كان عالم الاجتماع العراقي الراحل الدكتور علي الوردي (1913-1995) من الباحثين العرب الجادين الذين حاولوا فهم الإشكال السني الشيعي بمنطق التحليل التاريخي، بعيدا عن النفَس الطائفي.
فقد أوضح الوردي في دراسته لنفسية الفرد العراقي كيف يتحول الدين أحيانا في السياق الطائفي الملتهب إلى هوية مغلقة ومجردة من أي التزام أخلاقي، وتوصل إلى أن الإنسان العراقي "أقل الناس تمسكا بالدين، وأكثرهم انغماسا بين المذاهب الدينية، فتراه ملحدا من ناحية وطائفيا من ناحية أخرى" (علي الوردي: شخصية الفرد العراقي، ص 47)، لقد "ضعفت نزعة التدين في أهل العراق وبقيت فيهم الطائفية: حيث صاروا لا دينيين وطائفيين في آن واحد، وهنا موضع العجب" (علي الوردي: وعاظ السلاطين، ص 260).
" الوردي:
الإنسان العراقي أقل الناس تمسكا بالدين، وأكثرهم انغماسا بين المذاهب الدينية، فتراه ملحدا من ناحية وطائفيا من ناحية أخرى
"
وتذكرنا ملاحظات الوردي هنا بقول الكاتب الأيرلندي جوناثان سويفت (1667-1745): "لدينا من التدين ما يكفي ليبغِّض بعضَنا إلى بعض، لكن ليس لدينا منه ما يكفي ليحبِّب بعضنا إلى بعض".
وقد يكون في حكم الوردي هنا تعميم مجحف، فالتعصب الديني الممزوج بضعف التدين ليس عاما في أهل العراق، ولا هو خاص بالعراقيين دون الشعوب الأخرى. لكن الوردي يلفت النظر إلى ظاهرة عامة جديرة بالتأمل، وهي تحوًّل الأديان والمذاهب الدينية أحيانا إلى مجرد هوية وعصبية سياسية متجردة من أي مغزى أخلاقي أو رسالة إنسانية.
وتنطبق هذه الظاهرة على حكام دمشق اليوم أكثر من أي حكام عرب آخرين، فهم يجمعون بين انعدام التدين والتعصب الطائفي الذي يصل حد الفاشية.
لكن الأكثر إثارة في نظرات علي الوردي -وهو المنحدر من أسرة شيعية- هو تحليله للتشيع باعتباره مخزونا نفسيا واجتماعيا. فقد شبّه الوردي التشيع بالبركان الخامد الذي يُتوقع ثورانه في كل لحظة، فكتب منذ عقود يقول: "إنهم (الشيعة) اليوم ثوار خامدون، فقد خدرهم السلاطين، وحولوا السيوف التي يقاتلون بها الحكام قديما إلى سلاسل يضربون بها ظهورهم، وحرابا يجرحون بها رؤوسهم، ومن يدري فقد يأتي عليهم يوم تتحول فيه هذه السلاسل والحراب إلى سيوف صارمة من جديد... إن موسم الزيارة في كربلاء يمكن تشبيهه بموسم الحج لكثرة الوافدين إليه، هذا ولكن الزيارة الشيعية تختلف من بعض الوجوه عن الحج، إذ هي تحمل في باطنها بذرة من الثورة الخامدة، ومن يشهد هرج الزوار في كربلاء يدرك أن وراء ذلك خطرا دفينا... شبهنا التشيع في وضعه الراهن بالبركان الخامد، فهو قد كان في يوم من الأيام بركانا ثائرا، ثم خمد على مرور الأيام، وأصبح لا يختلف عن غيره من الجبال الراسية إلا بفوهته والدخان المتصاعد منها، والبركان الخامد لا يخلو من خطر رغم هدوئه الظاهر، إنه يمتاز على الجبل الأصم بكونه يحتوي في باطنه على نار متأججة، ولا يدري أحد متى تنفجر هذه النار مرة أخرى." (الوردي: وعاظ السلاطين، ص 255).
ومن الواضح أن البركان الشيعي الخامد الذي تحدث عنه الوردي منذ عقود قد انفجر انفجارا مدويا، وألقى بحممه إلى أصقاع بعيدة. وكانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 والانفجار الطائفي الدموي في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003 تحقيقا لنظرات الوردي الصائبة.
فقد فتح البركان الخامد فوهته على مصراعيها، فغطى إيران بلهبه، وألقى بحممه فأحرق العراق، وامتد حريقه إلى بلدان أخرى عديدة. ولا يكفي تفسير هذا الانفجار البركاني بظلم الشاه أو بدور الاحتلال الأميركي للعراق-رغم خطورتهما- فقد عانت شعوب عديدة من الاستبداد ومن الاستعمار فلم تكن ثمرات ذلك انفجارا بهذه الروح والمزاج، وإنما يحتاج الأمر إلى أخذ ذلك المخزون النفسي الذي تحدث عنه الوردي في الاعتبار.
وقد نال سوريا حظها من انفجار البركان الشيعي الخامد، لكن هذا البركان لم يثر في سوريا في صيغة ثورة مدوية على النمط الإيراني، أو في صيغة حرب أهلية على النمط العراقي، وإنما اتخذ في سوريا صيغة تسرب هادئ إلى قمة الجبل، وتحكمٍ فيها دون ضجيج، وإنما أسفر الإحياء الشيعي في سوريا عن وجهه البركاني في مذابح حماة وتصفيات سجن تدمر المروعة.
وربما كان الشيعة اللبنانيون الذين تحول بركانهم إلى سياط في ظهر إسرائيل هم الاستثناء الذي لم تتجه حمم بركانه إلى الداخل العربي المسلم بشكل عنيف، رغم المناوشات التي بدت على السطح من حين لآخر.
وبدخول إيران في حلف مع سوريا مطلع الثمانينيات، ثم انضمام العراق إلى ذلك الحلف بعد ثلاثة عقود، وانبعاث الشيعة اللبنانيين -بصعودهم الاجتماعي وريادتهم في مقاومة إسرائيل- اكتملت حلقات ما دعاه والي نصر "صحوة الشيعة" في كتابه المعنون بهذه العنوان، واستحكمت حلقات بنية إقليمية شيعية قوية، تمتد من طهران إلى بيروت، مرورا ببغداد ودمشق.
"
البنية الإقليمية الشيعية (إيران-سوريا-العراق-لبنان) التي تحولت تمددا إيرانيا في الفراغ الإستراتيجي العربي لم تحسن التعامل مع أهم حدث في تاريخ العرب الحديث، وهو ربيع الثورات العربية الذي نعيشه اليوم
"
بيد أن هذه البنية التي تحولت تمددا إيرانيا في الفراغ الإستراتيجي العربي لم تحسن التعامل مع أهم حدث في تاريخ العرب الحديث، وهو ربيع الثورات العربية الذي نعيشه اليوم. لقد استغرب كثيرون من أهل الرأي والقلم -ومنهم من يمقُت الطائفية كما أمقُتُها- إجماع الأطراف الإقليمية الشيعية اليوم على الاصطفاف مع نظام الأسد في فظائعه ضد الشعب السوري:
* فقد وقفت إيران بعنجهية وعناد مع نظام الأسد الذي اعتبرته حليفا لا يمكن التفريط فيه، ولم ترفَّ أجفان القادة الإيرانيين ولا رقت قلوبهم أمام مشاهد الشباب السوري الذي تحصده آلة الموت الأسدية حصدا. والعجب أن تحاول إيران القيام بدور الغرب الاستعماري في حماية الدكتاتورية في وقت اضطر فيه الغرب نفسه إلى الخجل من هذا الدور القذر والتملص منه.
ليس من ريب أن هذا دليل على تخلف الحكام الإيرانيين في قراءتهم للمسار التاريخي الذي تتجه إليه المنطقة اليوم، وجهلهم بعواقب ذلك على دولتهم الصاعدة التي يتقاذفها الأعداء من كل جانب.
* وتحول حسن نصر الله إلى بوق للنظام الدموي في دمشق، وأصبح الرجل الذي كان ملهما للشباب العربي وجها باهتا من حماة الطغيان ودعاته، فغدت طلعاته الإعلامية تسويغا للظلم وتشريعا للقتل، بعد أن كانت بالأمس القريب بريق أمل في بحر من ظلمات الهوان. وكما هو حال إيران فقد ركب حزب الله المهالك في وقوفه إلى جانب القتلة في سوريا، إذ رجح مصلحته التكتيكية في الحلف مع نظام الأسد على مصلحة إستراتيجية أكبر هي الالتحام بعمق شعبي سوري وعربي توفره له الثورات.
* أما القوى الشيعية في العراق فقد تردد موقفها بين الصفاقة التي برر بها مقتدى الصدر دموية الأسد واتهم الثوار السوريين بالطائفية -ربما من باب قول العرب: "رمتني بدائها وانسلت"- إلى الموقف المراوغ الذي تبناه نوري المالكي مراعاة لتوازنات السياسة الداخلية العراقية.
لقد تناسى المالكي كل صراعه مع حكام سوريا، واتهامه لهم بدعم المقاومة العراقية، حينما أصبح ما يعتبره مكسبا طائفيا في خطر، وهو حكم العلويين لسوريا. وقد نهج المالكي في الفترة الأخيرة نهج الغموض الإستراتيجي في القضية السورية، فهو يجامل الداخل العراقي والجامعة العربية بجمل منمقة حول أهمية السلم الأهلي في سوريا، ويسعى لإنقاذ حكم الأسد المتداعي بكل ما يملك.
إن الاستبداد هو الذي فرق بين السنة والشيعة، وبين العرب والإيرانيين، وهو استبداد قد يلبس عمامة فقهية أو خوذة عسكرية، لكنه هو الاستبداد ذاته بوجهه القبيح. ولن يجمع بين الطرفين سوى الحرية والاعتراف بحق الاختلاف. فلن يسعف الأسدَ الملطخ اليدين بدماء شعبه أن يسحب العلويين إلى حرب أهلية مع شعبهم، أو يتترس بحلف إقليمي مذهبي لا يملك من الانتماء إليه سوى الاسم والمصلحة الأنانية. ولن يكون الرد المناسب على اصطفاف البنية الإقليمية الشيعية وراء مصاصي الدماء في دمشق هو اصطفاف إقليمي سني مقابل، بل الرد الحقيقي هو ما رد به ثوار سوريا من نقض المنطق الطائفي، والتصميم على تحقيق دولة الحرية والعدل للجميع مهما يكن الثمن. فليس يهم مذهب الظالم أو مذاهب المظاهرين له، وإنما المهم هو الأخذ على يد الظالم، وقسره على الحق والعدل قسرا.
ربما يكون قدَر بلاد الشام -الجميلة بتاريخها وأهلها- أن تكون مركز تجاذب أبدي. فقد تنازعها الفرس واليونان، ثم الفرس والرومان، ثم العرب والروم، ثم الترك والفرنجة، ثم الترك والروم، ثم الفرنسيون والإنجليز.. وكانت -ولا تزال- موطن تنازع طائفي وثراء ديني وثقافي كثيف.
لكن الربيع العربي الحالي فرصة تاريخية للمصالحة مع الذات ومع الغير، بميلاد فضاء من الحرية يسع الجميع، بما في ذلك تمكين الشيعة من الخروج من أسر المظلومية والذاكرة الموتورة إلى الاندماج في جسد الأمة من جديد، دون خوف من الاضطهاد، أو تنازل عن الخصوصية الفكرية والفقهية.
"
فرط قادة الشيعة في إيران والعراق ولبنان فيما تحمله الثورات العربية من إمكان التئام الجرح الطائفي المزمن، وبناء دولة المواطَنة الرحبة التي لا مِنّة فيها لأحد على أحد، ولا تمييز فيها على أساس الدين أو المذهب
"
لكن مواقف القوى الإقليمية الشيعية من الثورة السورية يوشك أن يحول هذه الفرصة التاريخية إلى سراب. لقد تحول حامل راية المظلومية التاريخية إلى ظالم أو مُظاهِر للظلم، وفرط قادة الشيعة في إيران والعراق ولبنان فيما تحمله الثورات العربية من إمكان التئام الجرح الطائفي المزمن، وبناء دولة المواطَنة الرحبة التي لا منة فيها لأحد على أحد، ولا تمييز فيها على أساس الدين أو المذهب.
لقد سمعتْ البشرية كلها -عبر القنوات الفضائية والشبكة الإلكترونية- ذلك الرجل السوري الذي يأخذ بنياط القلوب، وهو يصرخ: "أنا إنسان.. ماني حيوان". وهو يذكرنا بالإفريقي الأسود في أميركا الستينيات الذي كان يحمل على صدره لافتة كتب عليها نفس الجملة البسيطة العميقة المؤلفة من كلمتين: "أنا إنسان". وهذا المدخل الإنساني هو الذي كان يتعين على قادة الشيعة أن يتدبروا به الثورة السورية. أما المثنوية والأنانية السياسية والكيل بمكيالين فهي أمور لا تصلح في التعاطي مع ثورات شعوب تسقي شجرة الحرية كل يوم بدمائها، وإنما يصلح للتعاطي مع هذه الثورات موقف أخلاقي صُراح لا ازدواجية فيه ولا التواء، موقف يُعاضِد كل الشعوب الطامحة إلى العدل والحرية، من صنعاء إلى حمص، ومن المنامة إلى طرابلس الغرب. موقف لا يرى في الإنسان العربي الثائر من أجل الحرية والكرامة سنيا أو شيعيا، مسلما أو مسيحيا، بل يرى فيه إنسانا مجردا، يسعى إلى الاعتراف بإنسانيته.
لقد أمسكت الشعوب العربية بزمام تاريخها، وهي مصممة على التخلص من الغزاة والطغاة والغلاة، سنة كانوا أو شيعة، مسلمين أو مسيحيين.. فهل يدرك حكماء الشيعة ذلك ويلتحموا بتيار التاريخ الجارف قبل فوات الأوان؟ وهل يتداركون مخاطر الهوة التي يقودهم إليها أسدٌ ظالم، مجروح الكبرياء، غارق في الدماء؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق