأعمال قبل وقوعها ، ومعلومٌ أنَّ هاتين النَّظرتين للقدر على قَدْرٍ من الخطأ ومجانَبَةِ الصَّواب ، ومع ذلك فقد جاءت بعض الأحاديث كأنَّها تؤيِّد إحدى هاتين النَّظرتين مع ما فيهما من الخطأ ، ومن أمثلة ذلك ما رواه الإمام مسلم في " صحيحه " (1) عن عبد الله بن عَمرو بن العاص ، قال:سمعت رسول الله -صلّىالله عليه وسلّم- يقول : " كَتَبَ الله مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قبل أنْ يخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بخَمْسِيَن ألفَ سَنَةٍ ،قال: وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ " .
ومن الأمثلة على هذا أيضاً ما رواه الشَّيخان (2)-والّلفظ لِمسلمٍ - عن أبي هُريرة أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- قال : " تَحَاجَّ آدمُ وَمُوسَى فَحَجَّ آدمُ مُوسَى ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : أنْتَ آدمُ الَّذِي أغْوَيْتَ النَّاسَ وأخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ ! فَقَالَ آدمُ : أنْتَ الّذِي أعْطَاهُ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيءٍ واصْطَفَاهُ عَلى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ ؟ قَالَ : نَعَم ، قَالَ : فَتَلُومَنِي عَلَى أمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُخْلَقَ ؟ " .
فالسَّامع لهذين الحديثين قد يجد فيهما تأييداً لمذهب الجبريَّة(3) ، ومُتمَسَّكاً قد يتمسَّكُون به ، ولذلك اجتهد المعتزلة في ردِّ هذا النَّوع من الأحاديث . وقد مرَّ معنا أثناء الحديث عن الأهواء كسببٍ من أسباب التَّعارض(4) بعض الاعتراضات الَّتي تفوَّه بها غيرهم على ألسنتهم للتَّنقيص من الأحاديث والرِّواية ومن ذلك قول الرَّجل-على حديث آدم وموسى- : " أين التقيا " ؟ ! .
وقد يُردُّ على ذلك بأنَّ الاعتراض الماضي من قبيل التَّشغيب ، لا من قبيل الحجَّة والاستدلال . ولهذا نستطيع القول أنَّ أعظم حججهم ما نقله القاضي عبد الجبار (1) عن أبي علي الجُبَّائِيِّ في جوابه لمن سأله عن سبب تضعيف حديث احتجاج آدم وموسى في حين أنَّه صحَّح أحاديث بنفس الإسناد فأجاب : أفليس إذا كان ذلك عُذراً لآدم يجب أن يكون عُذراً لكلِّ كافرٍ وعاصٍ ، وأن يكون من لامهم محجوجاً ؟؟.
وقد تبنَّت كلُّ فرقةٍ في هذا الحديث ما فهمته منه ، بناءً على سابق أفكارٍ حملها كلُّ من تكلَّم في الحديث نفياً أو إثباتاً أو تأويلاً . قال ابن تَيْميَّة (2) : " وقد ظنَّ كثيرٌ من النَّاس أنَّ آدم احتج بالقدر السَّابق على نفي الملام على الذَّنْب ، ثمَّ صاروا لأجل هذا الظنِّ ثلاثة أحزابٍ :
فريقٌ كذِّبوا بهذا الحديث كأبي علي الجُبَّائيِّ وغيرِهِ ، لأنَّه من المعلوم بالاضطرار أنَّ هذا خلاف ما جاءت به الرُّسل ، ولا ريب أنَّه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث ، ويجب تنزيه النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - بل وجميع الأنبياء وأتباع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجَّة لمن عصى الله ورسوله .
وفريقٌ تأوّلوه بتأويلاتٍ معلومة الفساد: كقول بعضهم إنَّما حجَّه لأنَّه كان أباه ، والابن لا يلوم أباه ، وقول بعضهم لأنَّ الذَّنب كان في شريعةٍ ، والملام في أُخرى ، وقول بعضهم لأنَّ الملام كان بعد التَّوبه ، وقول بعضهم : لأنَّ هذا تختلف فيه دار الدُّنيا ودار الآخرة .
وفريقٌ ثالثٌ : جعلوه عمدةً في سقوط الملام عن المخالطين لأمر الله ورسوله ، ثمَّ لم يمكنهم طرد ذلك ، فلابدَّ في نفس معاشهم في الدُّنيا أن يُلام من فعل ما يضر لنفسه وغيره ، لكن مثل من صار يحجُّ بهذا عند أهوائه وأغراضه ، لا عند أهواء غيره كمتا قيل في أهواء هؤلاء أنت عند الطَّاعة قدريٌّ وعند المعصية جبريٌّ .
وحتى نستطيع فهم هذا الحديث وفق أُصول أهل السُّنَّة والجماعة ، وإزالة الإشكال الّذي يتبادر إلى الذِّهن من تأييد هذا الحديث لمذهب الجبريَّة ، ومن يحتج على فعل المعاصي بالقدر ، يجب أنْ نفهم أصل نظرة أهل السُّنَّة للقدر . إذ " الإيمان بالقدر يقع على درجتين :(3)
إحداهما : الإيمان بأنَّ الله - تعالى - سبق في علمه ما يعمله العباد من خيرٍ وشرٍّ ، وطاعةٍ ومعصيةٍ ، قبل خلْقِهم وإيجادهم ، ومن هو منهم من أهل الجنَّة ، ومَنْ مِن أهل النَّار وأعد لهم الثَّواب والعقاب جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم ، وأنَّه كتب ذلك عنده وأحصاه ، وأنَّ أعمال العباد تجري على ما سبق علمه وكتابه .
والدَّرجه الثَّانيه : أنَّ الله - تعالى - خلق أفعال عباده كلِّهم من الكفر والإيمان ، والطَّاعة والمعصية ، وشاءها منهم " .
إذًا علينا أن نعلم أنَّ الله - سبحانه - سبق في علمه كلّ شيءٍ وهذا يتوافق مع طبيعة علمه تعالى المطلق،الّذي شمل الماضي والحاضر والمستقبل ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون . ثمَّ إنَّه تعالى هو خالق الأعمال ومقدرها ، لا العبد . ولا يستطيع عاقلٌ إذا ارتكب معصيةً أن يقول إنَّي أخلق أفعال نفسي وأُريدها ، وليس لله تدخُّلٌ فيها ألاّ علمها بعد وقوعها .
فالعبد يقوم بالفعل حقيقة ويختاره، ويفكِّر ويتأمَّل وقد يُقْدِم وقد يُحْجِم قبل أن يفعل دون أن يقهره أحدٌ أو يجبره على ما لا يريد ، لتقوم عليه الحجَّة باختياره إن اختار السُّوء أو يُجازى بالحسنى إن فعل حسناً ، مع الإيمان بأنَّ كلَّ ما يفعله المرء معلومٌ لله قبل خلق الخلق ، مقدَّرٌ منه سبحانه ، علماً وتقديراً لا يداخله ظلمٌ ولا حَيْفٌ ، فمعرفة الله وعلمه بأفعال العباد وخلقها لهم ، ليست من باب الإجبار ، وإنَّما تفهم عند محاولة تصوُّر عظمة علم الله ، فخالق الخلق أدرى بما سيفعلون وماذا سيختارون ، وإلى أين سيصيرون .
وبناءً على ذلك فإنَّ الله سبحانه منذ خلق آدم ، أو قبل أن يخلق آدم علم ماذا سيقترف آدم وماذا سيفعل ، ليس لأنَّه أجبره ، بل لأنَّه عالم بتكوينه ، وبمقدار مجاهدته لنفسه ودفعها عن الخطأ والزَّلل ، إذ إنَّه سبحانه قد حذره من الأكل من الشَّجره .{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُوْنَا مِنَ الظَّالِمِين }(1) فليس من المعقول في حقِّ العبد السَّويِّ ، فضلاً عن المولى عزوجل أن يحذِّر شخصاً ما من شيءِ ثمَّ يحوك له المؤامرات ليجبره على اقتراف ما حذَّر منه. فالاحتجاج بالقدر متساقطٌ لأنَّه لم يجبره عليه ، أمَّا إن قال الإنسان أنَّه معلومٌ لله فهو الَّذي قدَّره عليّ فيُقال له كما قال الله تعالى في مجادلة جبريَّة المشركين عندما قالوا { لَو شَاءَ الله مَا أشْرَكْنَا نَحْنُ وَلا آبَاؤنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيءٍ} (1) فقال الله تعالى :{ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوُهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ الظَّنَّ وَإنْ أنْتُم إلاّ تَخْرُصُوُن }(2) .
فهذه الآية ردٌّعلىكلِّ جبريٍّ ،بأن يُخرج لنا ما علم عن أفعاله ومصيره،وليس بفاعلٍ. ويقال للقدريِّ أيضاً إن كنت خالقاً لفعل نفسك دون تقديرٍ من الله فأخبرني ماذا ستفعل بعد حين من الأفعال المخلوقه لك ، غير المقدَّرة أو المعلومة لله ، فلن يفعل .
أمَّا ما تمسَّكُوا به من أنَّ موسى كان قدريا ، وأنَّ آدم كان جبريَّاً عندما احتج بالقدر فهو داحضٌ ، وقد أعجبني كثيرا جواب ابن تيميَّة على ذلك حين قال :(3) " لم يكن آدم - عليه السَّلام - محتجَّاً على فعل ما كُفي عنه بالقدر ، ولا كان موسى ممن يحتجُّ عليه بذلك فيقبله ، بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا ، فكيف آدم وموسى ؟ .
وآدم قد تاب ممَّا فعل واجتباه ربه وهداه ، وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبٍّي على فعلٍ تاب منه ، فكيف بنبيٍّ من الأنبياء ؟ وآدم يعلم أنَّه لو كان القدر حجَّة لم يحتج إلى التَّوبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنَّة وغير ذلك ، ولو كان القدر حجَّةً لكان لإبليس وغيره ، وكذلك موسى يعلم أنَّه لو كان القدر حجَّة لم يعاقب فرعون بالغرق .... وإنَّما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشَّجرة ، ولهذا قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنَّة ؟ والّلوم لأجل المصيبة التي لحقت (الإنسان نوع ) (4) " .
إذاً لم يكن موسى قدريَّاً لأنَّه لم يعاتبه لأجل الذَّنب ، بل لأجل المصيبة ، ولو كان آدم جبريَّاً لما تاب (5) .
ثانياً : التَّعارض مع أحاديث تفيد تغيُّر القدر والمكتوب .
إذا سلَّمنا بأنَّ عمل المرء وأجله ورزقه وكلَّ ما يتعلَّق به مقدرٌ ومكتوبٌ ، حسب رواية
مُسلمٍ الآنفة الذِّكر:"كَتَبَ الله مَقَادِيْرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بخَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ " . وأنَّ هذه الكتابة قطعيَّةٌ ، لأنَّها صادرةٌ عن العلم الإلهيِّ الأزليِّ المحيط 0 ويوضِّح ذلك ويجليه رواية حُذيفة بن أسيد التي أخرجها مُسلمٌ (1) أنَّ النَّبيَّ-صلّى الله عليه وسلّم-قال:" يَدْخُلُ المَلَكُ عَلى النُّطْفَة بَعْدَمَا تَسْتَقِرَّ في الرَّحْمِ بِأرْبَعِينَ ، أو خمْسَةٍ وأرْبَعِينَ لَيْلَةٍ، فَيَقُولُ : يَا رَبّ ! أشَقِيٌّ أم سَعِيدٌ ؟ فَيَكْتُبان ، فَيَقُولُ : أي رَبّ ! أذَكَرٌ أم أنْثَى ؟ فَيَكْتُبَان ، وَيَكْتُب عَمَلَهُ وَأثَرَهُ وَأجَلَهُ وَرِزْقَهُ ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ ، فَلا يُزَادُ فِيْهَا وَلا يُنْقَصُ " .
أذاً فالرِّزق ، والأجل ، والعمل كلُّ ذلك مكتوبٌ مقدَّرٌ لا يُزاد فيه ولا يُنقص ، إلاّ أنَّ أحاديث وردت تفيد نقصان الأجل والزِّيادة فيه ، أو تغيُّر القدر والمكتوب ، مما يوهم تعارضاً وتناقضاً . ومثال ذلك ما مرَّ معنا من أحاديث زيادة العمر بالبِرِّ وصلة الرَّحم . وقد تكلَّمت عنه في الفصل الأول من الباب الثَّاني بما لا مزيد عليه ، فلا أعيد .
ومن الأمثلة كذلك ما رواه التِّرمِذيُّ (2) عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يَرُدُّ القَضَاءَ إلاّ الدُّعاءَ ، وَلا يَزِيْدُ في العُمْرِ إلاّ البرَّ ".
ولفهم هذا الحديث يجب معرفة علاقة الدُّعاء بالقدر ، وقبل ذلك علاقة الأعمال بالقدر ، لأنَّ الدُّعاء عملٌ .
قال ابن القيِّم (3) : " فإنَّ العبد ينال ما قُدِّر له بالسَّبب الّذي أُقدر عليه ، ومُكِّن منه ، وهٌيِّىء له ، فإذا أتى بالسَّبب أوصله إلى القدر الّذي سبق له في أُمِّ الكتاب ، وكلما ازداد اجتهاداً في تحصيل السَّبب ، كان حصول المقدور أدنى إليه ، وهذا كما إذا قُدِّر له أن يكون من أعلم أهل زمانه ، فإنَّه لا ينال ذلك إلاّ بالاجتهاد والحرص على التَّعلُّم وأسبابه ، وإذا قُدِّر له أن يُرزق الولد ، لم ينل ذلك إلاّ بالنِّكاح أو التَّسرِّي والوطء "....
وقال ابن تيميَّة (1):بعد أن ذكر الاختلاف في الدُّعاء هل هو سببٌ أو شرطٌ إلى غير ذلك : "والصَّواب ما عليه الجمهور من أنَّ الدُّعاء سببٌ لحصول الخير المطلوب ، أو غيره كسائر الأسباب المقدَّرة المشروعة ، وسواء سمِّي سبباً أو شرطاً ، أوجزءً من السَّبب فالمقصود هنا واحدٌ ، فإذا أراد الله بعبده خيراً ألهمه دعاءه والاستعانة به ، وجعل دعائه واستعانته سبباً للخير الّذي قضاه له ..... كما أنَّ الله إذا أراد أن يُشبع عبداً أو يرويه ألهمه أن يأكل أو يشرب ، وإذا أراد الله أن يتوب على عبدٍ ألهمه أن يتوب فيتوب عليه ..... فمبدأ الأُمور من الله وتمامها من الله ، لا أنَّ العبد نفسه هو المؤثِّر في الرَّبِّ ، أو في ملكوت الرَّبِّ ، بل الرَّب -سبحانه- هو المؤثِّر في ملكوته ، وهو جاعل دعاء عبدا سببا لما يريده سبحانه من القضاء ، كما قال رجلٌ للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - : يا رسول الله ، أرأيت أدويةً نتداوى بها ، ورقىً نَسْترقِي بها ، وتُقىً نتَّقِيها : هل تردُّ من قّدَر الله شيئاً ؟ قال : " هِيَ مِنْ قَدَر الله " .(2)
إذاً فالدُّعاء لدفع مكروهٍ أو تحصيل مرغوبٍ إنَّما هو قدرٌ أيضاً ، ويصحُّ أن نقول في هذا ما تقدَّم في مسألة زيادة العمر ،بأنَّ دفع القضاء إنَّما يكون بالدُّعاء فلولا أنَّ المرء دعا الله لدفع المكروه لوقع ، فكأنَّه قُدِّر عليه كذا إن دعا وكذا إن لم يَدْعُ ، فارتباطهما كارتباط السَّبب بالمسبب ، والله اعلم .
المطلب الثَّالث : المؤمن وارتكاب الكبيره .
حرص الإسلام على أن يكون المرء المسلم نموذجاً ومثالاً للاستقامة والتَّقوى ، فخطَّ له الطَّريق ، وأوضح له السُّبُل ، وبيَّن الله طريق الهداية والرَّشاد ورغَّب فيها ، كما بيَّن طريق الغِواية والضَّلال وحذر منها ورغَّب عنها .
وأعمال المرء في حياته تتردَّد بين الاقتراب من طريق الهدايه ( الإيمان ) ، وبين طريق الغوايه والضَّلال ( الكفر ) وهذه الأعمال تتنوَّع إلى صغائر ولمَمٍ ، وإلى كبائر مهلكاتٍ .
والصَّغائر تكفِّرها الصَّلاة والأعمال الصَّالحة ،وهي لا يكاد يخلو منها مؤمنٌ قال تعالى : {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرُ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}(1) وقال :{الّذِين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاّ الّلمَمُ }(2) وقال - صلّى الله عليه وسلّم - : " الصَّلواتُ الخَمْسُ ، وَالجُمُعَةُ إلى الجُمُعَة ، وَرَمَضَانَ إلى رَمَضَانَ ، مُكَفِّراتٌ لمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اجْتَنَب الكَبَائِرُ " (3) فالصَّغائر إذاً شأنها يهون إذا اقترنت باستغفارٍ وإحداثٍ للطَّاعات ، أمَّا الكبائر فشأنها آخر ، والكلام فيها يتفرَّع ، والمذاهب تتنوَّع .
فمنها ما هو مُفْرِطٌ في التَّشديد يرى أنَّ مرتكب الكبيرة قد فارق اسم الإيمان وانتقل إلى غيره ، ومنها ما هو مفرِّطٌ متساهلٌ يرى أنَّ مرتكب الكبيرة مؤمنٌ ويكفيه التَّصديق بالقلب : إذ لا تضرُّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعةوبينهما مذاهب .
وتحصَّل من استقراء مذاهب الفرق في هذه المسأله بالنَّظر إلى الاسم والمثال ما يلي:
فرقة ترى أنَّ مرتكب الكبيرة كافرٌ مخلَّدٌ في النَّار وهذا قول الخوارج (4) وذهبت الإباضيَّة منهم إلى أنَّ ارتكاب الكبيرة كفر نعمةٍ (5)،ولكنَّه يوجب تخليداً في النَّار كما قال السَّالمي(6) :"اعلم أنَّ للكبائر أحكاماً منها ما يكون في الآخره وهو الخلود في النَّار والعياذ بالله " .
- وترى المُعتزلة أنَّ مرتكب الكبيرة لا يُسمى مؤمناً ولا يُسمى كافراً ، وإنَّما هو في منزلةٍ بين المنزلتين ، وقد شرح القاضي عبد الجبار هذا المصطلح فقال (1) : " وأمَّا في اصطلاح المتكلِّمين فهو العلم بأنَّ لصاحب الكبيرة اسمٌ بين الاسمين ، وحُكْمٌ بين الحُكْمين .... وذهب واصل بن عطاء إلى أنَّ صاحب الكبيرة لا يكون مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً ، بل يكون فاسقاً ".
والمعتزلة يُقرُّون بالمنزلة بين المنزلتين فيما يخصُّ التَّسميَّة ليس إلاّ ، أمَّا فيما يخصُ الجزاء فإنَّهم يلتقون بالرَّأي مع الخوارج لأنَّ مرتكب الكبيرة خالدٌ مخلَّدٌ في النَّار يُعذَّب فيها أبد الآبدين ، ودهر الدَّاهرين " (2)
وذهبت الزَّيديَّة إلى مثل ما ذهبت إليه المعتزلة من شأن صاحب الكبيرة ، فقال علي شرف الدين من الزَّيديَّة (3) : " وأمَّا الزَّيديَّة وسائر العَدْليَّة فقالوا من مات مؤمناً فهو من أصحاب الجنَّة خالداً فيها أبداً ، ومن مات كافراً أو عاصياً لم يتب فهو من أصحاب السَّعير خالداً فيها أبداً " .
وبمقابل هؤلاء كان هناك المُرجئة الّذين يكتفون بمجرَّد التَّصديق لحصول الإيمان ، ويرون أنَّه " لا تضرُّ مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة " . وبالتَّالي فإنَّ مرتكب الكبيرة يبقى على أصل إيمانه في الدُّنيا ويُرجىء الحكم النِّهائي بشأنه في الآخرة .
وبين هؤلاء وهؤلاء كان أهل السُّنَّة كتوسطٍ بين نقيضين،حيث حكموا بأنَّ مرتكب الكبيرة يتناوله اسم الإيمان ، إذ إنَّ " اسم الإيمان لا يزول بذنبٍ دون الكفر ، ومن كان ذنبه دون الكفر فهو مؤمنٌ وإن فسق بمعصيةٍ "(4) .
ولهذا فهم " لا يشهدون على أحدٍ من أهل الكبائر بالنَّار ، ولا يحكمون بالجنَّة لأحدٍ من الموحِّدين ، حتَّى يكون الله - سبحانه- يُنزلهم حيث يشاء ، ويقولون : أمرهم إلى الله ، إن شاء عذَّبهم وإن شاء غفر لهم ، ويؤمنون بأنَّ الله سبحانه يخرج قوماً من الموحِّدين من النَّار على ما جاءت به الرِّوايات عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - (1) .
بعد هذه الإطالة في بيان مذاهب الفِرق بشأن مرتكب الكبيرة ، أُشير إلى أنَّه قد جاءت بعض الأحاديث يؤيِّد ظاهرها ما ذهبت إليه المرجئة ، وأحاديث يؤيِّد ظاهرها ما ذهبت إليه الخوارج والمعتزلة وهو ما يتعارض مع نظرة أهل السُّنَّة ، ثمَّ إنَّ هذه الاحاديث تتعارض فيما بينها وهذا بيانها :
أوّلاً:أحاديث تدلُّ على أنَّ الكبيرة لا تؤثِّر في الإيمان ،وهو ما يُوهم تأييد مذهب المُرجئة ، مثاله ما رواه البُخاريُّ (2) ومُسلمٌ (3) عن أبي ذرٍ - رضي الله عنه - قال : أتيت النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلَّم - وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائمٌ ، ثمَّ أتيته وقد استيقظ فقال : " مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إله إلاّ اللهُ ثُمَّ مَاتَ عَلىذَلِك إلاّ دخل الجنَّة " ، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ " قَالَ : وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ ". قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال :" وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ " قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال :" وَإنْ زَنَى وَإن سَرَقَ رَغْمَ أنْفِ أبي ذَرٍ " .
وهذا الحديث قد يُفهم منه أنَّ مجرَّد قول لا إله إلاّ الله مُوجبٌ لدخول الإنسان الجنَّة مع ما ارتكب من خطايا وآثامٍ ،ولهذا ترجم ابن حِبَّان عنــدما روى معنى الحديث بقوله(4) :"ذِكر خبرٍ ثانٍ أوهم من لم يُحكم صناعة الحديث أنَّ الإيمان بكامله هو الإقرار بالِّلسان دون أن يُقرنه الاعمال بالأعضاء ".
وهذا الفهم للحديث مع أحاديث أُخرى تدلُّ على أنَّ من قال لا إله إلاّ الله دخل الجنَّة وقد حصل وذهبت إليه بعض الفرق محتجَّةً لمذهبها به وبأمثاله وهم المرجئة كما بيَّنت ، ولكنَّ هذه النُّصوص لا تُفهم مُنعزلةً عن غيرها ، وعدم استقصاء بقية الطُّرق والأطراف للأحاديث التي تدور حول هذا المعنى هي السَّبب في الفهم الخطأ للأحاديث ، ولقد وُفِّق الدكتور يوسف القَرضاوي للاهتداء إلى هذه المسألة حيث جعلها من أساسيات فهم السُّنَّة المُشرَّفة فقال(1) :" ومن الّلازم لفهم السُّنَّة فهماً صحيحاً أن تجمع الأحاديث الصَّحيحة في الموضوع الواحد ، بحيث يُردُّ مُتشابهها إلى مُحْكمِها ، ويُحمل مُطْلقُها على مُقَيَّدِها ، ويُفسَّر عامُّها بخاصِّها ، وبذلك يتَّضِحُ المعنى المراد فيها ، ولا يُضرب بعضها ببعضٍ " .
ولا شكَّ عند الجميع أن كلمة :" لا إله إلاّ الله محمدٌ رسول الله " هي الكلمة التي يُفارق بها المرء الكفر ، ويدخل الإسلام أو الإيمان ، فعن سِوار بن شَبِيبٍ قال(2) : جاء رجلٌ إلى ابن عمر فقال: إنَّ ها هنا قوماً يشهدون عليَّ بالكفر، قال: فقال:ألا تقول لا إله إلاّ الله فتكذِّبهم ؟ . ولكن الخلاف على الاقتصار على هذه الكلمة هل يُوجب جنَّةً ، ويحمي من النَّار أم لا ؟ وهل الإتيان بأعمالٍ تُناقضها يمحوها ويُبطلها أم يبقيها ؟
فبالنَّظر إلى الأحاديث مجتمعـةٍ نرى أنَّ بعض الأحاديث قد قيَّدت قولها بشرط أن لا يكون شاكَّاً بها ، أو أن يكون مخلصاً بها قلبه ، في أحاديث كثيرةٍ يطول استقصاؤها (3) ، وبيَّنَتِ الأحاديثُ كذلك أنَّ على المرء أن يأتي بالشُّعب التَّابعة لهذه الكلمة ، والّتي وُصفت في الأحاديث بشُعَبِ الإيمان ، حتّى يستكمل الإيمان ، وغير ذلك من الأُمور المكملة .
وبالرُّجوع إلى تلك الأحاديث جميعاً يزول ما تُوهِّم بأنَّه تأييدٌ لمذهب المُرجِئة ، ونعرف أنَّ هذه الكلمة يترتَّب عليها ما يتبعها من أعمالٍ ، وإن كانت " لا إله إلاّ الله " بشِقَّيها حافظةً لصاحبها من لخلود بالنار ، لأنَّه تقرَّر أن لن يبقى في النَّار من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمانٍ كما نطق بذلك ، حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -أنه قال(1) : " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إله إلاّ الله وفي قلبه وزن شعيةٍه مِن خَيْرٍ ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إله إلاّ الله وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ ،وَيخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إله إلاّ الله وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ " . وفي روايةٍ من " إيمانٍ " مكان" من خيٍر " .
إذاً نفهم من قوله : " مَنْ قَال لا إله إلاّ الله دَخَلَ الجنَّة وَإنْ زَنَى وإن سَرَق " أنَّ نهاية مآله إلى الجنَّة ، ولا يمنع ذلك أن يُعاقب بحسب ما اقترفت يداه إذا شاء الله ، ويمكث في النَّار ما شاء الله أن يمكث ، والأحاديث في هذا المعنى متوافره متواتره . (2)
وقال التَّرمِذيُّ عقب روايته حديث عُبادة بن الصَّامت(3) : " مَنْ شَهِدَ أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رَسُول الله حَرَّم الله عليه النَّارَ " : قال أبو عيسى (4) : وجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم أنَّ أهل التَّوحيد سيدخلون الجنَّة وإن عُذِّبوا بالنَّار بذنوبهم فإنَّهم لا يخلدون في النَّار .
ثانياً : أحاديث بعكس ما مضى تفيد أنَّ مرتكب الكبيرة قد يصل إلى مرحلة الكفر : وهو ما يُوهَم منه تأييد مذهب المعتزلة والخوارج ، ومنها بعض الأحاديث التي تعارض الأحاديث الّتي مرَّت آنفاً ، مثال ذلك ما أخرجه البُخاريّ(5) وغيره عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - : " لا يَزْنِي الزَّانِي حِيْنَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلا يَشْرَبُ الَخْمَر حِيَن يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلا يَسْرِقُ حِيْنَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إليهِ فِيْهَا أبْصَارَهُمْ حِيْنَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ " .
ومن هذا القبيل كذلك ما رواه البُخاريُّ(1) ومُسلمٌ (2) وغيرهما عن عبد الله بن مسعود أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - قال : " سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوٌق وَقِتَالُهُ كُفْرٌ " .
فكما يُفهم من النَّصَّين : أنَّ مرتكب إحدى الكبائر ليس بمؤمنٍ ، والحديث الثاني نصَّ على أنَّ قتال المسلم كفرٌ، والقتال كبيرةٌمن الكبائر،فعلىهذا مرتكب الكبيرة كافرٌ ، وهو ما يُفهم منه تأييد مذهب الخوارج والمعتزلة0 وممّا يتعارض مع الأُصول المقرَّرة من أنَّ الكفر هو الارتداد لقول الله تعالى:{ إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (3) .
فما المقصود بالحديثين عند ذلك وكيف نفهمهما ؟ .
بالنِّسبة للحديث الأوّل فقد جاء حلُّ إشكاله في ألفاظه ، وهو قوله : " حِيْنَ يَزْنِي " ، وقوله : " حِيْنَ يَسْرِقُ " أي في لحظة الزِّنى ، وفي لحظة السَّرقة ، لا أنَّ مُسمَّى الإيمان يزول عنه كليَّاً وينتقل إلى مُسمَّى الكفر ،فإنَّ هذا لا يكون إلاّ باستحلال فاعل ذلك لما يصنع . ويُصدِّق هذا التَّحليل ما رواه أبو داود(1)بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هُريرة أنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم - قال : " إذَا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ مِنَ الإيمانِ كَأنَّ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ ، فَإذَا انْقَطَعَ رَجَعَ إليهِ الإيمانُ " .
أمَّا قوله : "سِباب المسلم فسوق ٌوقتاله كفر ٌ" فيجب أن لا يُحمل على ظاهره ، وبخاصَّةً إذا كان قتاله متأوّلاً ، لا مُستحلاً له .
قال الحافظ ابن حجرٍ (2) : " ظاهره غير مُرادٍ ، لكن لما كان القتال أشدَّ من السِّباب - لأنَّه مُفْضٍ إلى إزهاق الرُّوح - عبَّر عنه بلفظٍ أشدَّ من لفظ الفسق وهو الكفر ، ولم يُرِدْ حقيقة الكفر الّتي هي الخروج عن الملّة ، بل أطلق الكفر مبالغةً في التَّحذير ،معتمداً على ما تقرَّر من القواعد أنَّ مثل ذلك لا يُخرج عن الملّة ، مثل حديث الشَّفاعة ، ومثل قوله تعالى : { إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } .
إذاً فصرف الحديث عن ظاهره ليس من باب التَّشهِي ، أو تأييد مذهبٍ معيَّنٍ ، بل لما تقتضيه محكمات الآيات ، ومُتواترات الأحاديث ، فما كان من مُتشابهٍ يُردُّ إلى المُحكم ليُفهم على ضوئِهِ ، والحديث من النَّوع المُتشابه الّذي يُفهم مع ضَمِّهِ للأحاديث الأُخرى الكثيرة المحكمة ، وبديهيٌّ أنَّ الله لا يغفر الكفر ، إذاً اقتضى أن يكون المراد بالكفر ليس كفر الردَّة .
ولزيادة التَّوضيح أنقل هذه الفقرات عن أحد علماء السَّلف وهو أبو القاسم عُبيد بن سلاّم إذ قال(3) : " وإنَّ الّذي عندنا في هذا الباب كلّه أنَّ المعاصي والذُّنوب لا تُزيل إيماناً ، ولا توجب كفراً ولكنَّها إنَّما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الّذي نعت الله به أهله .
وقال (4) : وأمَّا الآثار المرويات بذكر الكفر والشِّرك ووجوبهما بالمعاصي ، فإنَّ معناهما عندنا ليست تُثبت على أهلها كفراً ولا شِركاً يُزيلان الإيمان عن صاحبه ، إنَّما وجوهها أنَّها من الأخلاق والسُّنن التي عليها الكفَّار والمشركون .
وقال(1) : وأمَّا الفُرقان الشَّاهد عليه في التَّنزيل فقول الله - عزَّوجل - :{ وِمِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(2) وقال ابن عبّاسٍ(3) :"ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة" .
وقد بيَّن ابن مَنده ، أنَّ القتال كفرٌ لا يبلغ به الشِّرك فقال(4) :" ذِكْر على ما يدلُّ أنَّ مواجهة المسلم بالقتال أخاه كفرٌ لا يبلغ به الشِّرك والخروج من الإسلام " ثمَّ روى حديثاً عن أبي بَكْرة -رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم-(5) : " إذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ صَاحِبَهُ ، فَالْقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ في النَّارِ " .
فالحديث سمَّى القاتل والمقتول مسلمين ، ولهذا ترجم ابن منده بقوله الّذي مرَّ آنفاً ، وقريباً من هذا ترجم البُخاريُّ عند روايته هذا الحديث فقال (6) : " باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فسمَّاهم المؤمنين " . ووضَّح ابن حجر(7) قائلاً : واستدل المؤلف أيضاً على أنَّ المؤمن إذا ارتكب معصيةً لا يكفر ، بأنَّ الله تعالى أبقى عليه اسم المؤمن فقال :{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ اقْتَتَلُوا} وقال : { إ نَّمَا المُؤْمِنُونَ أُخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ } .
وهذا كلُّه واضحٌ لمن كان له قلبٌ ، أو ألقى السَّمْع وهو شهيدٌ .
المطلب الرَّابع :توهُّم تعارض الحديث مع عِصمة الأنبياء .
العِصمة لُغةً (1) : مصدر عَصَمَ يَعْصِمُ ، اكتسب ومنع ووقى .
أمَّا في الاصطلاح (2) : فعصمة الأنبياء : حفظه إيَّاهم بما خصَّهم به من صفاء الجوهر ثمَّ بما أولاهم من الفضائل الجسميَّة والنَّفسِيَّة ، ثمَّ بالنُّصرة وبتثبيت أقدامهم ، ثمَّ بإنزال السَّكينة عليهم ، وبحفظ قلوبهم وبالتَّوفيق 0
ولقد تعرَّض الرَّازي لتعريف العِصمة من خلال تعريف المعصوم فقال :(3):" المعصوم هو الّذي لا يُمَكِّنُه بالمعاصي ، ومنهم من زعم أنَّه يكون متمكِّناً منه، والأولون منهم من زعم أنَّ المعصوم هو المختصُّ في بدنه أو في نفسه بخاصيَّةٍ تقتضي امتناع إقدامه على المعاصي " .
وقال (4) في شرح اختلاف النَّاس في العِصمة : " اعلم أنَّ الاختلاف في هذه المسأله واقعٌ في أربعة مواضع :
الأوّل:ما يتعلق بالاعتقاديَّة، واجتمعت الأُمَّة على أنَّ الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعه إلا الفُضيليَّة من الخوارج(5) فإنَّهم يجوِّزون الكفر على الأنبياء-عليهم الصَّلاة والسَّلام- ....
الثَّاني : ما يتعلَّق بجميع الشَّرائع والأحكام من الله - تعالى - وأجمعوا على أنَّه لا يجوز عليهم التَّحريف والخيانه في هذا الباب لا بالعمد ولا بالسَّهو ....
الثَّالث : ما يتعلَّق بالفتوى ، وأجمعوا على أنَّه لا يجوز تعمُّد الخطأ ، فأمَّا على سبيل السَّهو فقد اختلفوا فيه .
الرَّابع : ما يتعلَّق بأفعالهم وأحوالهم . وقد ذكر الرَّازيُّ اختلافهم في هذه النُّقطة الأخيرة ، فذكر أنَّ بعضهم جوَّز عليهم الإقدام على الكبائر ، وبعضهم جوَّز عليهم تعمُّد الصَّغيرة دون الكبيرة بشرط ألاّ تكون مُنفِّرةً ، وبعضهم لم يجوِّز عليهم تعمُّد الصَّغيرة .
ثمَّ ذكر وقت وجوب هذه العِصمة فذكر البعض أنَّها من الولادة إلى آخر العمر ، وقال الأكثرون : هذه العِصمة إنَّما تجب في زمان النُّبوَّة .
وقال(1) :" والّذي نقول : إنَّ الأنبياء- عليهم الصَّلاة والسَّلام - معصومون في زمان النُّبوَّة عن الكبائر والصَّغائر بالعمد ، أمَّا على سبيل السَّهو فهو جائزٌ .
تنبيهٌ : ذكر الأكثرون عند تعرُّضهم لمبحث العِصمة ، عصمة الأنبياء لا غيرهم ، سوى الشِّيعة فإنَّهم تكلَّمو عن عِصمة الأئمة وعلَّلوا ذلك بأنَّه(2) :"لمَّا كان علَّة الحاجة للإمام عدم عصمة الخلق وجب أن يكون الإمام معصوماً، وإلاّ لم يحصل غرض الحكيم ". وقد ذكرت في الفصل الأوّل من الباب الأوّل شدَّة تعارض أقوال ائمتهم -حسب زعمهم-وبيَّنت فلسفتهم لتبرير هذا التَّعارض ، ولهذا فلن أتشاغل بعصمة الائمة لأنَّها ليست من صُلب بحثي، ثمَّ لشدَّة وهاء تبريراتهم.
إذاً فعِصمة الأنبياء واجبٌ إثباتها قبل النُّبوَّة عن الكبائر ، وبعد النُّبوَّة عن تعمُّد الصَّغائر ، ويجب اعتقاد بعدهم عن الكذب أو الخطأ في مجال التَّبليغ والفتوى ، وقد وردت بعض الأحاديث توهم التَّعارض مع مفهوم العِصمة ، ومنها: حديث سحر النَّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-من قِبَل لَبيد ابن الأعصم ،إذ روى البُخاريُّ(3) عن عائشه - رضي الله عنها - قالت : سُحر رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - حتَّى إنَّه ليُخيَّل إليه أنَّه يفعل الشَّيء وما فعله ، حتَّى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه ثمَّ قال : " أشَعَرْتِ يَاعَائِشَةُ أنَّ اللهَ قَدْ أفْتَانِي فِيْمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ" ؟ قلت : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " جَاءَنِي رَجُلان فَجَلَسَ أحَدُهُمَا عِنْدَ رَأسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي ، ثُمَّ قَالَ أحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : مَطْبُوبٌ ، قَالَ : وَمَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ : لَبِيْدٌ ابن الأعْصَمِ اليَهُودِيُّ ، مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ ، قَالَ : فِيْمَاذَا ؟ قَالَ : في مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ ، وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ ، قَالَ : فَأيْنَ هُوَ ؟ قَالَ : في بِئْرِ ذِي أروانٍ " .قال : فذهب النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - في أُناسٍ من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخلٌ ، ثمَّ رجع إلى عائشة فقال : "وَالله لَكَأنَّ مَاؤهَا نُقَاعَة الحِنَّاء ، ولكأنَّ نّخْلَهَا رُؤوسُ الشَّيَاطِينِ " قلت : يا رسول الله ، أفأخرجته ؟ قال : " لا ، أمَّا أنا فَقَدْ عَافَانِي الله وَشَفَانِي ، وَخَشِيْتُ أنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرَّاً " ، وأمر بها فدفنت .
وللوهلة الأولى قد يرفض البعض هذا الحديث بحجَّةِ أنَّه يتعارض وعِصمة النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وبخاصَّةٍ ما ورد من قول الله -تعالى- على لسان المشركين : { إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّرَجُلاً مَسْحُورَاً }(1) فما وجه هذا الحديث وكيف يُفهم على بناءً على هذه الآية ؟ .
ابتداءً يجب أن نقف على معنى السِّحر حتَّى نستطيع فهم الآيات في ضوء الأحاديث ، أو فهم الأحاديث في ضوء الآيات ، قال القُرطبيُّ (2) " السِّحر : أصله التَّمويه بالحيل والتَّحايل ، وهو أن يفعل السَّاحر أشياء ومعانٍ فيُخيَّل للمسحور أنَّها بخلاف ما هي به ، كالَّذي يرى السَّراب من بعيدٍ فيُخيَّل إليه أنَّه ماء وقيل:هو مشتقٌ من سحرت الصَّبيَّ إذا خدعته ، وكذا إذا علَّلته " (3) . وقيل : إنَّ السِّحْر عند الشَّافعيِّ وسوسةٌ وأمراضٌ .
وعلى هذا فالسَّحر : إمَّا خداعٌ وتمويهٌ أو أمراضٌ . وعلى الأخير يُحمل سحر النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أي إنَّه من قبيل الأمراض ، لامن قبيل السِّحر الّذي يُؤَثِّر على العقل فيَخْبَله ، ويؤيِّد هذا ما استنتجه القُرطُبيُّ من الحديث حيث قال(1) : " والشِّفاءُ إمَّا يكون برفع العِلَّة وزوال المرض .... " .
ثمَّ إنَّ ألفاظ الحديث قد أفصحت عن مدى تأثير السِّحر في النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم - إذ قالت عائشة : إنَّه كان يُخيَّل إليه أنَّه يفعل الشَّيء ولا يفعله ، وفي روايةٍ أُخرى : حتّى كان يرى أنَّه يأتي النِّساء ولا يأتيهنَّ . وفي روايةٍ عند عبد الرَّزاق (2) أنَّ الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - حُبس عن عائشة خاصةً .
وفي حديث ابن عبّاس عند ابن سعدٍ (3) : أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - : مرض ، وأُخذ عن النِّساء والطَّعام والشَّراب .
قال القاضي عِياض(4) : فقد استبان من مضمون هذه الرِّوايات أنَّ السِّحر أنَّما تسلَّط على ظاهره وجوارحه ، لا على قلبه واعتقاده وعقله ، وأنَّه إنَّما أثَّر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه ، وأضعف جسمه وامرضه .
وعلى هذا فالسِّحر أمرٌ واقعٌ ،وحقيقةٌ مُشاهدةٌ من خلال آثارها ، وما وقع على الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - منه لم يؤثِّر على عقله ، أو على ما هو بصدده من التَّبليغ ، لأنَّ الله - عزّوجلَّ - قد عصمه من هذا .
ثُمَّ إذا قمنا بالتَّمييز بين نوعين للعصمة يمكن إزالة الاختلاف ، وفهم الحديث دون عناءٍ ،أو إنكار لبعض الأحاديث ، وذلك بالتَّمييز بين العصمة في التَّبليغ والفتوى ـ فهذه واجبة الإثبات ـ وبين العصمة في الأمور الدُّنيويَّة والبشرية ـوهذه يعتريه فيها ما يعتري بقيَّة البشر ـومنها إيذاؤه ومحاولة ضرِّه بما دون القتل .
وفائدة هذه الحادثة التَّأكيد على بشريَّة الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - وأنَّه يعتريه ما يعتري البشر من مرضٍ وسحرٍ[غير مُؤثِّرٍ على العقل ]، ولا حجَّة لمن أنكر هذا من المعاصرين والأقدمين سوى التعلُّق بآياتٍ محمَلها غير محمل الحديث ، إذ قال المُفسِّرون عند قوله تعالى على لسان الكافرين - : { إنْ تَتَبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورَاً }(1) : أي " قد سُحِر وأُزِيل عن حدِّ الاعتدال" (2) ، أو : " من المسحور الّذي قد خبل السِّحر عقله ، وأفسد كلامه " (3) . وهذا ما لم يقله حتّى أعداؤه ، ولو حصل لفرحوا به وأذاعوه وأشاعوه .
والبعض قد رفض الحديث بحجَّة عقله القاصر ، لمّا لم يفهم المراد من الحديث ، ولم يقف على رواياته وألفاظه ، لأنَّه ليس من أهل الصَّنعة ، بل لأنَّه لم يقف على ألفاظ الحديث من الكتب المشهوره والمتيسر’ لكل أحد ، ولو وقفوا على الفاظه لما عاندوه (4) .
المبحث الثّاني
توهُّم تعارض الحديث مع القواعد الشَّرعيَّة الفِقهيَّة والأُصوليَّة
تتمَّةً لما تناولته في المبحث الأول من تعارض الحديث مع قواعد العقائد ، فإنِّي سأتعرَّض في هذه الصَّفحات لتعارض الحديث مع بعض القواعد الشَّرعيَّة والأُصوليَّة،وهو يعد ُّتتمَّة كذلك لما تَّم بحثه في الفصل الأوّل من هذا الباب وهو تعارض الحديث مع النَّصِّ من قرآنٍ وسُنَّةٍ ، أو من بابٍ آخر مع الأدل’ المتفق عليها بين الجميع .
ولهذا فإنَّي أستطيع القول بأنَّ ما سأتعرَّض له هاهنا هو تعارض الحديث مع بعض الأدلة المختلف فيها ، بالإضافة إلى بعض القواعد المُعتبرة ، الّتي تكاد ترتقي إلى درجة القطع ، بل إنَّ من الباحثين من جعلها كذلك . فمخالفة الحديث لهذه القواعد الأُصوليَّة يجب أن يُنظر إليه بإمعانٍ ، ويُدرس بتأنٍ وتثبُتٍ ، لأنَّ هذه الأُصول مبنيَّةٌ على نصوصٍ قرآنيَّةٍ كما سيأتي ، فتعارضها مع الحديث هو تعارضٌ مع ما يُستنبط من القرآن والسُّنَّة ، وهذا بيان ما قدَّمت له .
المطلب الأوّل : تعارض الحديث مع بعض الأُصول المختلف فيها عند الفقهاء .
وأقصد بالأُصول المختلف فيها ، تلك الّتي ارتضاها قومٌ وجعلوها أدلةً مُستقلَّةً بذاتها ، ونازعهم فيها آخرون فلم يرتضوها ولا سلّموا لمن أخذ بها . وهذا ينطبق على كلَّ دليلٍ أو أصلٍ سوى القرآن والسُّنَّة عند جميعهم ،أو سوى القرآن والسُّنَّة والإجماع والقياس عند جمهرتهم الغالبة ، والأُصول الّتي سأتكلَّم عنها هي :
أوّلاً : عمل أهل المدينة : وهذا أصلٌ اعتمده المالكيَّة وعوَّلُوا عليه جدَّاً حتَّى قدَّموه في بعض الأحيان على أخبار الآحاد ، ولم أجد حدّاً واضحاً عند علماء المالكيه لهذا العمل ، بل إنَّ أصحاب مالكٍ-رحمه الله- قد اختلفوا في تفسير مذهبه ، وتوضيح مراده بعمل أهل المدينة : فمنهم من قال : " إنَّما أراد بذلك ترجيح رواياتهم على رواية غيرهم ، ومنهم من قال : أراد به أن يكون إجماعهم أولى ، ولا تمتنع مخالفته ، ومنهم من قال : أراد بذلك أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - " . (1)
ويرى القاضي عِياضٌ(1) أنَّ إجماع أهل المدينة على ضربين :
" ضربٌ من طريق النَّقل والحكاية الذي تؤثره الكافَّة عن الكافَّة وعملت به عملاً لا يخفى ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم .......
النَّوع الثَّاني : إجماعهم على عملٍ من طريق الاجتهاد والاستدلال ، وهو مختلَفٌ فيه بين المالكيه أنفسهم .
واقتصر أبو الوليد الباجي(2) في تقريره لمذهب أهل المدينه ، على النَّوع الأوّل فقال (3) :
"إنَّما عوَّل مالك-رحمه الله-ومحققوا أصحابه علىالإجماع بذلك فيماطريقه النقل[كالمد] (4) والصَّاع ، وترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة ، وغير ذلك من المسائل الّتي طريقها النَّقل ، واتَّصل العمل بها في المدينة على وجهٍ لا يخفى مثله ، ونُقل نقلاً متواتراً " .
وقد نازع العلماء من غير المالكيَّةِ المالكيَّة في هذا الأصل ، حيث لم يَروا للمدينة مزيَّةً على غيرها ، ولم يُفرِّقوا بين عمل أهل المدينة ، وعمل أهل مكة ، وعمل أهل الشَّام ، أو العراق وغير ذلك ، لأنَّ الصَّحابة وُجدوا في هذه الأمصار جميعاً ، وليس لأحدٍ أن يفرِّق بين صحابة المدينة ، وغيرهم ممَّن نزلوا الأمصار أو نقلوا السُّنن والأخبار (5) . وهذا ولَّد نقاشاً وجدالاً بين المالكيه وغيرهم باستثناء قليلٍ .
واستقصاء حجج المالكيَّة ، وحجج معارضيهم في هذا الشَّأن ، ليس من شرط هذا البحث، وللوقوف عليها تراجع الكتب المتخصِّصة في ذلك ومنها كتاب : " عمل أهل المدينة ، يبين مصطلحات مالك وآراء الأُصوليين " (1) ولكنِّي سأكتفي بعرض وجهة نظرٍ محايدةٍ عرضها شيخ الإسلام ابن تيميَّة (2) حيث قال (3) : " وفي القرون الّتي أثنى عليها رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - كان مذهب أهل المدينه أصحَّ مذاهب أهل المدائن ، فإنَّهم كانوا يتأسُّون بأثر رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أكثر من سائر الأمصار ، وكان غيرهم من سائر الأمصار دونهم في العلم بالسُّنَّة النَّبوِّيَّة ..." قال : " ولهذا لم يذهب أحدٌ من علماء المسلمين إلى أنَّ إجماع أهل مدينـةٍ من المدائن حجَّةً يجب اتِّباعها غير المدينة ، لافي تلك الأعصار ولا فيما بعدها ،لاإجماع أهل مكة ، ولا الشَّام ولا العراق ، وغير ذلك من أمصار المسلمين " .
وقال أيضاً (4) : " والتَّحقيق في " مسألة إجماع أهل المدينة " أنَّ منه ما هو متَّفقٌ عليه بين المسلمين ، ومنه ما هو قول جمهور ائمة المسلمين ، ومنه ما لا يقول به إلاّ بعضهم . وذلك أنَّ إجماع أهل المدينة على أربع مراتب :
الأُولى : ما يجري مجرى النَّقل عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - ، مثل نقلهم لمقدار الصَّاع ، والمُدِّ ، وكذلك صدَقَة الخضروات والأحباس ، فهذا ما هو حجَّةٌ باتِّفاق العلماء .
المرتبة الثَّانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفَّان ، فهذا حجَّة في مذهب مالك ، وهو المنصوص عن الشَّافعيِّ ..... وكذا ظاهر مذهب أحمد : أنّ ما سنَّه الخلفاء الرَّاشدون فهو حجَّةٌ يجب اتِّباعها .
المرتبة الثَّالثه : إذا تعارض في المسأله دليلان كحديثين وقياسين، جُهل أيُّهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينه ففيه نزاعٌ ، فمذهب مالكٍ والشَّافعيِّ أنَّه يرجح بعمل أهل المدينة ، ومذهب أبي حنيفة أنَّه لا يرجح بعمل أهل المدينة .
أمَّا المرتبة الرَّابعة: فهي العمل المتأخِّر بالمدينة ،فهذا هل هو حجَّة ٌشرعيَّةٌ يجب اتِّباعه أم لا؟ فالّذي عليه أئمة النَّاس أنَّه ليس بحجَّةٍ شرعيَّةٍ ، هذا مذهب الشَّافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم " .
وبناءً على ذلك إذا تعارض حديث مع عمل أهل المدينة ، فإلى أيهما يجب المصير ؟
يرى المالكيَّة تقديم عمل أهل المدينة على الحديث ، وبهذا فإنَّهم يُرجِّحون العمل على الأحاديث . وقد ذكر القاضي عِياضٌ(1) عن ابن القاسم ، وابن وهبٍ : " رأيت العمل عند مالك أقوى من الحديث " . ونقل عن ربيع’ أنَّه قال : " ألفٌ عن ألفٍ ، أحبُّ من واحدٍ عن واحدٍ " .
وقال القاضي عياض(2) : " ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة وجوهٍ : إمَّا أن يكون مطابقاً لها فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النَّقل ، وترجيحه إن كان من طريق الاجتهاد ..... وإن كان مطابقاً لخبٍر يعارضه خبرٌ آخر كان عملهم مرجَّحاً لخبرهم ، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت ..... وإن كان مخالفاً للأخبار جمةًه ، فإن كان إجماعهم من طريق النَّقل ترك له الخبر بغير خلافٍ عندنا في ذلك ، وعند المحقِّقين من غيرنا على ما تقدَّم " .
إذاً فالمالكيَّة يرون أنَّ الحديث مرجوحٌ إن تعارض مع عمل أهل المدينة وهو محور النِّزاع مع غيرهم في هذه المسألة .
ومن أمثلة هذا ما رواه مالك في الموطأ (3) عن ابن عمر أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال : " المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخَيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ،إلاّ بَيْعَ الخَيَارِ " .
قال مالك : وليس لهذا عندنا حدٌّ معروفٌ ، ولا أمرٌ معمولٌ به فيه (4) .
وهذه المقولة من الإمام مالك ولَّدت جدلاً كبيراً ، وكلاماً كثيرا بين أصحابه وأتباعه ، حول مراده منها ، وهل هذا ردٌّ منه للحديث أم لا ؟ وأجابوا بأجوبةٍ كثيرةٍ لا يخلو أغلبها من تعسُّفٍ وتكلُّفٍ .
وقبل استعراض بعض أجوبتهم على الحديث ، يجب معرفة موقع هذا الحديث من حيث القبول والرَّدِّ ، لنرى هل يقوى على مواجهة تلك الأجوبه أم لا ؟ .
قال ابن عبد البَرِّ (1) : " وأجمع العلماء على أنَّ هذا الحديث ثابتٌ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وأنَّه من أثبت ما نقل الآحاد العدول ، واختلفوا في القول به والعمل بما دلَّ عليه : فطائفةٌ استعملته وجعلته أصلاً من أُصول الدِّين في البُيوع ، وطائفةٌ ردَّته ، فاختلف الَّذين ردُّوه في تأويل ما ردُّوه به ، وفي الوجوه الّتي بها دفعوا العمل به " .
فأمَّا الّذين ردُّوه : فمالكٌ ، وأبو حَنيفة ، وأصحابهما ، ولا أعلم أحداً ردَّه غير هؤلاء ، إلاّ شيءٌ روي عن إبراهيم النَّخْعيِّ " .
وكما قدَّمت فإنَّ الوجوه الّتي ردَّ بها أصحاب مالكٍ على هذا الحديث متعدِّدةٌ ؛ منها أنَّه منسوخٌ(2) ، وقد ردَّ ابن حجرٍ هذا على قائليه بقوله (3) :" ولا حجَّة في شيءٍ من ذلك لأنَّ النَّسخَ لا يثبت بالاحتمال " .
ولعل أقوى ما تمسَّك به هؤلاء هو قولهم إنَّ هذا الحديث مخالفٌ لعمل أهل المدينة وإجماعهم حجَّة فيما أجمعوا عليه ، وهذا مرادي من سياق المثال .
ولم يرتضِ المحقِّقُون من المالكيَّة هذا القول والإطلاق ، فقال ابن عبد البرِّ(4) : " وقال بعضهم لا يصحُّ دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة ، لأنَّ سعيد بن المسيب ، وابن شهابٍ --وهما أجلُّ فقهاء أهل المدينة -روي عنهما منصوصاً العمل به ، ولم يُرو عن أحدٍ من أهل المدينة - نصاً - ترك العمل به ، إلاّ عن مالكٍ وربيعةَ ، وقد اختلف فيه عن ربيعة ، وقد كان ابن أبي ذئب ٍ(1) - وهو من فقهاء أهل المدينة في عصر مالكٍ - ينكر على مالك اختياره ترك العمل به حتَّى جرى منه لذلك في مالكٍ قولٌ خشنٌ ، حمله عليه الغضب ، ولم يُستحسن مثله منه ، فكيف يصحُّ لأحدٍ أن يدَّعي إجماع أهل المدينة في هذه المسألة ؟ هذا ما لا يصحُّ القول به " .
وقال المَازريُّ(2) : " وأمَّا قول بعض أصحابنا : أنَّه مخالفٌ للعمل فلا يُعوَّل عليه أيضاً ، لأنَّ العمل إذا لم يرد به عمل الأُمَّة بأسرها ، أو عمل من يجب الرُّجوع إلى عمله فلا حجَّة فيه " .
ولهذا فلا أرى متمسَّكاً للمالكيَّة في ردِّ هذا الحديث بحجَّة مُخالفة عمل أهل المدينة ، بل لا أجد لهم حجَّةً مُطلقاً في ردِّ هذا الحديث ، وكما قال النَّوَويَُّ (3) : " وهذه الأحاديث الصَّحيحة تردُّ على هؤلاء ، وليس لهم عنها جوابٌ صحيحٌ ، والصَّواب ثُبوته كما قاله الجمهور ".
فعمل أهل المدينة إذاً يجوز أن يوافق حديثاً كما قال ابن تيميَّة ، أو يكون مرجِّحاً بين حديثين هو موافقٌ لأحدهما ، بل هو من أقوى المرجِّحات كما قال القاضي عِياض ، ولكن لا يُقدَّم على الأحاديث إن عارضها .
ثانياً : سدُّ الذَّرائِع .
الذَّريعة في الُّلغة(4) :الوسيلة ، فيُقال :تذرَّع بذَريعةٍ ، أي توسَّل بوسيلةٍ ، وفلانٌ ذريعتي إلى فُلانٍ،وقد تذرَّعتُ به إليه: أي توسَّلتُ .
أمَّا في الاصطلاح فقد قال الباجيُّ(5) :هي المسأله الَّتي في ظاهرها الإباحة ، ويُتوصَّل بها إلى فعل المحظور . وقال ابن العربي(6) :هو كلُّ عقدٍ جائزٍ في الظَّاهر يؤول أو يمكن أن يُتوصَّل به إلى محظورٍ. أذاً فكلُّ مباحٍ في ذاته لكنَّه يؤدي إلى محظورٍ فهو ممنوعٌ،فالنَّظر إلى الصُّور والتَّماثيل مباحٌ في أصله ، لكنَّ النَّظر إلى الصُّور المثيرة والعارية ممنوعٌ لأنَّه يؤدِّي إلى محظورٍ قد يصل إلى الزِّنا .
وسدُّ الذَّريعة أصلٌ معتبرٌ في الشَّريعة دلَّ عليه القرآن والسُّنَّة وعمل الصَّحابة ،فمن القرآن قوله تعالى:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِيْنَ يَدْعُوَن مِنْ دُوِن اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْمٍ}(1).قال ابن عاشور(2): "وقد احتجَّ علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصلٍ من أُصول الفقه عند المالكيَّة وهو الملقَّب بمسئلة سدِّ الذَّرائع ، قال ابن العربي(3) :منع الله في كتابة أحداً أن يفعل فعلاً جائزاً يؤدِّي إلى محظورٍ ، ولأجل هذا تعلَّق علماؤنا بهذه الآية في سدِّ الذَّرائع ، وهو كلُّ عقدٍ جائزٍ في الظَّاهر يؤول أو يمكن أن يُتوصَّل به إلى محظورٍ ".
وفي السُّنَّة ما رواه البُخاريُّ(4) وغيره عن عبد الله بن عَمروٍ-رضي الله عنهما -قال :قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم -"إنَّ أكْبَرَ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ"،قيل:يا رسول الله كيف يلعن الرَّجل والديه ؟ قال :"يَسُبُّ الرَّجُلَ أبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أبَاهُ ،وَيَسُبُّ أُمَّهُ ".
قال ابن حجرٍ(5) :" قال ابن بطَّالٍ(6) :هذا الحديث أصلٌ في سدِّ الذَّرائع ، ويُؤخذ منه أنَّ من آل فعله إلى محرَّمٍ يحرم عليه ذلك الفعل ، وإن لم يقصد إلى ما يحرم".
أمَّا عن عمل الصَّحابة فقد روى عبد الرزاق (1) عن أبي سريحه } حذيفه بن أسيد {قال :رأيت أبا بكرٍ وعمر وما يُضحِّيان .وزاد الطَّبراني (2) :" مخافة أن يُستَّن بهما ". وأخرج عبد الرزاق(3) أيضاً عن عُقبه بن عمرو قال:"لقد هممت أن لا أدع الأُضحية وإنِّي لمن أيسركم بها ، مخافة أن يحسب أنَّها حتمٌ واجبٌ ".
فهذه نصوصٌ صريحةٌ تدلُّ على أخذ الصَّحابة بأصل سدِّ الذَّرائع ، إضافةً إلى نصوصٍ أُخرى من القرآن والسُّنَّة وعمل الصَّحابه تركتها خوف الإطالة (4) ، إذ بما ذكرت قد تحقَّق المقصود .
وبناءً على ما مرَّ فإنَّ هناك نصوصاً جاءت تؤيِّد أصل سدِّ الذَّريعة ، ونصوصاً تخالف هذا الأصل ، ممّا يقتضي عرض كلا النَّصيين على موازين المحدثين ، والنَّظر فيهما درايةً وروايةً .
فقد روى البُخاريُّ(5) ومُسلمٌ(6) وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : " كنَّا في غَزَاةٍ ، فَكَسَعَ(7) رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال الأنصاريُّ :يا للأنصار ،وقال المهاجريُّ: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم - فقال : " مَا بَال دَعْوَى جَاهِليّة" ؟
قالوا : يا رسول الله ، كَسَعَ رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال :" دَعُوهَا فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ " فسمع ذلك عبد الله بن أُبيٍّ فقال : فعلوها ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ ، فبلغ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - فقام عمر ، فقال : يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - : " دعه لا يتحدَّث النَّاس أنَّ محمداً يقتل أصحابه " .
فالرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - أخذ بمبدأ سدِّ الذَّرائع فلم يقتل هذا المنافق ، وهذا الحديث من أدلة القائلين بمشروعيَّة هذا المبدأ .
إلاّ أنَّه ورد حديثٌ يخالف هذا الحديث ، ويخالف مبدأ سدِّ الذَّرائع أيضاً ، وهو ما رواه أحمد في " المسند "(1) : عن أبي بَكْرَة أنَّ نبيَّ الله - صلّى الله عليه وسلَّم - مرَّ برجلِ ساجدٍ وهو ينطلق إلى الصَّلاة ، فقضى الصَّلاة ورجع عليه وهو ساجدٌ فقام النَّبيُّ-صلّى الله عليه وسلّم - فقال : " مَنْ يَقْتُلُ هَذَا " ؟ فقام رجلٌ فحسر عن يديه فاخترط سيفه وهزَّه ثمَّ قال : يا نبيَّ الله ، بأبي أنت وأُمي كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أن لا اله إلاّ الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله ثمَّ قال : مَنْ يَقْتُلُ هَذَا" ؟ فقام رجلٌ فقال:أنا فحسر عن ذراعيه واخترط سيفه وهزَّه حتَّى أرعدت يداه، فقال النَّبيُّ-صلّى الله عليه وسلّم-:"وَالّذِي نَفْسُ محمَدٍ بِيَدِهِ لَو قَتَلْتُمُوهُ لَكَانَ أوّل فِتْنَةٍ وآخِرَهَا"
(1)
فالتَّعارض إذاً واقعٌ ، والتَّناقض حاصلٌ بين الأحاديث الَّتي تمنع قتل المنافقين سدَّاً للذَّرِيعة ، وبين هذا الحديث الّذي يأمر فيه النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - بقتل هذا الرَّجل . أي بين الحديث وبين مبدأ سدِّ الذَّريعة من جهةٍ أُخرى .
إلا أنني إن أردت أن أفهم الأحاديث الّتي مرَّت مع الشَّواهد على أنَّها حادثة واحدة في حقِّ رجلٍ واحدٍ ، وهو ما يوحيه السِّياق ، فإنِّي سوف ادَّعي اختلافاً مُؤثَّراً بين سياق هذه الأحاديث مما يجعلها في درجةٍ لا تقوى على معارضة الأحاديث الصِّحاح ، أو المبدأ الواضح أو أن يُقال إنَّ المصلحة كانت تتغلَّب في مسألة قتل المنافقين ، وأنَّ الضَّرر الذي سيلحق الجماعة المُسلمة عظيمٌ آنذاك ، سيما وأنَّ ضرر المنافقين لم يتعدَّاهم ، بل انقرض بانقراضهم ، أمَّا ذاك الرَّجل والّذي جاء وصفه بوصفٍ ينطبق على الخوارج فإنَّ ضرره يتعدَّى لغيره ، بل لقد قامت فتنةٌ أُزهقت فيها أرواحٌ كثيرة ، ويؤيِّد هذا ما جاء في نهاية رواية أبي يَعْلى : " لَوْ قُتِلَ اليَوْمَ مَا اخْتَلَفَ الرَّجُلانِ مِنْ أُمَّتِى" . فهو وأمثاله إذاً سبب الفُرقة والاختلاف ، وأيُّ ضررٍ أشدُّ من ذلك ؟ ؟ .
ثالثاً : توهُّم تعارض الحديث مع المصلحة .
المصلحة في الُّلغة(1) : هي المنفعة وزناً ومعنىً ، والمصلحة واحدة المصالح ، واستَصْلَح نقيضُ استَفْسَد .
أمَّا في الاصطلاح فهي (2) : " المنفعة الّتي قصدها الشَّارع الحكيم لعباده ، من حفظ دينهم ، ونفوسهم وعقولهم ، ونسلهم ، وأموالهم ، طبق ترتيبٍ فيما بينها " .
وجلب المصلحة ودَرء المفسدة أمرٌ دلَّ عليه العقل والشَّرع " إذ لا يخفىعلى عاقلٍ قبل ورود الشَّرع أنَّ تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان ،وعن غيره محمودٌ ، وأنَّ تقديم أرجح المصالح فأرجحــها محمودٌ حسنٌ ، وأنَّ درء أفسد المفاسد فأفسدها محمودٌ حسنٌ" (3) .
إذاً فالمصلحة معتبرةٌ عقلاً وشرعاً ، ولقد استدل العلماء على مشروعيتها بعدَّة أدلَّةٍ (4) ، لعل من أوضحها دلالة قول الله تعالى : { إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوُن }(5) وقول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - :" لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارُ " (6) .
ففيما يخصُّ دلالة الآيه على المصلحه قال ابن عاشور(1) :" فهذه الآية استئنافٌ لبيان كون الكتاب تبياناٌ لكلِّ شيءٍ ، فهي جامعة لأُصول التَّشريع " وقال : " والعدل إعطاء الحقِّ لصاحبه ، وهو الأصل الجامع للحقوق الرَّاجعة إلى الضَّروري والحاجِّيِّ ، من الحقوق الذَّاتيَّة وحقوق المعاملات " . وقال " ونهى الله عن الفحشاء والمنكر والبغي وهي أُصول المفاسد " . فالآية جاءت إذاً ببيان المصالح والمفاسد ، فأمرت بالأوّل ونهت عن الثّاني .
أمَّا دلالة الحديث فهي واضحةٌ بيِّنةٌ ، قال ابن رجبٍ (2) : " وممّا يدخل في عموم قوله - صلّى الله عليه وسلّم - : لا " ضرر " أنَّ الله لم يكلِّف عباده فعل ما يضرهم ألبتة ، فإنَّ ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ودنياهم ، وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهم " .
وقال الهَيْتَميُّ (3) : " إنَّ معنى الحديث ما مرَّ من نفي سائر أنواع الضَّرر والمفاسد شرعاً إلاّ ما خصَّه الدَّليل ، وإنَّ المصالح تُراعي إثباتاً ، والمفاسد تُراعي نفياً لأنَّ الضَّرر هو المفسدة ، فإذا نفاها الشَّرع لزم إثيات النَّفع الّذي هو المصلحة "(4) .
وللمصالح ضوابط يجب أن تتوفَّر فيها حتَّى تُعدَّ مصلحةً مُعتبرةً ، وقد فصَّلها الدكتور البُوطي (1) وأسهب في شرحها ، وأنا أذكرها على الإجمال :
" 1- اندراجها في مقاصد الشَّريعة .
2- عدم معارضتها للكتاب .
3- عدم معارضتها للسُّنَّة .
4- عدم معارضتها للقياس .
5- عدم تفويتها مصلحةً أهمَّ منها ."
فالمصلحة إذا كانت تعارض نصَّاً فهي غير مُعتبرةٍ ، وهذا هو الصَّواب لكنَّنا وجدنا خلاف هذا عند بعض العلماء نظريَّاً وعمليَّاً ، إضافةً إلى أنَّي قد وجدت بعض الأحاديث تتعارض والمصلحة .
ذكر أغلب الكاتبين في موضوع المصلحة أنَّ الطُّوفي كان له رأيٌ خاصٌّ في المصلحه عرَّفه أثناء شرحه لحديث : " لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارٌ " . من شرحه للأربعين حيث ذهب لتقديم المصلحة على النَّصِّ ، فقال (2) : " وأمَّا معناه ( أي الحديث ) فهو ما أشرنا إليه من نفي الضَّرر والمفاسد شرعاً وهو نفيٌ عامٌّ إلاّ ما خصَّصه الدَّليل ، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلَّة الشَّرع ، وتخصيصها بها في نفي الضَّرر وتحصيل المصلحة " . وقد تكفَّل غيري بردِّ هذه الدَّعوى فلا أتشاغل بردِّها لئلا أخرج عن مقصود البحث .
فالمصلحة تنطلق من النُّصوص ، ويمكن فهمها حسب مقاصد الإسلام العظيمة الكبرى ، المستمدَّة من النُّصوص الشَّرعيَّة ، ولهذا فلا يُعقل أن نقبل قول من يقدِّم المصلحة على النَّص ، وبخاصَّةٍ إذا كانت دلالة هذا النَّصِّ قطعيَّةً لا يدخلها تأويلٌ أو تخصيصٌ أو تقييدٌ .
أمَّا فهمها حسب مقاصد الشَّريعه فقد تعرَّضت لذكره قبل قليلٍ عندما نقلت في شروط المصلحة أو ضوابطها : اندراجها تحت مقاصد الشَّريعة ، ومقاصد الشَّريعة كما هو معروفٌ تنقسم إلى اقسام ،وما يهمُّني هنا أن أُبيِّن أنَّ الشَّريعة راعت مصالح العباد فيما يتعلَّق بحفظ دينهم ، وحفظ عقولهم ، وحفظ أنفسهم ، وحفظ أموالهم ، وحفظ فروجهم ، وهذه المقاصد العُليا للإسلام من أوجب الواجبات لأنَّ الدِّين جاء لتحقيقها ، وكذا ما ينبني عليها .
قال الشَّاطِبي(1) : " ومن ذلك أنَّ البناء على المقاصد الأصليَّة ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب ، إذ المقاصد الأصليَّة دائرة على حكم الوجوب ، من حيث كانت حِفظاً للأُمور الضَّروريَّة في الدِّين المُراعاة باتِّفاق " .
وبناءً على ذلك فمخالفة إحدى المقاصد ، يدخل في باب النَّهي ، إن لم يكن التَّحريم ومع ذلك فقد وجدنا أحاديث قد تتعارض مع ما يُفهم من بعض هذه المقاصد ، ومثال ذلك ما رواه مُسلم في "صحيحه" (2) : عن أبي هُريرة قال : أتى النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - رجلٌ أعمى فقال : يا رسول الله إنَّه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد ، فسأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أن يُرخِّص له فيصلي في بيته ، فرخَّص له ، فلمَّا ولَّى دعاه فقال : " هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ " ؟ فقال : نعم ، قال : " فَأجِبْ " .
فالظَّاهر من هذا الحديث أنَّه يتعارض مع مقصد حفظ النَّفس ، وهي مصلحةٌ مُعتبرةٌ إذ كيف لم يُرخِّص النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - لهذا الأعمى أن يصلي في بيته في حين أعذر الشَّارع أصنافاً من النَّاس بالتَّخلُّف عن الجماعة لأُمورٍ لا تصل من حيث ضررها على النَّفس أو على المال ما يبلغ بهذا الأعمى لو عرض له عارضٌ .
وقد أجاد ابن حِبَّان (3) في استيعاب وتَعداد أصحاب الأعذار الّذين سُمح لهم بالتَّخلُّف عن صلاة الجماعة ،مما يوجب النَّظر إلى هذا الحديث مُجتمعاً مع تلك الأصناف الّتي عدَّدها ابن حِبَّان ، لنستنتج أنَّ عُذره يُضاهي إنْ لم يكن يفوق أعذار أصنافٍ من هؤلاء ، ممّا يُحتِّم علينا التماس بعض الأوجه الّتي يمكن أن يحمل عليها الحديث ، ففهم قومٌ أنَّ المُراد بعدم التَّرخيص للأعمى مع بقاء أجر الجماعة .
قال الخَطَّابيُّ (1) : " وأكثر أصحاب الشَّافعيِّ على أنَّ الجماعة فرضٌ على الكِفاية ، لا على الأعيان ، وتأوّلوا حديث ابن أُمِّ مَكْتُوم على أنَّه لا رخصة لك إن طلبت فضيلة الجماعه ، وانك لا تحرز اجرها مع التخلف عنها بحال " .
وقال علي القَاري (2) : " معناه - أي الحديث - : لا أجد لك رخصةً تُحصِّل لك فضيلة الجماعة من غير حضورها ، لا الإيجاب على الأعمى ، فإنَّه - عليه السَّلام - رخَّص لعُتْبَان بن مالكٍ (3) في تركها " .
وهذا الفَهم الذي أرتضيه ، والّذي يقتضيه مسلك الجمع بينه وبين أحاديث ذوي الأعذار الذين احتجَّ لهم ابن حِبَّان ، وبذلك يزول التَّعارض مع هذه القاعده .
المطلب الثَّاني : توهُّم تعارض الحديث مع بعض القواعد والمسائل الأُصوليَّة .
لقد تحدَّثت في المطلب الأوّل عن تعارض الحديث مع بعض الأدلّة المختلف فيها عند الأُصوليين ، وكتتمَّةٍ لذلك رأيت أن أتعرَّض الآن لتعارض الحديث مع بعض القواعد الأُصوليَّة المعتبرة ، كقاعدة : رفع الحَرَج ، وقاعدة عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأخيراً التَّعارض مع ما يوهم رفع التَّكليف . وهذا بيان كلِّ ذلك .
أوّلاً : تعارض الحديث مع قاعدة رفع الحرج :
الحَرج في الُّلغة(4) : هو المكان الضَّيِّق الكثير الشَّجر ، أمَّا في الاصطلاح (5) : " فهو كلُّ
ما أدَّى إلى مشقَّةٍ زائدةٍ في البدن أو النَّفس أو المال حالاً أو مآلاً " . ورفع الحَرَجِ : إزالة ما يؤدِّي إلى هذه المشاق .
ورفع الحرج قاعدةٌ متينةٌ ، بَل أصلٌ عظيمٌ من أُصول هذا الدِّين مستمدَّةً من النُّصوص المُتواترة والمُتوافرة فقد قال تعالى : { مَا يُرِيْدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيْدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوُن }(1) .وقوله { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ مِلِّةَ أبِيْكُمْ إبْرَاهِيْمَ }(2) .
ودلالة هاتين الآيتين واضحةٌ جليَّةٌ في رفع الحرج ، قال ابن العربي (3) : " ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام " .
وكذلك قوله تعالى : { يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيْدُ بِكُمُ العُسْرَ }(4) ، إضافةً إلى الآيات الكثيرة في هذا الشَّأن الّتي تدلُّ على رفع الحرج ، والتَّيسير والتَّخفيف .
أمَّا الأحاديث الّتي تدلُّ على مشروعيَّة هذا الأصل فهي كثيرة جداً ؛ منها ما أخرجه الشَّيخان(5) عن أبي موسى الأشعري أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - لمّا بعثه هو ومُعَاذ إلى اليمن قال : " يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا ، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا " ،وغير ذلك من الأدلَّة الكثيرة(6) .
إذاً فرفع الحرج أصلٌ مقطوعٌ به وقاعدةٌ متينةٌ من قواعد الشَّرع فلا يُعقل بعد هذا أن نجد أحاديث تتعارض مع هذه القاعدة ، وإن تأكَّدْنا من هذا فيجب أن نمعن النَّظر في الحديث والتَّأمُّل في دلالته ، لعلَّ له مخرجاً ، أو لعلَّه لم يُفِدْ ما تبادر إلى أذهاننا من تعارضٍ ، ومثال ذلك ما ذكره الشَّاطبي( ) من أنَّ عائشة وابن عبَّاسٍ قد ردَّا خبر أبي هُريره في " غَسْل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ( ) "، استنادا إلى أصلٍ مقطوعٍ به وهو رفع الحرج ما لا طاقة به عن الدِّين .
وبالرُّجوع إلى ما تيسَّر لي من كتب السُّنَّة لم أجد النَّقل عن عائشة ولا عن ابن عبَّاسٍ في ردِّ هذا الحديث ، وإنَّما رُوي أنَّ قيس بن رافعٍ الأشجعي( )قال:يا أبا هُريرة فكيف إذا جاء مهراسكم ؟ فقال : أعوذ بالله من شرِّك يا قيس .
ثمَّ إنَّ الحرج مرفوعٌ ، لأنَّ رواية البُخاريَّ وغيره فيها : " إذا اسْتَيقظ أحَدُكُم مِنْ نومه فَليَغْسِل يدَه قَبْل أن يُدْخِلَها في وَضُوئِهِ " ومعلومٌ أنَّ الوَضُوء هو الماء الموضوع للتَّوضُّأ به ، وهو عادةً ما يكون في إناءٍ صغيٍر ، فتكون الرِّوايات قد وضَّحت بعضها بعضاً، ولهذا قال العراقي( ) : " وهو يدلُّ على أنَّ النَّهي مخصوصٌ بالأواني دون البِرك والحِياض الّتي لا يُخاف فساد مائها بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها " .
ومن الأمثلة أيضاً ما حكاه الشَّاطبيُّ ( ) فقال : " وأنكر مالكٌ حديث إكفاء القُدور الّتي طُبخت من الإبل والغنم قبل القَسْم لمن احتاج إليه ( ) " .
ولم أجد فيما بين يديَّ من كتبٍ - النَّص من مالكٍ - رحمه الله - على ردِّ هذا الحديث ، وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ العلماء التمسوا الأوجه لهذا الحديث ، فرأوا أنَّ إكفاء القدور لا يعني إطراح الّلحم منها ، وحاولوا تعليل الأمر إلاّ إنَّني وبناءً على أصل أنَّ الحديث حجَّةٌ بذاته ، لا أستطيع ردَّه بفهمٍ مَوهومٍ لقاعدةٍ قطعيَّةٍ ، فالشَّارع أعلم بالمصلحة ، وهو أحرص على رفع الحرج ، وما رآه الإمام مالكٌ حرجاً قد لا يراه غيره كذلك ، ولهذا فعلينا أن نُفرِّق بين القاعده القطعيَّة ، وفهمها الظَّنِّيِّ ، وهو الذي أراه سبباً في كثيٍر من الاختلافات الّتي نحن في غنىً عنها.
ثانياً : تعارض الحديث مع قاعدة " عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة " .
تعرَّض الأُصوليون لمسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فقال الغَزاَليُّ( ) : " لا خلاف أنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، إلاّ على مذهب من يجوِّز تكليف المحُال ، أمَّا تأخيره إلى وقت الحاجه فجائزٌ عند أهل الحقِّ خلافاً للمُعتزلة " .
إذاً فقد فرَّق الأُصوليون بين مسألتي تأخير البيان عن وقت الخِطاب، أي إلى وقت الحاجة ، ومسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة.فجوَّز الأولى الجمهور وخالف في ذلك الظَّاهريَّة ( ) والمعتزلة وبعض الإماميَّة وبعض الخوارج( )، أمَّا تأخيره عن وقت الحاجة فلم أجد قائلاً به من أرباب المذاهب أو مُنتسبيها ، إلاّ أنَّهم نسبوه لمن أجاز التَّكليف بما لا يُطاق .
وبناءً على ذلك فهذه المسألة ليست من الخلافيات ، ولهذا فيجب أن تأتلف مع النُّصوص ولا تختلف معها ، إلاّ أنَّني قد وجدت أحاديث توهم من أوَّل وهلةٍ أنَّها متعارضة مع هذه المسألة ، مثال ذلك ما رواه الشيخان ( )عن أبي هُريرة -رضي الله عنه -أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - دخل المسجد ، فدخل رجلٌ فصلّى ثمَّ جاء فسلّم على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - فردَّ النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - عليه السَّلام ، فقال : " ارْجِعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" . فصلَّى ثمَّ جاء فسلَّم على النَّبِّي - صلّى الله عليه وسلَّم - فقال : " ارْجِعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ثلاثاً . فقال : والّذي بعثك بالحقِّ فما أُحسن غيره فعلِّمني ، قال : " إذَا قُمْتَ إلى الصَّلاة فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأ مَا تَيَسِّرَ مَعَكَ مِنَ القُرآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعَاً ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً ،ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدَا ، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسَاً ، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدَاً ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا " .
فهذا حديثٌ صحيحٌ يعدُّ أصلاً - بكامل طرقه - في هيئة الصَّلاه وصفتها . إلاّ أنَّ فيه ما يُوهم الَّذي قدَّمته عن القاعدة ، وهو ما فهمه غير واحدٍ من العلماء وأجابوا عنه .
قال ابن الجَوْزِي( ) : " فإن قيل : كيف جاز لرسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أن يُؤخِّر البيان وقت الحاجة فَيُردِّد الرَّجل إلى صلاةٍ ليست صحيحةٍ ؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : إمَّا أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عنده ، ورأى أنَّ الوقت لم يفته فأراد إيقاظ الفطنة للمتروك .
والثَّاني : أن يكون الرَّجل قد أدَّى قدر الواجب فأراد منه فعل المسنون والمستحب ، فيكون قوله : " لم تُصلِّ " يعني الصَّلاة الكاملة " .
قلت : كان من الممكن أن نطلق على هذا المثال تأخير البيان عن وقت الحاجة لو انفضَّ المجلس دون أن يُبيِّن الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - للرَّجل الصَّواب ويعلِّمه ، ولهذا قال ابن حجر: وفيه تأخير البيان في المجلس للمصلحة .
ثالثاً : تعارض الحديث مع ما يُوهم انقطاع التَّكليف بالرُّغم من بقاء شروطه .
من المتَّفق عليه بين المسلمين جميعاً أنَّ المسلم يبقى مكلَّفاً إذا كان عاقلاً بالغاً ، ولا يزول عنه التَّكليف إلاّ بزوال أحد هذه الأمور ، أو الموت الّذي يُعدُّ هادما لأساس التَّكليف ، وما سوى ذلك فالمرء مطالبٌ بأداء التَّكاليف المنوطة به . لا فرق بذلك بين نبيٍّ وغيره ، يقول الله - سبحانه - مخاطبا نبيَّه : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِيُن } ( ) واليقين : الموت ، كما فسَّره غير واحدٍ ، والخطاب هاهنا وإن كان للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - إلاّ إنَّه خطاب لأُمَّته أيضاً كما تقرَّر في علم الأُصول ( ) ، إلاّ ما خرج بخصوصِيَّةٍ يختصُّ بها النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - ، وهذا لا يثبت إلاّ بدليلٍ كما أشرت إلى ذلك في موضعه .
فإذا كان النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - وهو المغفور له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر مطالباً بالعبادة حتَّى يأتيه الأجل ، فماذا نقول عن سائر الأُمَّة إلاّ إنَّه يلزمهم ما لزم النَّبي - صلّى الله عليه وسلّم - من القيام لله ، والاستمرار على العبادة ، وهذا لا يختلف عليه عاقلان ، ولهذا فلا يُتصوَّر عقلاً ولا شرعاً أن يُعفى أحدٌ ما ويخصُّ بترك التَّكاليف ،إلاّ إنَّ بعض الأحاديث قد أوهمت هذا فاحتاجت إلى بيانٍ ، ومثال ذلك ما رواه البُخاريُّ ( ) ومُسلمٌ( ) عن علي بن أبي طالب قال : بعثني رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم - والزُّبير وطَلحة والمِقداد بن الأسود فقال : " انْطَلِقُوا حتَّى تَأتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإنَّ بِهَا ظَعِيْنَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا " وسَرَدَ الحديث في سياقٍ طويلٍ في نهايته فقال عمر :" يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق . قال : " إنَّهُ شَهِدَ بَدْرَاً ، وَمَا يُدْرِيْكَ لَعَلَّ الله أنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " .
فالحديث كما هو واضحٌ تضمَّن ما يوهم بسقوط التَّكليف ، وهو غير مراد .
قال ابن القيِّم ( ) : أشكل على كثير من النَّاس معناه ، فإنَّ ظاهره إباحة كلِّ الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاؤوا منها ، وذلك ممتنعٌ ، فقالت طائفةٌ منهم ابن الجَوزِي : ليس المراد من قوله "اعملوا" الاستقبال وإنَّما هو للماضي ( ) ، وتقديره : أيُّ عمل كان لكم فقد غفرته ، قال : ويدلُّ على ذلك شيئان :
أحدهما : إنَّه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر لكم .
والثَّاني : إنَّه كان يكون إطلاقاً في الذُّنوب .
ولا وجه لذلك ، وحقيقة هذا الجواب ، أي قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم ، لكنَّه ضعيفٌ من وجهين :
أحدهما : إنَّ لفظ " اعملوا " يأباه ، فإنَّه للاستقبال دون الماضي ، وقوله : " قد غفرت لكم " لا يوجب أن يكون اعملوا مثله ، فإنَّ قوله قد غفرت تحقيقٌ لوقوع المغفرة في المستقبل كقوله : { أتَى أمْرُ اللهِ } و { جَاءَ رَبُّكَ } ونظائره .
الثَّاني : إنَّ نفس الحديث يردُّه فإنَّ سببه قصة حاطب وتجسُّسه على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وذلك ذنبٌ واقعٌ بعد غزوة بدرٍ ، لا قبلها ، وهو سبب الحديث ، فهو مراد منه قطعاً .
فالّذي نظنُّ في ذلك - والله أعلم - أنَّ هذا خطابٌ لقومٍ قد علم الله - سبحانه -أنَّهم لا يفارقون دينهم ، بل يموتون على الإسلام ، وأنَّهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذُّنوب ولكن لا يتركهم - سبحانه - مُصرِّين عليها ، بل يُوفِّقهم لتوبةٍ نَصُوحٍ ، واستغفارٍ وحسناتٍ تمحو أثر ذلك ، ويكون تخصيصهم بها دون غيرهم لأنَّه قد تحقَّق ذلك فيهم ، وأنَّهم مغفورٌ لهم ، ولا يمنع ذلك كون المغفره حصلت بأسبابٍ تقوم بهم ، كما لا يقتضي ذلك أن يُعطِّلُوا الفرائض وُثُوقاً بالمغفرة ، ولو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاةٍ ، ولا صيامٍ ، ولا حجٍّ ولا زكاةٍ ، ولا جهادٍ ، وهذا مُحالٌ " .
ونظائر هذا في الكتاب والسُّنَّة موفورةٌ ، تشهد بأنَّ المراد عدم رفع التَّكليف عنهم ، وإلاّ لفهمنا من قول الله عزّوجلَّ : { لِيَغْفِرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ }( ) ارتفاع التَّكليف عنه - صلّى الله عليه وسلّم - وهذا ما لم يقل به أحدٌ ، بل إنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - كان أشدَّ اجتهاداً في عبادته بعد نزول هذه الآية عليه .
ثمَّ إنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم -قد أخبر عن بعض الصَّحابة ، بما يُوهم ذلك ، ولم يظهر منهم اتِّكالاً على ما قاله ، أو تركاً للعمل ، فقد بشَّر عدداً من الصَّحابة بالجنَّة ، وهؤلاء المُبشَّرون كانوا أشدَّ النَّاس اجتهاداً وتشميراً في شأن الآخرة مما يُسقط الاستشهاد بفهم من فهم من هذا الحديث انقطاع التَّكليف عن البعض.
وما قيل في هذا الحديث يقال عن الحديث الذي رواه سهل بن الحَنْظليَّة أنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم - قال لأنس بن أبي مرثدٍ الغَنَوي :" قَدْ أوْجَبْتَ فَلا عَلَيْكَ ألاّ تَعْمَلَ بَعْدَهَا "( ) .
الفصل الثالث
تعارض الحديث مع العقل والواقع ونواميس الكون
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الاول : تعارض الحديث مع العقل ومُسلَّمات العلوم .
المبحث الثاني : تعارض الحديث مع الوقائع ونواميس الكون.
المبحث الثالث : تعارض الحديث مع الواقع والحِسِّ والمشاهده .
المبحث الاول
تعارض الحديث مع العقل ومُسلَّمات العلوم
قد يقف البعض على عددٍ من النُّصوص يُفهم منها تعارضاً وتناقضاً ما بينها وبين العقل أو البدهيات والمُسلَّمات في العقول ، فيدَّعى التَّناقض على الشَّريعه لطرحها واستبعادها كما يفعل بعض الجهله عندما لا يستوعبون الاختلافات بين المذاهب الفقهيَّه او العقيديَّه فيُلحدون بحُجَّة التَّناقض والتَّعارض فيما بينهما .
ولسوف أتعرَّض في المطالب المقبلة لهذا النَّوع ، وهو تعارض الحديث مع العقل بعد بحث ماهيَّة العقل الذي يجب أن يُؤخذ بتعارضِهِ ، وسأُعرِّج على تعارض الحديث مع الرَّأي والقياس أيضاً لانهما ثمرة من ثمرات العقل، ثمَّ سأتعرَّض لتعارض الحديث مع مُسلَّمات العلوم ، وقلت مُسلَّمات لأنَّ هناك فَرَضِيَّات في العلوم ، وهذه الفَرَضيَّات لا ترتقي إلى منزلة التَّعارض مع الحديث أو الآيات لأنَّها أقلُّ منزلةٍ وأحطُّ بدرجاتٍ إلا إذا ثبت صدقها يقيناً لا ظنَّاً . وهذه المطالب المقبلة توضِّح المطلوب من هذا المبحث
يتبع 2.
10-21-2008
قتيبة
تابع 2
المطلب الاول :توهُّم تعارض الحديث مع العقل .
بدايةً لابدَّ من الاعتراف أنَّ تعارض الحديث مع العقل لا ضابط له ، والسَّبب في ذلك هو اختلاف العقول وتباينها من شخص لأخر ، ولهذا فإنَّ سؤالاً كبيراً يُطرح هاهنا وهو : ماهي مواصفات العقل الذي سيُعتمد عليه للحكم بمعارضته أو مناقضته للنُّصوص ؟ سيما وأنَّ ما قد يستشكله شخصٌ ، لا يكون كذلك عند آخر ، وما يستغربه عقلٌ يكون عادِيَّاً ومقبولاً عند عقلٍ آخر ......وهكذا . وبخاصَّةٍ إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ العقل منه ما هو غريزيٌّ(1) ، ومنه ما هو مكتسبٌ بالتَّجارب والمعارف ، وهناك عقولٌ جمعت بين كونها غريزيَّة ومكتسبة ، ولا يخفى ما بين هذه العقول من تفاوتٍ واختلافٍ في طريقة الفهم ، وتناول المسائل ، وتقديم الحلول .
ثمَّ " إنَّ العقل يبطل الاعتماد على العقل" كما قال الدكتور يوسف القرضاوي (1) ، وإذا أردنا أن نُحكِّم العقل ونجعله الضَّابط والمقياس ، فعقل من نُحكِّم ؟
" هل نُحكِّم عقل الحُفَّاظ ، أم عقل الفُقَهاء ؟
هل نُحكِّم العقل السَّلفيَّ ، أم العقل الصُّوفيَّ ؟
وهل نُحكِّم العقل الأُصوليَّ، أم العقل الفلسفيَّ ؟ ولقد رأينا الفلاسفه وهم طائفه واحده يختلفون فيما بينهم إلى حدِّ التَّناقض والتَّضارب ، فهذا يُثْبِتُ ، وهذا يَنْفِي ، وهذا يَبني ، وهذا يَهدِم ، فمن معه الحقُّ من الفلاسفة ؟ عقل المِثاليِّين ، أم االواقعيِّين ، أم الماديِّين (2) ؟ " .
فالعقل مُتعدِّدٌ متغيِّرٌ والدِّين والنُّصوص واحدةٌ ثابتةٌ ، فالمنطق يقضي باعتماد الثَّابت في مواجهة المتعدِّد المتغيِّر .
والخلاصة : أنَّه يَعْسُرُ علينا أن نحكم بتعارض العقل مع الحديث ، بل إنَّ التَّسليم لهذا الأمر غير سائغٍ ، لأنَّ الَّذي يحكم العقل قناعات صاحبه وتكوينه ، ولهذا فإنْ ورد علينا أنَّ العقل قد تعارض مع حديث ، فإنَّ اقصى ما يمكن ادِّعاؤه هو أنَّ العقل فيما بدا لفلان قد تعارض مع الحديث .
أمَّا أن يتعارض العقل السَّليم المهتدي بهُدى النَّقل ، مع النَّقل الصَّحيح فهذا لا يحدث ولا يكون لأنَّ العقل الصَّريح لا يُناقض النَّقل الصَّحيح كما قرَّر ذلك ابن تَيْميَّه-رحمه الله-(3).
وإذا افترضنا أنَّ العقل تعارض ظاهريَّاً مع النَّقل أو الحديث فإن المنطق يقضي بعدم تقديم أحدهما على الآخر قبل الدِّراسه والبحث .
ولكنَّ بعض المَفْتونين بما يسمُّونه " المعقول" قد انحرفوا عن هذا السَّبيل ، فقدَّموا حُكم العقل كالمُعْتزِلة القدماء ، وبعض من سار على منهجهم من المُحدَثين الّذين بُهِرُوا بمنهج المُعْتزِلةِ فاستعاروا الفكرة منهم ، في حين إنَّهم لم يتعمَّقُوا في النَّقل ، بل ولم يُحْكِمُوا حُجَّة العقل أيضاً فأطلقوا كلماتٍ غيرَ مدروسةٍ مُجاراةً منهم لأسلافهم .
يقول محمد عَبْده :(1) " الأصل الأوّل للإسلام النَّظر العقليِّ لتحصيل الإيمان : فأول أساسٍ وُضع عليه الإسلام هو النَّظر العقليِّ ........" وقال (2) : " والأصل الثَّاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشَّرع عند التَّعارض ...... اتفق أهل المِلَّه الإسلاميَّه إلا قليلاً ممَّن لا يُنظر إليه على أنَّه إذا تعارض العقل والنَّقل أُخذ بما دل عليه العقل " .
ويقول تلميذه محمد رشيد رضا (3) : " ذكرنا في المنار غير مرَّةٍ أنَّ الَّذي عليه المسلمون من أهل السُّنَّه وغيرهم من الفِرق المُعتَدِّ بإسلامها أنَّ الدَّليل العقليَّ القَطْعِيَّ ، إذا جاء ظاهر الشَّرع ما يخالفه فالعمل بالدَّليل العقلي مُتعَيِّنٌ ، ولنا في النَّقل التَّأويل أو التَّفويض " .
وهناك نُقُولٌ كثيرةٌ عن تلاميذ الشَّيخ محمد عبده في هذا الإطار(4) .
فروَّاد هذه المدرسه الّتي تُسمَّى بالعَقْليَّة (5)، يرون أنَّ العقل يتقدَّم على النَّقل وما قولهم بالتَّأويل أو التَّفويض إلاّ هُروبٌ ولإرضاء البعض حتَّى لايقال إنَّهم يَرُدُّون ما جاء في الكتاب والسُّنَّه ، فالتَّأويل كما سيأتي هو صرف الَّلفظ عن الظَّاهر ، أي التَّحكُّم بما جاء عن المولى- عزَّوجلَّ- ورفض ظاهره بحججٍ واهيةٍ ، أمَّا التَّفويض فكذلك إذ إنَّنا إذا أردنا أن نفهم التَّفويض كما فهمه السَّلف ، فيجب أن نؤمن بما جاء به النَّقل ، وإن أشكل ظاهره نفوِّض معناه وكيفيته إلى الله ، فبعد تقديم حجَّة العقل كما يقول هؤلاء فأيُّ مكانٍ للتَّفويض يبقي ؟
ولهذا فيمكن القول إنَّ مُراد هؤلاء جميعاً تقديم العقل بإطلاقٍ وجعله أساساً كما يقول حسن حنفي :(6) " إنَّ العقل هو أساس النَّقل ، وإنَّه كل ما عارض العقل فإنَّه يعارض النَّقل ، وكلُّ ما وافق العقل فإنَّه يوافق النَّقل ، ظهر ذلك عند المعتزلة وعند الفلاسفة ، .......، وظهر الواقع في علم الأُصول ، ورأينا المصالح المرسلة والاجتهاد ، وأنَّ ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسنٌ ، وأنَّ الواقع له الأولوية على كلِّ نصٍّ " .
ثمَّ إنَّنا إذا أردنا أن نَحْكُم بتعارض العقل مع الحديث ، فإنَّنا نطلب عقلاً خالياً من المُؤثِّرات،سليماً من الآفات ، غير متشيعٍ لشيءٍ من الآراء والاعتقادات ، وأنّى نجد هذا العقل ؟
ولهذا فإنَّي أضع هذه الضَّوابط التي أراها ضروريَّةً حتَّى نقبل دعوى تعارض العقل والنَّقل - ومنه الحديث - .
أوّلاً : لا يُقبل الحكم بتعارض العقل مع الحديث مِمَّن تأثَّر بمواقف مُسبقةٍ ، أو انتمى إلى مذاهب فكريَّةٍ مُعيَّنةٍ ، وبِخاصَّةٍ إذا تعلَّق ذلك بما يحمله من أفكارٍ .
ثانياً : عالم الغيب يختلف عن عالم الشَّهاده ، لذلك لا نستطيع أن نحكم بتعارض العقل مع نصٍّ يتعلَّق بالغيب ، بحجَّة أنَّ عقولنا لم تستوعبه ، فالعقل مجاله في عالم الشَّهاده ، أمَّا في عالم الغيب فموقفه التَّسليم والخُضوع .
ثالثاً : إن ثبت تعارض العقل مع الحديث ظاهريَّاً ، وكان هذا الحديث على درجةٍ عاليةٍ من الصِّحة ، فإنَّنا لا نستطيع تقديم العقل عليه ، لأنّ ذلك يعني إهمال النَّص . وإهمال نصٍّ صحيحٍ ينطوي على درجةٍ من الخطورة .
وبناء على ذلك نستطيع فهم أكثر ما ادُّعي عليه التَّعارض من هذا الجانب ، ونستطيع تبعاً لذلك دراسته وتقديم الأجوبة بشأنه .
ومن أمثلة ما ادُّعي فيه تعارض العقل مع الحديث ما رواه البُخاري (1) ومُسلمٌ (3) عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ -رضي الله عنه-قال : قال رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-:" يُؤْتَى بِالمَوتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أمْلَحٍ فَيُنَاِدي مُنَادٍ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَم ، هَذَا المَوتُ - وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ - . ثُمَّ يُنَادِي يَا أهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ : فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَم هَذَا المَوْتُ ، - وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآه - فيُذبح ثمَّ يقول : يَا أهْلَ الجَنَّة خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ ، وَيَا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ ثُمَّ قَرَأ :{ وَأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَهٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }(1).
ففي هذا الحديث ما يدعو للتَّوقُّف والتَّأمُّل ، حيث جاء فيه أنَّ الموت سيُذبح والمعروف أنَّ الموت عَرَضٌ من الأعراض ، ولا يمكن رؤيته ، أو حصره في مكانٍ ، وهذا ما كان من العلماء حيث استشكلوا هذا الحديث ، قال ابن العربي (2) : إنَّه جاء بما يُناقض العقل ، فإنَّ الموت عَرَضٌ ، والعَرَض لا ينقلب جِسماً ولا نعقل فيه ذبحاً .
ولهذا فقد كان للعلماء المتكلِّمين في هذا الحديث ودفعه بحجة أنَّه خبر آحادٍ وجاء بما يُناقض العقل كما حكى ابن العربي (3) .
المسلك الثَّاني : مسلك أهل التَّأويل ، حيث حملوه على التَّمثيل والتَّخييل ، لا الحقيقة ، وهؤلاء ، قد اختلفوا في تأويله على أقوالٍ .
المسلك الثَّالث : حملُ الذَّبح على الحقيقة .
أمَّا المسلك الأوّل فلا التفات له ، لأنَّه ديْدن المعتزلة ومن وافقهم في كلِّ حديثٍ لا يجري على أُصولهم ، فهي دعوى بلا بَيِّنه إذاً .
أمَّا التَّأويل فلا يُلجأ له إلاّ إذا لم نجد لظاهر الحديث محملاً ، ولكن والحال أنَّه يمكن حمل الحديث على ظاهره فالأولى عدم الُّلجوء للتَّأويل ، إذ هو نوعٌ من الانتصار لفكرةٍ على حساب أُخرى كما سيأتي في الباب القادم .
أمَّا حمله على الحقيقة فهو الأولى والأجدر ، وإليه ذهب القُرطبيُّ (4) فقال : " إنَّ الله يخلق من ثواب الأعمال أشخاصاً حسنةً وقبيحةً ، لا أنَّ العَرَض نفسه ينقلبُ جوهراً إذ ليس من قبيل الجواهر ، قال : ومحالٌ أن ينقلب الموت كبشاً لأنَّ الموت عَرَض ، وإنَّما المعنى أنَّ الله - سبحانه - يخلق شخصاً يُسميه الموت فيُذبح بين الجنَّه والنَّار .
وبعض الاستنتاجات عند القُرطبيِّ يُعكِّر عليها ما جاء في رواية أبي سعيدٍ الخُدْريِّ من أنَّهم يعرفون الموت ، ولو أنَّه خُلق لساعته فمن أين سيكونون قد عرفوه ؟؟ .
وذهب ابن القَيِّم (1) : إلى أن الله - سبحانه - يُنشيء من الموت صورة كبشٍ كما يُنشيء من الأعمال صوراً معيَّنةٍ يُثاب بها ويُعاقب ، والله تعالى ينشيء من الأعراض أجساماً تكون الأعراض مادةً لها ، ويُنشيء من الأجسام أعراضاً ، كما يُنشيءُ من الأعراض أعراضاً ، ومن الأجسام أجساماً ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرَّب تعالى .
وقد استشهد ابن قيِّم الجَوْزيَّة (2) بما يُقوِّي ما ذهب إليه ، ويوضِّح مراده بالأحاديث الّتي تُشابه هذا الحديث ومنها قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - : " تَجِيءُ البَقَرَهُ وَآلُ عِمْرَانَ يَوْمَ القِيَامَة كأنَّهُمَاغَمَامَتَان" (3) وغير ذلك من الأحاديث الّتي تدلُّ على جواز انقلاب الأعراض إلى أجسامٍ .
وخلاصة القول : أنَّ المسألة إذا كانت تتعلَّق بقدرة الله كما هو الحال هنا فلا داعي لإنكارها ، أو استشكالها ، ثمَّ إنَّ هذه المسألة تتعلَّق بعالم الغيب ، وقد قررت ابتداءً أنَّ عالم الغيب غير الشَّهاده ،وهذا عين ما ذهب إليه العلاّمه أحمد شاكر في تعليقه علىمسند أحمد، حيث قال (4) : " وعالم الغيب الّذي وراء المادَّة لا تدركه العقول المُقيَّدة بالأجسام في هذه الأرض ، بل إن العقول عجزت عن إدراك حقائق المادَّة الّتي في متناول إدراكها ، فما بالها تسمو إلى الحكم على ما خرج من نطاق قدرتها ومن سلطانها ؟؟ .
وها نحن أُولاء في عصرنا ندرك تحويل المادَّة إلى قوَّةٍ ، وقد ندرك تحويل القوَّة إلى مادَّةٍ بالصِّناعة والعمل ، من غير معرفةٍ بحقيقة هذه ولا تلك ، وما ندري ماذا يكون من بعد ، إلا أنَّ العقل الإنسانيَّ عاجزٌ وقاصِرٌ ، وما المادَّة ، والقوَّة ، والعَرَض ، والجوهر ، إلاّ اصطلاحاتٍ لتقريب الحقائق، فخيرٌ للإنسان أن يؤمن وأن يعمل صالحاً ، ثمَّ يدَع ما في الغيب لعالِم الغيب".
لذا يمكن حمل الذَّبح على حقيقته طالما أنَّ هناك محملاً له ، ولهذا فقد ألّف السُّيوطيُّ رسالةً في الموضوع سمّاها " رفع الصَّوت بذبح الموت " (1) استلَّها من شرح ابن حجرٍ وزاد عليها زوائد ، منها استشكال معرفة أهل الجنَّه والنَّار بالكبش ،فقال (2) عن بعض المُفسِّرين عند قوله تعالى :{ الّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ }(3) : إنَّ الله- تعالى- خلق الموت في صورة كبشٍ لا يمُرّ على أحدٍ إلاّ مات ، وخلق الحياة في صورة فرسٍ لاتمرّ على شيء إلاّ حَيِيَ . قال : وهذا يدلُّ على أن الميِّت يشاهد حُلول الموت في صورة كبشٍ
قال السُّيوطيُّ(4) : روى ابن أبي حاتمٍ عن قتادة في قوله تعالى :{الّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاة }قال : الحياة : فرس جبريل - عليه السَّلام - والموت كبشٌ أملحٌ .
وعندأبي الشَّيخ(5) أثرٌضعيفٌ عن وهب بن مُنَبِّه من قوله في وصف ملك الموت وأنَّه(6) : خُلق على هيئة كبشٍ ثمَّ استفاض في وصفه .
ومما يُلحق بتعارض الحديث مع العقل ، تعارضه مع الرَّأي والقياس ، إذ هما ناتجٌ من نواتج العقل ، وثمرةٌ من ثمراته ، وبالتَّالي فتعارض الحديث مع أحدهما هو تعارضٌ مع العقل بالضَّرُورة ، وقد نهى السَّلف - رضوان الله عليهم - عن معارضة السُّنَّة بالرَّأي والعقل ، وقد مرَّ بنا شيءٌ من هذا في الفصل الماضي فلن أتشاغل بإعادته . ولسوف أُكرِّس هذه الورقات لبيان آراء العلماء في اختلاف النَّص والقياس ، مع الأمثلة على هذه الحاله .
اختلف العلماء في جواز تعارض الحديث مع القياس على عدة اقوالٍ :
الأوّل : مذهب أهل الحديث والشَّافعيُّ وأحمد إلى أنَّ الخبر يرجح على القياس ، سواء أكان الرَّاوي عالماً فقيهاً أو لم يكن كذلك ، لكن يُشترط أن يكون عدلاً ضابطاً .
وذكر الدكتور مصطفى الخَنُّ(1) أنَّ الأخذ بخبر الواحد في مواجهة القياس هو محلُّ إجماعٍ من الصَّحابه - رضوان الله عليهم - .
ومن عانى الحديث ، وأدمن مطالعة كتب السُّنَّة المُشرَّفة علِم هذا بداهَةً ، إذ أنَّه ما من عارضٍ عرض لأحد أخيار هذه الأمَّة إلاّ طلب الدَّليل من كتاب الله ، فإن لم يجد التمس من السُّنَّة ، ولم يُؤثَر عن أحدٍ منهم أنَّه جنح للقياس قبل طلب الدَّليل من الحديث .
الثَّاني : يقدَّم القياس على الحديث ، وقد نُسب القول للإمام مالكٍ (2) - رحمه الله - وقد نزَّه صاحب القواطع الإمام مالكٍ عن ذلك فقال (3) :" هذا القول باطلٌ سَمِجٌ مُستَقبحٌ عظيمٌ ، وأنا أُجلُّ منزلة مالكٍ عن مثل هذا القول ، ولا يُدري ثبوته منه ".
الثَّالث : رأيُ يفرِّق أصحابه بين الرَّاوي الفقيه ، وغير الفقيه ، فإن كان فقيهاً قدِّم خبره ، وإن كان غير ذلك قُدِّم القياس عليه ، وهو منسوبٌ لبعض الحنفيَّة واختاره البَزْدويُّ ومشى عليه حيث قال (4) : " وأمَّا رواية من لم يُعرف بالفقه ، ولكنَّه معروفٌ بالعدالة والضَّبط مثل أبي هُريرة ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهما - فإن وافق القياس عُمل به ، وإن خالفه لم يترك إلا بالضَّرورة وانسداد باب الرَّأي " .
الرَّابع: الوقف ،وعدم ترجيح أحدهما على الآخر ،حتَّى يقوم الدَّليل على ترجيحه(5) .
قلت : وهذه الآراء في تعارض القياس مع خبر الآحاد ، أمَّا الخبر المتواتر ، فلا يقال إنَّه عارض القياس ، لأنَّ القياس ظنِّيٌّ ، والخبر المتواتر مقطوعٌ به .
والمرجَّح أنَّ الخبر إن عارض القياس من كلِّ وجهٍ ، وجب المصير إلى الحديث لأنَّ تقديم القياس على الحديث ردٌّ له دون وجه حقٍّ ، ثمَّ إنَّ القياس قد ينأى بصاحبه عن جادَّة الصَّواب .
ومثال ذلك : ما جاء من تحريم الميتة في كتاب الله - عزوجل - حيث قال : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ ....} (1) .
فالآية تنصُّ على أنَّ الميتة ، والسَّمك الميِّت يقاس على الغنم الميِّت في تحريم أكله ، إلاّ أنَّ هذا القياس يصطدم بقول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - : " أُحِلّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، فَأمَّا المَيْتَتَانُ فَالحُوتُ وَالجَرَادُ ، وَأمَّاالدَّمَانُ فَالكَبِدُ وَالطُّحَالُ " (2) .
فالحديث هنا يتقدَّم على القياس ، ويجب العمل به وترك القياس .
المطلب الثَّاني : تعارض الحديث ومُسلَّمات العلوم ، ومُجَرّباتها .
سينصبُّ الحديث في هذا المطلب على مُسلَّمات العلوم وتعارضها مع الحديث والمُسلَّمات : هي الحقائق الّتي وصلت إلى درجة القطع ، ولهذا لم أتشاغل بذكر تعارض الحديث أو النَّص مع فَرَضِيَّاتٍ علميَّةٍ ، أو نظريَّاتٍ لم تثبت صحتها ، لأنَّها في مرحلة الأخذ والرَّد فقد تثبت وتصبح حقيقةً ، وقد لا تثبت وتتساقط ، مما لا يؤهِّلها لمعارضة الرَّأي فضلاً عن السُّنن والنُّصوص .
ومثال ذلك الحديث الصَّحيح الذي أخرجه البُخاريُّ (1)عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال : قال النَّبيُّ- صلّى الله عليه وسلّم- له حين غربت الشَّمسُ:"تَدْرِي أيْنَ تَذْهَبُ " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال :" فَإنَّهَا تَذْهَبُ حَتّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ فَتَسْتَأذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا ، وَيُوشِكُ أنْ تَسْجُدَ فَلا يُقْبَلُ مِنْهَا ، وَتَسْتَأذِنَ فَلا يُؤْذَنُ لَهَا ، يُقَالُ لَهَا : ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَاَلى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيُر العَزِيز العَلَيْم }(2) .
فالحديث يعارض ما ثبت عليه العلم الحديث من أنَّ الشَّمس إنْ غربت في جهةٍ تطلع في جهةٍ أُخرى ، وما اختفاؤها عنَّا إلاٌ ظهورٌ لها على غيرنا ، فكيف نفهم الحديث إذاً ؟ .
لقد تكلَّمت على الحديث بتوسُّعٍ في الباب الثَّالث في الفصل الأوّل منه ، ولكن يكفيني أن أُشير هنا إلى أنَّ الحديث لا يُؤخذ على ظاهره من اختفاءٍ للشَّمس على الكُرة الأرضيَّه وذهابها للسُّجود تحت العرش ، وإنَّما يمكن فهم السُّجود بأنَّه الخُضُوع والانقياد المطلق لله- سبحانه وتعالى- ، ولهذا فإنَّ الحديث يتكلَّم على ظاهرةٍ ستحدث وهي عدم ظهور الشَّمس كعادتها من المَشْرِق ، وانقلاب حالها والظَّهور من جهة المغرب في يوم ما من الزَّمان ، وقد جاء وصف هذا اليوم في أحاديث وآثارٍ كثيرةٍ .
ووصف السُّجود ، والاستئذان ، وعدم الإذن ، تقريبٌ لما هو عليه حال الكواكب كلّها من خُضوعٍ لبارئها ، وانصياعها لقانون أودعه الله فيها لا يتخلَّف إلّا متى شاء الله سبحانه .
ومن أمثلة هذا النَّوع ما رواه الشَّيخان(3) عن سعد بن أبي وقاصٍ أن رسول الله- صلّى
الله عليه وسلّم-قال:" مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمْرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ اليَومَ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ " .
قال المَازريُّ (1) : " هذا مما لا يُعقل معناه في طريقة علم الطِّبِّ ، ولو صحَّ أن يخرج لمنفعة التَّمر في وجهٍ من جهه الطِّبِّ ، لم يُقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الّذي هو سبْعٌ ، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الّذي هو العجوة ، ولعلَّ ذلك كان لأهل زمانه - صلّى الله عليه وسلّم - خاصَّةً أو لأكثرهم ، إذ لم يثبت عندي استمرار وقوع الشِّفاء بذلك في زمننا غالباً ، وإنْ وُجد ذلك في الأكثر حُمل على أنَّه أراد وصف غالب الحال " .
ونقل ابن حَجَرٍ (2) عن القاضي عِياض أنَّه قال : تخصيصه ذلك بعجوة العالية وما بين لابتي المدينة يرفع هذا الإشكال ويكون خُصوصاً لها .
ولم يرتضِ النَّوويُّ (3) ما ذهب إليه المَازِريُّ والقاضي عِياض ، وعدَّه كلاماً باطلاً . مما جعل ابن حجرٍ يستغرب هذا الحكم من النَّوويِّ فقال (4) : ولم يظهر لي من كلامهما ما يقتضي الحكم عليه بالبُطلان ، بل كلام المَازِريّ يشير إلى مُحصِّل ما اقتصر عليه النَّوويُّ .
وأغلب العلماء حملوا الحديث على الخُصوِصيَّة ، أي خصوصيَّة عجوة المدينه ، وبعضهم وافق المَازِريَّ في أنَّ الحديث خاصٌّ بزمن نُطْقِهِ وبناءً على ذلك فقد يُخطئ من يتَّخذ هذا الحديث كوصفةٍ طِبِيَّهٍ يجعلها من المُسلَّمات الّتي لا تتخلَّف ، فإن أعطاها لإنسانٍ ولم يصدُق عليه هذا الحديث كان مدخلاً للوَساوس وغيرها إلى نفسه ، نعم قد يُجرِّب هذا إنسانٌ فيصحُّ له ما أراد ، وما ذلك إلاّ لصفاء نِيَّتِهِ وصدق توَجُّهِهِ ، إذاً فعلينا الحذر في هذا المجال ، ولنحمل الحديث على الخُصوصيَّة أولى وأفضل والله أعلم .
ولقد عرض الدكتور مُورِيس بُوكاي(5) رأْياً حريَّا بالمُتابعة والمُناقشة بالرَّغم من توَسُّعِهِ فيه وتعميم نتيجته ، وهو : أنَّ الحديث قد يكون صحيحاً لا شكَّ فيه ، ولكنَّه يتعلَّق بأمرٍ من أُمور الدُّنيا مما لا علاقه للدِّين به ، فلا فرق عندئذٍ بين النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وغيره من البشر ؟ !! .
وذكر حديث مُسلمٍ(1) الّذي نصّه: " إنَّمَا أنَا بَشَرٌ ، إذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِيْنِكُمْ فَخُذُوا بِهِ ، وإذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإنَّمَا أنَا بَشَرٌ" .
وهذا الحديث رُوي لنا مُقترِناً بحادثةِ تأبِير النَّخْلِ ، الّتي أرشدهم رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - إلى تركها فآتت نتائج عكسيَّةٍ فقال الحديث .
وبناءً على ذلك فهل نستطيع أن نجعل كلَّ حديثٍ لا يتعلَّق بعقيدةٍ أو بشريعةٍ ، وجاء في أمر المعاش وتدبير الأُمور الدُّنيويَّة من هذا القبيل ؟ .
هذا ما ستأتي إجابته في الباب الرابع لأنَّ موقعه هناك .
أنَّها أُمورٌ دنيويَّةٌ ، كأحاديث : " نفي العَدْوَى(2) " مع أنَّ العدوى ثابتةٌ واقعاً .
وأحاديث نفي العَدْوى بالإضافة إلى مُناقضتها للأُمور الطِّبيَّة ،وما حكمت به التَّجربه ، فإنَّ هناك أحاديث نبويَّةً على نقيضها ، مثل حديث : " لاَ يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلى مُصِحٍ"(1) .
وحديث : " فُرَّّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارُكَ مِنَ الأَسَدِ"(2).
وحديث أُسامه بن زيدٍ : " إذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ فِي أرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا ، وَإذَا وَقَعَ بِأرْضٍ وَأنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْها"(1) .
فهذه الأحاديث مجتمعة ، مع ما يراه المرء من أحاديث نفي العَدوى ، قد تدفع مُتحمِّسٍ إلىرفض ذلك ، وفي أحسن الأحوال يقول كما قال مُورِيس بُوكاي بأنَّ هذا من الأُمور الدُّنيويَّة التي يستوي فيها الرَّسول وغيره ؟ ! .
ولكنَّ الجمع بين الأحاديث ، وفهم مراد النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - من قوله لا عدوى يأبى علينا الفهم الّذي يرفض الحديث ، إذ إنَّ الحديث لا ينفي وقوع العدوى بدليل الأحاديث الأُخرى الّتي ذكرتها في إثبات العدوى ، ثمَّ من فعله - صلّى الله عليه وسلّم - كما رواه مُسلمٌ (2) عن عَمرو بن الشَّريد عن أبيه قال : كان في وفد ثقيفٍ رجلٌ مجذومٌ ، فأرسل إليه النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - : " إنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِع " .
إذاً فما المراد بالحديث : " لا عدوى " ؟ .
المراد بذلك كما أجاب علماء الإسلام نقضُ معتقدٍ جاهليٍّ يرى الأشياء تُعدِي بطبعها.
قال البَيْهقيُّ (3) : " ثابتٌ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أنَّه قال : " لاَ عَدْوَى " ولكنَّه أراد به على الوجه الذي كانوا يعتقدون في الجاهليه ، من إضافة الفعل إلى غير الله - عزّوجلّ - " .
وقد نقل ابن حجرٍ (4) عن القُرْطُبيِّ (5) في "المفهم "قوله : " العدوى من أوهام جُهَّال العرب ، لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ المريض إذا دخل في الأصحَّاء أمرضهم ، فنفى النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - ذلك وأبطله وأزاح شبهتهم بكلمةٍ واحدةٍ وهو قوله:" فَمَنْ أعْدَى الأوّل" ؟ ومعناه : من أين جاء الجَربُ ، أمن بعيرٍ آخر أجربه ؟! فيلزم التَّسلسل إلى ما لا نهايةٍ وهومحالٌ ، أو من سبب غيرالبعير ؟! فالّذي فعل الجرب الأوّل هو من فعل الجرب الثَّاني ، وهو الله الخالق لكلِّ شيءٍ والقادر على كلِّ شيءٍ . "
قال ابن حجر(1) : " قلت : فالمُحصِّل من المذاهب في العدوى أربعةٌ :
الأوّل : إنَّ المرض يُعدي بطبعه صرفاً ، وههذا قول الكفَّار .
الثَّاني : إنَّ المرض يعدي بأمرٍ خلقه الله - تعالى - فيه ، وأودعه فيه لا ينفكُّ عنه أصلاً ، إلاّ إنْ وقع لصاحب معجزةً أو كرامةً فيتخلَّف ، وهو مذهبٌ إسلاميٌّ لكنَّه مرجوحٌ .
الثَّالث : إنَّ المرض يُعدي لكن لا بطبعه ، بل بعادةٍ أجراها الله - تعالى - فيه غالباً ، كما أجرى العادة بإحراق النَّار ، وقد يتخلَّف ذلك بإرادة الله ، لكنَّ التخلُّف نادراً في العادة .
الرَّابع : إنَّ المرض لا يُعدي بطبعه أصلاً ، بل من اتفق له وقوع المرض فهو بخلق الله - سبحانه وتعالى - ذلك فيه ابتداءً ، ولذلك يُرى الكثير ممن يصيبه المرض الَّذي يقال إنَّه يُعدي يُخالطه الصَّحيح كثيراً ولا يصيبه شيءٌ، ويُرىالكثير ممن يُخالط صاحب ذلك المرض أصلاً يصيبه ذلك المرض ، وكلٌّ بتقدير الله .
والمذهبان الأخيران مشهوران ، والّذي يترجَّح في باب العدوى هو المذهب الأخير ، عملاً بعموم قوله : " لا يُعدِي شَيءٌ شَيْئاً " وقوله " - صلّى الله عليه وسلّم - ردَّاً على من أثبت العدوى : " فَمَنْ أعْدَى الأوّل " ؟
إذاً فقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " لا عدوى " المراد به نقض اعتقادٍ جاهليٍّ ، لا مجرد كلمةٍ يمكن جعلها ضمن الدُّنيويَّات الّتي يكون المرء مُختاراً في شأنها.ودليل ذلك ما يلي :
أوّلاً : صيغة الحديث كما عند مُسلمٍ(2) وغيره عند رواية:" لا عَدْوى .... " فقال
أعرابيٌّ : يا رسول الله ، فما بال الإبل تكون في الرَّمل (1) كأنَّها الظِّبَاء ، فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيُجربها كلَّها ؟ قال : " فَمَنْ أعْدَى الأوّل " ؟ . أي لو كان هذا الأمر حقاً لوجب أنْ يكون هذا البعير قد أجربه بعيرٌ آخر وهكذا حتّى نصِل إلى أوّل بعير جرب ، فمن أجربه ؟ .
ثانياً : إنَّ هذا الحديث لم يقتصر على ذكر العدوى فحسب فقد ذُكر معه الطِيَرة (2) والهامة (3) والصَّفر(4) ، والغول ، وهذه اعتقاداتٌ جاهليَّةٌ أبطلها الإسلام ، فجمع كلمة لا عدوى مع هذه الاعتقادات ، توضِّح أنَّ نفي العدوى أيضاً ضمن الاعتقادات الفاسدة ، المراد إبطالها ، والله أعلم .
المبحث الثَّاني
توهُّم تعارض الحديث مع الوقائع ونواميس الكون
بعد الاستقراء والبحث رأيت أنَّ هناك أحاديث قد يفهم سامعها أنَّها تتعارض مع الحوادث والوقائع ، أو مع نواميس الكون وقوانين الله - تعالى - في الطَّبيعة ، ووجه جمع الحوادث ونواميس الكون معاً في مبحثٍ واحدٍ أنَّ هذه النَّوامِيس غالباً ما ترتبط بحادثةٍ أو واقعةٍ’ مما يجعل ارتباطهما وثيقاً ، وسيظهر ذلك بوضوح أثناء تناولي للأمرين في المطالب الآتيه :
المطلب الأوّل : تعارض الحديث مع الحوادث والوقائع .
وأقصد من ذلك ما يتعارض فيه الحديث مع حوادث إمَّا ماضية أو مستقبلة وهو الأكثر ، وهذا التعارض قد يكون مَوهُوماً ، أو مرتبطاً بأمرٍ آخريوضِّحه ، أو ناتجاً عن قلَّة علمٍ وعدم استيعاب جوانب الموضوع كلَّها .
ولقد تعرَّضت لمثالٍ من هذا النَّوع في الباب الماضي وهو قول الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - " مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ اليَومَ تَأتِي عَلَيْهَا مِئَةُ سَنَةٍ ، وَهِيَ حَيَّةٌ يَومَئِذٍ "(1) .
فهذا الحديث توهَّم البعض تعارضه مع الحوادث والوقائع ، إذا انحزم القرن الأوّل ولم تنته الدُّنيا كما فهم المُعْتَرِضُون ، ولقد بيَّنت وجه الحديث هناك فلا أُعيد .
وقريبٌ من هذا ما أخرجه مُسلمٌ في " صحيحه "(2) عن أنس بن مالك أنَّ رجلاً سأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - متى تقوم السَّاعه ؟ وعنده غلامٌ من الأنصار يُقال له محمدٌ ، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - " إنْ يَعِشْ هَذَا الغُلامُ فَعَسَى أنْ لاَ يُدْرِكُهُ الهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " .
ولقائلٍ أن يقول إنَّ ذلك الغلام قد هَرِم ومات ، وماتت بعده أجيالٌ ولم تقم السَّاعة، مما يوهم تعارضاً مع هذا الحديث والوقائع المستقبلة .
وللوقوف على حقيقة المراد بالحديث يجب استيعاب طرق الحديث حتى لا نقع في محذورٍ نبَّهنا عليه ، إذ بجمع الطُّرق والرِّوايات قد يزول الإشكال والتَّعارض .
وقبل الشُّروع في بيان أقوال العلماء وتوجيه هذا الحديث بجمع طرقه،ومعرفة المراد منه ، أُشير إلى أنَّ أنساً قال في بعض الرِّوايات كما في هذه : وعنده غلامٌ من الأنصار ، ثمَّ في روايةٍ أُخرى(1) عن أنس ، أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - ثمَّ نظر إلى غلامٍ بين يديه من أزد شَنُوءة .
وفي روايةٍ عن أبي يَعْلى(2) وأحمد (3)- والَّلفظ لأبي يَعْلى- فنظر رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - إلى غلامٍ من دَوْسٍ يُقال له : سعدٌ ، فقال :" إنْ يَعِشْ هَذَا ، لاَ يَهْرَمُ حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " .
فهذا الاختلاف في اسم الغلام أولاً ، ثمَّ في اسم القبيلة ، قد يجعله البعض من باب الاضطراب والاختلاف الذي قد يؤدِّي لطرح الثِّقه بالحديث وجعله مما يجب التَّوقُّف في الأخذ به إن لم يجب ردُّه ، ولكنِّي سأدخل من هذا الباب - أي الاختلاف - لمناقشة الحديث ،لأنَّه ليس كلّ اختلافٍ يقود الى هذه النتيجة ، فالاختلاف قد يكون مؤثِّراً لو أنَّ السِّياق كان لحكايةٍ واحدةٍ ، ولكنْ من يجْزِم لنا أنَّ الحادثة واحدةٌ ؟بل إنَّ السِّياق يؤكد على عكس هذا من خلال السُّؤالاتِ مختلفةٌ ، والحوادِثَ متعدِّدةٌ ، وفي كلِّ مرَّةٍ يُجيب الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - بحسب الواقع الّذي كان عنده ، ويؤيِّد هذا رواية عائشه عند مُسلمٍ (4) أنَّها قالت : كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - سألوه عن السَّاعه : متى السَّاعه ؟ فنظر إلى أحدث إنسـانٍ منهم فقال " ..... الحديث " .
فالسُّؤال إذاً متكرّرٌ ، والجواب كذلك متكرِّرٌ ، وهو صادرٌ عن الأعراب ، أو إن أغلب الأسئلة تصدر عن الأعراب والوفود ، قال ابن رجَبِ (1) : " ولم يكن النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - يُرخِّص في المسائل إلا للأعراب ونحوهم من الوفود القادمين عليه يتألَّفهم بذلك . فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينه الّذين رسخ الإيمان في قلوبهم فنُهوا عن المسألة كما في " صحيح مسلم " (2) عن النَّوَّاس بن سَمْعان قال : أقمت مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - بالمدينه سنةً ما يمنعني من الهجره إلاّ المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - .
وفيه أيضاً (3) عن أنس قال : نُهينا أن نسأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - عن شيءٍ ، فكان يعجبنا أن يجيء الرَّجل من أهل الباديه العاقل فيسأله ونحن نسمع " .
وفي طرق رواية الحديث ما يشير إلى أنَّ الأعراب هم الّذين كانوا يسألون رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - عن السَّاعه كما في حديث عائشه المتقدِّم ، وكما في رواية أحمد (4) عن أنس أنَّ أعرابياً سأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - عن قيام السَّاعه ......... الحديث .
وكما في رواية أبي يَعْلى(5) عن أنسٍ أيضاً قال : كان أجرأ النَّاس على مسألة رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - الأعراب ، أتاه أعرابيٌّ فقال : يا رسول الله متى السَّاعه ؟ ...... "
من هذه الأدلَّة والشَّواهد يتبيَّن أنَّ الأعراب هم من كانوا يسأل ، وأنَّ الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - كان يجيبهم في كلِّ مرَّةٍ حسب ما كان أمامه ، فبتكرُّر الأسئلة ، يتكرَّر الأشخاص وبهذا يزول الإشكال الأوّل .
أمَّا الإشكال الثَّاني - وهو المقصود من هذا المثال- فهو أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قد حدَّد السَّاعة بعمر الغلام ولم يحصل هذا ، فكيف نستطيع إزالة التَّعارض ؟ .
بالرُّجوع إلى رواية عائشه المتقدِّمة(1) نستطيع إزالة الإشكال وإنهاء التَّعارض . ونصُّ رواية عائشه : كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم - سألوه عن السَّاعة : متى السَّاعه ، فينظر إلى أحدث إنسانٍ منهم فقال : " إنْ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الهَرَمُ ، قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاَعَتُكُمْ " .
فاَلرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - كان يُخبر كلَّ قومٍ عن ساعتهم فالسَّاعة هنا لا يُراد بها العامَّة ، وإنَّما السَّاعة الخاصَّة بهم ، وقد نقل النَّوَويُّ (2) عن القاضي عِياضٍ أنَّه قال : هذه الرِّوايات كلُّها محمولةٌ على معنى الأوّل ، والمراد بساعتكم : موتهم ، ومعناه يموت ذلك القرن أو أُولئك المخاطبون .
ويؤيد حديث عائشه هذا رواية أبي يَعْلى الّتي تقدَّمت قبل قليلٍ عن أنس قال : كان أجرأ النَّاس على مسألة رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - الأعراب ، أتاه أعرابي فقال : يا رسول الله متى السَّاعه ؟ فلم يجبه شيئاً ، حتّى أتى المسجد ، فصلّى ، فأخفَّ الصَّلاة ثمَّ أقبل على الأعرابيِّ وقال :" أيْنَ السَّائل عَنِ السَّاعة" ؟ ومرَّسعدٌ فقال رسول الله- صلَّى الله عليه وسلّم- : " إنْ هذا عُمِّر حتَّى يأكل عُمُرَهُ لَمْ يَبْقَ مِنْكُم عَيْنٌ تَطْرِف" .
فهذا الرِّواية - على ضعفها اليسير - تؤيِّد رواية عائشه ، وتبيِّن أنَّ المراد بالسَّاعة ساعة القوم أو الرَّجل السَّائل فحسب ، وهذا كافٍ في إزالة التَّعارض دون طلب وجوهاً أُخرى للحديث . ومع ذلك فلا بأس من إيراد وجهٍ ذكره النَّوَويُّ -وهو مستبعدٌ-وهو قوله : " ويحتمل أنَّه علم أنَّ ذلك الغلام لا يبلغ الهرم ، ولا يُعمَّر ، ولا يُؤخَّر " . وهذا التَّأويل من النَّوَويِّ صادرٌ عن فهم المراد ، بالسَّاعة ساعة النَّاس أجمعين ، لا من سألوا فحسب ، وهو بعيدٌ والله أعلم .
أمَّا عن التَّعارض مع أُمور ماضيةٍ فمثاله ما رواه مُسلمٌ (1) عن ابن عباس قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سُفيان ولا يقاعدونه ، فقال للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - : يا نبيَّ الله ، ثلاثٌ أعطِينِهُنَّ ، قال : " نَعَم " ، قال : عندي أحسن العرب وأجمله ، أُمُّ حبيبة بنت أبي سفيان أُزوجكها ، قال : " نَعَم " ، قال : ومعاويه تجعله كاتباً بين يديك ، قال : " نَعَم " قال : وتُؤَمِّرني حتَّى أُقاتل الكفَّار كما كنت أُقاتل المسلمين . قال " نَعَم " .
ففي هذا الحديث إشكالٌ لا يخفى مع حوادث ماضيةٍ ، تخصُّ زواج النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - من أمِّ حبيبة بنت أبي سفيان ، إذ المعروف أنَّ أبا سفيان لم يُزوِّجها للنَّبيِّ ، لأنَّه أسلم عام الفتح ، وهي من المهاجرات إلى الحبشة وزواجها كان في ذلك الوقت - أي وقت الهجرة إلى الحبشة - .
وذكر النَّوَويُّ (2) هذا الاستشكال ونقل عن القاضي عِياض أنَّه قال : والّذي في مُسلمٍ هنا أنَّه زوَّجها أبو سفيان غريبٌ جداً ، وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهورٌ " .
وقال ابن حَزْمٍ (3) : هذا الحديث وهمٌ من بعض الرُّواه ، لأنَّه لا خلاف بين النَّاس أنَّ النَّبيَّ-صلّى الله عليه وسلّم- تزوَّج أُمَّ حبيبة قبل الفتح بدهرٍ وهي بأرض الحبشه وأبوها كافرٌ ، وفي رواية عن ابن حَزمٍ أنَّه قال موضوعٌ : قال والآفة فيه من عِكرمة بن عمَّارٍ الرَّاوي عن أبي زَميل .
قال النَّوويُّ (4):وأنكر الشَّيخ أبو عَمرو بن الصَّلاح - رحمه الله - هذا على ابن حَزمٍ ، وبالغ في الشَّناعة عليه ، قال : وهذا القول من جسارته ، فإنَّه كان هَجُوماً على تخْطِئة الائمَّة الكبار وإطلاق اللِّسان فيهم ، قال : ولا نعلم أحداً من ائمة الحديث نسب عِكرمة بن عمَّار إلى وضع الحديث ....... وما توهَّمه ابن حَزمٍ من مُنافاة هذا الحديث لتقدُّم زواجها ، غلطٌ منه وغفلةٌ لأنَّه يحتمل أنَّه سأله تجديد عقد النِّكاح تطييباً لقلبه لأنَّه كان ربَّما يرى عليها غضاضةً من رياسته ونسبه إن تزوَّج بنته بغير رضاه ، أو أنَّه ظنَّ أنَّ إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد .
وهذا الهجوم من ابن الصَّلاح - رحمه الله - على ابن حَزمٍ غير ذي سببٍ ، إذ أنَّه لا ضير أن يكون هذا الرَّاوي أو ذاك وَهِمَ أو أخطأ ، وليس هذا مما يحطُّ من قدرهم إن كانوا من أهل الثِّقة والعدالة ، لأنَّ الثِّقة قد يَهِمُ ويُخطيء - كما قدَّمت - . وبخاصَّةٍ أنَّ التَّاريخ يساعد من رفضوا هذا الحديث درايةً ولهذا كان ميل المحقِّقين من العلماء إلى تضعيف هذا الحديث .
قال الأُبِّيُّ (1) : وإذا صحَّ أنَّه تزوَّجها قبل الفتح فيكون ما وقع في هذا الحديث من طلب أبي سفيان أن يزوِّجها بعد إسلامه خطأً ووهماً ، وقد بحث النُّقَّاد عمن وقع ذلك الوهم منه فوجدوه وقع من عِكرمة بن عمَّار .
قال ابن الجَوْزي (2) : اتهموه بذلك ، وقد ضعَّف أحاديثه يحيى بن معين (3) ، وابن حَنْبل(4) ، ولذلك لم يُخرج عنه البُخاريُّ ، وإنَّما خرَّج عنه مُسلمٌ لأنَّه قال:فيه يحيى بن سعيد ، هو ثِقَةٌ ، وقال الحافظ علي بن أحمد : هذا حديثٌ موضوعٌ لا شكَّ في وضعه ، والآفة فيه من عِكرمه بن عمَّار .
قال بعضهم : ومما يحقِّق الوهم فيه قول أبي سفيان : " أُريد أن تُؤمِّرني " قال : ولم يُسمع قطُّ أنَّه أمَّره إلى أن توفي ، وكيف يُخلف رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - الوعد ؟ هذا مما لا يجوز عليه "(1)
وقد ردَّ النَّوَويُّ - رحمه الله - على ابن الصَّلاح تأويله للحديث فقال (2) : " ليس في الحديث أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - جدَّد العقد ، ولا قال لأبي سفيان إنَّه يحتاج إلى تجديده " ولهذا فردُّ الحديث بالوهم أولى من تأويله بالمُسْتَكْرهِ من الوُجوه كما قال العَلائِيُّ (3)، وهو الذي ترتاح إليه النَّفس ويطمئِنُّ إليه القلب .
المطلب الثَّاني : توهُّم التَّعارض مع نواميس الكون .
للكون قوانين ثابتة لا تتخلَّف ، وتسير بنظامٍ دقيقٍ أودعه الله تعالى فيها ، ولو سارت على غير هذا الِّنظام لاختلَّ الكون ، وحصلت الكوارث والمصائب ، وقد أشارت الآيات لبعض هذه السُّنن وبخاصَّةٍ فيما يتعلَّق بالّليل والنَّهار والشَّمس والقمر فقد قال تعالى :{ هُوَ الّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً ، وَالقَمَرَ نُورَاً ، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ}(4).وقال : {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا الَّليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون }(5) .إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدلُّ على انتظام كلِّ الأجرام ومنها الشَّمس والقمر وحمايتهما من الاصطدام والاضطراب .
وهناك بعض الأحاديث تُوهِم بخرق هذه القوانين ، وتخلُّف هذا النِّظام لسببِ أو لآخر ، مما يقود البعض لادِّعاء التَّناقض مع قوانين الكون ونواميسه .
ومن أمثلة ذلك ما ادَّعاه بعض المُعتزلة على الأحاديث وكذَّبوا بها الصَّحابة والرُّواة من بعدهم ، حيث ذكر الرَّازي (6) عن النَّظَّام أنَّه قال : " زعم - ابن مسعود - أنَّه رأى القمر انشقَّ (1) ، وهذا كذبٌ ظاهرٌ ، لأنَّ الله - تعالى - ما شقَّ القمر له وحده ، وإنَّما يشقُّه آيةً للعالمين ، فكيف لم يعرف ذلك غيره ، ولم يُؤرِّخ النَّاس به ، ولم يذكره شاعرٌ ولم يُسلم عنده كافر ، ولم يحتجَّ به مُسلمٌ على مُلحدٍ ؟ ! .
فهذا الاحتجاج وإن كان عقلياً محضاً إلاّ أنَّ له تعلُّقاتٍ بما قدَّمت له ، ويُستنبط هذا من خلال معرفة دوران الشَّمس والقمر وسيرهما كلٍّ في فلكٍ معيَّن ، وإنَّ انشقاق القمرقد يتبعه اختلال هذا النِّظام واضطرابه.ولمناقشة هذا الاعتراض لابدَّ من توضيح ما يلي :
أوّلاً : إنَّ الشَّمس والقمر آيتان من آيات الله ، ولا يستبعد عقلاً أن يُغيِّر الله في ذلك النِّظام ، أو أن يتصرَّف الله فيه كما يشاء ،وبخاصَّةٍ إذا كان الأمر يتعلَّق بمعجزةٍ ،والمعجزة (2): أمرٌ ممكن عقلاً ، خارقٌ للعادة يجريه الله على يد من أراد أن يؤيِّده ، لِثبِت بذلك صدق نبوَّته ، وصحة رسالته .
ولهذا فلا غرابة أن يخرق الله لنبيِّهِ هذا النِّظام سيَّما وقد تعلَّق ذلك بطلبٍ أو تحدٍّ ، كما يظهر في سياق حديث أنس بن مالك عند البُخاريُّ (3) وغيره : أنَّه قال - أي أنس : إنَّ أهل مكَّة سألوا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتَّى رأوا حراء بينهما " .
ثانياً : إنَّ ابن مسعودٍ لم ينفرد برواية هذا الحديث ، بل وافقه غيره من الصَّحابة وقد أشرت في النَّقطه السَّابقة إلى رواية أنسٍ للحديث ، وأوصل الكتَّانيُّ (4) الحديث إلى مصافِّ التَّواتر ، ونقل عن عددٍ من علماء الإسلام نصهم على تواتر هذا الحديث . وذكر عن الحافظ ابن حجرٍ أنَّه قال : أجمع المفسِّرون وأهل السِّير على وقوعه ، وقال : ورواه من الصَّحابة :
علي(1) ، وابن مسعود ، وحُذيفة(2) ، وجُبير بن مطعم (3) .
ثالثاً : إنَّ القرآن الكريم قد ذكر هذه الحادثه عند قول الله تعالى :{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرُ }(4) والآية جاءت بصيغة الماضي مما يدلُّ على وقوع الانشقاق وحدوثه ، وعلى هذا أجمع علماء التَّفسير حتى المُعتزلة منهم .
رابعاً : لا يُشترط للحادثة إن وقعت أن يلاحظها النَّاس أجمعون ، ويتغنَّى فيها الشُّعراء ، وتسير بحكايتها الرُّكبان ، بل قد لا يلاحظها إلاّ النَّفر القليل ، وقد يُلاحظها الجمَّ الغفير ،ومع ذلك لا يتحدَّث بها إلاّ آحاد النّاس . وهذا أمرٌغير مستغربٍ ولا مُستهجنٍ .
فهذه الأُمور تكفي لردِّ الانتقادات والاعتراضات الّتي اعترض بها النَّظَّام وغيره ولكنِّي سأذكرآراء بعض ائمة المعتزله لردِّ الاعتراض ، وخير الرُّدود ما قام به الخُصوم أنفسهم . فقال الحاكم الجُشَميُّ(5) في تفسير الآية : وروى انشقاق القمر ابن مسعود وابن عمر وأنس ، وحُذيفة وابن عبّاس ، وجُبير بن مُطعم ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وهو قول أبي عليٍّ وجماعته ، وقيل : إنَّه ماضٍ بمعنى المستقبل : أي سينشقُّ عند قرب السَّاعة ، قالوا : ولو انشق لرآه كلُّ أحدٍ ، ولاشتهر عن الحسن وعطاء ، والأصم ، وأبي القاسم . قال الحاكم : وهذا لا يصحُّ لأنَّه خلاف الظَّاهر ، ولأنَّه اشتهرت الرِّواية فيه " .
قال : ومتى قيل : فهل رآه أهل البلدان ؟ قلنا : القمر قد يستره الغيم ويُرى في موضعٍ دون موضع ، ولأنه كان باللّيل وقت نومٍ وغفلةٍ فلم يشتهر ولم يره كلُّ أحدٍ ، ولأنَّه لم يلبث وقت الانشقاق ، بل كانت ساعة ، لذلك لم يشتهر على أنَّه كان مشهوراً بينهم لأنَّه- صلّى الله عليه وسلّم- كان يقرأ عليهم هذه السُّورة ولا ينكره منكرٌ ، ولا يكذِّبه أحدٌ مع كثرة الأعداء وحرصهم على تكذيبه " .
وهذا استدلالٌ مُوفَّقٌ من الحاكم ، وهو استدلالٌ بتلاوة الآية على المشركين وعدم تكذيبهم إيَّاه ، مع توفُّر الرَّغبة والحِرْص على ذلك ، ولو كذَّبوا لنُقل إلينا .
وقال المَاورديُّ (1) : في تأويله وجهان :
الأوّل : 00000
الثَّاني: وهو قول الجُمهور ، وظاهر التَّنزيل ، أنَّ القمر انشقَّ على عهد رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ (2) : انشقاق القمر آيةٌ من آيات رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم -ومعجزاته النَّيِّرة...
وقال (3) : وذُكر أنَّ بعضهم قال : إنَّ معناه ينشقّ يوم القيامة ، وقوله :
{وَإنْ يَرَوْا آيةً...} (4) يردّه ، وكفى به ردّاً . وفي قراءة حُذيفة(5) :{ وَقَدِ انْشَقَّ القَمَرُ}. أي: اقتربت السَّاعة وقد حصل من آيات اقترابها أنَّ القمر قد انشقَّ .
وعن حُذيفة (6) أنَّه خطب بالمدائن ثمَّ قال : ألا إنَّ السَّاعة قد اقتربت وانشقَّ القمر .
وأختم بذكر هذه المُداخلة الطَّويلة نبسبَّياً" من القاضي عبد الجبار حيث قال (7) :" بابٌ آخر"، وهو ما كان بمكَّة من انشقاق القمر ، فإنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم - مرَّ بمكَّة في ليلة قمراء ومعه نفرٌ من أصحابه ، فاجتاز بنفرٍ من المشركين فقالوا له : يا محمد إن كنت رسول الله كما تزعم فاسأل ربك أن يشُقَّ هذا القمر ، فسأل الله ذلك فشقَّه ، فقال المشركون : ساحروا بصاحبكم من شئتم فقد سرى سحره من الأرض إلى السماء، فنزلت القصَّة في ذلك ، وهذا من الآيات العظام والبراهين الكرام على صدقه ونبوَّته- صلّى الله عليه وسلّم -.
فإن قيل : ومن أين لكم أنَّ القمر قد انشقَّ له كما ادّعيتم ؟ أتعلمون ذلك ضرورة أم بدلالة ؟ أو ليس النَّظَّام قد شكَّ في هذا وقال : لو كان قد انشقَّ لعلم بذلك أهل الغرب والشَّرق لمشاهدتهم له ؟ وهذا الشَّيء سيكون عند قيام السَّاعة ومن أشراط القيامه ، فبأيِّ شيء تردُّون قوله ، وتبيِّنون غلطه إن كان قد غلط ؟ قيل له : ما نعلم ذلك ضرورة ، ولكن نعلمه بدلالة ، فمن استدل عرف ومن لم يستدلَّ لم يعرف ، ومن قصرعن الاستدلال والنَّظر غلط كما غلط إبراهيم النَّظَّام .
فوجه الدَّلاله على ذلك أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قد احتجَّ بذلك على المسلمين والمشركين وتلا هذا القول عليهم من سورة القمر { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}.ولم يكن ليقدم ويحتجَّ على العدو والولي بما لا حاجة فيه ، ويشير إلى أمرٍ ظاهرٍ يشار إليه ويشاهده النَّاس ، فلو أراد أان يكذِّب ويرد قوله ما زاد على هذا ، هذا لا يقع من عاقلٍ ، ولا يختاره محصِّلٌ كائنٌ من كان ، فكيف يقع ممن يدَّعي النُّبوَّة والصِّدق ، وهو أشدُّ حرصاً بالنَّاس كلِّهم على تصديقه واتِّباعه ؟ فلو أراد أن يُكذِّبوه ويردُّوا قوله ما زاد على هذا ، وهذا لا يذهب على مُتأمِّلٌ .
فإن قيل : فما تنكرون ، على من قال إنَّه - صلّى الله عليه وسلّم - ما احتجَّ بهذا على نبوَّتِهِ ؟ قيل له : لا فرق بين من ادَّعى ذلك أو ادَّعى في جميع ما أتى به من القرآن وغيره ، أنهَّ ما احتجَّ بشيءٍ من ذلك على صدقه ونبوَّته .
ومما يزيدك علماً بذلك، ويُبيِّن غلط النَّظَّام ، وجهل كلِّ من ذبَّ عن ذلك قوله تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَر وَإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌ }فانظركيف قال: اقتربت السَّاعة ، وأخبر عن أمرٍ قد كان ومضى ، ثمَّ قال على نسقِ الكلام :{وَانْشَقَّ القَمَرُ} فجاء بأمرٍ قد كان وانقضى ومضى ، فنسق على الماضي بالماضي ، ولو كان على ما ظنَّ النَّظَّام لقال : اقتربت السَّاعة وانشقاق القمر ، أو كان يقول : وسينشقُّ القمر ، فلمَّا لم يقل ذلك وقال وانشقَّ القمر علمت أنَّه أخبر عن شيئين واقعين قد وقعا ، وكانا وحصلا .
ثم قال على نسق الكلام : {وَإنْ يروا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِر }(1) فأخبر أنَّها آيةٌ مرئيَّةٌ ، وحجَّةٌ ثابتةٌ ثمَّ قال على نسق الكلام :{ وَلقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيْهِ مُزْدَجَر حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النُّذُر}(2)وهذا لا يقال فيما لم يقع ولم يكن فتأمَّل هذا التَّقريع وهذا التَّعنيف لتعلم أنَّه أمرٌ قد كان ولا يسوغ أن يقال في أمرٍ لم يكن ولم يقع هذا القول .
وأيضاً فإنَّ ما يقع في القيامة وعند السَّاعة لا يكون حجَّةً على المكلَّفين ولا يعنَّفون في ترك النَّظر والتَّأمُّل له ، فإنَّ التَّكليف حينئذٍ زائلٌ مرتفعٌ .
فأمَّا قول النَّظَّام : فلِمَ لا يشاهد هذه الآية كلُّ النَّاس فليس هذا بلازمٍ لأنَّ النَّاس لم يكونوا من هذا على ميعادٍ ، وإنَّما هو شيءٌ حدث ليلاً ، وما كان عندهم خبرٌ بأنَّه سيحدث ، وسيكون في وقت كذا فينظرونه ، وإذا كان كذلك فقد بطل ما ظنَّه ، يزيدك بياناً أنَّ القمر قد ينكشف كلُّه فلا يرى ذلك من النَّاس إلا الواحد بعد الواحد والنَّفر اليسير لقومهم ، فكيف بانشقاق القمر الذي انشقَّ ثمَّ التأم من ساعته بعد أن رآه أُولئك القوم الذين طلبوه .
وأيضاً فقد يجوز أن يحجبه الله -عزّوجلَّ- لمصالح العباد إلاّ عن أُولئك القوم ، لأنَّه قد يجوز أن يكون في بعض البلاد من المكذِّبين والمُحتالين في تلك السَّاعه من لو رأى ذلك لقال : إنَّما انشقَّ شهادة لي على صدقي ولا يكون ما ذكره النَّظَّام قد جاء من هذا الوجه أيضاً ، وبطل ما توهَّمه .
ومدار الأمر أن يكون هذا أمراً قد كان ، وقد ذكرنا الدَّلاله على كونه بلا عذر لمن شكَّ فيه .
ومن الدَّلاله أيضاً أنَّ ذلك قد كان : أنَّ الصَّحابة بعد رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قد تذاكروا فما فيهم من شكَّ ولا ارتاب ولا توقَّف بل وقع إجماعٌ منهم على كونه ووقوعه ، فلا معتبر بمن جاء بعدهم ممن خالفهم .
وقد ذكر انشقاق القمر علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وجُبير بن مطعم ، وابن عمر ،وابن عباس ، أنس بن مالك ، وخطب الناس حذيفة بالمدائن وذكر فيه انشقاق القمر ، وكانوا يقولون : خمس قد مضين : الرُّوم ، والقمر ، والدُّخان ، والبَطْشه ، والِّلزام ، يتذاكرون هذا بينهم - رحمهم الله - .
وقد ذكرنا ما في العقل من حجَّة في ذلك ، وهي تُلزِّم كل عاقلٍ بَلَغَتْهُ الدَّعوة سواء كان من المسلمين أو من غيرهم ، وفي ذلك أتمّ كفايةٍ ، ثمَّ ذكرنا تذاكر الصَّحابة بذلك وهي دلاله أُخرى ، إذ لا يجوز أن يقول عاقلٌ بحضرة جماعةٍ وقد أقبل على من يحدِّثه : قد كنَّا في وقت كذا حتَّى حدث كذا وكذا - وهو يستشهد بالّذي حدث بحضرتهم ويدَّعي عليهم وما عندهم علمٌ ، فيمسكون عن تكذيبهم والرَّد عليه ، ثمَّ ذكرنا الإجماع السَّابق من الصَّحابة ليتأكَّد ذلك على كلِّ من كان من أهل الصَّلاة " .
فهذه الُّنقول عمن رووا حديث انشقاق القمر تبيِّن أنَّ الحديث قد يتواتر بهم ، وهذه الرُّدود لبعض شيوخ الاعتزال تبيِّن أنَّ الأمر واردٌ ومقبولٌ عقلاً ونقلاً ، وفي هذا ردٌّ على النَّظَّام ومن وافقه من شيوخ الاعتزال ، ومع ذلك فإنَّا نجد في عصرنا هذا من أنكر هذه المعجزة ، وأخذ يُورد عليها إشكالاتٍ فلكِيَّةً ، وحديثيَّةً ، وأُصوليَّةً ، كما فعل محمد رشيد رضا ، فضعَّف الحديث وردَّه متناً ، وأورد عليه الإشكالات وقال بعد ذلك : (1) " فلو وقع لتوفَّرت الدَّواعي على نقله بالتَّواتر لشدَّة غرابته عند جميع النَّاس في جميع البلاد ، ومن جميع الأُمم ولو كان وقوعه آيةً ومعجزةً لإثبات نبوَّة النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - ، لكان جميع من شاهدها من أصحاب النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - نقلها ، وأكثر الاستدلال والاحتجاج بها ، حتّى كان يكون من نقلها في رواية الصَّحيحين قدماء الصَّحابة الّذين كانوا لا يكادون يُفارقون النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - ولا سيَّما في مثل هذه المواقف ، كالخُلفاء وسائر المبشَّرين بالجنَّة " .
ثمَّ استدل بانتظام حركة الكواكب وعدم مخالفتها لنظام الكون العام ، وانشقاق القمر ما هو إلاّ مخالفةٌ لذلك النِّظام !!! .
وقال المَراغِيُّ أيضاً (2) : " إنَّ انشقاق القمر من الأحداث الكونيَّة الهامَّة التي لوحصلت لرآها من النَّاس من لا يُحصى كثرةً من العرب وغيرهم ، ويبلغ حدَّاً لا يمكِّن أحداً ان ينكره وصار من المحسوسات الّتي لا تدفع ،ولصار من المعجزات التي لا يسع مسلماً ولا غيره إنكاراً".
والنُّقول عن أصحاب هذه المدرسه فيما يخصُّ هذه المسأله كثيرة ، ولسوف أُناقشهم في بعض الآراء في الباب الرَّابع فيما يخصُّ التَّعارض .
أمَّا ما أوردوه من إشكالاتٍ فإنِّي أُحيلهم على ما كتبه بعض رؤوس المعتزلة كالجُشَميِّ ، والقاضي عبد الجبار وغيرهما .
ومن أمثلة توهُّم تعارض الحديث مع نواميس الكون أيضاً ما رواه البُخاريُّ (1) عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - : " غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لاَ يَتْبَعُنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امرأةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلمَّا يَبْنِ بِهَا ، وَلا أحدٌ بَنَى بُيُوتَاً وَلَمْ يَرْفَع سُقُوفَهَا ، وَلا أحَدٌ اشْتَرى غَنَمَاً أو خَلِفاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا ، فَغَزَا ، فَدَنا مِنَ القَرْيَةِ صَلاةَ العَصْرِ أو قَرِيْبَاً مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ للشَّمْسِ إنَّكِ مَأمُورَةٌ وَأنَا مَأمُورٌ ، اللّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا ، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ الله عَلَيْهِ ..... " .
فهذا الحديث يدلَّ على اختلال نظام الشَّمس التي تسير بانتظامٍ ليتعاقب الّليل والنَّهار ، وهذا الحَبس من شأنه أن يُحدث اضطراباً في سيرها ينعكس على الّليل والنَّهار ، والفُصول ومدَّة العام وهكذا .
والجواب على هذا من أبسط الأجوبة ، إذ إنَّ الأمر متعلِّقٌ بمعجزةٍ وكرامةٍ ، ولا مانع من أن يكرم الله - تعالى - أحد أنبيائه ، أو حتّى أحد أوليائه فيخرق له المعتاد ، وما نواميس الكون ومسير الشَّمس والقمر إلا أمرٌ من المعتاد على الناس، فإذا أمرهما خالقهما بالتَّخلُّف ، أو التَّأخُّر ، أو حتَّى تغيير الوجهة تماماً ، فلا يسعهما إلاّ الامتثال لأوامر الله - سبحانه وتعالى - وليس هاهنا ما يُثير العجب أو الاستنكار عند من يملك مُسحةً من الإيمان ، أمَّا من كان خلاف ذلك فلا نُخاطبه بهذا أصلاً .
تنبيه : روى الطَّحاويُّ والطَّبرانيُّ(3) عن أسماء بنت عُمَيسٍ - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - صلَّى الظُّهر بالصَّهباء ، ثمَّ أرسل علياً في حاجة ، فرجع وقد صلّى النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - العصر ، فوضع النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - رأسه في حِجْر عليٍّ فنام ، فلم يحركه حتَّى غابت الشَّمس ، فقال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - : " الّلهمَّ إنَّ عبدك علياً احتبس بنفسه على نبيِّهِ ، فرُدَّ عليه الشَّمس " .
قالت أسماء : فطلعت عليه الشَّمس حتَّى وقعت على الجبال وعلى الأرض وقام عليٌّ فتوضَّأ وصلّى العصر ثمَّ غابت ، وذلك في الصَّهباء . (1)
فهذا الحديث لا يصحُّ ، بل حكم عليه غير واحدٍ بالوضع (2) ، وأنكر ابن حجرٍ على من حكم بوضعه ! ولكنَّ الحديث في أحسن أحواله لا يصلُح للاحتجاج على مثل الّذي نحن بصدده فلا أتشاغل به .
المبحث الثّالث
توهُّم تعارض الحديث مع الواقع والمشاهدة
ويندرج تحت هذا المبحث أمران رئيسان وهما تعارض الحديث مع الواقع ، وتعارضه مع الحِسِّ والمُشاهده ، وقد يظنُّهما ظانٌّ شيئاً واحداً ، إلاّ أنَّهما مفترقان والمطالب الآتية تبيِّن ذلك وتُجليه :
المطلب الأوّل : تعارض الحديث مع الحسِّ والمشاهدة .
والمراد بهذا الأحاديث التي تتعارض ظاهريَّاً مع ما يشاهده المرء في حياته العاديَّة ، أو تعارض الحديث مع الأمورالمحسوسة الّتي تخضع للحواس ، مثال ذلك ما رواه أبو داود (1) والنَّسائي (2) عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - : " إذَا سَجَدَ أحَدُكُمْ فَلا يَبْرُكَ كَمَا يَبْرُكُ البَعِيْرُ ، وَلْيَضَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ " .
ووجه تعارض هذا الحديث مع المشاهده أشار إليه الطَّحاويُّ(3) بقوله : " فقال قومٌ هذا الكلام محالٌ لأنَّه قال : لا يبرك كما يبرك البعير ، والبعير إنَّما يبرك على يديه ، ثمَّ قال : ولكن َيضع يديه قبل ركبتيه فأمره هاهنا أن يصنع ما يصنع البعير ، ونهاه في أوّل الكلام أن يفعل ما يفعل البعير " .
وللَّتحقُّق من التَّعارض وعدمه لابدَّ من مباحث هنا :
أولها : التَّحقُّق من صحَّة الحديث : فمن خلال تخريج الحديث من المصادرالمختلفة وجدته يدور الحديث على عبد العزيز محمد قال : ثنا محمد ابن عبد الله بن حسن ، عن أبي الزِّناد ، وعن الأعرج ، عن أبي هُريرة . وفي هذا الإسناد مقالٌ من جهتين .
الأُولى : رواية عبد العزيز بن محمد ، وهو متكلَّمٌ فيه(1) وإن كان من رجال مسلمٍ ، إلا أنَّ خلاصة رأى ابن حجرٍ (2) فيه : صدوقٌ ، كان يُحدِّث من كتب غيره فيخطئ ، قال النَّسائيُّ : حديثه عن عُبيد الله العُمريِّ منكرٌ .
فرواية عبد العزيز إن لم تكن عن عُبيد الله يتناولها اسم الحسن من الحديث ، وهو ما يُفهم من قول ابن حجر صدوق .
والثَّانيه : قول البُخاريِّ (3): محمد بن عبد الله بن حسن ، لا أدري أسمع من أبي الزِّناد أم لا ،وهذا لا يعدُّ قدحاً لأنَّه من المعلوم أنَّ البُخاريَّ ينقد على أصله الذي يشترط في الرَّاويين ، أن يُصرِّحا بصيغة التَّحديث ، أو أن يثبت لقاءهما ، ولهذا قال أحمد شاكر(4) : وهذه ليست علَّة ، وشرط البُخاريِّ معروفٌ لم يتابعه عليه أحدٌ ، وأبو الزِّناد مات سنة 130هـ، ومحمدٌ مدنِيٌّ أيضاً غلب على المدينه ثمَّ قتل سنة 145هـ ، وعمره 53 سنة ، فقد أدرك أبا الزِّناد طويلاً ."
فالحديث إن لم نقل قد صحَّ سنده فهو لا ينزل عن رتبة الحسن - كما سأبيِّن - .
ثانيهما : ما قيل من تعارض هذا الحديث مع المشاهده والمعاينة -كما قدَّمت- في قول الطَّحاوي الآنف الذِّكر - عن أقوامٍ لم يسمِّهم - . (1)
وقد استشكل غير واحدِ من العلماء هذا الحديث لهذه العلَّة ، وقد حرَّر ابن قيِّم الجّوْزيَّة أدلته وأدلة العلماء المُستشكلين ، مرَّةً بالإجمال وأُخرى بالتَّفصيل فقال في ردِّه الإجمالي كما في"تهذيب سنن أبي داود" : والرَّاجح البَداءة بالرُّكبتين لوجوهٍ .
أحدها : إنَّ حديث وائل بن حُجْرٍ لم يخْتلف علينا ، وحديث أبي هُريره قد اختلف فيه كما ذكرنا .
الثَّاني : إنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - نهى عن التَّشبُّه بالجمل في بُروكه ، والجمل إذا برك إنَّما يبدأ بيديه قبل ركبتيه .......... الخ .
وقال في ردَّه التَّفصيلي على هذا الحديث(2) : " وأمَّا حديث أبي هُريره يرفعه : " إذَا سَجَدَ أحَدُكُمْ فَلا يَبْرُكَ كَمَا يَبْرُكُ البَعِيْرِ ، وَلْيَضَعَ يَدَيهِ قَبْلَ رُكْبَتَيهِ " فالحديث -والله أعلم- قد وقع فيه وهمٌ من بعض الرُّواة ، فإنَّ أوّّله يُخالف آخره ، فإذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير ، فإنَّ البعير إنَّما يضع يديه أوّلا ، ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا : ركبتا البعير في يديه ، لا في رجليه ، فهو إذا برك وضع ركبيتيه أوّلاً ، فهذا هو المنهيُّ عنه ، وهو فاسدٌ لوجوهٍ :
أحدها : إنَّ البعير إذا برك فإنَّه يضع يديه أوّلاً وتبقى رجلاه قائمتين ، فإذا نهض فإنَّه ينهض برجليه أوّلاً ، وتبقى يداه على الأرض ، وهذا هو الذي نهى عنه-صلّى الله عليه وسلّم-وفعل خلافه .......
الثَّاني : إنَّ قولهم ركبتا البعير في يديه كلام لا يُعقل ، ولا يعرفه أهل الُّلغة وإنَّما الرُّكبه في الرِّجلين ، وإن أُطلق على اللّتين في يديه اسم الرُّكبه فعلى سبيل التَّغليب .
واستدل ابن القيِّم باستدلالاتٍ أُخرى ، لا أجد طائلاً من ذكرها .
فكلام ابن القيِّم من أوضح الحجج لمن رفض هذا الحديث ، بعد حجج من ضعَّفه ، ولكن هل يقبل كلام ابن القيِّم وأحكامه التي أطلقها ؟ .
قلت : إنَّ أغلب اعتراضات ابن القيِّم مبنيَّةٌ على المشاهدة، أي مشاهدة أحوال البعير إذا برك ، لذا تمسَّك ابن قيِّم الجَوْزيَّة - رحمه الله - بظاهر المشاهد وأنكر خلافه ، بل ادَّعى أنَّ ما يقال من أنَّ ركبتي البعير في يديه كلامٌ لا يعقل ، ولا يعرفه أهل الُّلغة . والحال غير ذلك ، إذ هو منقولٌ عن أهل الُّلغه ، ومن كتب في الغريب وغيره ، وهذا بيان ذلك :
قال الطَّحاويُّ (1) ردَّاً على من يقول هذا القول : " فتأمَّلنا ما قال من ذلك ، فوجدناه مُحالاً ، ووجدنا ما روي عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - في هذا الحديث مُستقيماً لا إحالة فيه ، وذلك أنَّ البعير ركبتاه في يديه ، وكذلك كلَّ ذي أربعٍ من الحيوان ، وبنو آدم بخلاف ذلك لأنَّ ركبهم في أرجلهم لا في أيديهم ، فنهىَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - في هذا الحديث المُصلِّي أن يَخِرَّ على رُكبتيه الّلتين في رجليه كما يَخِرُّ البعير على رُكبتيه الّلتين في يديه ، ولكن يَخِرُّ لسجوده على خلاف ذلك ، فيَخِرَّ على يديه الّلتين ليس فيهما ركبتاه ، بخلاف البعير على يديه الّلتين فيهما ركبتاه . "
وهذا الفَّهم من الطَّحاويِّ لم يأتِ من فراغٍ ، وإنَّما هو مرويٌّ عن أهل الُّلغه كذلك ، وقال الخليل بن أحمد (2) في تأييد ذلك : " وركبة البعير في يده ، وقد يقال لذوات الأربع كلها من الدَّواب رُكبٌ ،وركبتا يدي البعير : المِفصلان الّلذان يليان البَطن إذا برك ، وأمَّا المِفصلان الَناتئان من خلْفٍ فهما العُرْقُوبان " . ووافقه عدد ممَّن صنَّفوا في المعاجم .
إضافة إلى ذلك نقل الألبانيُّ(3) وشعيب الأرنؤوط(4) عن قاسم بن ثابت السَّرقُسْطِيِّ (5) في " غريب الحديث " : 2/ 70 أ بسندٍ صحيحٍ عن أبي هُريره أنَّه قال : لا يبرك بروك البعير الشَّارد قال الإمام : هذا في السُّجود يقول : لا يرمي بنفسه معاً كما يفعل البعير الشَّارد ، غير المطمئِنِّ المُواتر ،ولكن ينحطَّ مطمئناً يضع يديه ثمَّ ركبتيه ، وقد روي حديثٌ مرفوعٌ مُفسِّرٌ " . وذكر حديثنا هذا .
فالأمر إذاً معروفٌ عند أهل الُّلغه بل عند متقدِّميهم ممَّن يُعدُّون في زمن الاحتجاج وكلامهم يعدُّحجَّة كالخليل ، ولم ينقل لنا في أيِّ معجمٍ لُغويٍّ ما يخالف ذلك أو يضاده فمن أراد التَّفصيل ذكر ما ذكره الخليل ، ومن أراد الإجمال مشى ولم يذكر شيئاً ومن ذكر الزِّيادة أو فصَّل في بحث الموضوع قُدِّم كلامه على من اختصر أو أجمل الكلام .
ثمَّ إنَّ هذا القول غير مجهولٍ عند العرب القدماء، بل عرب الجاهليَّة منهم ، فقد جاء في " صحيح البُخاريِّ (1) " من حديث سُراقَة بن مالك في هجرة النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - فسَاخَتْ يدا فرسي في الأرض حتّى بلغتا الرُّكبتين(2) . فهذا النَّصُّ يدل على أنَّ العرب كانت تقول هذا القول وتعرفه ، وليس كما قال ابن القيِّم من أنَّه كلامٌ لا يُعقل ، ولا يعرفه أهل الُّلغه وبهذا يزول الإشكال ، وينتفي تعارض الحديث مع المشاهده .
وبالرُّغم من كلِّ هذه الأدلة والنُّقول من اللغة والحديث إلا أنَّ بعضاً من الكاتبين المعاصرين يعاندون اللغة والمنطق ويصادرون أفهام غيرهم ويُسفِّهون حججهم انتصاراً لمذهبياتهم وآرائهم .
فيقول أحدهم (3) : " وجميع العقلاء يعرفون أنَّ البعير إذا أراد أن يبرك يثني يديه فينزل على الأرض بهما ، وتبقى رجلاه قائمتان ثمَّ ينزلهما " ، ولهذا فقد حكم على قوله " وليضع يديه قبل ركبتيه " بأنَّها زيادةٌ ضعيفةٌ ، بل باطلةٌ !!! .
وقال آخر عن هذا الحديث (1) : إذ المتأمِّل لابدَّ أن يخلص إلى أنَّ صدر الكلام لا يتفق مع عجزه ، إذ المعلوم أنَّ البعير إذا برك قدَّم يديه ثمَّ رجليه ، فالأمر بمخالفته يقضي بتقديم الرِّجلين ثمَّ اليدين لا العكس كما هو ظاهر الرِّواية ، وعليه فإنَّ استعمال العقل والنَّظر مع كثيرٍ من الإنصاف يفضي إلى إلزام الرَّاوي الوهم ، ويقضي بانقلاب بعض الكلام عليه .
ثمَّ استرسل في الكلام فرفض قول من ذهب إلى ذلك كالطَّحاويِّ والسَّرقُسْطِيِّ ، وقدَّم فهمه على أفهام جميع العلماء من أهل الُّلغة ، والغريب والحديث !! .
ثالثها : ما يعارض هذا الحديث من الأحاديث الأُخرى وعلى رأسها حديث وائل بن حُجْرٍ أنَّه قال :" رأيت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه" (2) .
وقد تكلم العلماء عن هذا الحديث وعلله ودرجته وقد حرَّر الشَّوْكانيُّ (3) مكان الخلاف فيه وتكلَّم عليه فهو على أيِّ حالٍ ليس بأصلحَ من حديث أبي هُريره ، بل إنَّ من العلماء من قدَّم حديث أبي هُريرة عليه حيث قال ابن حجرٍ(4) : وهو أقوى من حديث وائل بن حُجْرٍ، ثمَّ ذكر حديث وائل هذا وقال(5) بعد ذلك : فإنَّ للأوّل شاهداً من حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - صححه ابن خُزَيمة ، وذكره البُخاريُّ مُعلَّقاً موقوفاً .
ورجح الحافظ عبد الحق الإشبيلي حديث أبي هُريره على حديث وائل (6) فقال : وهذا أحسن إسناداً من الّذي قبله .
ورأى ابن العربي (1) أنَّ الحديثين ضعيفان ، إلاّ أنَّ الهيئة الأُخرى أي النُّزول على اليدين منقولة في صلاة أهل المدينه فترجَّحت بذلك على غيرها ، ونقل عن علماء المذهب أنَّ ذلك أقعد بالتَّواضع وأرشد إلى الخشية (2) .
وما ذكره ابن العربي من أنَّ النُّزول على اليدين من عمل أهل المدينه يؤيِّده ما رواه ابن المُنذر (3) أنَّ مالكاً قال : قال الأوزاعيُّ : أدكت النَّاس يضعون أيديهم قبل ركبهم (4) .
فعلى هذا يكون حديث أبي هُريرة أرجح من حيث الإسناد،ولا يوجد ما لا يُعقل فيه ، أو ما لا يُعرف عند العرب ، فالمصير إليه أولى من المصير إلى حديث وائل ، وهذا لايعني بحالٍ طرح مسألة جواز الصلاة بهذه وعدم جواز الصلاة بتلك ، لأنَّ هذا ليس مثار البحث ، ولم يقل به أحدٌ ، ولهذا قال شيخ الإسلام(5) - رحمه الله - :" إنَّ الصَّلاه بكليهما جائزةٌ باتِّفاق العلماء ، إن شاء المصلي يضع ركبتيه قبل يديه ، وإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه ، وصلاته صحيحة في الحالتين باتِّفاق العلماء ، ولكن تنازعوا في الأفضل ".
وهذا ما تطئن إليه النَّفس مع اعتقاد أنَّ الأفضليَّة لتقديم اليدين لما تقدَّم .
ومن الأمثله على تعارض الحديث مع المشاهده أيضاً ما رواه مُسلمً في "صحيحه " (6) عن عِياض بن حمار المُجاشِعيِّ أنَّ رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم- قال ذات يومٍ في خطبته: "ألا إنَّ رَبِي أمَرَنِي أنْ أُعَلِمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَومِي هَذَا :كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدَا حَلالٌ، وَإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِيْنُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهم ... " إلى أن قال :" وَأنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً لا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤهُ نَائِماً وَيَقْظَان ". الحديث.
الشاهد من هذا الحديث الطَّويل - الذي اقتصرت على هذا الجزء منه - قوله :" وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء"،والظَّاهر من هذه الَّلفظة أنَّه لو كتب ثمَّ غُسل بالماء كما تغسل الكتب جميعاً - أيام كانت تكتب بالحبر- فإنَّه لن يُغسل ، ولن تذهب الكتابه ، وهذا خلاف المشاهده إذ لو غُسل فلسوف ينطبق عليه ما ينطبق على سواه ، فما المراد بذلك؟
ذكر النَّوَويُّ وجهاً وحيداً في تفسير الحديث وجزم به ، فقال(1) :" أمَّا قوله تعالى : لا يغسله الماء فمعناه محفوظٌ في الصُّدور لا يتطرَّق إليه الذَّهاب ، بل يبقى على مرِّ الأزمان ". وكأنه يشير إلى أنّ الفرق بينه وبين بقية الكتب أنَّ هذا الكتاب لو غُسل بالماء وذهب محتواه ظاهريَّاً إلا أنَّه محفوظٌ في الصُّدور لا يؤثِّر عليه هذا الغسل ، بخلاف أيِّ كتاب لو غُسل بالماء ذهب العلم الّذي فيه وضاع .
وهذا وجهٌ جيِّدٌ كان الممكن أن اقتصر عليه لولا روايات أُخرى بمعنى هذا الحديث جاء فيها (2) : "لو أنَّ القُرْآنَ جُعِلَ فِي إهَابٍ ثمَّ أُلقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ ".
وهذا الحديث ابتداءً يخالف الحسَّ والمُشاهدة ولا يتوجَّه القول بظاهره بحالٍ ، ولهذا فقد روى ابن شاهين في " الترغيب والترهيب "(3) له عن أبي عُبيد القاسم بن سلاّم أنَّه قال : "وجه هذا عندنا أنَّ يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الّذي قد وعى القرآن ". وهذا التَّوجيه من أبي عُبيدٍ مُشكلٌ أيضاً إذ يقتضي أن لا يدخل النَّار من جمع القرآن وحفظه . والمُعوَّل على عدم دخول النَّار العمل بالقرآن واتِّباعه لا مجرَّد حفظه . إذ قد يحفظه الكافر إن قصد . ولذلك فإنِّي أطمئنُّ لتفسير أبي عبد الرَّحمن ، وأظنُّه عبد الله بن يزيد المُقرىء - الرَّاوي عن ابن لَهِيعة عند أبي يَعْلى إذ قال(4) : " إنَّ من جمع القرآن ثمَّ دخل النَّار فهو شرٌّ من الخِنْزير" .
قال المَازِريُّ (1) : فيحتمل أن يُشير إلى أنَّه أودعه قلبه وسهَّل عليه حفظه ، وما في القلوب لا يُخشى عليه الذَّهاب بالغسل ، ويُحتمل أن يُريد الإشارة إلى حفظه وبقائه على مرِّ الدَّهر فكنَّى عن هذا ، بهذا الَّلفظ .
المطلب الثَّاني : تعارض الحديث مع الواقع .
والمراد من ذلك بحث تعارض الأحاديث مع أُمورٍ واقعيَّةٍ ، بناءً على ما استقرت عليه الأُمور ، فالتَّعارض لم يكن ابتداءً ، وإنَّما حصل بعد أن استقرَّ الواقع أو أنَّ واقع قول الحديث كان يتعارض وصيغة الحديث .
ومن أمثلة ما تعارض الحديث فيه مع الواقع ما رواه البُخاريُّ(2) عن أبي هُريره عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - قال : " لَو آمَنَ بِي عَشْرَةٌ مِنَ اليَهُودِ لآمَنَ بِي اليَهُودُ " والحال أنَّ الّذين آمنوا من اليهود أكثر من عشرةٍ ، بل هم عشراتٌ عند التَّحقيق ، ولقد استشكل هذا الحديث شُرَّاح الصَّحيح وغيرهم فقال الكِرْماني(3) : " فإن قلت ما وجه صحَّة هذه المُلازمة وقد آمن من اليهود عشرةٌ وأكثر منها أضعافاً مضاعفةً ، ولم يؤمن الجميع" ؟ " قلت : لو للمضي معناه لو آمن في الزَّمان الماضي كقبل قدوم النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - المدينة ، أو عقب قدومه مثلاً عشرةٌ لتابعهم الكلُّ ، لكن لم يؤمنوا حينئذٍ فلم يُتابعهم الكلُّ " .
وهذا الجواب عندي في غاية البُعد ، وسأتعرَّض لأمثاله في الباب الرَّابع الّذي خصَّصته للنَّقد والمناقشات ، عندما سأتكلَّم عن التَّأويل البعيد .
وقال ابن حجرٍ (4) بعد حكايته قول الكِرماني دون أن يسميه : " والّذي يظهر أنَّهم الَّذين كانوا حينئذٍ رؤساء في اليهود ، ومن عداهم كان تبعاً لهم ، فلم يُسلم منهم إلاّ القليل " .
وهذا الصَّنيع من الكِرماني ، وابن حجر وغيرهما من العلماء الّذين التمسوا للحديث المحامل المختلفه إقرارٌ منهم بأنَّ ظاهر الحديث يتعارض مع الواقع الّذي يقضي بأنَّ الّذين أسلموا من اليهود أكثر من عشرةٍ .
ولقد أحصيت تراجم من أسلم من اليهود أثناء قراءتي في"الإصابة في تمييز الصَّحابة " فتحصَّل عندي (48) (1) يهوديَّاً أسلموا ، وصف ابن حجرٍ ثمانيةً منهم بالحبر ، ولعل العدد أكثر من هذا ، إذ إنَّ في الصَّحابة عدداً ممن أسلم من اليهود ولم يُذكروا أو يُترجموا لأنَّ الصَّحابة المُترجمين في أوسع ديوانٍ لتراجمهم (2) لم يبلغوا عشرة ألآفٍ ، هذا مع احتساب أصحاب الطَّبقتين الثَّالثة والرَّابعة - أي المشكوك في كونهم صحابة ، أو من ادَّعوا الصُّحبة ، أو قيل عنهم صحابةً خطأً- ، وهو يبلغ عُشر عدد الصَّحابة الّذين مات عنهم رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - إذ روى الخطيب (3) عن أبي زُرعة قوله : إنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - : " قُبض عن مئة ألفٍ وأربعة عشر ألفاً من الصَّحابة ممَّن رُوي عنه وسُمِع منه . وروى الخطيب(4) عن أبي زُرعة كذلك عندما سُئل عن عدَّة من روى عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - فقال : " ومن يضبط هذا ؟ شهد مع النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - حجَّة الوداع أربعون ألفاً وشهد معه تبوك سبعون ألفاً " .
فهذه الأعداد الكبيرة من الصَّحابة لم نجد تراجمهم ، ولا أشار إليهم أحدٌ ، ولا بدَّ أن يكون بينهم عددٌ من اليهود الّذين أسلموا ، وهذا بالإضافة إلى من مات في عهد النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أثناء الغزوات وغيرها .
فالتَّعارض مع الواقع وظاهر الحديث بناء على ما مرَّ واقعٌ وحاصلٌ ، وحمل المراد على الأحبار فحسب كما فهم البعض تخصيصٌ دون دليلٍ . أمَّا حملة العشرة على أنَّهم الرُّؤساء فهو أمرٌ يكاد يكون مقبولاً وبخاصَّةٍ إذا جمع هؤلاء الرُّؤساء بين صفتهم هذه وصفتهم كأحبار .
وقد ذكر ابن حجرٍ (5) ان أبا سعيدٍ (6) أخرج هذا الحديث في " شرف المصطفى " وزاد في آخره قال : " قال كعبٌ : " هم الّذين سمّاهم الله في سورة المائده " .
قلت : ولعلَّه يشير إلى قوله تعالى(1) : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيْلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُم اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيْبَاً وَقَالَ اللهُ إنِّي مَعَكُمْ ........} فإن أراد من قوله الّذين سمَّاهم الله ممَّن كان على عهد النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلّم - فهو مُشكلٌ في غاية الإشكال ، لأنَّ المُفسِّرين وممَّن ألَّف في التَّواريخ والمُبهمات (2) سمَّوا هؤلاء وكلُّهم من أسياط يهودٍ ورؤسائهم في عهد موسى - عليه السَّلام - . ولذلك فإنِّي أُرجِّح أن يكون مُراد كعبٍ من قوله هذا إشارته إلى الصِّفة أي المُراد من النُّقباء والرُّؤساء وعلى هذا يأتلف هذا القول مع قول من جمع بين المُتعارضين بمثل هذا الجمع .
ومن الأمثلة على هذا الَّنوع من التَّعارض ما رواه الطَّبراني في "المعجم الكبير" (3) عن رجلٍ من سُليمٍ مرفوعاً : " إيَّاكُمْ وَأبْوَابَ السُّلْطَانِ ، فَإنَّهُ قَدْ أصْبَحَ صَعْبَاً هَبُوطَاً " .
فصيغة الحديث : " قد أصبح صعباً هبوطاً " تُشعر بأنَّ القائل يحكي عن حالٍ معيشةٍ وواقعٍ موجودٍ ، ممَّا يتعارض مع الوقت الّذي قيل فيه الحديث إذ إنَّ السُّلطان والحاكم آنذاك كان النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - فكيف يُحذِّر من شيئٍ هو القائم به ، وأمره بيده ? .
وقد يقول قائلٌ : لعلَّه أراد - صلّى الله عليه وسلّم - المستقبل من الزَّمن وهو ما تحقَّق بعد ذلك .
فالجواب : إنَّ هذا قد يكون ممكناً لو لم تكن الصِّيغة " قد أصبح " الّتي تفيد التَّحقيق ، لا التَّوقع والاستقبال ، كما لو كانت " قد يُصبح " ، ولهذا فحَمْلُ الحديث على المستقبل أمرٌ مستبعدٌ لما تقتضيه الُّلغة ، وهو مستبعدٌ كذلك لأنَّه من يُنافي الفصاحة والبلاغة النَّبويَّة الّتي خُصَّ بها -صلّى الله عليه وسلّم - والّتي يستطيع من خلالها أن يُبلِّغ المقصود بأسهل الكلمات ، وأوجز العبارات ، دون لبسٍ أو تداخُلٍ . فما المخرج إذاً من هذا التَّعارض الواضح الّذي اشتمل عليه الحديث ؟ .
ابتداءً يجب أنَّ ننظر في الحديث من حيث صحَّته وعدمها ، ونحدِّد درجته بناءً على ذلك ، ثمَّ ننظر فيما وراء ذلك من خطوات .
فالحديث كما أسلفت رواه الطَّبراني في " الكبير " ولم أقف على أسناده عنده ، لعدم وقوفي على الحديث ، إلاّ أنَّ صيغته أفصحت عن شيئٍ وبالذَّات قوله عن رجلٍ من سُليمٍ ، وهذا يقتضي تضعيف هذا الإسناد .
وقد رواه بهذا الإسناد وكذلك ابن عساكر(1) فقال (2) : " أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عبد الواحد ثنا شجاع بن عليٍّ ، ثنا عبد الله بن مندة ، أنا علي بن محمد بن عقبة الكوفي ومحمد بن سعيد الأبيوردي قالا : نا محمد بن عبد الله بن سليمان ، نا عُبيد بن يعيش ، نا محمد بن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن رجلٍ من سُليمٍ قال : قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - : " إيَّاكُمْ وَأبْوَابَ السُّلطَانِ ..... " الحديث .
فابن عساكر رواه عن رجلٍ من سُليمٍ ، وقيل إنَّ الرَّجل هذا هو أبو الأعور لأنَّه رواه في ترجمة أبي الأعور ، وها هنا مباحث :
أوّلاً : لو سلّمنا أنَّ الصَّحابي المبهم هو أبو الأعور ، فإنَّ أبا الأعور هذا قد اختلف في صحبته ، فلم يذكره البُخاريُّ (1) ضمن الصَّحابة ،ونصَّ مُسلمٌ(2) وغيره(3) على صُحبته ، وقال ابن أبي حاتم(4) : أبو الأعور شاميٌّ أدرك الجاهليَّة وليست له صحبة ، وذكره خليفة(5) في الطَّبقة الأولى من أهل الشَّام بعد أصحاب النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - ورجَّح ابن حجرٍ صحبته .
ولو سلَّم لمن أثبت صحبته ، فإنَّهم لم يذكروا هذا الحديث ضمن رواياته إذ إنَّ البزَّار(6) روى له حديثاً ونصُّه:" إنَّمَا أخَافُ عَلَى أُمَّتِي ثَلاثَاً ؛ شُحٍّ مُطَاعٍ ، وَهَوىً مُتَّبَعٍ ، وَإمَامِ ضَلالَةٍ " . وقال : لا نعلمه بهذا الَّلفظ إلاّ بهذا الإسناد ، وليس لأبي الأعور غيره .
وذكر ابن كثيرٍ(7) له هذا الحديث فحسب واقتصر عليه .
إذاً فالحديث غير معروفٍ عن أبي الأعور ، هذا إن صرنا إلى القول بأنَّه صحابيٌّ ، وهذا سبب قد يؤثِّر على صحة الحديث، سيما وأنَّ أبا حاتمٍ قد وصف حديثه الوحيد بالمرسل .
ثانياً : إسناد ابن عساكرٍ إلى عُبيدٍ لا يستقيم ، إذ فيه شجاع بن عليٍّ ، وقد وُصِف بأنَّه(8) : " كثير السَّماع واسع الرِّواية معروفٌ بالطَّلب " وهذا لا يعدُّ تعديلاً وإنَّما هو وصف حالٍ ، وقال عنه السَّمْعانيُّ (9):" كان شيخاً صالحاً من بيت العلم غير أنَّه لم يكن يعرف شيئاً "
فهذا صريحٌ في غمزه ، بالرُّغم من صلاحه ، إذ الصَّلاح والتَّقوى لا يُعدَّان توثيقاً للرَّجل في الرِّواية ، وإنَّما تعديلٌ له في دينه وحاله ليس أكثر ، ولهذا قال الإمام مالك عمَّن هذه حاله (1) : " أدركت ببلدنا هذا - يعني المدينة - مشيخةً لهم فضلٌ وصلاحٌ وعبادةٌ يحدِّثون ، فما كتبت عن أحدٍ منهم قطُّ ..... قال : لأنَّهم لم يكونوا يعرفون ما يُحدِّثون " . وصاحبنا هذا يتناوله هذا الوصف .
ثالثا : إنَّ من رواة هذا الحديث - حسب رواية ابن عساكر - محمد بن فُضَيلٍ وهو ابن غَزْوان ، وهذا وصَفَهُ أحمدٌ بأنَّه شيعيٌّ ، وقال أبو داود : كان شيعياً محترقاً(2) بل قال عنه الجُوزَجَانيُّ (3) : زائغٌ عن الحقِّ ، ولعلَّه يقصد التَّشيُّع ، لأنَّ الجُوْزَجانيَّ مرميٌّ بالنَّصب وعلى كلِّ حالٍ فوجود هذا الشِّيعي في إسناد حديثٍ قيل في الحقبة الأمويَّة أو العباسيَّة وكلا العهدين مناهضٌ للشِّيعة، قد يوحي بأنَّ لصاحبه مآرب سياسيَّةٍ.والحديث أورده السُّيوطيُّ ورمز لحُسنه ، وصحَّحه الشَّيخ الألباني ، وهو لا يستقيم حسبما قدَّمت عن حال الرَّجل والإسناد ، بل إنِّ قواعد العلم تأبى علينا أن نجعله حسناً كذلك ، فهو ليس في درجةٍ لا تسمح له بأن يُعارِض - والله اعلم
انتهى
أوجه التعارض في الحديث الشريف
لطفي بن محمد الزغير
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=30663
10-21-2008
قتيبة
مقدمات في علم مختلف الحديث
o مقدِّمـات في علم مختلف الحديث :
بقلم:علي بن عبد الرحمن العويشز
الحمد لله أحق حمداً وأوفاه ، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خير خلقه ومصطفاه ، وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه ، واتبع سنته ، واهتدى بهداه إلى يوم نلقاه .
أما بعد :
فهذه مقدمات في علم مختلف الحديث تشتمل على :(تعريف علم مختلف الحديث، ومشكله والفَـرْقُ بينهما ،و أهميّة علم مختلف الحديث ، والمؤلفـات فيه،وبيان حقيقة الاختلاف الحقيقي، والظاهري ،وأسبابه. وترتيب مسالك أهل العلم في دفع مختلف الحديث).
أسأل الله تعالى أن ينفع بها كاتبها ومن قرأ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيداً
• أولاً :تعريف مختلف الحديث :
مختلف الحديث لغةً:
المختلِف والمختلَف بكسر اللام وفتحها ، فعلى الأول يكون اسم فاعل ، وعلى الثاني يكون اسم مفعول ، وهو من اختلف الأمران إذا لم يتفقا ، وكل مالم يتساو فقد تخالف واختلف ، ومنه قول الله تعالى { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } (1) وقوله تعالى: { وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ }(2)أي : في حال اختلاف أُكُلِه(3).والخاء واللام والفاء تدور معانيها على ثلاثة أصول:
أحدها: (خَلَف): وهو أن يجئ شيء بعد شيء يقوم مقامه.
والثاني: (خَلْف) وهو غير قُدَّام.
والثالث: (خَلَف) وهو التغير(4).
وأما في الاصطلاح:
فمن ضبط كلمة (مختلف) على وزن اسم فاعل (مُختلِف) بكسر اللام ، عرفه بأنه : الحديث الذي عارضه - ظاهراً - مثله(5).
ومن ضبطها بفتح اللام (مُختلَف) على وزن اسم مفعول قال في تعريفه: أَنْ يأْتي حديثان مُتَضادَّان في المعنى ظاهراً(6).
وعليه فيكون المراد بالتعريف على الضبط الأول الحديث نفسه.والمراد بالتعريف على الضبط الثاني نفس التضاد والتعارض والاختلاف.
• ثانياً : مشكل الحديث :
المُشكل في اللغة : المُختلط والمُلتبس ، يقال : ( أشكل الأمر : التبس)(7) و (أشكل عليّ الأمر ، إذا أختلط . وأشكلت عليًّ الأخبار وأحلكت : بمعنى واحد)(8)
وأما في اصطلاح أهل الحديث فيمكن تعريفه بأنه: الحديث الذي لم يظهر المراد منه لمعارضته مع دليل آخر صحيح(9).
• ثالثاً: الفرق بين مختلف الحديث ومشكله:
عند التأمل في تعريف مختلف الحديث ومشكله يظهر لنا الفرق بينهما ، وأوضح ذلك من خلال ما يلي:
1- الفرق اللغوي:
أ- فالمختلف لغة مشتق من الاختلاف.
ب- بينما المشكل لغة مشتق من الإشكال ، وهو الالتباس .
2- الفرق في السبب:
أ- فالمختلف سببه معارضة حديث لحديث ظاهراً.
ب- بينما مشكل الحديث سبب الإشكال فيه قد يكون التعارض الظاهري بين آية و حديث ، وقد يكون سببه التعارض الظاهري بين حديثين أو أكثر ، وقد يكون سببه معارضة الحديث للإجماع، وقد يكون سببه معارضة الحديث للقياس ، وقد يكون سببه مناقضة الحديث للعقل ، وقد يكون سببه غموضاً في دلالة لفظ الحديث على المعنى لسبب في اللفظ ، فيكون مفتقر إلى قرينة خارجية تزيل خفاءه كالألفاظ المشتركة.
3- الفرق في الحكم :
أ- فالمختلف حكمه محاولة المجتهد التوفيق بين الأحاديث المختلفة بإعمال القواعد المقررة عند أهل العلم في ذلك.
ب- وأما المشكل فحكمه النظر والتأمل في المعاني المحتملة للفظ وضبطها ، والبحث عن القرائن التي تبين المراد من تلك المعاني(10).
• رابعاً: أهمية علم مختلف الحديث ، والمؤلفات فيه :
علم مختلف الحديث له أهمية كبيرة ، أُبرزها من خلال الأمور التالية :
1) أنَّ فهم الحديث النبويّ الشريف فهماً سليماً ، واستنباط الأحكام الشرعية من السنة النبويّة على- صاحبها أفضل الصلاة و أتم التسليم - استنباطاً صحيحاً لا يتم إلا بمعرفة مختلف الحديث. وما من عالم إلا وهو مضطرٌ إليه ومفتقر لمعرفته. ولذا فقد تنوعت عبارات الأئمة في بيان مكانة مختلف الحديث وعظيم منزلته . ومن ذلك قول ابن حزم الظاهري(11) رحمه الله تعالى : "وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص وأغمضه وأصعبه"(12).وقال أبو زكريا النووي(13) رحمه الله تعالى: " هذا فنٌ من أهمِّ الأنواع، ويضطرُّ إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف "(14). وقال ابن تيمية(15) رحمه الله تعالى : " فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم"(16).
2) أنَّ كثيراً من العلماء اعتنوا بمختلف الحديث عنايةً كبيرةً ، من هؤلاء إمام الأئمة ابن خزيمة(17) رحمه الله تعالى فهو من أحسن الناس كلاماً فيه حتى قال عن نفسه :(لا أعرف حديثين متضادين ، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما)(18).
ومن العلماء من صنف به مصنفات كالإمام محمد بن إدريس الشافعي(19) في كتابه "اختلاف الحديث" الذي ذكر فيه طرفاً من الأخبار المتعارضة ، ولم يقصد الاستقصاء .قال النووي رحمه الله تعالى: (وصنف فيه الإمام الشافعي ولم يقصد -رحمه الله- استيفاؤه ، بل ذكر جملة ينبه بها على طريقه)(20) .
وممن صنف فيه كذلك أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينَوَري(21)رحمه الله تعالى في كتابه "تأويل مختلف الحديث " وكان غرضه من هذا الكتاب (الرد على من ادّعى على الحديث التناقض والاختلاف ، واستحالة المعنى من المنتسبين إلى المسلمين)(22) ، قال النووي رحمه الله تعالى : (ثم صنف فيه ابن قتيبة فأتى بأشياء حسنة وأشياء غير حسنة لكون غيرها أقوى وأولى وترك معظم المختلف)(23).
ومنهم أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي(24) رحمه الله تعالى في كتابه"مشكل الآثار" وهو من أعظم ما صنف في هذا الباب،وقد بيّن في مطلع كتابه غرضه من تأليف الكتاب فقال:(وَإِنِّي نَظَرْتُ في الآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عنه صلى الله عليه وسلم بِالأَسَانِيدِ الْمَقْبُولَةِ التي نَقَلَهَا ذَوُو التَّثَبُّتِ فيها وَالأَمَانَةِ عليها وَحُسْنِ الأَدَاءِ لها فَوَجَدْت فيها أَشْيَاءَ مِمَّا يَسْقُطُ مَعْرِفَتُهَا وَالْعِلْمُ بما فيها عن أَكْثَرِ الناس ، فَمَالَ قَلْبِي إلَى تَأَمُّلِهَا وَتِبْيَانِ ما قَدَرْت عليه من مُشْكِلِهَا وَمِنْ اسْتِخْرَاجِ الأَحْكَامِ التي فيها وَمِنْ نَفْيِ الإِحَالاَتِ عنها وَأَنْ أَجْعَلَ ذلك أَبْوَابًا أَذْكُرُ في كل بَابٍ منها ما يَهَبُ اللَّهُ عز وجل لي من ذلك منها حتى أتى فِيمَا قَدَرْت عليه منها كَذَلِكَ مُلْتَمِسًا ثَوَابَ اللهِ عز وجل عليه ، وَاَللَّهَ أَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ لِذَلِكَ وَالْمَعُونَةَ عليه ، فإنه جَوَّادٌ كَرِيمٌ ، وهو حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(25) .
ومنهم أبو بكر محمد بن الحسن بن فُورَك(26) رحمه الله تعالى في كتابه "مشكل الحديث وبيانه" وهذا الكتاب جمع فيه مؤلفه جملة من أحاديث العقيدة التي رأي ابن فورك أن ظاهرها التشبية والتجسيم بناءً على مذهبه في الصفات ، فيقوم بتأويلها وصرفها عن ظاهرها المراد منها(27) وغيرهم .
ومنهم من لم يفردوه بالتصنيف، لكنهم قد بثوه وفرقوه في كتبهم من هؤلاء حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر(28) ، وشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ،وأبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب (29) ،والحافظ أحمد بن علي العسقلاني(30) ، و شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية) -رحمهم الله جميعاً- وغيرهم . والأمر كما قال النووي -رحمه الله- : (وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه والأصوليون الغواصون على المعاني)(31).
) أنَّ النظر في طرق العلماء ومناهجهم في دفع إيهام الاضطراب عن أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم يُنمّي لدى طالب العلم ملكة في التعامل مع النصوص الشرعية ،وكذلك يربيه على تقديس وتعظيم وإجلال الوحي كتاباً وسنةً فلا يرد منها شيئاً ، بل يجتهد في طلب التوفيق و الجمع بينها ؛ وذلك لعلمه أن نصوص الوحي لا تتعارض بحال. قال ابن القيم رحمه الله تعالى : (فصلوات الله وسلامه على من يصدّق كلامه بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض ، فالاختلاف والإشكال والاشتباه إنما هو في الأفهام ، لا فيما خرج من بين شفتيه من الكلام ، والواجب على كل مؤمن أن يَكِلَ ما أشكل عليه إلى أصدق قائل ، ويعلم أن فوق كل ذي علم عليم)(32)
4) أنَّ مختلف الحديث يكتسب أهميته من أهمية مُتعلقه وهو فقه الحديث ، وقد بلغ من عناية أئمة الحديث بهذا الشأن مبلغاً عظيماً حيث عدَّه بعضهم نصف العلم . قال الإمام علي ابن المديني(33)-رحمه الله-:(التفقه في معاني الحديث نصف العلم ، ومعرفة الرجال نصف العلم )(34).
• خامساً : بيان حقيقة الاختلاف الحقيقي والظاهري:
أ- الاختلاف الحقيقي: هو التضاد التام بين حجتين متساويتين دلالةً وثبوتاً وعدداً ، ومتحدتين زماناً ومحلاً(35). وهذا لا يمكن وقوعه في الأحاديث النبوية ؛ لأنها وحي من الله تعالى قال الله سبحانه : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}( النجم 3 :4) والوحي يستحل وقوع الاختلاف والتناقض فيه لقوله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } (النساء:82) قال الإمام محمد بن جرير الطبري(36) رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : (وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضاً بالتصديق وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض)(37) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه ، وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به)(38) وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : (وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخاً للآخر فهذا لا يوجد أصلاً ، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق)(39).
ب- الإختلاف الظاهري : وهو وهم يكون في ذهن الناظر ، ولا وجود له في الواقع (40). قال إبراهيم بن موسى الشاطبي(41) رحمه الله : (كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه لأن الشريعة لا تعارض فيها البتة فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر فيلزم أن لا يكون عنده تعارض ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم)(42)
وهذا الاختلاف الظاهري له أسباب عديدة قد أوضح ابن القيم رحمه الله تعالى شيئاً منها فقال رحمه الله تعالى : (ونحن نقول لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة، فإذا وقع التعارض، فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم ،وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً، فالثقة يغلط، أو يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر، إذا كان مما يقبل النسخ، أو التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم، فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخاً للآخر فهذا لا يوجد أصلاً، ومعاذ الله أن يُوجد في كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق، والآفة من التقصير في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه و معلوله، أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم ، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معاً ، ومن ههنا وقع من الإختلاف والفساد ما وقع وبالله التوفيق)(43). وقال كذلك (وإن حصل تناقض فلابد من أحد أمرين : إما أن يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر، أو ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كان الحديثان من كلامه وليس أحدهما منسوخاً فلا تناقض ولا تضاد هناك البتة، وإنما يُؤتى من يُؤتى هناك من قبل فهمه ،وتحكيمه آراء الرجال ،وقواعد المذهب على السنة ،فيقع الاضطراب والتناقض والاختلاف)(44).
ومن خلال الكلام السابق لابن القيم يظهر أن أسباب التعارض والاختلاف ترجع إلى :
1) إما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم،وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً، فالثقة يغلط.
2) وإما أن يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر، إذا كان مما يقبل النسخ.
3) وإما أن يكون التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم.
4) وإما من جهة تقصير الناظر في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه و معلوله. أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم ، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معاً.
5) أو تحكيم آراء الرجال ،وقواعد مذهب من المذاهب على السنة النبوية على صاحبه أفصل الصلاة وأتم التسليم .
o سادساً :مسالك أهل العلم في دفع مختلف الحديث:
القول الذي عليه جماهير أهل العلم(45) في دفع التعارض الظاهري بين مختلف الحديث ، هو أن يسلك المجتهد الطرق التالية :
1- الجمع بين الحديثين: لاحتمال أن يكون بينهما عموم وخصوص ، أو إطلاق وتقييد ، أو مجمل ومبين ؛ لأن القاعدة المقررة عند أهل العلم أن إعمال الكلام أولى من إهماله( 46) قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ولا ينسب الحديثان إلى الاختلاف ما كان لهما وجها يمضيان معا إنما المختلف ما لم يمضي إلا بسقوط غيره مثل أن يكون الحديثان في الشيء الواحد هذا يحله وهذا يحرمه)(47) قال الخطابي (48) رحمه الله تعالى: (وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر وأمكن التوفيق بينهما وترتيب أحدهما على الآخر ، أن لا يحملا على المنافاة ، ولا يضرب بعضها ببعض ، لكن يستعمل كل واحد منهما في موضعه ، وبهذا جرت قضية العلماء في كثير من الحديث)(49).
2- النسخ : إن لم يمكن الجمع بين الحديثين ، نُظِر في التاريخ ؛ لمعرفة المتأخر من المتقدم ، فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم ، قال الشافعي رحمه الله : (فإذا لم يحتمل الحديثان إلا الاختلاف كما اختلفت القبلة نحو بيت المقدس والبيت الحرام كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا)(50).
3- الترجيح : إن لم يمكن الجمع ، ولم يقم دليل على النسخ ، وجب المصير إلى الترجيح الذي هو تقوية أحد الحديثين على الآخر بدليل(51) لا بمجرد الهوى. قال الشافعي رحمه الله تعالى : (ومنها ما لا يخلو من أن يكون أحد الحديثين أشبه بمعنى كتاب الله أو أشبه بمعنى سنن النبي صلى الله عليه وسلم مما سوى الحديثين المختلفين أو أشبه بالقياس فأي الأحاديث المختلفة كان هذا فهو أولاهما عندنا أن يصار إليه)(52). وقال الشوكاني(53) رحمه الله في مبحث وجوه الترجيح بين المتعارضين : (إنه متفق عليه ، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به ، ومن نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم وجدهم متفقين على العمل بالراجح وترك المرجوح)(54).
4- التوقف : إذا تعذر كل ما تقدم من الجمع والنسخ والترجيح فإنه يجب التوقف حينئذ عن العمل بأحد الحديثين حتي يتبين وجه الترجيح. قال الشاطبي رحمه الله تعالى:(...التوقف عن القول بمقتضى أحدهما وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح...)(55). قال السّخاوي(56) رحمه الله تعالى : (ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين والتعبير بالتوقف أولى من التعبير بالتساقط لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفى عليه وفوق كل ذي علم عليم)(57).
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(1) سورة النحل: من الآية(69).
(2) سورة الأنعام: من الآية(141).
(3) لسان العرب (9/91) ، القاموس المحيط (1042-1043) ، تاج العروس (23/240-281) .
(4)مقاييس اللغة (2/210). بتصرف .
(5) شرح نخبة الفكر للقارئ (362).
(6) تدريب الراوي (2/175)، المنهل الروي لابن جماعة (60)، منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث (54) ، مختلف الحديث بين المحدثين والأصوليين الفقهاء (25-26).
(7) القاموس المحيط (1317).
(8) لسان العرب (11/357).
(9) لم أجد من نص على تعريف المشكل في اصطلاح المحدثين ، إلا بعض الباحثين المعاصرين ،مثل د. نافذ حسين حمّاد في كتابه (مختلف الحديث) ، و د. أسامة بن عبد الله خيّاط ، وقد اعتمدا على تعريفهما للمشكل على قول الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله في كتابه شرح مشكل الآثار(1/6) :( وإني نظرت في الآثار المروية عنه صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المقبولة التي نقلها ذوو التثبت فيها ، والأمانة عليها ، وحسن الأداء لها ، فوجدت فيها أشياء مما يسقط معرفتها ، والعلم بما فيها عن أكثر الناس ، فمال قلبي إلى تأملها ، وتبيان ما قدرت عليه من مُشكلها ، ومن استخراج الأحكام التي فيها ، ومن نفي الإحالات عنها).
(10) ينظر : مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين د.نافذ حسين (15)، مختلف الحديث بين المحدثين والأصوليين د.أسامة خياط (33-38)، منهج التوفيق بين مختلف الحديث د.عبد المجيد السوسوة (56-58) أحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين د.سليمان الدبيخي(28-29).
(11) أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري ،كان شافعياً ثم انتقل إلى القول بالظاهر ونفي القياس توفي سنة (456هـ) . ينظر : تذكرة الحفاظ (3/1146).
(12)الإحكام في أصول الأحكام (2/163).
(13) هو أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الشافعي فقيه ،حافظ ،زاهد ،آمر بالمعروف ،ناه عن المنكر ولد بنوى سنة (631هـ) وتوفي سنة (676هـ) له مصنفات نافعة مباركة منها شرح صحيح مسلم ، والمجموع في الفقه ، ورياض الصالحين وغيرها. ينظر: تذكرة الحفاظ(4/1470).
(14) تدريب الراوي (2/175) . و قريب منه كلام ابن جماعة في المنهل الروي (60)، وكذا السخاوي في فتح المغيث (3/470) .
(15) تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني الإمام المجتهد الحافظ شيخ الإسلام ، وعلم الزهاد، ونادرة العصر ، وكان من الأذكياء المعدودين، ولد سنة (661هـ) وتوفي محبوساً بقلعة دمشق سنة (728هـ). التذكرة (4/1496).
(16)مجموع الفتاوى (20/ 246).
(17) الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري ، كان إماماً ثبتاً عديم النظير ، ولد سنة (223هـ) وتوفي سنة (311هـ).التذكرة (2/720).
(18)تدريب الراوي (2/176) ، المنهل الروي (1/60) ، فتح المغيث (3/470).
(19) أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي ، صاحب المذهب الشهير ، وكان مع ذا أديباً شاعراً بليغاً ومحدثاً إماماً وكان ذكياً شديد الذكاء ، ولد سنة (150هـ)وتوفي سنة (204هـ).التذكرة (1/361).
(20) تدريب الراوي (2/196).
(21) النحوي ، اللغوي ، الأديب ، كان ثقة ديناً فاضلاً وصاحب تصانيف مشهورة ، ولد سنة (213هـ) وتوفي سنة (270هـ).سير أعلام النبلاء (13/296).
(22) تأويل مختلف الحديث (145).
(23) تدريب الراوي (2/196).
(24) الأزدي المصري ، إمام حافظ ومحدث فقيه ، تفقه على مذهب الشافعي ثم تحول إلى مذهب أبي حنيفة ، توفي سنة (321هـ).الشذرات (2/288).
(25)شرح مشكل الاثار (1/6).
(26) بضم الفاء ، وفتح الراء الأصبهاني المتكلم الأصولي ، صاحب التصانيف في الأصول والعلم روى مسند الطيالسي ، وكان ذا زهد وعبادة وتوسع في الأدب والكلام والوعظ والنحو ، وكان أشعرياً ، توفي سنة (406هـ).الشذرات(3/181).
(27) ينظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/558-569) ، وأحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين(39-40).
(28) النَّمَري الأندلسي القرطبي المالكي صاحب التصانيف ، ليس لأهل المغرب أحفظ منه ،إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما توفي سنة (463هـ).الشذرات (3/314).
(29) البغدادي الدمشقي الحنبلي ، عالم حافظ زاهد قدوة وهو أعرف أهل زمانه بالعلل ، وكان لا يعرف شيئاً من أمور الناس ولا يتردد إلى أحد من ذوي الولايات ، وكان يسكن بالمدرسة السكرية، وله مصنفات جياد توفي سنة (795هـ). الشذرات (6/339).
(30) الكناني الشافعي أبو الفضل شهاب الدين الشهير بابن حجر نسبة إلى آل حجر قوم تسكن الجنوب الآخر على بلاد الجريد وأرضهم قابس ، العسقلاني الأصل المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة ، اشتغل بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث فعلت شهرته فيه فقصده الناس للأخذ عنه ، وأصبح حافظ الإسلام في عصره ، وقد ولي القضاء وتوفي سنة (852هـ). الشذرات (7/270).
(31) تدريب الراوي (2/175) . و قريب منه كلام ابن جماعة في المنهل الروي (60)، وكذا السخاوي في فتح المغيث (3/71) .
(32) مفتاح دار السعادة ( 3 / 383 ) .
(33) هو الإمام أحد الأعلام أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم البصري الحافظ صاحب التصانيف قال البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المديني.وقال أبو داود :ابن المديني أعلم باختلاف الحديث من أحمد بن حنبل .وقال عبد الرحمن بن مهدي: علي بن المديني: أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة بحديث سفيان بن عيينة توفي سنة(234هـ).الشذرات (2/81)
(34) المحدث الفاصل (320) ، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2/211) ،سير أعلام النبلاء (11/48).
(35) منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث(59).
(36) أبو جعفر الحافظ ، كان إماماً في علوم كثيرة كالتفسير والحديث والفقه والتاريخ، وكان إماماً مجتهداً لم يقلد أحداً توفي سنة (310هـ)تذكرة الحفاظ(2/710).
(37)تفسير الطبري (5/179).
(38) المسودة (306).
(39)زاد المعاد(4/ 149) ، وينظر:مفتاح دار السعادة ( 3 / 383 ) .
(40) منهج التوفيق والترجيح(87).
(41) اللخمي الغرناطي ، أصولي حافظ ، من أئمة المالكية ، توفي سنة (790هـ). الأعلام (1/75)
(42)الموافقات (4/294)
(43) زاد المعاد (4/149) .
(44) إعلام الموقعين (2/425).
(45) ينظر: الرسالة للشافعي (341-342) ، قواطع الأدلة في الأصول (1/404) ، مجموع الفتاوى (20/247) ، إعلام الموقعين (2/425) ، الموافقات (4/294) ، التقييد والايضاح (2/844) ، تدريب الراوي (2/175) ،فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (3/474) ، المنهل الروي (60) ، منهج الاستدلال على مسائل الأعتقاد عند أهل السنة والجماعة (1/322) ،معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (279) ، منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث (113) مختلف الحديث د. نافذ حسين (125) ، مختلف الحديث د. أسامة خياط (125-332).
(46) الإبهاج (2/129)، المنثور (1/183)، قواعد الفقه للمجددي (60)، شرح القواعد الفقهية للزرقا (321) ، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية (187).
(47)الرسالة (1/342).
(48) الإمام العلامة المفيد الحافظ اللغوي أبو سليمان حمْد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي ، صاحب التصانيف ، توفي سنة (388هـ). التذكرة (3/1018).
(49) معالم السنن (3/68).
(50) اختلاف الحديث (487).
(51) المجموع (13/110-111-120-121).
(52) اختلاف الحديث (487).
(53) هو العلامة محمد بن علي محمد بن عبد الله الشوكاني فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن ، تولى القضاء ، وكان محارباً للتقليد توفي سنة (1205هـ).الأعلام (6/298).
(54)إرشاد الفحول (460).
(55)الموافقات (4/154).
(56) العلامة محمد بن عبد الرحمن بن محمد شمس الدين السّخاوي الشافعي ، صنف مصنفات عدة ، لازم الحافظ ابن حجر ملازمة شديدة توفي سنة (902هـ).الأعلام (6/194).
(57)فتح المغيث (3/475).
http://www.islamlight.net/index.php?...4478&Itemid=34
.
10-21-2008
قتيبة
معرفة مختلف الحديث
النوع السادس والثلاثون: معرفة مختلف الحديث: وقد صنَّف فيه الشافعي فصلا طويلا من كتابه "الأم" نحوا من مجلد، وكذلك ابن قتيبة له فيه مجلد مفيد، وفيه ما هو غث، وذلك بحسب ما عنده من العلم.
والتعارض بين الحديثين قد يكون بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجه، كالناسخ والمنسوخ، فيُصار إلى الناسخ، ويُتْرَك المنسوخ.
وقد يكون بحيث يمكن الجمع، ولكن لا يظهر لبعض المجتهدين، فيتوقف حتى يظهر له وجه الترجيح بنوع من أقسامه، أو يهجم فيفتي بواحد منهما، أو يفتي بهذا في وقت، وبهذا في وقت، كما يفعل أحمد في الروايات عن الصحابة.
وقد كان الإمام أبو بكر ابن خزيمة يقول: ليس ثَمَّ حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وجد شيئا من ذلك فليأتني به لأؤلف له بينهما
---------------------------------------------------
نعم، هذا "مختلف الأحاديث" معناه: أن تَرِدَ أحاديث ظاهرها التعارض، وهذا فن جليل من أوائل من اشتغل به، من أوائل من ألف كتابا فيه هو الإمام الشافعي -رحمه الله- في كتابه "اختلاف الحديث" وهو يوجد مطبوعا مع "الأم" ويوجد أيضا، وحُقِّق.
وكما ذكر ابن كثير -رحمه الله- أن ابن قتيبة له كتاب اسمه "مختلف الحديث" وأنه -ابن قتيبة- من المحبين للسنّة، ومن الأدباء الذين ساروا على مذهب أهل السنة والجماعة، ويسميه ابن تيمية -رحمه الله-، أو ينقل أنه يسمى: خطيب أهل السنة، أو متكلم أهل السنة، كما أن الجاحظ متكلم أي فرقة الجاحظ؟ المعتزلة.
انتصر ابن قتيبة -رحمه الله- بالدفاع عن السنّة، والدفاع عن عقيدة السلف.
ومما ألفه من كتبه المؤلفة في الحديث هذا الكتاب "مختلف الحديث" وقدَّمه بمقدمة شَنَّ فيها الغارة على المعتزلة، وعلى موقفهم من الحديث، ثم ذكر عددا من الأحاديث المتعارضة، وصار يجيب عليها.
نعم، العلماء -رحمهم الله- قالوا: إنه -في بعض اجتهاداته في الجواب- قد يكون أخطأ في بعضها، وهذا لا يضر.
الطحاوي له كتاب سَمَّاه "مشكل الآثار" كتاب كبير جدا من هذا الباب أيضا، يورد فيه مجموعة من الأحاديث، ويوفق بينها، وبعض توفيقاته قد لا يوافق عليها.
ثم ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- أن التعارض بين الحديثين ليس على درجة واحدة؛ منه ما يمكن فيه الجمع، ومنه ما يُلْجأ إلى النسخ، ومنه ما يُلْجأ إلى الترجيح، وأنه -أيضا- محل نظر واجتهاد، وهذا -كما قال- لما يراه تعارضا حقيقيا فيُرَجِّح، ويراه بعضهم تعارضا صوريا فيَجمع.
وذكر أن ابن خزيمة -رحمه الله- يقول: ليس ثَمَّ حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وجد شيئا من ذلك فليأت لنؤلف له بينهما.
وهو -كما قال- اشتغل ابن خزيمة -رحمه الله-، لكن نلاحظ أن بعض الجموع قد يكون فيها نوع تكلف، فيذهب الجامع ليصحح الروايتين، وعلى طريقة المحدثين أيهما يُبدأ به: الجمع، أم النظر في الطرق؟
لا، قضية الجمع هذه ليست موجودة عندهم بالمعنى المتعارف عليه، أننا نجمع أولا، فإن لم نجد جمعا لجأنا إلى أي شيء؟ لأن قضية الجمع هذه لا تنضبط.
الآن انظر ابن خزيمة يقول: "ليس هناك حديثان في الدنيا إلا أستطيع أن أجمع بينهما".
فإذن، عند المحدثين الترجيح النظر في الأسانيد أولا، ويُسخِّرون التعارض في الأحاديث للترجيح، فهذا له مدخل في نقد السُّنّة.
فإذن، ما يُتعارف عليه، أو ما يُذكر دائما أن الأولى الجمع، ثم الترجيح، ثم النسخ وهكذا، هذا ليس على إطلاقه؛ فكل حديث يخضع لحاله، وكل تعاون بين حديثين يخضع لذلك.
مثال ذلك مثلا: ورد حديث في الصحيحين أن عائشة قالت -وكذلك قاله ابن عمر-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال -رويا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن بلالا يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم .
في رواية عن عائشة، أو في بعض الطرق إلى عائشة جاء: إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال .
الآن ابن خزيمة -لما جاء إلى الجمع- أحب أن يصحح الروايتين بعد كلام له على أسانيدهما، فقال: يحتمل أن يكون ليلةً يبكّر بلال، وليلة يبكّر مَنْ؟ فقال هذا في الليلة التي يبكر فيها بلال، وقال هذا في الليلة التي يبكر فيها ابن أم مكتوم.
ثم جاء ابن حبان وجزم، لم يذكر احتمالا، وإنما قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا في ليلة، وهذا في ليلة.
هذا الجمع على طريقة المحدثين ما يصلح، بل المحدثون يرجِّحُون ما هو في الصحيحين، وما هو في الطرق الصحيحة أن الذي يؤذن بليل مَنْ هو؟ هو بلال، وأن الذي يؤذن ابن مكتوم.
وفي الحديث تعليل ذلك؛ فإنه كان أعمى، وكان لا يؤذن حتى يُقال له: أصبحت، أصبحت.
وفي الحديث الآخر، حديث ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يغرنكم أذان بلال؛ فإنه يؤذن ليوقظ نائمكم .
يعني: المهم أنه بلا إشكال أن الذي يؤذن أولا مَنْ هو؟ هو بلال.
فمثل هذه الجموع لا تسير على طريقة المحدثين، يعني: ليس كل حديث استطعنا أن نجمعه أو نجمع بينهما انتهى أمره على طريقة المحدثين، وإنما النظر أولا عندهم من جهة النقد هو في الأسانيد أولا، ويسخِّرون التعارض هذا للنظر في الأسانيد، هذا أحببت أن أنبه عليه؛ لأنه كثيرا ما ترسخ في أذهان الباحثين. نعم.. يا شيخ، اقرأ
http://www.taimiah.org/Display.Asp?f=alo00104.htm
02-25-2010
سالم
مقدمات في علم مختلف الحديث
http://www.eltwhed.com/vb/showthread...D4%C7%DD%DA%ED
10-05-2011
سالم
درء دعوى التعارض بين القرآن والسنة الصحيحة
http://www.eltwhed.com/vb/archive/index.php/t-6134.html
هات أي نصين أو نقلٍ وعقل يُتوهم تناقضهما,ويأتيك نقض التعارض بينهما
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=27802
أوجه التعارض في الحديث الشريف
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=14732
مقدمات في علم مختلف الحديث
http://www.eltwhed.com/vb/showthread...D4%C7%DD%DA%ED
10-07-2011
أهل الحديث
الكلامُ هنا مفيدٌ جداً أحسن الله إليكم .
الساعة الآن 08:39 PM
Powered by vBulletin . Copyright ©2000 - 2014
منتدى التوحيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق