الاثنين، 9 يناير 2017

عندما يصبح التنوير تزويرا‏!!‏ د. محمد عمارة 1607


في سنة1317 هـ1900 م كتب فرح أنطون(1291 ـ1340 هـ1874 ـ1922 م)

 ـ وهو من كتاب النصاري الشوام الذين تعلموا بمدارس الإرساليات الفرنسية بلبنان, ثم وفدوا إلي مصر, مبشرين بالعلمانية والحداثة الغربية ـ كتب في مجلة( الجامعة) التي كان يصدرها, دراسة تناول فيها فلسفة ابن رشد(520 ـ595 هـ1126 ـ1198 م) فإدعي: انها فلسفة مادية, وأن مذهب ابن رشد مذهب مادي قاعدته العلم!..
وتناول فرح انطون ـ في هذه الدراسة أيضا ـ موقف كل من الإسلام والنصرانية من العلم والمدنية, فرأي علي عكس واقع التاريخ الأوروبي أن المسيحية كانت أكثر تسامحا, لأنها فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية.. وفي ذلك قال: إن السلطة المدنية في الإسلام مقرونة بحكم الشرع, لأن الحاكم العام هو حاكم وخليفة معا, وبناء علي ذلك فإن التسامح يكون في هذه الطريقة أصعب منه في الطريقة المسيحية التي فصلت بين السلطتين فصلا بديعا مهد للعالم سبيل الحضارة الحقيقية والتمدن الحقيقي.. ولذلك تمكن العلم والفلسفة من التغلب علي الاضطهاد المسيحي, فنما غرسهما في تربة أوروبا وأينع وأثمر التمدن الحديث, ولكنهما لم يتمكنا من التغلب علي الاضطهاد الاسلامي, وفي هذا دليل واقعي علي أن النصرانية كانت أكثر تسامحا من الإسلام!..
ولقد أحدثت آراء فرح أنطون هذه ضجة في الأوساط الفكرية وذلك لغرابة اتهامه ابن رشد بالمادية, وهو الفقيه المسلم, وقاضي قضاة قرطبة, الذي كان يطبق حاكمية الشريعة الإسلامية,وأيضا لتجاهله تاريخ الكنيسة الأوروبية في العداء بين العلم والدين, في الوقت الذي شهد فيه التاريخ الحضاري الإسلامي ازدهار العلم والفلسفة عندما كانت الحاكمية لشريعة الإسلام.
ولقد فجرت دراسة فرح أنطون هذه معركة فكرية كبري وخصبة, كانت الريادة فيها للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده(1266 ـ1323 هـ1849 ـ1905 م) الذي عرض لفلسفة ابن رشد, وأثبت ـ بالعقل والنقل ـ أنها فلسفة إلهية, وأن مذهب ابن رشد مذهب إلهي قاعدته العلم وأن ابن رشد قد انحاز إلي القول بخلود النفس, وسعادتها وشقائها وعذابها ونعيمها في الدار الآخرة.. ومن ثم فلا يمكن أن يقال عن مذهبه الفلسفي إنه كان مذهبا ماديا كذلك تناول الإمام محمد عبده دعوي فرح أنطون تسامح اللاهوت الكنسي مع العلم والمدنية, وضيق صدر الإسلام بهذا التسامح, فكتب ـ في تفنيد هذه الدعوي عدة مقالات في مجلة( المنار) بدءا من عدد جمادي الثاني1330 هـ ـ سبتمبر1902 م ـ.. ثم جمع الشيخ رشيد رضا(1282 ـ1354 هـ1865 ـ1935 م) هذه المقالات, وعرضها علي الأستاذ الإمام لتصدر في كتاب اختار له عنوان( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) فراجع محمد عبده فصول الكتاب, ووافق علي العنوان.
ولقد جاء هذا الكتاب الذي تكررت طبعاته ـ آية من آيات الدراسات التي كتبت في مقارنة الأديان.. وفي المقارنة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية, والموقف من العلم والمدنية في تاريخهما.
لقد عرض هذا الكتاب لأصول النصرانية ولأصول الإسلام, مع المقارنة بينهما.. كما عرض لمبدأ التمايز بين الحضارات.. مع التفاعل بين هذه الحضارات.
وفي حديثه عن أصول الإسلام المتميزة عن اللاهوت الكنسي الغربي عرض الأستاذ الإمام لموقف الإسلام من العقل والعقلانية, فقال: إن العقل من أجل القوي, بل هو قوة القوي الإنسانية وعمادها.. وإن أول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح
كذلك عرض الأستاذ الإمام لقضية التكفير, فقرر مبادئ إسلامية نفيسة, جاء فيها: لقد اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم إنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه, ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل علي الإيمان, ولا يجوز حمله علي الكفر.. وأن من استقصي جهده في الوصول إلي الحق, ثم لم يصل إليه ومات طالبا غير واقف عن الظن, فهو ناج لأن الله لا يكلف نفسا فوق وسعها.
وقارن هذا الموقف الإسلامي بموقف محاكم التفتيش في الكنائس الغربية, والحروب الدينية التي عرفتها, والتي برئ منها تاريخ الإسلام.
ومن القضايا التي عرض لها هذا الكتاب ـ وجميعها لاتزال معاصرة ـ طبيعة السلطة والدولة في الإسلام, فقرر أنها مدنية, ترفض الثيوقراطية والدولة الدينية الكهنوتية, كما ترفض العلمانية.. وبنص عبارته: فإن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية التي عرفتها أوروبا.. فالأمة هي التي تولي الحاكم, وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه, وهي تخلعه متي رأت ذلك من مصلحتها, فهو حاكم مدني من جميع الوجوه, ولا يجوز لصحيح النظر ان يخلط الخليفة, عند المسلمين, بما يسميه الفرنج ثيوكريتك أي سلطان الهي, فليس للخليفة ـ بل ولا للقاضي, أو المفتي, أو شيخ الإسلام ـ أدني سلطة علي العقائد وتحرير الأحكام, وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية, قدرها الشرع الإسلامي فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه, بل إن قلب السلطة الدينية والاتيان عليها من الأساس, هو أصل من أجل أصول الإسلام.
وسد الأستاذ الإمام الأبواب في وجه الذين يريدون علمنة الإسلام, وفصله عن السياسة والدولة والقانون, فقال: إن الإسلام دين وشرع, فهو قد وضع حدودا ورسم حقوقا, ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق وصون نظام الجماعة, فالإسلام لم يدع مالقيصر لقيصر, بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر علي ماله, ويأخذ علي يده في عمله.. فكان الإسلام: كما لا للشخص, وألفة في البيت, ونظاما للملك, امتازت به الأمم التي دخلت فيه عن سواها ممن لم يدخل فيه.
وبسبب من حظر هذا الكتاب ـ الذي عرض لقضايا مهمة, لاتزال مثارة في واقعنا الفكري المعاصر ـ تعرض للتزييف والتزوير من قبل نفر من العلمانيين في بلادنا!
1ـ فإبان المعركة الفكرية التي أثارها كتاب الشيخ علي عبد الرازق(1305 ـ1386 هـ1887 ـ1966 م)( الإسلام وأصول الحكم)1925 م.
حاولت صحيفة( السياسة) أن تطوع فكر الإمام محمد عبده لعلمنة الإسلام التي دعا اليها كتاب علي عبد الرازق ـ الذي وصف الإسلام بأنه دين الدولة ورسالة لاحكم.. ويابعد ما بين السياسة والدين!
2ـ بل لقد طال التزييف والتزوير طبعات كتاب( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية).. فصدرت له العديد من الطبعات المزورة, التي اقترف إثم تزويرها العلمانيون الذين يرفعون شعارات التنوير! واستمرار اصدار هذه الطبعات منذ ستينيات القرن العشرين ـ وقدم لبعضها أساتذة جامعيون وطبعت بعضها الهيئة العامة للكتاب سنة1993 م.. ضمن سلسلة( المواجهة والتنوير)!..
> لقد زوروا عنوان الكتاب, فجعلوه( الإسلام مع العلم والمدنية).. بدلا من( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية).
> وحذفوا كل ما كتبه الإمام محمد عبده في الكتاب عن النصرانية وأصولها وهو أزيد من ثلاثين صفحة!
> وحذفوا المباحث التي استخلص فيها محمد عبده نتائج المقارنات بين أصول النصرانية وأصول الإسلام!
> وبعد التزوير بالحذف قاموا بالتزوير عن طريق إدخال مباحث ليست من الكتاب لتضاف إليه! فأدخلوا فيه البحث الذي نشره جمال الدين الأفغاني(1254 ـ1314 هـ1838 ـ1898 م) في مجلة العروة الوثقي عن: الأنسان عالم صناعي.. والأبحاث التي كتبها محمد عبده ردا علي وزير خارجية فرنسا جبريل هانوتو حول المسألة الإسلامية وهي ست مقالات كتبها الأستاذ الإمام في مناسبة أخري ولا علاقة لها بموضوع الكتاب!
> والغريب أن هذا التزييف والتزوير الذي ارتكبه العلمانيون الذين يرفعون شعارات التنوير قد استمرت طبعاته حتي بعد أن قمت بالجمع والتحقيق والدراسة للأعمال الكاملة للإمام محمد عبده والتي طبعت عدة طبعات1972 في بيروت و1993م.. و2006 م.. و2010 م في القاهرة!! الأمر الذي يؤكد وجود سوء النية وراء التزييف والتزوير لهذا الكتاب الهام, الذي عرض لعدد من القضايا الهامة, منها مقام العقل.. وطبيعة السلطة والدولة.. والموقف من الثيوقراطية.. ومن العلمانية.. والمقارنة بين الديانات والحضارات في الموقف من العلم والمدنية.. وهي قضايا لاتزال معاصرة تلح علي العقل المسلم حتي الان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق