الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

رحلة جمع القرآن الكريم


رحلة جمع القرآن الكريم
أ. د. مصطفى مسلم


شارك في التأليف الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.

الجمع الأول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

نزل القرآن الكريم مفرقاً منجماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على عدم تفلت شيء منه، فكان يردد منا يلقيه عليه جبريل - عليه السلام - قبل أن ينتهي من تلقينه، حتى نزل قوله تعالى: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 16-19]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يبقى صامتاً مطرقاً حتى ينتهي الوحي، ثم يدعو بعض كتبة الوحي ليكتبوا ما نزل من القرآن على ما تيسر من: الرقاع (وهي من الجلد)، واللخاف (وهي صفائح الحجارة)، والعسب: (جريد النخل)، والكرانيف: (أصول السعف الغليظ) والأقتاب: (الخشب يوضع على ظهر البعير)، والأكتاف: (العظم للبعير أو الشاة)[1].

وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - حريصين على حفظ ما نزل أولاً بأول، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن مجموع في الصدور، وكان جبريل يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن كل سنة في ليالي رمضان، وعارضه في السنة التي توفي فيها مرتين.

ومن أشهر من حفظ القرآن كله وكانوا مرجع الصحابة في الإقراء والتعليم: الخلفاء الراشدون، وعبدالله بن مسعود، وسالم بن معقل (مولى أبي حذيفة)، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء، وسعيد بن عبيد، وممن حفظه، وربما استكمل حفظه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وعبادة بن الصامت، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير... وغيرهم.

وكان القرآن مكتوباً كله عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يكن مجموعاً في مكان واحد، ولم يكتب على قطع متناسقة، فكل سورة أو مجموعة سور قصار كان يكتب في أحجار متناسقة، ويربط عليها الخيط، ويوضع في بيوت أمهات المؤمنين أو في بيوت بعض كتاب الوحي.

ومن أشهر كتاب الوحي: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت... وغيرهم، وكثير من الصحابة كان يكتب لنفسه خاصة.

هذا اللون من الجمع تم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعدم جمعه في مكان واحد مكتوباً على قطع متناسقة يعود لسببين:
الأول: ترقبهم نزول الوحي في كل لحظة..
الثاني: ندرة وسائل الكتابة[2].

الجمع الثاني في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ارتدت كثير من قبائل العرب، فكانت حروب الردة وكان وقود هذه المعارك كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلماء القراء - وكان قد استشهد في حياة رسول الله في بئر معونة سبعون من القراء - فهال عمر بن الخطاب ما فجع به المسلمون من ذهاب القراء في حروب الردة؛ فدخل على أبي بكر وطلب منه أن يأمر بجمع القرآن، وقال: إن القتل قد استحر - اشتد - يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، نفر أبو بكر من اقتراح عمر في البداية، وقال: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال عمر بأبي بكر يبين له أهمية الأمر ووجه المصلحة فيه، حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك، فأرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت وعنده عمر، فأشار عليه بالقيام بهذه المهمة، وقال: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه[3].

ما كان زيد أقل تحرجاً من أبي بكر، فما زال أبو بكر وعمر به حتى شرح الله صدره للمهمة، يقول زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي مما كلفني من جمع القرآن، فقام زيد بن ثابت وعمر -رضي الله عنهما- ووضعا خطة لجمع القرآن كالتالي: أعلنا للصحابة أن من كان عنده شيء من القرآن مكتوباً فليأت به، وعينوا بعض الصحابة للاستقبال والمقارنة وللنسخ والكتابة، فكانت مصادر التوثيق كما يلي:
1- حفظ اللجنة المكلفة بالجمع وعلى رأسها زيد بن ثابت وعمر بن الخطاب.

2- ما كتبه كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان موزعاً في بيوت أمهات المؤمنين وبعض كتاب الوحي فجمع عند اللجنة.

3- حفظ الصحابي الذي يأتي بما معه من القرآن.

4- المكتوب الذي كتبه الصحابي لنفسه.

5- شاهدان يشهدان أن هذا المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم[4].


6- فإذا اجتمعت هذه المصادر الخمسة على السورة أو الآية دونتها اللجنة في المصحف.

وهكذا جمع القرآن في عهد أبي بكر الجمع الثاني على قطع متناسقة متساوية في الحجوم، مرتب الآيات والسور، بطريقة توثيقية لم يعرف التاريخ البشري لها مثيلاً من حيث الضبط والإتقان، يقول علي بن أبي طالب: أعظم الناس أجراً في المصحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله[5]. ووضع المصحف في بيت أبي بكر، فلما توفي السنة الثالثة عشرة للهجرة، نقل إلى بيت عمر بن الخطاب، فلما مات صار إلى بيت حفصة أم المؤمنين، فلما كانت خلافة عثمان بن عفان طلب المصحف ليستنسخ منه.

الجمع الثالث في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:
اتسعت رقعة الدولة الإسلامية إلى بلاد الهند شرقاً وإلى أرمينية وأذربيجان شمالاً وإلى مصر وأفريقيا غرباً، وضمت جزيرة العرب كلها، ودخل في الإسلام أمم وشعوب احتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فرحل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأقطار ومعهم كبار التابعين؛ لتعليم القرآن ونشره، وكان القرآن قد نزل على سبعة أحرف تيسيراً على الأمة، فإذا قرأ المسلم بأي حرف منها أجزأه، وكانت هنالك بعض الفروق في الأحرف، وتلقى أهل الأقطار هذه القراءات من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير منهم لا يعلمون نزول القرآن على سبعة أحرف كلها كافية شافية، فتمسكوا بالوجه الذي تلقوه من الصحابي المعلم فلما اجتمع الناس في بعض المغازي، وسمع بعضهم من بعض ما يحفظون من القرآن، ووقفوا على أوجه الخلاف في القراءات، أنكر بعضهم على بعض، وكل يقول إن قراءته هي الصحيحة، سمع حذيفة بن اليمان طرفاً من الاختلاف بين أهل الشام - الذين تلقوا القراءة من أبي بن كعب - وبين أهل العراق - الذين كانوا يقرؤون بقراءة عبدالله بن مسعود - وكانوا قد اجتمعوا في غزو أرمينية وأذربيجان، ففزع حذيفة مما سمع، وقدم على عثمان بن عفان - أمير المؤمنين في المدينة - وقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فاستشار عثمان بن عفان كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فأجمعوا على أن يكتب القرآن على حرف واحد، وتنسخ منه نسخ ترسل إلى الأقطار.

بعد الإجماع على هذا الرأي طلب عثمان بن عفان المصحف الذين كتب في عهد أبي بكر - وكان عند حفصة - فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام[6]، (.. فنسخوا منه سبع نسخ أرسلها إلى حواضر المسلمين: مكة المكرمة، والشام، والبصرة، والكوفة، واليمن، والبحرين، وأبقى عنده نسخة في المدينة المنورة..)[7] وأرسل مع كل نسخة قارئاً؛ يعلم الناس القرآن على الحرف الذي جمعوا القرآن عليه (وهو حرف قريش)، وأمر بحرق ما سواه من المصاحف الخاصة التي تخالفه.

كان هذا الجمع والإرسال عام خمسة وعشرين للهجرة، ويسمى المصحف الذي جمعه عثمان بالمصحف الإمام؛ لأن الناس رجعوا إليه، وأخذوا بما فيه عند الاختلاف في وجوه القراءات.

ويسمى الخط الذي كتب به المصحف بالرسم العثماني نسبة إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.

وقد أجمع الصحابة على صنع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في هذا الجمع وأثنوا عليه في ذلك؛ لأنه قطع دابر الفتنة والخلاف في القرآن الكريم.

الفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان:
هنالك فرق بين الباعث للجمع، وفرق في كيفية الجمع:
أ‌) فالباعث على الجمع في عهد أبي بكر كان خشية ذهاب شيء من القرآن بذهاب حملته، وضياع شيء من القطع المكتوب عليها القرآن، أما الباعث على الجمع في عهد عثمان فهو كثرة الاختلاف في وجوه القراءة وخوف الفتنة بين المسلمين.

ب‌) والكيفية في جمع أبي بكر كان نقلاً لما كان مفرقاً في الرقاع والعسب والأكتاف، فجمعه في مصحف واحد مرتب الآيات والسور.

أما الكيفية في عهد عثمان فكان نسخاً للقرآن على حرف واحد من الحروف السبعة على نسخ متعددة لتكون مرجع الناس في الأقطار.

مصير المصاحف بعد ذلك:
المصحف الذي كتب في عهد أبي بكر أعاده عثمان بن عفان إلى حفصة بعد الاستنساخ منه، فلما توفيت في عهد معاوية بن أبي سفيان، وكان مروان بن الحكم أمير المدينة طلبه من أخيها عبدالله بن عمر، فأحرقه ودفنه قطعاً لأطماع الذين تراودهم نفوسهم في إثارة الخلاف مرة أخرى حول الأحرف السبعة، أما المصاحف التي كتبت في عهد عثمان فقد استنسخ منها ملايين النسخ، ولم يدر مصير كل نسخة منها بعد ذلك.

ونؤكد هنا أن الأصل في نقل القرآن هو النقل الشفوي متواتراً، أما النقل الخطي فهو لزيادة التوثيق، وكل ذلك تحقيق لوعد الله جل جلاله في حفظ كتابه من الزيادة أو النقصان، والتحريف أو التبديل: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

[1] مباحث في علوم القرآن لمناع القطان، ص123.
[2] تهذيب وترتيب الإتقان في علوم القرآن، ص153.
[3] انظر الرواية مطولة في البخاري رقم (4701) باب جمع القرآن 4/1907.
[4] مباحث في علوم القرآن لمناع القطان، ص132.
[5] المرجع السابق، ص132.
[6] انظر صحيح البخاري رقم (4702) باب جمع القرآن، 4/1908.
[7] انظر مباحث في علوم القرآن لمناع القطان، ص134.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/71921/#ixzz3MkpZaIxN

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق