من أبرز الإنجازات في المعارف الإنسانية !!
لن أكون مجازفاً بالقول لو قلتُ :
( إن علم الإسناد من أبرز الإنجازات في المعارف الإنسانية ) !!
ولا شك أن حصول علم الإسناد على هذه الخاصية لم يأتي نتيجة جهد بشري بحت !!
بل هو نتيجة عناية إلهية بهذه الجهود البشرية العظيمة !!
وعلم الإسناد كان كفيلاً بالوصول إلى أعلى درجات الثقة بما وصل إلينا من الآيات ( القرآنية ) والأحاديث ( النبوية ) والآثار ( السلفية ) !!
الإسناد من خصائص الأمة المحمدية
ولا يخفى على أحد أن علم الإسناد هو من خصائص الأمة المحمدية !!
قال الحافظ اللغوي أبو علي الغساني ( ت 498 هـ ) :
( خصَّ الله هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها : الإسناد والأنساب والإعراب ) ، المصدر : تدريب الراوي للسيوطي ( ص 159 ، 160 ) !!
وقال العالم الكبير ابن تيمية ( ت 728 هـ ) :
( وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعله سُلّماً إلى الدراية . فأهل الكتاب لا إسناد لهم يؤثرون به المنقولات ، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات ، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة : أهل الإسلام والسنة ، يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والقويم وغيرهم من أهل البدع والكفار إنما عندهم منقولات يؤثرونها بغير إسناد ، وعليها من دينهم الاعتماد ، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل ) ، المصدر : مجموع الفتاوى ( 1 / 9 ) !!
فلا تُعرف أمة قبل الأمة المحمدية ولا بعدها أنشأت هذا العلم الفريد من نوعه !!
فالأمم ( الدينية ) لا تعرف علم الإسناد ولم تتعامل به :
فاليهود لم يعرفوا علم الإسناد بل لم يستعملوا النقل ( الشفوي ) المتوارث لما يرونه أو يسمعونه من أنبيائهم !!
وكذلك النصارى والهندوس والبوذيين وغيرهم ، لم يكن من طرائقهم في نقل علومهم وأديانهم وكتبهم المقدسة – عندهم - !!
بل إن الأمم ( الحضارية ) كالفراعنة والإغريق وغيرهم ممن بلغوا العلم الواسع من ظاهر الحياة الدنيا لا يعرفون هذا العلم ولم تتوصل عقولهم إليه رغم براعتهم في العلوم الدنيوية وتميزهم على غيرهم من الأمم الأخرى في المعارف الإنسانية !!
فالأمة المحمدية هي التي تفردت بوضع هذا العلم وتأسيس شروطه وضوابطه العلمية على بأسلوب دقيق ساهم في تحقق المعجزة الإلهية بحفظ الوحي الإلهي المكوّن من القرآن الكريم والسنة النبوية !!
وهذا إنْ دلَّ فإنما يدل على أن هذه الأمة أبدعت في المعرفة الإنسانية وتميزت عن غيرها من الأمم !!
قال الأستاذ خميس عاشور :
( واستقرت الخلافة بأيدي الأمويين بدأت الحركة العلمية في الازدهار وعكف كل فريق من العلماء على استنباط الأحكام وتأصيل القواعد وتأليف الكتب في مختلف الفنون ، ومما استرعى انتباه علماء الحديث موجة الأخبار التي وضعت لتأييد هذا الاتجاه أو ذاك ، وقد لعبت هذه الأكاذيب دورها الدموي في حوادث الفتنة الكبرى مما حدا بعلماء الحديث النبوي الشريف إلى الاهتمام بهذه الظاهرة ، فوضعوا أسساً لتمييز الحديث الثابت من غيره ، وبدأت بواكير علم جديد تنقدح في أذهان العلماء ، فظهر علم الإسناد الذي يعد مفخرة الحضارة الإسلامية ومن فوائدها الرائعة ، وهو العلم الذي قهر الشائعات الخبيثة ورد كيد مختلقيها في نحورهم ، فقد اشترطوا في راوي الخبر شروطاً حالت دون ورود الكذب إلى الحديث النبوي أو غيره من كلام الصحابة الكرام لقد كان علم الإسناد الحصن الحصين الذي حمى نصوص الشريعة السمحة وبالتالي المجتمع الإسلامي من كل ما يمس مقدساته أو يخل بأمنه واستقراره العقائدي ) ، المصدر : مجلة البيان : ( العدد 33 ، ص 75 ) !!
نعمة ( علم الإسناد ) !!
وهذه من نعم الله لمن تأملها ، { وإنْ تعدوا نعمة الله لا تحصوها } !!
والملفت للنظر أن يوجد من أبناء جلدتنا من ينفر من هذه النعمة ويريد طمسها تبعاً وتقليداً لأعداء أمتنا من الأمم التي فضّلنا الله عليها !!
تقليد أعمى للمستشرقين من يهود ونصارى وأذنابهم !!
العرب والإسناد !!
ولعله من المهم أن نبين سبب ظهور هذا العلم في هذه الأمة دون غيرها !!
وسبب ذلك يعود – من وجهة نظري – إلى إتباع طريقة متميزة في النقل دون سائر الأمم !!
فمن المعروف أن العرب عبر التاريخ لم يقيموا حضارة متميزة ، اللهم إلا ملامح بسيطة لا ترقى لمستوى الجيران !!
فالعربي ومنه الأعرابي تميز بالجهل في الوقت الذي تميز فيه غيره بالعلم !!
والعربي تميز بالأمية في الوقت الذي تميز فيه غيره بإتقان الكتابة بمختلف أدواتها !!
فالأمم الأخرى تنقل علومها وأديانها بالكتب ، والعربي لا يعرف إلا القتال مع الكتائب !!
وقلما تجد عربياً جاهلياً يتصف بالفروسية والشعر والقراءة والكتابة في وقت واحد !!:)
بل إن من اتصف بهذه الصفات يُلقّب بـ ( الكامل ) – أي كامل المواصفات = (Full specifications ) – !!:)
فقط لأنه أتقن القراءة والكتابة إلى جانب الفروسية والشعر اللذيْن يتقنهما الكثير من العرب !!
ولقلة أدوات الكتابة وعدم انتشارها بين العرب ، كان العرب يحفظون أخبارهم وأشعارهم وينقلونها عن طريق المشافهة !!
فكانوا يأخذون الشعر والأدب والحكم والأمثال من ألسنة الرواة رجالاً ونساء !!
وهذه الصفة الموجودة في العرب في الجاهلية ألقت بظلالها عليهم في الإسلام !!
فنبي الإسلام – عليه الصلاة والسلام – نفسه لا يقرأ ولا يكتب ، والصحابة – رضي الله عنهم – من حوله أغلبهم لا يقرأ ولا يكتب !!
فالصحابة يربو عددهم على مائة ألف صحابي ، ومع ذلك كان عدد الصحابة الذين يتقنون القراءة والكتابة 40 صحابياً فقط !!
=================
السلاسل الذهبية !!
وحتى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لم يُكتب القرآن كله ولا السنة كلها !!
بل كان نقل الوحي يأتي عبر سلسلة ذهبية من رب العالمين إلى أعظم ملك إلى أعظم نبي إلى أعظم بشر بعد الأنبياء عليهم السلام !!
سلسلة ذهبية لم يرَ العالَم لها مثيلاً ولن يرى لها مثيلاً !!
وعلى هذا الأمر سارت الأمور !!
قرآنٌ ينزل ونبي يقرأ وصحابة يسمعون وينقلون ، كابراً عن كابر !!
سنةٌ تُقال وتُرى وصحابة ينقلون ما يرون ويسمعون !!
كان أغلب نقل القرآن الكريم والسنة النبوية يتم عن طريق المشافهة !!
وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يحتاجون إلى نقل الإسناد ، لأن المسنَد عنه – عليه الصلاة والسلام – أمامهم ينقلون منه مباشرة !!
ونقلها الصحابة لمن بعدهم من التابعين ، ونقلها التابعون لمن بعدهم ، ومن بعدهم نقلها لمن بعدهم !!
سلاسل ذهبية من أئمة العلم والدين !!
سمُّوا لنا رجالكم !!
وما ظهر علم الإسناد إلا عندما ظهرت الفتنة وأطلّت بقرنها !!
قال محمد بن سيرين : ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة – أي فتن الصحابة – قالوا : سَمُّوا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ) ، أثر ثابتٌ صحيح ، أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه !!
وابن سيرين ولد في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة 33 هـ وتوفي سنة 110 هـ !!
من هنا بدأ ظهور علم الإسناد !!
عندما ظهرت الفتنة ظهر التمييز بين الرجال !!
ومن هذه اللحظة بدأت أحكام العلماء على رواة الأحاديث والآثار !!
فحتى القرآن الكريم الذي تواتر عن المسلمين أصبح لا يُقبل إلا بالأسانيد الصحيحة المتواترة !!
بخلاف الكتب المقدسة التي ظهرت قبل الإسلام من التوراة والإنجيل ، فقد كانت تتناقلها الأيدي بلا حفظ لها ، مما عرضها لكثير من التحريف والتغيير والتبديل !!
أما القرآن والسنة فقد حفظتهما الصدور قبل السطور !!
الإسناد سلاح المؤمن !!
وأصبحت الرواية بالأسانيد عُرفاً عند المحدثين ومن خصائص المسلمين فيما يتناقلونه من العلم والدين !!
قال سفيان الثوري : ( الإسناد سلاح المؤمن ) ، المصدر : مقدمة صحيح مسلم !!
نعم !!
( لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ) !!
كلمة عظيمة لمحمد بن سيرين تُكتب بماء الذهب !!
وهل نثبت أقوال الرجال إلا بالأسانيد ؟؟؟
ولم يمنع ذلك من الكتابة للكتاب والسنة ، وإنْ ظهرت في عهد النبوة وما بعدها بعض الصحائف القرآنية والسنية !!
ومع حدوث الفتن حدثت المحدثات ، وظهرت أسباب التحريف والوضع في الأحاديث النبوية !!
قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) حديث صحيح متواتر نقله أكثر من ستين صحابياً !!
قال العلماء : إن تواتر هذا الحديث ليدل دلالة قاطعة على أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن أحاديثه ستُروى وسيدخل فيها الغث والسمين من الكذبة والوضاعين ، فجاء التنبيه من خاتم النبيين على ضرورة التحري والتثبت واليقين !!
تعيش لها الجهابذة !!
وقد ظهر الكذب في السنة النبوية ، ولكن انبرى لها عباقرة علماء المسلمين !!
وعندما ظهرت الأحاديث الموضوعة :
جاء بها رجل إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله ، فقال له : هذه الأحاديث الموضوعة ، ما نصنع بها ، فقال : تعيش لها الجهابذة ، وتلا قوله تعالى : { إنا نحن نزّلنا له الذكر وإنا لحافظون } !!
وقد عاشت لها الجهابذة !!
هذه الكلمة التاريخية من عبد الله بن المبارك لم تأتي عبثاً ، بل جاءت بفراسة هذا الإمام المجاهد !!
نعم ، عاشت لها الجهابذة !!
وتظافرت جهود هؤلاء الجهابذة في تتبع الأحاديث النبوية ورواتها !!
عملاً بالمبدأ القرآني والهدي النبوي !!
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق :
( ولا شك أن الناظر في علم الإسناد، وكيف وضع علماء السنة ضوابط النقد للرجال، وكيف تتبعوهم وأحصوهم، وكيف ضبطوا هذا العلم ضبطاً فائقاً وكيف أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ له جهابذة من الرجال كانت لهم ملكات عظمية في الحفظ والملاحظة والدقة مع الدين والتقى مما مكنهم من تمييز ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حاول الزنادقة والملحدون، وأهل الأهواء أن يدخلوه على الإسلام مما هو ليس منه في شيء.. وهذه معجزة من معجزات هذا الدين... فكما حفظ الله القرآن الكريم بأسباب عظيمة توافرت وتضافرت على حفظه من أن يتطرق إليه أدنى خلل، حفظ الله كذلك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ) المصدر : الثوابت الإسلامية في الإسلام : http://www.salafi.net/articles/article17.html !!
أسانيد مركبة !!
ظهر الكذابون والزنادقة في محاولات شرسة لمحاربة الدين الإسلامي وإفساده من الداخل !!
فقاموا بوضع الأحاديث ، وعندما تصدى لها الجهابذة وأصبح الإسناد شرطاً في قبول الأحاديث !!
قام الكذابون بوضع الأسانيد وتركيبها ، لإيهام الناس بصحة الرواية :
قال سفيان الثوري : عندما اخترع الكذابون أسانيد كاذبة استخدمنا ضدهم تاريخ الرواة !!
وهكذا نشأ علم الوفيات ، وألف الجهابذة فيه كتباً عديدة ، كـ ( تاريخ مولد العلماء ووفياتهم ) لابن زبر الربعي ( ت 379 هـ ) وكتب الطبقات كـ ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد وكتب التواريخ الرجالية كـ ( التاريخ الكبير ) للبخاري وغيرها !!
وأصبح بالإمكان حصر مواليد ووفيات الرواة لمعرفة المنقطع والمركب من الأسانيد !!
==================
الكلام في أحوال الرجال !!
فأول من تكلم في أحوال الرجال هو القرآن الكريم ثم النبي عليه الصلاة والسلام ثم الصحابة رضي الله عنهم !!
وتبعهم التابعون !!
وظهر عامر بن شراحيل الشعبي ( ت 103 هـ ) في العراق !!
وكان أول المتكلمين في علم الرجال !!
قال يحيى بن سعيد بن القطان : ( فكان أول من فتش عن الإسناد ) ، المصدر : المحدث الفاصل للرامهرمزي ( ص 208 ) !!
وكان محمد بن سيرين ( ت 110 هـ ) من أوائل المتكلمين في الرجال من التابعين !!
قال ابن رجب الحنبلي : ( هو أول من انتقد الرجال وميَّز الثقات عن غيرهم ) ، المصدر : شرح علل الترمذي لابن رجب ( 1 / 52 ) !!
ثم تبعه غيره من التابعين ومن بعدهم !!
فظهر علماء الجرح والتعديل ومنهم :
يحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري والنسائي وأبي داود وابن حبان والترمذي والخطيب البغدادي والدارقطني وابن عدي والعقيلي وغيرهم !!
وكانت مهمة هؤلاء العلماء مهمة عظيمة ، وهي تتبع أحوال الرجال وما يتعلق بهم بهم من جرح وتعديل ومولد ووفاة وشيوخ وتلاميذ !!
فكان العلماء لا يتركون شيئاً عن الراوي يتعلق بالرواية إلا وذكروه !!
وكانت من المعلومات التي يحرص هؤلاء العلماء على معرفتها عن الرواة :
الاسم – الكنية – النسب – اللقب – الشهرة – سنة المولد – سنة الوفاة – الشيوخ – التلاميذ – البلاد التي دخلها وأخذ من علمائها وعلّم فيها – المرويات – العدالة – الضبط لما يروي ... إلى غير ذلك من المعلومات التي تميز الرواة وصحة ما ينقلونه !!
وفي حقيقة الأمر أن الإنسان يكون مذهولاً من التراث الكبير في علم الرجال والجرح والتعديل !!
يقول المستشرق سبرنجر :
( إن المسلمين درسوا تراجم ما يقرب من نصف مليون راو ) !!
دراسات وافية ومستفيضة لمئات الآلاف من الرواة للحفاظ على السنة النبوية !!
معرفة الرجال نصف العلم
كما قال الإمام علي بن المديني : ( التفقه في معاني الأحاديث نصف العلم ، ومعرفة الرجال نصف العلم ) المصدر : الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ( 2 / 211 ) !!
بل كان شرطاً في العالم أن يكون عالماً بأحوال الرجال !!
لماذا يكون عالماً بأحوال الرجال ؟؟؟
حتى تكون لديه الملكة القوية للتمييز بين الصحيح والضعيف من الأحاديث النبوية !!
بل ( والعالم محتاج إلى جميع كتب الرجال ) ، المصدر : علم الرجال وأهميته للمعلمي ( ص 80 ) !!
حتى تتوفر لديه جميع المعلومات عن الرجال رواة الحديث !!
علم الإسناد والتاريخ
لم يكن الألوسي مبالغاً عندما قال : ( ... المؤرخين ينقلون ما خبُثَ ، ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف ، وأكثرهم حاطب ليل ، لا يدري ما يجمع ) ، المصدر : صب العذاب على من سب الأصحاب ( ص 421 ) !!
فكتب التاريخ مليئة بالغرائب والعجائب مما لا يشك عاقل في كذبه وبطلانه !!
لذا أعتقد أن علم الإسناد ضروري جداً في تمحيص الروايات التاريخية لا سيما في عصر الفتنة وما شجر بين الصحابة !!
وفي هذا يقول العلامة المعلمي : ( وهكذا الوقائع التاريخية ، بل حاجتها إلى معرفة أحوال رواتها أشد ، لغلبة التساهل في نقلها ، على أن معرفة الرجال هي نفسها من أهم فروع التاريخ ) ، المصدر : علم الرجال وأهميته للمعلمي ( ص 17 ) !!
ولا ينبغي التهوين من ضرورة علم الإسناد وأهميته في تمحيص التاريخ !!
فإن هذا العلم كفيل بأن ينقِّيَ الكتب التاريخية من الكثير من الأكاذيب والأباطيل التي يعتبرها بعض الناس – وربما الباحثين !! – من المسلَّمات !!
وهذا الأمر واضح بشكل جلي حتى عند غير المسلمين !!
فهذا أسد رستم أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت سابقاً – وهو نصراني – يدعو إلى تطبيق علم الإسناد على علم التاريخ ، في كتابه ( مصطلح التاريخ ) !!
فيقول :
( ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب ، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحرفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم العلمي ، اعترافاً بفضلهم على التاريخ ) !!
ويقول عنه مصطفى السباعي :
( وقد ألف أحد علماء التاريخ في العصر الحاضر كتاباً في أصول الرواية التاريخية، اعتمد فيها على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات ) ، المصدر : ( السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 126 ) !!
والحق ما شهدت به الأعداء !!:)
وقد يعترض معترض بأنه ليس بالإمكان تطبيق قواعد علم الإسناد وشروط قبول الروايات الحديثية على الروايات التاريخية ، فلو طبقنا ذلك ، فلن يبقى لنا من التاريخ الإسلامي إلا النادر !!
ولكننا نجيب عن ذلك ونقول :
لا يلزم من المطالبة بتطبيق علم الإسناد على الروايات التاريخية أن يُعمم ذلك التطبيق على كل ما ورد في التاريخ !!
وصف المدن والجيوش وما يتعلق بالحضارة الإسلامية ، فهذه يمكن التساهل فيها والاستئناس بما ورد فيها من روايات بغض النظر عن مذهب الراوي أو ( الأخباري ) وتوجهه الفكري !!
ولكن ما يتم إيراده من الأحداث التاريخية وخصوصاً في فتنة الصحابة والدولة الأموية والعباسية ، فإنه لا بد من تطبيق علم الإسناد فيه ، فإنه يكثر الكذب في التاريخ خصوصاً من الرواة والنقلة الذين يتنوعون في الاتجاهات الفكرية والمذهبية !!
ولا شك أنه توجد قرائن أخرى تدل على وجود الكذب وعدم قبول الروايات من الخصوم السياسيين والفكريين لأي دولة أو شخصية تاريخية !!
فلا بد من أخذها بعين الاعتبار !!
والمؤرخون أنفسهم ينقسمون إلى من هو ثقة يُطمئن إلى قوله ورأيه في الأشخاص والدول ، ومنهم من يُعرف كذبه وافتراؤه فلا يُطمئن إليه إلا ما كان من كلامه مما لا يدعم توجهه وفكره !!
===============
تراثٌ ذهبي !!
لا ينقضي عجبي من الدقة المتناهية عند علماء الحديث في تصنيفهم لكتب الرجال والتراجم والجرح والتعديل !!
فهؤلاء الفحول من الرجال لم يتركوا شيئاً من يختص بالرواة إلا ودوَّنوه !!
فعندما تتصفح كتاب ( تاريخ بغداد ) للخطيب البغدادي تتعجب من التتبع الدقيق لهذا العالم الكبير في تتبع كل رواة الحديث الذين دخلوا بغداد !!
ولا يذكر الأسماء فقط بل يذكر الراوي ومن شيوخه ومن تلاميذه وماذا قال فيه علماء الحديث من حيث الجرح والتعديل ووفاته ... الخ !!
بل ويسرد الأحاديث التي رواها هذا الراوي بالأسانيد ، فتتعجب من حافظة هذا الإمام !!
وما هذا الكتاب إلا مثالٌ بسيط على مدى عناية هؤلاء العلماء الجهابذة بعلم الجرح والتعديل !!
وعلماء الحديث ألفوا كتباً كثيرة جداً في علم الرجال وهذه أمثلة عليها :
في الصحابة : منها : ( معجم الصحابة ) لابن قانع ، و ( الاستيعاب ) لابن عبد البر ، وأعظمها ( الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر !!
وفي ضبط أسماء الرواة : منها : ( المؤتلف والمختلف ) و ( المتفق والمفترق ) كليهما للخطيب البغدادي ، ومن أعظمها ( المشتبه ) للذهبي ، و ( توضيح المشتبه ) لابن ناصر الدين وهو مطبوع في 10 مجلدات ،
وكذلك ( تبصير المنتبه بتحرير المشتبه ) للحافظ ابن حجر العسقلاني !!
وفي الكنى : منها : ( الكنى ) لأبي أحمد الحاكم ، و ( الأسامي والكنى ) للإمام أحمد ، ومن أعظمها ( الكنى والأسماء ) للدولابي !!
وفي الألقاب : منها : ( نزهة الألباب في الألقاب ) لابن حجر العسقلاني !!
وفي الأنساب : منها : ( الأنساب ) للسمعاني !!
وفي المواليد والوفيات : منها : ( تاريخ مولد العلماء ووفياتهم ) لابن زبر الربعي !!
وفي الطبقات : منها : ( الطبقات ) للإمام مسلم ، و ( طبقات خليفة بن خياط ) ، وأعظمها ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد !!
وفي التواريخ الرجالية : منها : ( تاريخ المدينة للفاكهي ) ، وأعظمها ( تاريخ بغداد ) للخطيب البغدادي ، و ( تاريخ دمشق ) لابن عساكر !!
وفي الثقات : منها : ( الثقات ) للعجلي ، وأعظمها ( الثقات ) لابن حبان !!
وفي الضعفاء والمتروكين : منها : ( الضعفاء والمتروكين ) للنسائي ، و ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال ) للذهبي ، وأعظمها ( الكامل في ضعفاء الرجال ) لابن عدي !!
بل يكفيك أن تعرف أن المصنفات في الضعفاء والمتروكين بلغت أكثر من 30 مصنفاً بحسب إحصاء الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه بحوث في تاريخ السنة المشرفة ( ص 91 – 94 ) !!
وفي رواة الكتب الستة : منها : ( تقريب التهذيب ) و ( تهذيب التهذيب ) كليهما لابن حجر ، و ( تذهيب تهذيب الكمال ) للذهبي ، وأعظمها ( تهذيب الكمال ) للمزي !!
وفي رواة البخاري : منها : ( التعديل والتجريح ) للباجي !!
وفي رواة مسند الإمام أحمد : منها : ( الكاشف لمن له رواية في مسند الإمام أحمد ) للذهبي !!
وتوجد الكتب العامة الشاملة في الرجال : ومنها : ( التاريخ الكبير ) للإمام البخاري ، و ( الجرح والتعديل للرازي ) !!
ولن أتكلم عن كتب الحديث وأنواعها !!
ولكن يكفيك أن تعلم أن علم الحديث يتكوَّن من 65 نوعاً ، وفي كل نوع منها ألف علماء الحديث كتباً عديدة !!
وهذا غيضٌ من فيض !!
ونحن لا زلنا نتكلم عن كتب الرجال !!
فكيف لو تكلمنا عن الشق الثاني من الكتب الحديثية وهي كتب الحديث المسندة ؟؟؟
لا شك أنه سيطول بنا المقام !!
ولعلنا نتكلم عنها موضوع آخر !!
فقط لنرى كيف أن علماء الإسلام خدموا سنة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم !!
لن أكون مجازفاً بالقول لو قلتُ :
( إن علم الإسناد من أبرز الإنجازات في المعارف الإنسانية ) !!
ولا شك أن حصول علم الإسناد على هذه الخاصية لم يأتي نتيجة جهد بشري بحت !!
بل هو نتيجة عناية إلهية بهذه الجهود البشرية العظيمة !!
وعلم الإسناد كان كفيلاً بالوصول إلى أعلى درجات الثقة بما وصل إلينا من الآيات ( القرآنية ) والأحاديث ( النبوية ) والآثار ( السلفية ) !!
الإسناد من خصائص الأمة المحمدية
ولا يخفى على أحد أن علم الإسناد هو من خصائص الأمة المحمدية !!
قال الحافظ اللغوي أبو علي الغساني ( ت 498 هـ ) :
( خصَّ الله هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها : الإسناد والأنساب والإعراب ) ، المصدر : تدريب الراوي للسيوطي ( ص 159 ، 160 ) !!
وقال العالم الكبير ابن تيمية ( ت 728 هـ ) :
( وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعله سُلّماً إلى الدراية . فأهل الكتاب لا إسناد لهم يؤثرون به المنقولات ، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات ، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة : أهل الإسلام والسنة ، يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والقويم وغيرهم من أهل البدع والكفار إنما عندهم منقولات يؤثرونها بغير إسناد ، وعليها من دينهم الاعتماد ، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل ) ، المصدر : مجموع الفتاوى ( 1 / 9 ) !!
فلا تُعرف أمة قبل الأمة المحمدية ولا بعدها أنشأت هذا العلم الفريد من نوعه !!
فالأمم ( الدينية ) لا تعرف علم الإسناد ولم تتعامل به :
فاليهود لم يعرفوا علم الإسناد بل لم يستعملوا النقل ( الشفوي ) المتوارث لما يرونه أو يسمعونه من أنبيائهم !!
وكذلك النصارى والهندوس والبوذيين وغيرهم ، لم يكن من طرائقهم في نقل علومهم وأديانهم وكتبهم المقدسة – عندهم - !!
بل إن الأمم ( الحضارية ) كالفراعنة والإغريق وغيرهم ممن بلغوا العلم الواسع من ظاهر الحياة الدنيا لا يعرفون هذا العلم ولم تتوصل عقولهم إليه رغم براعتهم في العلوم الدنيوية وتميزهم على غيرهم من الأمم الأخرى في المعارف الإنسانية !!
فالأمة المحمدية هي التي تفردت بوضع هذا العلم وتأسيس شروطه وضوابطه العلمية على بأسلوب دقيق ساهم في تحقق المعجزة الإلهية بحفظ الوحي الإلهي المكوّن من القرآن الكريم والسنة النبوية !!
وهذا إنْ دلَّ فإنما يدل على أن هذه الأمة أبدعت في المعرفة الإنسانية وتميزت عن غيرها من الأمم !!
قال الأستاذ خميس عاشور :
( واستقرت الخلافة بأيدي الأمويين بدأت الحركة العلمية في الازدهار وعكف كل فريق من العلماء على استنباط الأحكام وتأصيل القواعد وتأليف الكتب في مختلف الفنون ، ومما استرعى انتباه علماء الحديث موجة الأخبار التي وضعت لتأييد هذا الاتجاه أو ذاك ، وقد لعبت هذه الأكاذيب دورها الدموي في حوادث الفتنة الكبرى مما حدا بعلماء الحديث النبوي الشريف إلى الاهتمام بهذه الظاهرة ، فوضعوا أسساً لتمييز الحديث الثابت من غيره ، وبدأت بواكير علم جديد تنقدح في أذهان العلماء ، فظهر علم الإسناد الذي يعد مفخرة الحضارة الإسلامية ومن فوائدها الرائعة ، وهو العلم الذي قهر الشائعات الخبيثة ورد كيد مختلقيها في نحورهم ، فقد اشترطوا في راوي الخبر شروطاً حالت دون ورود الكذب إلى الحديث النبوي أو غيره من كلام الصحابة الكرام لقد كان علم الإسناد الحصن الحصين الذي حمى نصوص الشريعة السمحة وبالتالي المجتمع الإسلامي من كل ما يمس مقدساته أو يخل بأمنه واستقراره العقائدي ) ، المصدر : مجلة البيان : ( العدد 33 ، ص 75 ) !!
نعمة ( علم الإسناد ) !!
وهذه من نعم الله لمن تأملها ، { وإنْ تعدوا نعمة الله لا تحصوها } !!
والملفت للنظر أن يوجد من أبناء جلدتنا من ينفر من هذه النعمة ويريد طمسها تبعاً وتقليداً لأعداء أمتنا من الأمم التي فضّلنا الله عليها !!
تقليد أعمى للمستشرقين من يهود ونصارى وأذنابهم !!
العرب والإسناد !!
ولعله من المهم أن نبين سبب ظهور هذا العلم في هذه الأمة دون غيرها !!
وسبب ذلك يعود – من وجهة نظري – إلى إتباع طريقة متميزة في النقل دون سائر الأمم !!
فمن المعروف أن العرب عبر التاريخ لم يقيموا حضارة متميزة ، اللهم إلا ملامح بسيطة لا ترقى لمستوى الجيران !!
فالعربي ومنه الأعرابي تميز بالجهل في الوقت الذي تميز فيه غيره بالعلم !!
والعربي تميز بالأمية في الوقت الذي تميز فيه غيره بإتقان الكتابة بمختلف أدواتها !!
فالأمم الأخرى تنقل علومها وأديانها بالكتب ، والعربي لا يعرف إلا القتال مع الكتائب !!
وقلما تجد عربياً جاهلياً يتصف بالفروسية والشعر والقراءة والكتابة في وقت واحد !!:)
بل إن من اتصف بهذه الصفات يُلقّب بـ ( الكامل ) – أي كامل المواصفات = (Full specifications ) – !!:)
فقط لأنه أتقن القراءة والكتابة إلى جانب الفروسية والشعر اللذيْن يتقنهما الكثير من العرب !!
ولقلة أدوات الكتابة وعدم انتشارها بين العرب ، كان العرب يحفظون أخبارهم وأشعارهم وينقلونها عن طريق المشافهة !!
فكانوا يأخذون الشعر والأدب والحكم والأمثال من ألسنة الرواة رجالاً ونساء !!
وهذه الصفة الموجودة في العرب في الجاهلية ألقت بظلالها عليهم في الإسلام !!
فنبي الإسلام – عليه الصلاة والسلام – نفسه لا يقرأ ولا يكتب ، والصحابة – رضي الله عنهم – من حوله أغلبهم لا يقرأ ولا يكتب !!
فالصحابة يربو عددهم على مائة ألف صحابي ، ومع ذلك كان عدد الصحابة الذين يتقنون القراءة والكتابة 40 صحابياً فقط !!
=================
السلاسل الذهبية !!
وحتى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لم يُكتب القرآن كله ولا السنة كلها !!
بل كان نقل الوحي يأتي عبر سلسلة ذهبية من رب العالمين إلى أعظم ملك إلى أعظم نبي إلى أعظم بشر بعد الأنبياء عليهم السلام !!
سلسلة ذهبية لم يرَ العالَم لها مثيلاً ولن يرى لها مثيلاً !!
وعلى هذا الأمر سارت الأمور !!
قرآنٌ ينزل ونبي يقرأ وصحابة يسمعون وينقلون ، كابراً عن كابر !!
سنةٌ تُقال وتُرى وصحابة ينقلون ما يرون ويسمعون !!
كان أغلب نقل القرآن الكريم والسنة النبوية يتم عن طريق المشافهة !!
وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يحتاجون إلى نقل الإسناد ، لأن المسنَد عنه – عليه الصلاة والسلام – أمامهم ينقلون منه مباشرة !!
ونقلها الصحابة لمن بعدهم من التابعين ، ونقلها التابعون لمن بعدهم ، ومن بعدهم نقلها لمن بعدهم !!
سلاسل ذهبية من أئمة العلم والدين !!
سمُّوا لنا رجالكم !!
وما ظهر علم الإسناد إلا عندما ظهرت الفتنة وأطلّت بقرنها !!
قال محمد بن سيرين : ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة – أي فتن الصحابة – قالوا : سَمُّوا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ) ، أثر ثابتٌ صحيح ، أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه !!
وابن سيرين ولد في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة 33 هـ وتوفي سنة 110 هـ !!
من هنا بدأ ظهور علم الإسناد !!
عندما ظهرت الفتنة ظهر التمييز بين الرجال !!
ومن هذه اللحظة بدأت أحكام العلماء على رواة الأحاديث والآثار !!
فحتى القرآن الكريم الذي تواتر عن المسلمين أصبح لا يُقبل إلا بالأسانيد الصحيحة المتواترة !!
بخلاف الكتب المقدسة التي ظهرت قبل الإسلام من التوراة والإنجيل ، فقد كانت تتناقلها الأيدي بلا حفظ لها ، مما عرضها لكثير من التحريف والتغيير والتبديل !!
أما القرآن والسنة فقد حفظتهما الصدور قبل السطور !!
الإسناد سلاح المؤمن !!
وأصبحت الرواية بالأسانيد عُرفاً عند المحدثين ومن خصائص المسلمين فيما يتناقلونه من العلم والدين !!
قال سفيان الثوري : ( الإسناد سلاح المؤمن ) ، المصدر : مقدمة صحيح مسلم !!
نعم !!
( لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ) !!
كلمة عظيمة لمحمد بن سيرين تُكتب بماء الذهب !!
وهل نثبت أقوال الرجال إلا بالأسانيد ؟؟؟
ولم يمنع ذلك من الكتابة للكتاب والسنة ، وإنْ ظهرت في عهد النبوة وما بعدها بعض الصحائف القرآنية والسنية !!
ومع حدوث الفتن حدثت المحدثات ، وظهرت أسباب التحريف والوضع في الأحاديث النبوية !!
قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) حديث صحيح متواتر نقله أكثر من ستين صحابياً !!
قال العلماء : إن تواتر هذا الحديث ليدل دلالة قاطعة على أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن أحاديثه ستُروى وسيدخل فيها الغث والسمين من الكذبة والوضاعين ، فجاء التنبيه من خاتم النبيين على ضرورة التحري والتثبت واليقين !!
تعيش لها الجهابذة !!
وقد ظهر الكذب في السنة النبوية ، ولكن انبرى لها عباقرة علماء المسلمين !!
وعندما ظهرت الأحاديث الموضوعة :
جاء بها رجل إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله ، فقال له : هذه الأحاديث الموضوعة ، ما نصنع بها ، فقال : تعيش لها الجهابذة ، وتلا قوله تعالى : { إنا نحن نزّلنا له الذكر وإنا لحافظون } !!
وقد عاشت لها الجهابذة !!
هذه الكلمة التاريخية من عبد الله بن المبارك لم تأتي عبثاً ، بل جاءت بفراسة هذا الإمام المجاهد !!
نعم ، عاشت لها الجهابذة !!
وتظافرت جهود هؤلاء الجهابذة في تتبع الأحاديث النبوية ورواتها !!
عملاً بالمبدأ القرآني والهدي النبوي !!
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق :
( ولا شك أن الناظر في علم الإسناد، وكيف وضع علماء السنة ضوابط النقد للرجال، وكيف تتبعوهم وأحصوهم، وكيف ضبطوا هذا العلم ضبطاً فائقاً وكيف أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ له جهابذة من الرجال كانت لهم ملكات عظمية في الحفظ والملاحظة والدقة مع الدين والتقى مما مكنهم من تمييز ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حاول الزنادقة والملحدون، وأهل الأهواء أن يدخلوه على الإسلام مما هو ليس منه في شيء.. وهذه معجزة من معجزات هذا الدين... فكما حفظ الله القرآن الكريم بأسباب عظيمة توافرت وتضافرت على حفظه من أن يتطرق إليه أدنى خلل، حفظ الله كذلك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ) المصدر : الثوابت الإسلامية في الإسلام : http://www.salafi.net/articles/article17.html !!
أسانيد مركبة !!
ظهر الكذابون والزنادقة في محاولات شرسة لمحاربة الدين الإسلامي وإفساده من الداخل !!
فقاموا بوضع الأحاديث ، وعندما تصدى لها الجهابذة وأصبح الإسناد شرطاً في قبول الأحاديث !!
قام الكذابون بوضع الأسانيد وتركيبها ، لإيهام الناس بصحة الرواية :
قال سفيان الثوري : عندما اخترع الكذابون أسانيد كاذبة استخدمنا ضدهم تاريخ الرواة !!
وهكذا نشأ علم الوفيات ، وألف الجهابذة فيه كتباً عديدة ، كـ ( تاريخ مولد العلماء ووفياتهم ) لابن زبر الربعي ( ت 379 هـ ) وكتب الطبقات كـ ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد وكتب التواريخ الرجالية كـ ( التاريخ الكبير ) للبخاري وغيرها !!
وأصبح بالإمكان حصر مواليد ووفيات الرواة لمعرفة المنقطع والمركب من الأسانيد !!
==================
الكلام في أحوال الرجال !!
فأول من تكلم في أحوال الرجال هو القرآن الكريم ثم النبي عليه الصلاة والسلام ثم الصحابة رضي الله عنهم !!
وتبعهم التابعون !!
وظهر عامر بن شراحيل الشعبي ( ت 103 هـ ) في العراق !!
وكان أول المتكلمين في علم الرجال !!
قال يحيى بن سعيد بن القطان : ( فكان أول من فتش عن الإسناد ) ، المصدر : المحدث الفاصل للرامهرمزي ( ص 208 ) !!
وكان محمد بن سيرين ( ت 110 هـ ) من أوائل المتكلمين في الرجال من التابعين !!
قال ابن رجب الحنبلي : ( هو أول من انتقد الرجال وميَّز الثقات عن غيرهم ) ، المصدر : شرح علل الترمذي لابن رجب ( 1 / 52 ) !!
ثم تبعه غيره من التابعين ومن بعدهم !!
فظهر علماء الجرح والتعديل ومنهم :
يحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري والنسائي وأبي داود وابن حبان والترمذي والخطيب البغدادي والدارقطني وابن عدي والعقيلي وغيرهم !!
وكانت مهمة هؤلاء العلماء مهمة عظيمة ، وهي تتبع أحوال الرجال وما يتعلق بهم بهم من جرح وتعديل ومولد ووفاة وشيوخ وتلاميذ !!
فكان العلماء لا يتركون شيئاً عن الراوي يتعلق بالرواية إلا وذكروه !!
وكانت من المعلومات التي يحرص هؤلاء العلماء على معرفتها عن الرواة :
الاسم – الكنية – النسب – اللقب – الشهرة – سنة المولد – سنة الوفاة – الشيوخ – التلاميذ – البلاد التي دخلها وأخذ من علمائها وعلّم فيها – المرويات – العدالة – الضبط لما يروي ... إلى غير ذلك من المعلومات التي تميز الرواة وصحة ما ينقلونه !!
وفي حقيقة الأمر أن الإنسان يكون مذهولاً من التراث الكبير في علم الرجال والجرح والتعديل !!
يقول المستشرق سبرنجر :
( إن المسلمين درسوا تراجم ما يقرب من نصف مليون راو ) !!
دراسات وافية ومستفيضة لمئات الآلاف من الرواة للحفاظ على السنة النبوية !!
معرفة الرجال نصف العلم
كما قال الإمام علي بن المديني : ( التفقه في معاني الأحاديث نصف العلم ، ومعرفة الرجال نصف العلم ) المصدر : الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ( 2 / 211 ) !!
بل كان شرطاً في العالم أن يكون عالماً بأحوال الرجال !!
لماذا يكون عالماً بأحوال الرجال ؟؟؟
حتى تكون لديه الملكة القوية للتمييز بين الصحيح والضعيف من الأحاديث النبوية !!
بل ( والعالم محتاج إلى جميع كتب الرجال ) ، المصدر : علم الرجال وأهميته للمعلمي ( ص 80 ) !!
حتى تتوفر لديه جميع المعلومات عن الرجال رواة الحديث !!
علم الإسناد والتاريخ
لم يكن الألوسي مبالغاً عندما قال : ( ... المؤرخين ينقلون ما خبُثَ ، ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف ، وأكثرهم حاطب ليل ، لا يدري ما يجمع ) ، المصدر : صب العذاب على من سب الأصحاب ( ص 421 ) !!
فكتب التاريخ مليئة بالغرائب والعجائب مما لا يشك عاقل في كذبه وبطلانه !!
لذا أعتقد أن علم الإسناد ضروري جداً في تمحيص الروايات التاريخية لا سيما في عصر الفتنة وما شجر بين الصحابة !!
وفي هذا يقول العلامة المعلمي : ( وهكذا الوقائع التاريخية ، بل حاجتها إلى معرفة أحوال رواتها أشد ، لغلبة التساهل في نقلها ، على أن معرفة الرجال هي نفسها من أهم فروع التاريخ ) ، المصدر : علم الرجال وأهميته للمعلمي ( ص 17 ) !!
ولا ينبغي التهوين من ضرورة علم الإسناد وأهميته في تمحيص التاريخ !!
فإن هذا العلم كفيل بأن ينقِّيَ الكتب التاريخية من الكثير من الأكاذيب والأباطيل التي يعتبرها بعض الناس – وربما الباحثين !! – من المسلَّمات !!
وهذا الأمر واضح بشكل جلي حتى عند غير المسلمين !!
فهذا أسد رستم أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت سابقاً – وهو نصراني – يدعو إلى تطبيق علم الإسناد على علم التاريخ ، في كتابه ( مصطلح التاريخ ) !!
فيقول :
( ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب ، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحرفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم العلمي ، اعترافاً بفضلهم على التاريخ ) !!
ويقول عنه مصطفى السباعي :
( وقد ألف أحد علماء التاريخ في العصر الحاضر كتاباً في أصول الرواية التاريخية، اعتمد فيها على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات ) ، المصدر : ( السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 126 ) !!
والحق ما شهدت به الأعداء !!:)
وقد يعترض معترض بأنه ليس بالإمكان تطبيق قواعد علم الإسناد وشروط قبول الروايات الحديثية على الروايات التاريخية ، فلو طبقنا ذلك ، فلن يبقى لنا من التاريخ الإسلامي إلا النادر !!
ولكننا نجيب عن ذلك ونقول :
لا يلزم من المطالبة بتطبيق علم الإسناد على الروايات التاريخية أن يُعمم ذلك التطبيق على كل ما ورد في التاريخ !!
وصف المدن والجيوش وما يتعلق بالحضارة الإسلامية ، فهذه يمكن التساهل فيها والاستئناس بما ورد فيها من روايات بغض النظر عن مذهب الراوي أو ( الأخباري ) وتوجهه الفكري !!
ولكن ما يتم إيراده من الأحداث التاريخية وخصوصاً في فتنة الصحابة والدولة الأموية والعباسية ، فإنه لا بد من تطبيق علم الإسناد فيه ، فإنه يكثر الكذب في التاريخ خصوصاً من الرواة والنقلة الذين يتنوعون في الاتجاهات الفكرية والمذهبية !!
ولا شك أنه توجد قرائن أخرى تدل على وجود الكذب وعدم قبول الروايات من الخصوم السياسيين والفكريين لأي دولة أو شخصية تاريخية !!
فلا بد من أخذها بعين الاعتبار !!
والمؤرخون أنفسهم ينقسمون إلى من هو ثقة يُطمئن إلى قوله ورأيه في الأشخاص والدول ، ومنهم من يُعرف كذبه وافتراؤه فلا يُطمئن إليه إلا ما كان من كلامه مما لا يدعم توجهه وفكره !!
===============
تراثٌ ذهبي !!
لا ينقضي عجبي من الدقة المتناهية عند علماء الحديث في تصنيفهم لكتب الرجال والتراجم والجرح والتعديل !!
فهؤلاء الفحول من الرجال لم يتركوا شيئاً من يختص بالرواة إلا ودوَّنوه !!
فعندما تتصفح كتاب ( تاريخ بغداد ) للخطيب البغدادي تتعجب من التتبع الدقيق لهذا العالم الكبير في تتبع كل رواة الحديث الذين دخلوا بغداد !!
ولا يذكر الأسماء فقط بل يذكر الراوي ومن شيوخه ومن تلاميذه وماذا قال فيه علماء الحديث من حيث الجرح والتعديل ووفاته ... الخ !!
بل ويسرد الأحاديث التي رواها هذا الراوي بالأسانيد ، فتتعجب من حافظة هذا الإمام !!
وما هذا الكتاب إلا مثالٌ بسيط على مدى عناية هؤلاء العلماء الجهابذة بعلم الجرح والتعديل !!
وعلماء الحديث ألفوا كتباً كثيرة جداً في علم الرجال وهذه أمثلة عليها :
في الصحابة : منها : ( معجم الصحابة ) لابن قانع ، و ( الاستيعاب ) لابن عبد البر ، وأعظمها ( الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر !!
وفي ضبط أسماء الرواة : منها : ( المؤتلف والمختلف ) و ( المتفق والمفترق ) كليهما للخطيب البغدادي ، ومن أعظمها ( المشتبه ) للذهبي ، و ( توضيح المشتبه ) لابن ناصر الدين وهو مطبوع في 10 مجلدات ،
وكذلك ( تبصير المنتبه بتحرير المشتبه ) للحافظ ابن حجر العسقلاني !!
وفي الكنى : منها : ( الكنى ) لأبي أحمد الحاكم ، و ( الأسامي والكنى ) للإمام أحمد ، ومن أعظمها ( الكنى والأسماء ) للدولابي !!
وفي الألقاب : منها : ( نزهة الألباب في الألقاب ) لابن حجر العسقلاني !!
وفي الأنساب : منها : ( الأنساب ) للسمعاني !!
وفي المواليد والوفيات : منها : ( تاريخ مولد العلماء ووفياتهم ) لابن زبر الربعي !!
وفي الطبقات : منها : ( الطبقات ) للإمام مسلم ، و ( طبقات خليفة بن خياط ) ، وأعظمها ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد !!
وفي التواريخ الرجالية : منها : ( تاريخ المدينة للفاكهي ) ، وأعظمها ( تاريخ بغداد ) للخطيب البغدادي ، و ( تاريخ دمشق ) لابن عساكر !!
وفي الثقات : منها : ( الثقات ) للعجلي ، وأعظمها ( الثقات ) لابن حبان !!
وفي الضعفاء والمتروكين : منها : ( الضعفاء والمتروكين ) للنسائي ، و ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال ) للذهبي ، وأعظمها ( الكامل في ضعفاء الرجال ) لابن عدي !!
بل يكفيك أن تعرف أن المصنفات في الضعفاء والمتروكين بلغت أكثر من 30 مصنفاً بحسب إحصاء الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه بحوث في تاريخ السنة المشرفة ( ص 91 – 94 ) !!
وفي رواة الكتب الستة : منها : ( تقريب التهذيب ) و ( تهذيب التهذيب ) كليهما لابن حجر ، و ( تذهيب تهذيب الكمال ) للذهبي ، وأعظمها ( تهذيب الكمال ) للمزي !!
وفي رواة البخاري : منها : ( التعديل والتجريح ) للباجي !!
وفي رواة مسند الإمام أحمد : منها : ( الكاشف لمن له رواية في مسند الإمام أحمد ) للذهبي !!
وتوجد الكتب العامة الشاملة في الرجال : ومنها : ( التاريخ الكبير ) للإمام البخاري ، و ( الجرح والتعديل للرازي ) !!
ولن أتكلم عن كتب الحديث وأنواعها !!
ولكن يكفيك أن تعلم أن علم الحديث يتكوَّن من 65 نوعاً ، وفي كل نوع منها ألف علماء الحديث كتباً عديدة !!
وهذا غيضٌ من فيض !!
ونحن لا زلنا نتكلم عن كتب الرجال !!
فكيف لو تكلمنا عن الشق الثاني من الكتب الحديثية وهي كتب الحديث المسندة ؟؟؟
لا شك أنه سيطول بنا المقام !!
ولعلنا نتكلم عنها موضوع آخر !!
فقط لنرى كيف أن علماء الإسلام خدموا سنة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق