الجرح والتعديل في عصر الصحابة رضي الله عنهم
عن طاوس : جاء هذا إلى ابن عباس رضي الله عنه – يعني : يُشَيْر بن كعب – فجعل يحدثه ، فقال له ابن عباس رضي الله عنه : (( عُد لحديث كذا وكذا )) ، فعاد له ، ثم حدّثه ، فقال له : (( عُد لحديث كذا وكذا )) ، فعاد له ، فقال له بُشَيْر : (( ما أدري أعرفتَ حديثي كله وأنكرتَ هذا ؟ أم أنكرتَ حديثي كله وعرفتَ هذا ؟ )) ، فقال له ابن عباس رضي الله عنه : (( إنا كنا نُحَدِّث عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم إذ لم يكن يُكذَبُ عليه ، فلما ركب الناس الصَّعْبَ والذَّلول تركنا الحديث عنه )) رواه مسلم في مقدمة صحيحه ص 12 – 13 .
قال الشيخ الشريف حاتم العوني : ( فكان هذا أول تطبيق عملي ظاهر لعلم الجرح والتعديل ، وأولُ السؤال عن الإسناد ورفض المراسيل ، وذلك لظهور علتين اقتضتا ذلك ، وهما : علتا رواية المجروح والإرسال وعدم الإسناد ) المنهج المقترح لفهم المصطلح ص 30 .
لذا كان أول ظهور لعلم الجرح والتعديل هو في عصر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم .
الجرح والتعديل في عصر التابعين وأتباعهم
قال الإمام ابن حبان رحمه الله وهو يبين سلوك التابعين مسلك أئمتهم من الصحابة في التيقظ من الروايات وانتقاء الرجال : ( ... ثم أخذ مسلكهم ، واستن بسنتهم ، واهتدى بهديهم فيما استنوا من التيقظ من الروايات جماعة من أهل المدينة من سادات التابعين منهم : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد بن أبى بكر ، وسالم بن عبدالله بن عمر، وعلي بن الحسين بن علي ، وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف ، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة وخارجة بن زيد بن ثابت ، وعروة بن الزبير بن العوام ، وأبو بكر بن عبدالرحمن ابن الحارث بن هشام ، وسليمان بن يسار ،فَجَدُّوا في حفظ السنن والرحلة فيها ، والتفتيش عنها والتفقه فيها ولزموا الدين ودعوة المسلمين ، ثم أخذ عنهم العلم وتتبع الطرق وانتقاء الرجال، ورحل في جمع السنن جماعة بعدهم منهم : الزهري ، ويحيى بن سعيد الانصاري ، وهشام بن عروة ، وسعد بن إبراهيم في جماعة معهم من أهل المدينة ،إلا أن أكثرهم تيقظاً ، وأوسعهم حفظاً ، وأدومهم رحلةً ، وأعلاهم همةً الزهري رحمة الله عليه ) مقدمة كتاب المجروحين ص 38 – 39 .
قال محمد بن سيرين ( ت 110 هـ ) : ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ، قالوا : سموا لنا رجالكم ، فيُنظر إلى أهل السنة فيُؤخذ بحديثهم ، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم ) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه ص 15 .
وهو يحكي هنا ما كان عليه شيوخه من الصحابة وكبار التابعين من عدم التشدد في نقد الرجال لتوافر الأمانة والصدق والعدالة بينهم ، وعدم وجود ما يدعو للكذب ووضع الأحاديث ، فلما وقعت فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه سنة 35 هـ ، وكثرت الهجمات على الإسلام ومحاولات التزوير في النصوص والكذب في الأحاديث ، أصبحوا يسألون عن الإسناد ويُدَقِّقون في المصادر فلا يقبلون من الروايات إلا ما توافرت فيه شروط القَبول من صدق ٍ وضبط .
منهج انتقاء الشيوخ والتزام التحديث عن الثقات دون غيرهم
قال عروة بن الزبير الأسدي المدني ( ت 94 هـ ) : ( إنى لأسمع الحديث استحسنه فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدى به ، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به وأسمعه من الرجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به ) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 32 .
وهنا يؤسس عروة – رضي الله عنه – قاعدة مهمة وهي ( رواية الثقة عن رجل ٍ ليست دليلاً على صحة المروي عنده ) و ( ليست دليلاً على توثيق رجال إسنادها ) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله ( ت 204 هـ ) :( وما زال أهل الحديث في القديم والحديث يَتَثَبَّتون ، فلا يقبلون الرواية التي يحتجون بها ويحلون بها ويحرمون بها ، إلا عمن أمنوا ـ وإن يحدثوا بها هكذا ذكروا أنهم لم يسمعوها من ثَبْتٍ ، كان عطاء بن أبي رباح يسأل عن الشيء فيرويه عمن قبله ويقول : سمعته وما سمعته من ثَبْتٍ ) الأم للشافعي ( 6 / 104 ) .
وعطاء بن أبي رباح ( ت 114 ) .
وكذلك نجد سيد التابعين : سعيد بن المسيب ( ت 94 هـ ) يتكلم في بعض الرواة ، فيُروى عنه أنه كَذَّبَ عطاء الخراساني في بعض رواياته ، انظر : الضعفاء للعقيلي ( 3 / 405 ) والكامل في ضعفاء الرجال ( 5 / 358 ) .
وهذا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ( ت 126 هـ ) وهو ( من جِلَّةُ أهل المدينة وقدماء شيوخهم ) يُعلن منهج انتقاء الشيوخ والتزام التحديث عن الثقات دون غيرهم من الضعفاء والمجاهيل :
عن سعد بن إبراهيم ، قال : (لا يُحَدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات ) ، انظر : مقدمة صحيح مسلم ص 15 ، المعرفة والتاريخ ( 1 / 681 ) ، العلل ومعرفة الرجال ( 2 / 447 ) ، الكفاية في علم الرواية ص 32 ، أدب الإملاء ص 55 .
وهاهو مفتي المدينة وعالمها ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ ( ربيعة الرأي ) يحذر من أخذ الحديث عن غير الثقات ويعتبره مسبباً لضياع الدين ، فيقول : ( ثلاثٌ من توديع الإسلام : العصبية ، والقدرية ، والرواية عن غير ثقة ) الكفاية في علم الرواية ص 33 ، وأدب الإملاء ص 56 .
وأيضاً نجد التابعي البصري المعروف محمد بن سيرين ( ت 110 هـ ) يقول : ( إنهذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ) مقدمة صحيح مسلم ص 14 .
بل إن الإمام مالك ( ت 179 ) من أشد الناس انتقاءً للرجال إلى درجة أنه أدرك أكثر من 100 من رواة الحديث ولم يأخذ منهم شيئاً من الحديث لعدم استيفاء أحد منهم شروط القبول عنده .
فقد روى عنه ابن وهب أنه قال : ( أدركت بهذا البلد رجالاً بني المائة ونحواً منها يحدثون الأحاديث لا يؤخذ منهم ليسوا بأئمة ، فقلتُ لمالك : وغيرهم دونهم في السن يؤخذ ذلك منهم ؟ قال: نعم ) المعرفة والتاريخ ( 3 / 31 ) .
أي أنه لا يلزم بسنٍّ معين للراوي ، بل يأخذ من الراوي الثقة ويرد الراوي غير الثقة سواءً كان كبيراً أو صغيراً .
ومن علماء التابعين الذين كانوا ينتهجون منهج انتقاء الشيوخ واقتصار الرواية على الثقات عنده :
1 – شيخ الحرم عمرو بن دينار المكي ( ت 126 هـ ) :
قال سفيان : قلتُ لمسعر : ( من رأيتَ أشد تثبتاً في الحديث ؟ ) قال : ( القاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن دينار ) .
2 – الإمام بكير بن عبد الله الأشج المدني ( ت 126 هـ ) .
قال أحمد بن صالح المصري : ( إذا رأيتَ بكير بن عبد الله روى عن رجل ٍ فلا تسأل عنه ، فهو الثقة الذي لا شكَّ فيه ) تهذيب التهذيب ( 1 / 431 ) .
3 – الإمام محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب القرشي المدني ( ت 159 ) ، كان أحد المحتاطين المتثبتين في الرواية .
قال يحيى بن معين : ( ابن أبي ذئب ثقة ، وكل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة ، إلا أبا جابر البياضي ) الكامل في ضعفاء الرجال ( 6 / 182 ) .
4 – الإمام مالك بن أنس رحمه الله ( ت 179 ) ، وقد وردت عنه نصوصٌ كثيرة تدل على اهتمامه بانتقاء الرجال واختيار الشيوخ ، من ذلك :
أ – قال بشر بن عمر الزهراني : سألت مالكاً عن رجل ، فقال : ( هل رأيته في كتبي ؟ ) قلت : ( لا ) ، قال : ( لو كان ثقة لرأيته في كتبي ) .
قال الحافظ الذهبي معلقاً : ( فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عمن هو عنده ثقة ، ولا يلزم من ذلك أنه يروي عن كل الثقات ، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه ، وهو عنده ثقة ، أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ ، فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره ، إلا أنه بكل حال كثير التحري في نقد الرجال ، رحمه الله ) سير أعلام النبلاء ( 8 / 71 ، 72 ) .
ب – قال سفيان بن عيينة : ( ما كان أشد انتقاد مالك ٍ للرجال وأعلَمَه بشأنهم ) الجرح والتعديل للرازي ( 8 / 204 ) .
ج – قال علي بن المديني : ( كان مالك ينتقي الرجال ولا يُحَدِّثُ عن كل أحد ) تاريخ ابن أبي خيثمة ( 1 / 272 ) برقم 958 .
وروى أبو نعيم أنه قال أيضاً : ( كل مدني لم يحدث عنه مالك ففي حديثه شيء ، ولا أعلم مالكاً ترك إنساناً إلا إنساناً في حديثه شيء ) ، وقال أيضاً : ( ومالك أمانٌ فيمن حدث عنه من الرجال ) مقدمة الكامل في ضعفاء الرجال ص 91 .
د – قال يحيى بن معين : ( كل من روى عنه مالك بن أنس فهو ثقة إلا عبد الكريم البصري أبو أمية ) حلية الأولياء ( 6 / 322 ) .
وقال أيضاً : ( كل من حَدَّثَ عنه– أي الإمام مالك –فهو ثقة إلا رجلاً أو رجليْن ) تقدمة الجرح والتعديل ص 17 .
هـ - قال الإمام أحمد بن حنبل – في رواية ابن هانئ – : ( ما روى مالكٌ عن أحد ٍ إلا هو ثقة ، كل من روى عنه مالك فهو ثقة ) شرح علل الترمذي ( 1 / 80 ) .
ز – قال أبو حاتم الرازي : ( ... ومالكٌ نقيُّ الرجال ، نقيُّ الحديث ... ) الجرح والتعديل للرازي ( 8 / 206 ) .
ح – قال صالح بن محمد جزرة : ( سفيان أحفظ وأكثر حديثاً من مالك ، لكن مالكاً ينتقي الرجال ... ) تذكرة الحفاظ ( 1 / 206 ) ، سير أعلام النبلاء ( 7 / 271 ) .
ط – قال النسائي رحمه الله : ( ما عندي أحد من التابعين أنبل من مالك بن أنس ، ولا أجلُّ منه ، ولا أوثق ولا آمن على الحديث منه ... وليس أحدٌ بعد التابعين أقل رواية ً عن الضعفاء من مالك بن أنس ، ما علمناه حدَّث عن متروك ٍ إلا عن عبد الكريم بن أمية ) التعديل والتجريح للباجي ( 2 / 699 – 700 ) .
ي – قال يعقوب بن سفيان الفسوي : ( وقد تحققت من الاستقصاء وذكر الأسامي اسماً فاسماً ، لأن جملة الأمر : أن مالك بن انس لم يضع في الموطأ اسناداً وأظهر اسماً يحدث عنه إلا وهو ثقة ، خلا عبد الكريم بن أمية فإنه ضعيف وكان له رأي سوء ) المعرفة والتاريخ ( 1 / 425 ) .
وقال في موضع آخر : ( ومن كان من أهل العلم ونصح نفسه ، علم أن كل ما وضعه مالكٌ في [ موطئه ] وأظهر اسمه ثقةٌ تقوم به الحجة ) المصدر السابق ( 1 / 349 – 350 ) .
ك – قال الحافظ الذهبي رحمه الله : ( وقد كان مالك إماماً في نقد الرجال ، حافظاً ، مجوداً ، متقناً ) سير أعلام النبلاء ( 8 / 71 ) .
تنبيه : من عبارات الإمام مالك الدالة على الجرح الشديد :
قال الشيخ الإمام عبد الرحمن المعلمي رحمه الله : ( إذا قيل : [ ليس بثقة ولا مأمون ] تَعَيَّنَ الجرح الشديد ، فإن اقتُصر على [ ليس بثقة ] فالمتبادر جرحٌ شديد ، ولكن إذا كان هناك ما يشعر بأنها استُعمِلت في المعنى الآخر حُمِلَتْ عليه ) التنكيل ( 1 / 70 ) .
=====================
حث علماء الجرح والتعديل المتقدمون تلاميذهم على بيان أحوال الرواة
بيان أحوال رواة الحديث هو سنة ماضية سار عليها علماء الجرح والتعديل المتقدمون ، بل إنها كانت الوصية المتوارثة منهم لتلاميذهم ، لما في ذلك من حفظ السنة النبوية من عبث العابثين وتحريف المحرفين .
فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه ص 17 ، عن يحيى بن سعيد قال : ( سألتُ سفيان الثوري وشعبة ومالكاً وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث ، فيأتيني الرجل فيسألني عنه ، قالوا : أخبر عنه أنه ليس بثبت ) وانظر كتاب المجروحين لابن حبان ص 20 .
وفي لفظ ( علل الإمام أحمد ) – رواية صالح وعبد الله - : ( ... عن الرجل لا يحفظ أو يُتهم في الحديث ، فقالوا لي جميعاً : بَيِّنْ أمره ) ، المصدر : علل الإمام أحمد برواية ابنه صالح ص 141 برقم 1 .
قال الإمام أحمد رحمه الله ( ت 241 هـ ) مبيناً الدور العظيم لأهل العلم في حفظ الدين : ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين ) .
أهمية علم الجرح والتعديل وخطورته
علم الجرح والتعديل والكلام على الرواة ليس بالأمر البسيط السهل ، بل لا بد فيه من شروط ذكرها العلماء في كتبهم :
1 – المعرفة التامة بأحوال الرواة من حيث : أسمائه وكناهم وألقابهم ومواليدهم ووفياتهم وبلادهم وشيوخهم وتلاميذهم ... الخ .
فإن الجهل بمثل هذه المعلومات المتعلقة بالراوي من شأنها أن توقع الناقد للرواة في أخطاء كثيرة لا حصر لها ، مثل أن يخطئ في اسم راوٍ فيضعفه وهو ثقة ، أو يُسأل عن راوٍ ثقة في بلد معين ، فيضعفه بناءً على معرفة ذلك الناقد لراوٍ آخر في بلد آخر .
2 – الخبرة التامة بعلم الحديث وعلله .
علوم الحديث تنقسم إلى 65 نوعاً ، ولكن علم علل الحديث هو من أصعب علم الحديث وأدقها ، ولا يمكن معرفتها إلا من الناقد البصير الخبير من علماء الحديث .
3 – الورع التام والبراءة من الميل والهوى : فلا يضعف الراوي لمجرد الاختلاف في المذهب العقدي أو الفقهي ، ولا يوثقه لمجرد الموافقة في المذهب العقدي أو الفقهي .
قال الحافظ الذهبي رحمه الله ( 748 هـ ) : ( والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى والمَيْل وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله ) ، المصدر : الموقظة في مصطلح الحديث ص 82 ) .
قال المحدث الإمام عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ( ت 1386 هـ ) : ( ليس نقد الرواة بالأمر الهين ، فإن الناقد لا بد أن يكون واسع الإطلاع على الأخبار المروية ، عارفاً بأحوال السابقين وطرق الرواية ، خبيراً بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب ، والموقعة في الخطأ ، ثم يحتاج إلى أن يعرف أحوال الرواي متى ولد ؟ وبأي وبلد ؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة ؟ ومع من سمع ؟ وكيف كتابه ؟ ثم يعرف أحوال الشيوخ الذين يحدث عنهم وبلدانهم ووفياتهم وأوقات تحديثهم وعاداتهم في الحديث ، ثم يعرف مرويات الناس عنهم ويعرض عليها مرويات هذا الراوي ويعتبر بها ، إلى غير ذلك مما يطول شرحه ، ويكون مع ذلك متيقظاً مرهف الفهم ، دقيق الفطنة ، مالكاً لنفسه لا يستميله الهوى ولا يستفزه الغضب ، ولا يستخفه بادر ظن ، حتى يستوفي النظر ويبلغ المقر ثم يحسن التطبيق في حكمه فلا يجاوز ولا يقصر ، وهذه مرتبة بعيدة المرام عزيزة المنال لم يبلغها إلا الأفذاذ ) ، المصدر : مقدمة تحقيقه لكتاب الجرح والتعديل .
علم الجرح والتعديل علم غزير يستحيل الإحاطة به
مما لا شك فيه أن علم الرجال علم غزير وهو يحتل مساحة كبيرة جداً من مكتبتنا الإسلامية ، ولو أراد شخصٌ أن يستوعب كتب الرجال في غرفة واحدة متوسطة المساحة لما استطاع ، ومع ذلك فـ ( العالم محتاجٌ إلى جميع كتب الرجال ) كما قال الإمام المعلمي رحمه الله علم الرجال وأهميته ص 80 .
قال الإمام علي بن المديني – شيخ البخاري – ( ت 233 هـ ) : ( التفقه في معاني الأحاديث نصف العلم ، وعلم الرجال نصف العلم ) ، المصدر : الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ( 2 / 211 ) .
الظهور المبكر لعلم الإسناد
وعلم الإسناد والجرح والتعديل بدأ مبكراً منذ عصر الصحابة رضي الله عنه واستمر في عصري الخلافة الأموية والخلافة العباسية[font=arial (arabic)] .[/font]
قال الأستاذ خميس عاشور[font=arial (arabic)] : ( [/font]واستقرت الخلافة بأيدي الأمويين بدأت الحركة العلمية في الازدهاروعكف كل فريق من العلماء على استنباط الأحكام وتأصيل القواعد وتأليف الكتب في مختلفالفنون ، ومما استرعى انتباه علماء الحديث موجة الأخبار التي وضعت لتأييد هذاالاتجاه أو ذاك ، وقد لعبت هذه الأكاذيب دورها الدموي في حوادث الفتنة الكبرى مماحدا بعلماء الحديث النبوي الشريف إلى الاهتمام بهذه الظاهرة ، فوضعوا أسساً لتمييزالحديث الثابت من غيره ، وبدأت بواكير علم جديد تنقدح في أذهان العلماء ، فظهر علمالإسناد الذي يعد مفخرة الحضارة الإسلامية ومن فوائدها الرائعة ، وهو العلم الذيقهر الشائعات الخبيثة ورد كيد مختلقيها في نحورهم ، فقد اشترطوا في راوي الخبرشروطاً حالت دون ورود الكذب إلى الحديث النبوي أو غيره من كلام الصحابة الكرام لقدكان علم الإسناد الحصن الحصين الذي حمى نصوص الشريعة السمحة وبالتالي المجتمعالإسلامي من كل ما يمس مقدساته أو يخل بأمنه واستقراره العقائدي[font=arial (arabic)])[/font] المصدر : مجلة البيان : ( العدد 33 ، ص 75[font=arial (arabic)] ) .[/font]
وقد كان الإسناد – كما قال سفيان الثوري –[font=arial (arabic)] ( [/font]سلاح المؤمن ) ، فلا تُقبل رواية الرواة من غير إسناد [font=arial (arabic)]. [/font]
وقد مر معنا بداية ظهور علم الجرح والتعديل منذ عصر الصحابة رضي الله عنه ، فلا داعي للإعادة .
أول من تكلم في الرجال
أول من تكلم في الرجال هو القرآن الكريم ثم السنة النبوية ثم الصحابة رضي الله عنهم ثم تتابع بعدهم التابعون ومن بعدهم في الكلام على الرجال ورواة الحديث .
فظهر عامر الشعبي ( ت 103 هـ ) في العراق ، وكان أول المتكلمين في الرجال ، فقد قال يحيى بن سعد القطان [font=arial (arabic)]: ( [/font]فكان أول من فتش عن الإسناد[font=arial (arabic)] ) [/font]، المصدر : المحدث الفاصل للرامهرمزي ص 208 .
وكان ابن سيرين ( ت 110 هـ [font=arial (arabic)]) [/font]من أوائل المتكلمين في علم الرجال ، فقد قال عنه الحافظ ابن رجب الحنبلي [font=arial (arabic)]: ( [/font]هو أول من انتقد الرجال ، وميَّز الثقات عن غيرهم ) ، المصدر : شرح علل الترمذي ( 1 / 52[font=arial (arabic)] ) .[/font]
وأول مصنف في علم الرجال – فيما أعلم – هو كتاب ( التأريخ ) للإمام الليث بن سعد رحمه الله ( ت 175 هـ ) ، ثم تتابعت بعده كتب الرجال والجرح والجرح والتعديل [font=arial (arabic)].[/font]
================
علم الإسناد من خصائص الأمة المحمدية
علم الإسناد هو أحد ما تتميز به أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الدينية والحضارية ، بل إنه العلم الذي حفظ لها دينها في الوقت الذي ضاعت وتحرفت فيه الأديان الأخرى ، بسبب انقطاع أسانيدها وكثرة التحريف في مصادرها المقدسة .
قال الحافظ اللغوي أبو علي الغساني ( ت 498 هـ ) : ( خصَّ الله هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها : الإسناد والأنساب والإعراب ) ، المصدر : تدريب الراوي للسيوطي ( ص 159 ، 160 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ت 728 هـ ) : (وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمدصلى الله عليه وسلم وجعله سُلّماً إلى الدراية . فأهلالكتاب لا إسناد لهم يؤثرون به المنقولات ، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهلالضلالات ،وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة : أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والقويم وغيرهم من أهل البدع والكفار إنما عندهم منقولات يؤثرونها بغيرإسناد ، وعليها من دينهم الاعتماد ، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل ) ، المصدر : مجموع الفتاوى ( 1 / 9 ) .
ومن العجب أن نجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يبتكر أسلوباً جديداً في الرد على اليهود والنصارى يبين فيه مدى الضعف الذي تتميز به كتبهم المقدسة عن كتب الإسناد ، بأنها غير متواترة الأسانيد كما هو الحال مع تواتر القرآن الكريم عند المسلمين .
فيقول أجزل الله له المثوبة : ( والمقصود هنا : أنه ليس مع النصارى نقلٌ متواتر عن المسيح بألفاظ الإنجيل ، ولا نقل لا متواتر ، ولا آحاد ، بأكثر ما هم عليه من الشرائع ، ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات الأنبياء ، كما هو عند المسلمين نقلٌ متواترٌ بالقرآن ، وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة ) ، المصدر : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ( 2 / 405 – 406 ) .
علم التاريخ وعلم الإسناد
علم التاريخ وعلم الإسناد علمان متداخلان ، فكما أن الأحاديث النبوية والآثار السلفية كانت تُروى بالأسانيد ، فإن الرواية بالأسانيد كانت جزءً من رواية التاريخ الإسلامي ، لذا يجد القارئ لكتب التاريخ الإسلامي القديمة – أمثال ( تاريخ الأمم والملوك للطبري ) وغيره – الروايات مقرونة بالأسانيد ، عملاً بالقاعدة المعروفة ( من أسند فقد أبرأ الذمة ) .
وعلم التاريخ غزير بغزارة علم الرجال .
فقد قال الشيخ المحقق الدكتور محمود الطناحي رحمه الله تحت عنوان ( نصف الكتب العربية ) : ( ومهما يكن من أمر فإن علم التاريخ عند المسلمين من العلوم الضخمة ، ويوشك هذا العلم أن يكون نصف المكتبة العربية ، وانظر تصديق ذلك في : علم قوائم الكتب [ الببلوجرافيا العربية ] مثل : ... ) ثم ذكر طائفة من الكتب التي اعتنت بذكر أسماء الكتب ومؤلفيها ، انظر : مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي ( 1 / 295 ) .
ثم ذكر الدكتور الطناحي سبب غزارة الكتب التاريخية بقوله : ( ... وتفسير هذا أن علم التاريخ عند المسلمين ليس هو فقط الكتب الحولية ، مثل : تواريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير ، أو كتب الأحداث العامة ، مثل : مروج الذهب والتنبيه والإشراف للمسعودي ، وإنما يدخل فيه –بل يمثل الجانب الأكبر منه– [ فن التراجم والطبقات ) وهو بحر ضخم ) ، المصدر السابق ( 1 / 296 ) .
وطالما حاول المخالفون – لدين الإسلام الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم – عبر التاريخ استغلال التاريخ لضرب عقائد الإسلام ورموزه ، قكثر الكذب في الروايات التاريخية التي تطعن في الإسلام ورموزه ومصادره .
بل إن المؤرخون القدامى قد جمعوا في كتبهم كل ما هب ودب من الروايات التاريخية من غير تمييز ولا انتقاء بقصد الجمع ، ولكن وقف لهم الجهابذة من علماء الإسلام وقفة ً صلبة ، فميزوا بين الصحيح والضعيف والمكذوب من الروايات التاريخية .
قال الألوسي رحمه الله : (... المؤرخين ينقلون ما خبُثَ ، ولا يميزون بين الصحيح والموضوعوالضعيف ، وأكثرهم حاطب ليل ، لا يدري ما يجمع) ، المصدر : صب العذاب على من سب الأصحاب ص 421 .
وقال الإمام المحدث المعلمي رحمه الله : (وهكذا الوقائع التاريخية ، بل حاجتها إلى معرفة أحوال رواتها أشد، لغلبة التساهل في نقلها ، على أن معرفة الرجال هي نفسها من أهم فروعالتاريخ ) ، المصدر : علم الرجال وأهميته ص 17 .
بل إن هذا المنهج العلمي الدقيق القوي في نقد المرويات التاريخية لاقى إعجاب الكثيرين من الباحثين الشرقين والغربيين .
فقد قال الدكتور النصراني أسد رستم – أستاذ قسم التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت سابقاً –: ( ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديثمنذ مئات السنين في هذا الباب ، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحرفه وحذافيرهتنويهاً بتدقيقهم العلمي ، اعترافاً بفضلهم على التاريخ) ، المصدر : مصطلح التاريخ لأسد رستم .
وقال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله عن أسد رستم : ( وقد ألف أحد علماء التاريخ في العصر الحاضر كتاباً في أصولالرواية التاريخية، اعتمد فيها على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقةعلمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات) ، المصدر : السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 126 .
بل إن الكذبة من رواة الحديث قد تصدى لهم علماء الجرح والتعديل بالتاريخ ، قال علي بن المديني رحمه الله : ( لما استعمل الرواة الكذب ، استعملنا لهم التاريخ ) ، المصدر : الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 147 .
والمؤلفات في كتب وفيات الرواة كثيرة شهيرة ، منها :
1 – ( الوفيات ) لابن قانع ( ت 351 هـ ) : وقد نقل عنه الحافظ الذهبي كثيراً في كتابه ( تاريخ الإسلام ) .
2 – ( تاريخ مولد العلماء ووفياتهم ) لابن زبر الربعي ( ت 379 هـ ) .
3 – ( السابق واللاحق في تباعد ما بين وفاة راويين عن شيخ واحد ) للخطيب البغدادي ( ت 463 هـ ) .
4 – ( الوفيات ) لابن منده ( ت 470 هـ ) : قال الذهبي في تاريخ الإسلام : ( لم أر أكثر استيعاباً منه ) ، المصدر : تاريخ الإسلام .
5 – ( الوفيات ) لأبي الفضل الباقلاني ( ت 488 هـ ) .
6 – ( وفيات الأعيان ) لابن خلكان ( ت 681 هـ ) .
7 – ( فوات الوفيات ) لابن شاكر الكتبي ( ت 764 هـ ) .
8 – ( الوافي بالوفيات ) للصفدي ( ت 764 هـ ) .
وكل هذه الكتب مرتبة على حروف المعجم لا السنوات .
===============
جهود الجهابذة في محاربة الأحاديث الموضوعة
من المعلوم أن أهل الكفر والضلال عمدوا دائماً إلى تشويه السنة النبوية وتحريفها عبر اختلاق الأحاديث الموضوعة ونسبتها إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن وقف الفحول من علماء الإسلام في محاربة الأحاديث الموضوعة المكذوبة وكشفها وفضح رواتهاوتنبيه الخاصة والعامة عليها وعلى خطرها .
جاء بها رجل إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله ، فقال له : هذه الأحاديث الموضوعة ، ما نصنع بها ، فقال : ( تعيش لهاالجهابذة ، وتلا قوله تعالى : { إنانحن نزّلنا له الذكر وإنا لحافظون } ) .
وقد عاش لها الجهابذة ، وتناولوا هذه المرويات الموضوعة ورواتها بالنقد والتمحيص ، وألفوا في ذلك المؤلفات العديدة في الأحاديث الموضوعة والمؤلفات في أسماء الرواة الضعفاء والمتروكين ، وعمدوا إلى كشف أسماء الرواة الكذابين ، وبيان مروياتهم وأحوالهم وأسباب كذبهم .
وقد بلغت كتب الضعفاء التي ألّفها علماء الجرح والتعديل أكثر من 40 مصنفاً ، منها :
1 – ( الضعفاء) ليحيى بن سعيد القطان ( ت 198 هـ ) : وهو أول مصنف مستقل في أسماء الرواة الضعفاء .
2 – ( الضعفاء) ليحيى بن معين ( ت 233 هـ ) .
3 – ( الضعفاء الكبير ) للإمام البخاري ( ت 256 هـ ) .
4 – ( الضعفاء ) للجوزجاني ( ت 259 هـ ) .
5 – ( الضعفاء والمتروكين ) للنسائي ( ت 303 هـ ) .
6 – ( الضعفاء الكبير ) للعقيلي ( ت 322 هـ ) .
7 – ( المجروحين ) لابن حبان ( ت 354 هـ ) .
ومن أراد الاستزادة بأسماء كتب الضعفاء فعليه الرجوع إلى كتاب ( بحوث في تاريخ السنة المشرفة ) للدكتور أكرم ضياء العمري .
وبسبب كثرة كتب الضعفاء والمتروكين قام الحافظ الذهبي ( ت 748 هـ ) بتأليف كتابه ( ميزان الاعتدال ) محاولاً استيعاب كل من انتقدوه من الرواة ، وجاء بعده الحافظ ابن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ ) فألف كتابه ( لسان الميزان ) .
والمؤلفات في الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، وتصل إلى 23 مؤلفاً وهي :
1 – ( تذكرة الموضوعات ) لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي ( ت 507 هـ ) ورتبه على حروف المعجم، وفيه يذكر الحديث ومن جرح راويه من الأئمة، طبع بمصر سنة 1323ه. وقد أعيدت طباعته عدة مرات .
2 – ( الموضوعات من الأحاديث المرفوعات ) ويقال له ( الأباطيل ) لأبي عبد الله الحسين ابن إبراهيم الجورقاني ( ت 543 هـ ) وقد أكثر فيه من الحكم بالوضع بمجرد مخالفته السنة الصريحة ، وقد طبع هذا الكتاب تحت اسم ( الأباطيل والمناكير ) ، بتحقيق وتعليق الدكتور : عبد الرحمن الفريوائي سنة 1403<FONT size=2>هـ
عن طاوس : جاء هذا إلى ابن عباس رضي الله عنه – يعني : يُشَيْر بن كعب – فجعل يحدثه ، فقال له ابن عباس رضي الله عنه : (( عُد لحديث كذا وكذا )) ، فعاد له ، ثم حدّثه ، فقال له : (( عُد لحديث كذا وكذا )) ، فعاد له ، فقال له بُشَيْر : (( ما أدري أعرفتَ حديثي كله وأنكرتَ هذا ؟ أم أنكرتَ حديثي كله وعرفتَ هذا ؟ )) ، فقال له ابن عباس رضي الله عنه : (( إنا كنا نُحَدِّث عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم إذ لم يكن يُكذَبُ عليه ، فلما ركب الناس الصَّعْبَ والذَّلول تركنا الحديث عنه )) رواه مسلم في مقدمة صحيحه ص 12 – 13 .
قال الشيخ الشريف حاتم العوني : ( فكان هذا أول تطبيق عملي ظاهر لعلم الجرح والتعديل ، وأولُ السؤال عن الإسناد ورفض المراسيل ، وذلك لظهور علتين اقتضتا ذلك ، وهما : علتا رواية المجروح والإرسال وعدم الإسناد ) المنهج المقترح لفهم المصطلح ص 30 .
لذا كان أول ظهور لعلم الجرح والتعديل هو في عصر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم .
الجرح والتعديل في عصر التابعين وأتباعهم
قال الإمام ابن حبان رحمه الله وهو يبين سلوك التابعين مسلك أئمتهم من الصحابة في التيقظ من الروايات وانتقاء الرجال : ( ... ثم أخذ مسلكهم ، واستن بسنتهم ، واهتدى بهديهم فيما استنوا من التيقظ من الروايات جماعة من أهل المدينة من سادات التابعين منهم : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد بن أبى بكر ، وسالم بن عبدالله بن عمر، وعلي بن الحسين بن علي ، وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف ، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة وخارجة بن زيد بن ثابت ، وعروة بن الزبير بن العوام ، وأبو بكر بن عبدالرحمن ابن الحارث بن هشام ، وسليمان بن يسار ،فَجَدُّوا في حفظ السنن والرحلة فيها ، والتفتيش عنها والتفقه فيها ولزموا الدين ودعوة المسلمين ، ثم أخذ عنهم العلم وتتبع الطرق وانتقاء الرجال، ورحل في جمع السنن جماعة بعدهم منهم : الزهري ، ويحيى بن سعيد الانصاري ، وهشام بن عروة ، وسعد بن إبراهيم في جماعة معهم من أهل المدينة ،إلا أن أكثرهم تيقظاً ، وأوسعهم حفظاً ، وأدومهم رحلةً ، وأعلاهم همةً الزهري رحمة الله عليه ) مقدمة كتاب المجروحين ص 38 – 39 .
قال محمد بن سيرين ( ت 110 هـ ) : ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ، قالوا : سموا لنا رجالكم ، فيُنظر إلى أهل السنة فيُؤخذ بحديثهم ، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم ) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه ص 15 .
وهو يحكي هنا ما كان عليه شيوخه من الصحابة وكبار التابعين من عدم التشدد في نقد الرجال لتوافر الأمانة والصدق والعدالة بينهم ، وعدم وجود ما يدعو للكذب ووضع الأحاديث ، فلما وقعت فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه سنة 35 هـ ، وكثرت الهجمات على الإسلام ومحاولات التزوير في النصوص والكذب في الأحاديث ، أصبحوا يسألون عن الإسناد ويُدَقِّقون في المصادر فلا يقبلون من الروايات إلا ما توافرت فيه شروط القَبول من صدق ٍ وضبط .
منهج انتقاء الشيوخ والتزام التحديث عن الثقات دون غيرهم
قال عروة بن الزبير الأسدي المدني ( ت 94 هـ ) : ( إنى لأسمع الحديث استحسنه فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدى به ، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به وأسمعه من الرجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به ) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 32 .
وهنا يؤسس عروة – رضي الله عنه – قاعدة مهمة وهي ( رواية الثقة عن رجل ٍ ليست دليلاً على صحة المروي عنده ) و ( ليست دليلاً على توثيق رجال إسنادها ) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله ( ت 204 هـ ) :( وما زال أهل الحديث في القديم والحديث يَتَثَبَّتون ، فلا يقبلون الرواية التي يحتجون بها ويحلون بها ويحرمون بها ، إلا عمن أمنوا ـ وإن يحدثوا بها هكذا ذكروا أنهم لم يسمعوها من ثَبْتٍ ، كان عطاء بن أبي رباح يسأل عن الشيء فيرويه عمن قبله ويقول : سمعته وما سمعته من ثَبْتٍ ) الأم للشافعي ( 6 / 104 ) .
وعطاء بن أبي رباح ( ت 114 ) .
وكذلك نجد سيد التابعين : سعيد بن المسيب ( ت 94 هـ ) يتكلم في بعض الرواة ، فيُروى عنه أنه كَذَّبَ عطاء الخراساني في بعض رواياته ، انظر : الضعفاء للعقيلي ( 3 / 405 ) والكامل في ضعفاء الرجال ( 5 / 358 ) .
وهذا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ( ت 126 هـ ) وهو ( من جِلَّةُ أهل المدينة وقدماء شيوخهم ) يُعلن منهج انتقاء الشيوخ والتزام التحديث عن الثقات دون غيرهم من الضعفاء والمجاهيل :
عن سعد بن إبراهيم ، قال : (لا يُحَدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات ) ، انظر : مقدمة صحيح مسلم ص 15 ، المعرفة والتاريخ ( 1 / 681 ) ، العلل ومعرفة الرجال ( 2 / 447 ) ، الكفاية في علم الرواية ص 32 ، أدب الإملاء ص 55 .
وهاهو مفتي المدينة وعالمها ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ ( ربيعة الرأي ) يحذر من أخذ الحديث عن غير الثقات ويعتبره مسبباً لضياع الدين ، فيقول : ( ثلاثٌ من توديع الإسلام : العصبية ، والقدرية ، والرواية عن غير ثقة ) الكفاية في علم الرواية ص 33 ، وأدب الإملاء ص 56 .
وأيضاً نجد التابعي البصري المعروف محمد بن سيرين ( ت 110 هـ ) يقول : ( إنهذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ) مقدمة صحيح مسلم ص 14 .
بل إن الإمام مالك ( ت 179 ) من أشد الناس انتقاءً للرجال إلى درجة أنه أدرك أكثر من 100 من رواة الحديث ولم يأخذ منهم شيئاً من الحديث لعدم استيفاء أحد منهم شروط القبول عنده .
فقد روى عنه ابن وهب أنه قال : ( أدركت بهذا البلد رجالاً بني المائة ونحواً منها يحدثون الأحاديث لا يؤخذ منهم ليسوا بأئمة ، فقلتُ لمالك : وغيرهم دونهم في السن يؤخذ ذلك منهم ؟ قال: نعم ) المعرفة والتاريخ ( 3 / 31 ) .
أي أنه لا يلزم بسنٍّ معين للراوي ، بل يأخذ من الراوي الثقة ويرد الراوي غير الثقة سواءً كان كبيراً أو صغيراً .
ومن علماء التابعين الذين كانوا ينتهجون منهج انتقاء الشيوخ واقتصار الرواية على الثقات عنده :
1 – شيخ الحرم عمرو بن دينار المكي ( ت 126 هـ ) :
قال سفيان : قلتُ لمسعر : ( من رأيتَ أشد تثبتاً في الحديث ؟ ) قال : ( القاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن دينار ) .
2 – الإمام بكير بن عبد الله الأشج المدني ( ت 126 هـ ) .
قال أحمد بن صالح المصري : ( إذا رأيتَ بكير بن عبد الله روى عن رجل ٍ فلا تسأل عنه ، فهو الثقة الذي لا شكَّ فيه ) تهذيب التهذيب ( 1 / 431 ) .
3 – الإمام محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب القرشي المدني ( ت 159 ) ، كان أحد المحتاطين المتثبتين في الرواية .
قال يحيى بن معين : ( ابن أبي ذئب ثقة ، وكل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة ، إلا أبا جابر البياضي ) الكامل في ضعفاء الرجال ( 6 / 182 ) .
4 – الإمام مالك بن أنس رحمه الله ( ت 179 ) ، وقد وردت عنه نصوصٌ كثيرة تدل على اهتمامه بانتقاء الرجال واختيار الشيوخ ، من ذلك :
أ – قال بشر بن عمر الزهراني : سألت مالكاً عن رجل ، فقال : ( هل رأيته في كتبي ؟ ) قلت : ( لا ) ، قال : ( لو كان ثقة لرأيته في كتبي ) .
قال الحافظ الذهبي معلقاً : ( فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عمن هو عنده ثقة ، ولا يلزم من ذلك أنه يروي عن كل الثقات ، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه ، وهو عنده ثقة ، أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ ، فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره ، إلا أنه بكل حال كثير التحري في نقد الرجال ، رحمه الله ) سير أعلام النبلاء ( 8 / 71 ، 72 ) .
ب – قال سفيان بن عيينة : ( ما كان أشد انتقاد مالك ٍ للرجال وأعلَمَه بشأنهم ) الجرح والتعديل للرازي ( 8 / 204 ) .
ج – قال علي بن المديني : ( كان مالك ينتقي الرجال ولا يُحَدِّثُ عن كل أحد ) تاريخ ابن أبي خيثمة ( 1 / 272 ) برقم 958 .
وروى أبو نعيم أنه قال أيضاً : ( كل مدني لم يحدث عنه مالك ففي حديثه شيء ، ولا أعلم مالكاً ترك إنساناً إلا إنساناً في حديثه شيء ) ، وقال أيضاً : ( ومالك أمانٌ فيمن حدث عنه من الرجال ) مقدمة الكامل في ضعفاء الرجال ص 91 .
د – قال يحيى بن معين : ( كل من روى عنه مالك بن أنس فهو ثقة إلا عبد الكريم البصري أبو أمية ) حلية الأولياء ( 6 / 322 ) .
وقال أيضاً : ( كل من حَدَّثَ عنه– أي الإمام مالك –فهو ثقة إلا رجلاً أو رجليْن ) تقدمة الجرح والتعديل ص 17 .
هـ - قال الإمام أحمد بن حنبل – في رواية ابن هانئ – : ( ما روى مالكٌ عن أحد ٍ إلا هو ثقة ، كل من روى عنه مالك فهو ثقة ) شرح علل الترمذي ( 1 / 80 ) .
ز – قال أبو حاتم الرازي : ( ... ومالكٌ نقيُّ الرجال ، نقيُّ الحديث ... ) الجرح والتعديل للرازي ( 8 / 206 ) .
ح – قال صالح بن محمد جزرة : ( سفيان أحفظ وأكثر حديثاً من مالك ، لكن مالكاً ينتقي الرجال ... ) تذكرة الحفاظ ( 1 / 206 ) ، سير أعلام النبلاء ( 7 / 271 ) .
ط – قال النسائي رحمه الله : ( ما عندي أحد من التابعين أنبل من مالك بن أنس ، ولا أجلُّ منه ، ولا أوثق ولا آمن على الحديث منه ... وليس أحدٌ بعد التابعين أقل رواية ً عن الضعفاء من مالك بن أنس ، ما علمناه حدَّث عن متروك ٍ إلا عن عبد الكريم بن أمية ) التعديل والتجريح للباجي ( 2 / 699 – 700 ) .
ي – قال يعقوب بن سفيان الفسوي : ( وقد تحققت من الاستقصاء وذكر الأسامي اسماً فاسماً ، لأن جملة الأمر : أن مالك بن انس لم يضع في الموطأ اسناداً وأظهر اسماً يحدث عنه إلا وهو ثقة ، خلا عبد الكريم بن أمية فإنه ضعيف وكان له رأي سوء ) المعرفة والتاريخ ( 1 / 425 ) .
وقال في موضع آخر : ( ومن كان من أهل العلم ونصح نفسه ، علم أن كل ما وضعه مالكٌ في [ موطئه ] وأظهر اسمه ثقةٌ تقوم به الحجة ) المصدر السابق ( 1 / 349 – 350 ) .
ك – قال الحافظ الذهبي رحمه الله : ( وقد كان مالك إماماً في نقد الرجال ، حافظاً ، مجوداً ، متقناً ) سير أعلام النبلاء ( 8 / 71 ) .
تنبيه : من عبارات الإمام مالك الدالة على الجرح الشديد :
قال الشيخ الإمام عبد الرحمن المعلمي رحمه الله : ( إذا قيل : [ ليس بثقة ولا مأمون ] تَعَيَّنَ الجرح الشديد ، فإن اقتُصر على [ ليس بثقة ] فالمتبادر جرحٌ شديد ، ولكن إذا كان هناك ما يشعر بأنها استُعمِلت في المعنى الآخر حُمِلَتْ عليه ) التنكيل ( 1 / 70 ) .
=====================
حث علماء الجرح والتعديل المتقدمون تلاميذهم على بيان أحوال الرواة
بيان أحوال رواة الحديث هو سنة ماضية سار عليها علماء الجرح والتعديل المتقدمون ، بل إنها كانت الوصية المتوارثة منهم لتلاميذهم ، لما في ذلك من حفظ السنة النبوية من عبث العابثين وتحريف المحرفين .
فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه ص 17 ، عن يحيى بن سعيد قال : ( سألتُ سفيان الثوري وشعبة ومالكاً وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث ، فيأتيني الرجل فيسألني عنه ، قالوا : أخبر عنه أنه ليس بثبت ) وانظر كتاب المجروحين لابن حبان ص 20 .
وفي لفظ ( علل الإمام أحمد ) – رواية صالح وعبد الله - : ( ... عن الرجل لا يحفظ أو يُتهم في الحديث ، فقالوا لي جميعاً : بَيِّنْ أمره ) ، المصدر : علل الإمام أحمد برواية ابنه صالح ص 141 برقم 1 .
قال الإمام أحمد رحمه الله ( ت 241 هـ ) مبيناً الدور العظيم لأهل العلم في حفظ الدين : ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين ) .
أهمية علم الجرح والتعديل وخطورته
علم الجرح والتعديل والكلام على الرواة ليس بالأمر البسيط السهل ، بل لا بد فيه من شروط ذكرها العلماء في كتبهم :
1 – المعرفة التامة بأحوال الرواة من حيث : أسمائه وكناهم وألقابهم ومواليدهم ووفياتهم وبلادهم وشيوخهم وتلاميذهم ... الخ .
فإن الجهل بمثل هذه المعلومات المتعلقة بالراوي من شأنها أن توقع الناقد للرواة في أخطاء كثيرة لا حصر لها ، مثل أن يخطئ في اسم راوٍ فيضعفه وهو ثقة ، أو يُسأل عن راوٍ ثقة في بلد معين ، فيضعفه بناءً على معرفة ذلك الناقد لراوٍ آخر في بلد آخر .
2 – الخبرة التامة بعلم الحديث وعلله .
علوم الحديث تنقسم إلى 65 نوعاً ، ولكن علم علل الحديث هو من أصعب علم الحديث وأدقها ، ولا يمكن معرفتها إلا من الناقد البصير الخبير من علماء الحديث .
3 – الورع التام والبراءة من الميل والهوى : فلا يضعف الراوي لمجرد الاختلاف في المذهب العقدي أو الفقهي ، ولا يوثقه لمجرد الموافقة في المذهب العقدي أو الفقهي .
قال الحافظ الذهبي رحمه الله ( 748 هـ ) : ( والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى والمَيْل وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله ) ، المصدر : الموقظة في مصطلح الحديث ص 82 ) .
قال المحدث الإمام عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ( ت 1386 هـ ) : ( ليس نقد الرواة بالأمر الهين ، فإن الناقد لا بد أن يكون واسع الإطلاع على الأخبار المروية ، عارفاً بأحوال السابقين وطرق الرواية ، خبيراً بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب ، والموقعة في الخطأ ، ثم يحتاج إلى أن يعرف أحوال الرواي متى ولد ؟ وبأي وبلد ؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة ؟ ومع من سمع ؟ وكيف كتابه ؟ ثم يعرف أحوال الشيوخ الذين يحدث عنهم وبلدانهم ووفياتهم وأوقات تحديثهم وعاداتهم في الحديث ، ثم يعرف مرويات الناس عنهم ويعرض عليها مرويات هذا الراوي ويعتبر بها ، إلى غير ذلك مما يطول شرحه ، ويكون مع ذلك متيقظاً مرهف الفهم ، دقيق الفطنة ، مالكاً لنفسه لا يستميله الهوى ولا يستفزه الغضب ، ولا يستخفه بادر ظن ، حتى يستوفي النظر ويبلغ المقر ثم يحسن التطبيق في حكمه فلا يجاوز ولا يقصر ، وهذه مرتبة بعيدة المرام عزيزة المنال لم يبلغها إلا الأفذاذ ) ، المصدر : مقدمة تحقيقه لكتاب الجرح والتعديل .
علم الجرح والتعديل علم غزير يستحيل الإحاطة به
مما لا شك فيه أن علم الرجال علم غزير وهو يحتل مساحة كبيرة جداً من مكتبتنا الإسلامية ، ولو أراد شخصٌ أن يستوعب كتب الرجال في غرفة واحدة متوسطة المساحة لما استطاع ، ومع ذلك فـ ( العالم محتاجٌ إلى جميع كتب الرجال ) كما قال الإمام المعلمي رحمه الله علم الرجال وأهميته ص 80 .
قال الإمام علي بن المديني – شيخ البخاري – ( ت 233 هـ ) : ( التفقه في معاني الأحاديث نصف العلم ، وعلم الرجال نصف العلم ) ، المصدر : الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ( 2 / 211 ) .
الظهور المبكر لعلم الإسناد
وعلم الإسناد والجرح والتعديل بدأ مبكراً منذ عصر الصحابة رضي الله عنه واستمر في عصري الخلافة الأموية والخلافة العباسية[font=arial (arabic)] .[/font]
قال الأستاذ خميس عاشور[font=arial (arabic)] : ( [/font]واستقرت الخلافة بأيدي الأمويين بدأت الحركة العلمية في الازدهاروعكف كل فريق من العلماء على استنباط الأحكام وتأصيل القواعد وتأليف الكتب في مختلفالفنون ، ومما استرعى انتباه علماء الحديث موجة الأخبار التي وضعت لتأييد هذاالاتجاه أو ذاك ، وقد لعبت هذه الأكاذيب دورها الدموي في حوادث الفتنة الكبرى مماحدا بعلماء الحديث النبوي الشريف إلى الاهتمام بهذه الظاهرة ، فوضعوا أسساً لتمييزالحديث الثابت من غيره ، وبدأت بواكير علم جديد تنقدح في أذهان العلماء ، فظهر علمالإسناد الذي يعد مفخرة الحضارة الإسلامية ومن فوائدها الرائعة ، وهو العلم الذيقهر الشائعات الخبيثة ورد كيد مختلقيها في نحورهم ، فقد اشترطوا في راوي الخبرشروطاً حالت دون ورود الكذب إلى الحديث النبوي أو غيره من كلام الصحابة الكرام لقدكان علم الإسناد الحصن الحصين الذي حمى نصوص الشريعة السمحة وبالتالي المجتمعالإسلامي من كل ما يمس مقدساته أو يخل بأمنه واستقراره العقائدي[font=arial (arabic)])[/font] المصدر : مجلة البيان : ( العدد 33 ، ص 75[font=arial (arabic)] ) .[/font]
وقد كان الإسناد – كما قال سفيان الثوري –[font=arial (arabic)] ( [/font]سلاح المؤمن ) ، فلا تُقبل رواية الرواة من غير إسناد [font=arial (arabic)]. [/font]
وقد مر معنا بداية ظهور علم الجرح والتعديل منذ عصر الصحابة رضي الله عنه ، فلا داعي للإعادة .
أول من تكلم في الرجال
أول من تكلم في الرجال هو القرآن الكريم ثم السنة النبوية ثم الصحابة رضي الله عنهم ثم تتابع بعدهم التابعون ومن بعدهم في الكلام على الرجال ورواة الحديث .
فظهر عامر الشعبي ( ت 103 هـ ) في العراق ، وكان أول المتكلمين في الرجال ، فقد قال يحيى بن سعد القطان [font=arial (arabic)]: ( [/font]فكان أول من فتش عن الإسناد[font=arial (arabic)] ) [/font]، المصدر : المحدث الفاصل للرامهرمزي ص 208 .
وكان ابن سيرين ( ت 110 هـ [font=arial (arabic)]) [/font]من أوائل المتكلمين في علم الرجال ، فقد قال عنه الحافظ ابن رجب الحنبلي [font=arial (arabic)]: ( [/font]هو أول من انتقد الرجال ، وميَّز الثقات عن غيرهم ) ، المصدر : شرح علل الترمذي ( 1 / 52[font=arial (arabic)] ) .[/font]
وأول مصنف في علم الرجال – فيما أعلم – هو كتاب ( التأريخ ) للإمام الليث بن سعد رحمه الله ( ت 175 هـ ) ، ثم تتابعت بعده كتب الرجال والجرح والجرح والتعديل [font=arial (arabic)].[/font]
================
علم الإسناد من خصائص الأمة المحمدية
علم الإسناد هو أحد ما تتميز به أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الدينية والحضارية ، بل إنه العلم الذي حفظ لها دينها في الوقت الذي ضاعت وتحرفت فيه الأديان الأخرى ، بسبب انقطاع أسانيدها وكثرة التحريف في مصادرها المقدسة .
قال الحافظ اللغوي أبو علي الغساني ( ت 498 هـ ) : ( خصَّ الله هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها : الإسناد والأنساب والإعراب ) ، المصدر : تدريب الراوي للسيوطي ( ص 159 ، 160 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ت 728 هـ ) : (وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمدصلى الله عليه وسلم وجعله سُلّماً إلى الدراية . فأهلالكتاب لا إسناد لهم يؤثرون به المنقولات ، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهلالضلالات ،وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة : أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والقويم وغيرهم من أهل البدع والكفار إنما عندهم منقولات يؤثرونها بغيرإسناد ، وعليها من دينهم الاعتماد ، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل ) ، المصدر : مجموع الفتاوى ( 1 / 9 ) .
ومن العجب أن نجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يبتكر أسلوباً جديداً في الرد على اليهود والنصارى يبين فيه مدى الضعف الذي تتميز به كتبهم المقدسة عن كتب الإسناد ، بأنها غير متواترة الأسانيد كما هو الحال مع تواتر القرآن الكريم عند المسلمين .
فيقول أجزل الله له المثوبة : ( والمقصود هنا : أنه ليس مع النصارى نقلٌ متواتر عن المسيح بألفاظ الإنجيل ، ولا نقل لا متواتر ، ولا آحاد ، بأكثر ما هم عليه من الشرائع ، ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات الأنبياء ، كما هو عند المسلمين نقلٌ متواترٌ بالقرآن ، وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة ) ، المصدر : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ( 2 / 405 – 406 ) .
علم التاريخ وعلم الإسناد
علم التاريخ وعلم الإسناد علمان متداخلان ، فكما أن الأحاديث النبوية والآثار السلفية كانت تُروى بالأسانيد ، فإن الرواية بالأسانيد كانت جزءً من رواية التاريخ الإسلامي ، لذا يجد القارئ لكتب التاريخ الإسلامي القديمة – أمثال ( تاريخ الأمم والملوك للطبري ) وغيره – الروايات مقرونة بالأسانيد ، عملاً بالقاعدة المعروفة ( من أسند فقد أبرأ الذمة ) .
وعلم التاريخ غزير بغزارة علم الرجال .
فقد قال الشيخ المحقق الدكتور محمود الطناحي رحمه الله تحت عنوان ( نصف الكتب العربية ) : ( ومهما يكن من أمر فإن علم التاريخ عند المسلمين من العلوم الضخمة ، ويوشك هذا العلم أن يكون نصف المكتبة العربية ، وانظر تصديق ذلك في : علم قوائم الكتب [ الببلوجرافيا العربية ] مثل : ... ) ثم ذكر طائفة من الكتب التي اعتنت بذكر أسماء الكتب ومؤلفيها ، انظر : مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي ( 1 / 295 ) .
ثم ذكر الدكتور الطناحي سبب غزارة الكتب التاريخية بقوله : ( ... وتفسير هذا أن علم التاريخ عند المسلمين ليس هو فقط الكتب الحولية ، مثل : تواريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير ، أو كتب الأحداث العامة ، مثل : مروج الذهب والتنبيه والإشراف للمسعودي ، وإنما يدخل فيه –بل يمثل الجانب الأكبر منه– [ فن التراجم والطبقات ) وهو بحر ضخم ) ، المصدر السابق ( 1 / 296 ) .
وطالما حاول المخالفون – لدين الإسلام الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم – عبر التاريخ استغلال التاريخ لضرب عقائد الإسلام ورموزه ، قكثر الكذب في الروايات التاريخية التي تطعن في الإسلام ورموزه ومصادره .
بل إن المؤرخون القدامى قد جمعوا في كتبهم كل ما هب ودب من الروايات التاريخية من غير تمييز ولا انتقاء بقصد الجمع ، ولكن وقف لهم الجهابذة من علماء الإسلام وقفة ً صلبة ، فميزوا بين الصحيح والضعيف والمكذوب من الروايات التاريخية .
قال الألوسي رحمه الله : (... المؤرخين ينقلون ما خبُثَ ، ولا يميزون بين الصحيح والموضوعوالضعيف ، وأكثرهم حاطب ليل ، لا يدري ما يجمع) ، المصدر : صب العذاب على من سب الأصحاب ص 421 .
وقال الإمام المحدث المعلمي رحمه الله : (وهكذا الوقائع التاريخية ، بل حاجتها إلى معرفة أحوال رواتها أشد، لغلبة التساهل في نقلها ، على أن معرفة الرجال هي نفسها من أهم فروعالتاريخ ) ، المصدر : علم الرجال وأهميته ص 17 .
بل إن هذا المنهج العلمي الدقيق القوي في نقد المرويات التاريخية لاقى إعجاب الكثيرين من الباحثين الشرقين والغربيين .
فقد قال الدكتور النصراني أسد رستم – أستاذ قسم التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت سابقاً –: ( ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديثمنذ مئات السنين في هذا الباب ، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحرفه وحذافيرهتنويهاً بتدقيقهم العلمي ، اعترافاً بفضلهم على التاريخ) ، المصدر : مصطلح التاريخ لأسد رستم .
وقال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله عن أسد رستم : ( وقد ألف أحد علماء التاريخ في العصر الحاضر كتاباً في أصولالرواية التاريخية، اعتمد فيها على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقةعلمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات) ، المصدر : السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 126 .
بل إن الكذبة من رواة الحديث قد تصدى لهم علماء الجرح والتعديل بالتاريخ ، قال علي بن المديني رحمه الله : ( لما استعمل الرواة الكذب ، استعملنا لهم التاريخ ) ، المصدر : الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 147 .
والمؤلفات في كتب وفيات الرواة كثيرة شهيرة ، منها :
1 – ( الوفيات ) لابن قانع ( ت 351 هـ ) : وقد نقل عنه الحافظ الذهبي كثيراً في كتابه ( تاريخ الإسلام ) .
2 – ( تاريخ مولد العلماء ووفياتهم ) لابن زبر الربعي ( ت 379 هـ ) .
3 – ( السابق واللاحق في تباعد ما بين وفاة راويين عن شيخ واحد ) للخطيب البغدادي ( ت 463 هـ ) .
4 – ( الوفيات ) لابن منده ( ت 470 هـ ) : قال الذهبي في تاريخ الإسلام : ( لم أر أكثر استيعاباً منه ) ، المصدر : تاريخ الإسلام .
5 – ( الوفيات ) لأبي الفضل الباقلاني ( ت 488 هـ ) .
6 – ( وفيات الأعيان ) لابن خلكان ( ت 681 هـ ) .
7 – ( فوات الوفيات ) لابن شاكر الكتبي ( ت 764 هـ ) .
8 – ( الوافي بالوفيات ) للصفدي ( ت 764 هـ ) .
وكل هذه الكتب مرتبة على حروف المعجم لا السنوات .
===============
جهود الجهابذة في محاربة الأحاديث الموضوعة
من المعلوم أن أهل الكفر والضلال عمدوا دائماً إلى تشويه السنة النبوية وتحريفها عبر اختلاق الأحاديث الموضوعة ونسبتها إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن وقف الفحول من علماء الإسلام في محاربة الأحاديث الموضوعة المكذوبة وكشفها وفضح رواتهاوتنبيه الخاصة والعامة عليها وعلى خطرها .
جاء بها رجل إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله ، فقال له : هذه الأحاديث الموضوعة ، ما نصنع بها ، فقال : ( تعيش لهاالجهابذة ، وتلا قوله تعالى : { إنانحن نزّلنا له الذكر وإنا لحافظون } ) .
وقد عاش لها الجهابذة ، وتناولوا هذه المرويات الموضوعة ورواتها بالنقد والتمحيص ، وألفوا في ذلك المؤلفات العديدة في الأحاديث الموضوعة والمؤلفات في أسماء الرواة الضعفاء والمتروكين ، وعمدوا إلى كشف أسماء الرواة الكذابين ، وبيان مروياتهم وأحوالهم وأسباب كذبهم .
وقد بلغت كتب الضعفاء التي ألّفها علماء الجرح والتعديل أكثر من 40 مصنفاً ، منها :
1 – ( الضعفاء) ليحيى بن سعيد القطان ( ت 198 هـ ) : وهو أول مصنف مستقل في أسماء الرواة الضعفاء .
2 – ( الضعفاء) ليحيى بن معين ( ت 233 هـ ) .
3 – ( الضعفاء الكبير ) للإمام البخاري ( ت 256 هـ ) .
4 – ( الضعفاء ) للجوزجاني ( ت 259 هـ ) .
5 – ( الضعفاء والمتروكين ) للنسائي ( ت 303 هـ ) .
6 – ( الضعفاء الكبير ) للعقيلي ( ت 322 هـ ) .
7 – ( المجروحين ) لابن حبان ( ت 354 هـ ) .
ومن أراد الاستزادة بأسماء كتب الضعفاء فعليه الرجوع إلى كتاب ( بحوث في تاريخ السنة المشرفة ) للدكتور أكرم ضياء العمري .
وبسبب كثرة كتب الضعفاء والمتروكين قام الحافظ الذهبي ( ت 748 هـ ) بتأليف كتابه ( ميزان الاعتدال ) محاولاً استيعاب كل من انتقدوه من الرواة ، وجاء بعده الحافظ ابن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ ) فألف كتابه ( لسان الميزان ) .
والمؤلفات في الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، وتصل إلى 23 مؤلفاً وهي :
1 – ( تذكرة الموضوعات ) لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي ( ت 507 هـ ) ورتبه على حروف المعجم، وفيه يذكر الحديث ومن جرح راويه من الأئمة، طبع بمصر سنة 1323ه. وقد أعيدت طباعته عدة مرات .
2 – ( الموضوعات من الأحاديث المرفوعات ) ويقال له ( الأباطيل ) لأبي عبد الله الحسين ابن إبراهيم الجورقاني ( ت 543 هـ ) وقد أكثر فيه من الحكم بالوضع بمجرد مخالفته السنة الصريحة ، وقد طبع هذا الكتاب تحت اسم ( الأباطيل والمناكير ) ، بتحقيق وتعليق الدكتور : عبد الرحمن الفريوائي سنة 1403<FONT size=2>هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق