الاثنين، 9 يناير 2017

للإسلام عقلانيته المؤمنة د. محمد عمارة


لقد وضعت الفلسفة اليونانية العقل والبراهين العقلية في قمة أدوات البحث والنظر والاستدلال‏,‏ ولقد أصبح تراث العقلانية اليونانية زادا تفاعلت معه‏,‏ واستفادت منه كثير من الحضارات‏,‏ بما في ذلك حضارتنا الإسلامية‏.‏
لكن هذه العقلانية اليونانية قد تبلورت في مناخ لم يكن فيه وحي سماوي, فجاءت عقلانية منفلتة ومتحررة من مرجعية الوحي السماوي, الأمر الذي حرمها من التوازن والموازنة بين الحكمة الإلهية, والحكمة الإنسانية.وعندما حكمت الكنيسة أوروبا, سادت في لاهوتها مقولات مناهضة للعقل والعقلانية, من مثل: إن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله.. والرب يعلم أن أفكار الحكماء باطلة.. وأن فضول العقل إثم.. وفضول فاحش.. وسأبدد حكمة الحكماء.. وأنبذ معرفة العارفين.. ويوجد مكتوب: أريد أن أهدم حكمة الحكماء.. وأحطم عقل العقلاء.. وإن الغباء الموجود في الوجود قد اختاره الله!!
فلما أدخل هذ اللاهوت الكنسي المعادي للعقل والعقلانية أوروبا إلي عصورها المظلمة, جاء رد فعل التنوير الغربي والحداثة الغربية علي المستوي نفسه, فتخلفت إبان النهضة الأوروبية عقلانية لا دينية, تؤله العقل, وترفع شعار لا سلطان علي العقل إلا العقل و حده, حتي إن الثورة الفرنسية قد جاءت بفتاة حسناء, رمزوا بها للعقل, وجعلوها معبودة من دون الله, وهكذا عرفت الحضارة الغربية ـ في طورها اليوناني عقلانية مجردة من الدين, وفي طور نهضتها الحديثة عقلانية معادية للدين.
أما النموذج الحضاري الإسلامي, فلقد تميز بالنجاة من هذا الفصام النكد بين العقل و النقل, بين العقلانية و الدين, وذلك لأن النقل الإسلامي القرآن الكريم ـ قد جاء معجزة عقلية, ومن آياته ومنطق الاستدلال فيه, تبلورت الفلسفة الإسلامية ـ علم التوحيد.. علم الكلام ـ منذ القرن الهجري الأول, وقبل أن يعرف المسلمون شيئا عن تراث اليونان, وبرغم تنوع تيارات الفكر الإسلامي إزاء سلطان العقل, وجرعة العقلانية, فإن جميع هذه التيارات قد اتفقت علي إعلاء شأن العقل, وعلي نفي التعارض بين هدايا العقل, وهدايات الدين, فالله ـ سبحانه وتعالي هو الذي أنزل الكتاب و الحكمة, وهو الذي أنزل الكتاب و الميزان, لذلك تبلورت في السياق الضاري الإسلامي عقلانية مؤمنة بلغت من القرآن, وأصبحت أداة للبرهنة العقلية علي صدق هذا الدين.
علي هذه الحقيقة تجتمع تيارات الفكر الإسلامي, ومذاهب الإسلاميين, فإمام التصوف الحارث بين أسد المحاسبي(65 ـ243 هـ/781 ـ857 م) يقول: إن العقل غريزة وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه, وهو نور في القلب كالنور في العين, يولد العبد به, ثم يزيد فيه معني بعد معني بالمعرفة بالأسباب الدالة علي العقول, والمعرفة عن العقل تكون.. فهو صفوة الروح.. ولقد سمي العقل لبا, ولب كل شيء خالصة( إنما يتذكر أولوا الألباب)( الزمر: الآية9 ـ...).
ثم يكشف المحاسبي عن حقيقة تميز بها الإيمان الإسلامي, وهي: أن العقل هو طريق الإيمان بالله ـ سبحانه وتعالي وليس النقل, ذلك أننا كي نصدق بأن النقل حق, لابد أولا أن نؤمن بصدق الرسول صلي الله عليه وسلم الذي جاء بهذا النقل, وكي نؤمن بصدق الرسول لابد أن نؤمن أولا بوجود الإله الذي أرسل هذا الرسول صلي الله عليه وسلم وأوحي إليه بهذا الكتاب, والتدبر في المصنوع هو سبيل الإيمان بالصانع لهذا المصنوع, والتفكر في الإبداع هو الطريق للإيمان بوجود المبدع لهذا الإبداع, أي أن العقل ـ في الإسلام ـ هو السبيل الأول للإيمان بالله ـ سبحانه وتعالي.
يطرق الحارث المحاسبي هذه الحقيقة, التي تميز بها الإيمان الإسلامي, فيقول:... وبالعقل عرف الخلق الله, وشهدوا عليه بالعقل الذي عرفوه به من أنفسهم بمعرفة ما ينفعهم, ومعرفة ما يضرهم, وبالعقل أقام الله الحجة علي البالغين للحلم, وإياهم خاطب من قبل عقولهم, ووعد وتوعد, وأمر ونهي, وحض وندب. وعلي هذا الدرب الذي سلكه فيلسوف الصوفية الحارث المحاسبي, سار فيلسوف الأشعرية حجة الإسلام أبو حامد الغزالي(459 ـ505 هـ/1058 ـ1111 م) الذي شبه العقل بالبصر, وشبه الشرع بالضياء, فمن كان لديه عقل بلا شرع فهو يبصر لكنه يسير في الظلام, فلا قيمة لبصره, ومن كان لديه شرع بلا عقل فهو أعمي يسير في الضياء, فلا قيمة عنده للشرع, وبنص عبارته: إن مثال العقل: البصر السليم عن الآفات والآذاء, ومثال القرآن الكريم: الشمس المنتشرة الضياء, فطالب الاهتداء المستغني بأحدهما عن الآخر معدود في غمار الأغبياء, لأن المعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن, مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان, فلا فرق بينه وبين العميان! ثم يختم الغزالي عبارته بالكلمات التي تقول إن للإسلام عقلانيته المؤمنة, الجامعة بين العقل والشرع, بين الحكمة والشريعة, فيقول: فالعقل مع الشرع نور علي نور!
وعلي هذا الطريق سار فيلسوف السلفية, شيخ الإسلام ابن تيمية(661 ـ728 هـ/1263 ـ1328 م) الذي استوعب الفلسفة العالمية, وسعي إلي بلورة منطق إسلامي, بديل للمنطق الأرسطي, انطلاقا من ارتباط المنطق باللغة والعقيدة, ومن ثم حاجة المسلمين إلي منطق مرتبط بعقيدتهم, وبلغة القرآن الكريم, ثم أكد استحالة تعارض براهين العقل الصريحة مع نصوص الدين الصحيحة, وقطع بإجماع جمهور علماء الإسلام علي أن العقل سبيل للتحسين والتقبيح, فقال: إن ما عرف بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه منقول صحيح, ولقد وجدت أن ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط, بل السمع الذي يقال إنه يخالفه إما حديث موضوع, أو دلالة ضعيفة, فلا يصلح أن يكون دليلا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح, فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟ ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمجالات العقول, والقول كلما كان أفسد في الشرع كان أفسد في العقل, فالحق لا يتناقض, والرسل إنما أخبرت بحق, والله فطر عباده علي معرفة الحق, والرسل بعثت بتكميل الفطرة لا بتغيير الفطرة, وأكثر طوائف الأمة علي إثبات الحسن والقبح العقليين, وإن العقل يحب الحق ويلتذ به, ويحب الجميل ويلتذ به, وإن للإنسان قوتين: قوة علمية, فهي الحق, وقوة عملية, فهي تحب الجميل, والجميل هو الحسن, والقبيح ضده, وهل أعظم تفاضل العقلاء إلا بمعرفة هذا من هذا؟ فكيف يقال: إن عقل الإنسان لا يميز بين الحسن والقبيح!.
وعندما خرج المسلمون من حقبة التراجع الحضاري, وتبلورت مدرسة الإحياء والتجديد, تم البعث لمعالم هذه العقلانية الإسلامية المؤمنة من جديد, وكتب إمام هذه المدرسة الشيخ محمد عبده(1266 ـ1323 هـ/1849 ـ1905 م) عن العلاقة العضوية بين الوحي القرآني والحكمة والفلسفة والعقل, فقال: كانت الأمم تطلب عقلا في دين, فوافاها, فلقد أطلق الإسلام سلطان العقل من كل ما كان قيده, وخلصه من كل تقليد كان استعبده, ورده إلي مملكته يقضي فيها بحكمه وحكمته, مع الخضوع لله وحده, والوقوف عند شريعته, إن العقل هو جوهر إنسانية الإنسان, وهو أفضل القوي الإنسانية علي الحقيقة, ولقد تآخي العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس, علي لسان نبي مرسل, بتصريح لا يقبل التأويل, وأول أساس وضع عليه الإسلام: هو النظر العقلي, والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح, فقد أقامك منه علي سبيل الحجة, وقاضاك إلي العقل, ومن قاضاك إلي حاكم فقد أذعن إلي سلطته, فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟
لقد دعا القرآن الناس إلي النظر فيه بعقولهم, فهو معجزة عرضت علي العقل, وعرفته القاضي فيها, وأطلقت له حق النظر في أنحائها, ونشر ما انطوي في أثنائها, والإسلام لا يعتمد علي شيء سوي الدليل العقلي, والفكر الإنساني الذي يجري علي نظامه الفطري, فلا يدهشك بخارق للعادة, ولا يغشي بصرك بأطوار غير معتادة, ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية, ولا يقطع فكرك بصيحة إلهية. هكذا تألق العقل, وتألقت العقلانية الإسلامية المؤمنة في المشروع النهضوي لليقظة الإسلامية الحديثة, وذلك دون تأليه للعقل, يغنيه عن الوحي والشرع, أو يفتعل التناقض بينهما, فلا قيمة للبصر بدون الضياء, ولا فائدة من الضياء بدون البصر, وبعبارة الإمام محمد عبده: إن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله, والتصديق بالرسالة, أما النقل فهو الينبوع فيما بعد ذلك من علم الغيب, وإن دين الإسلام دين توحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد, والعقل من أشد أعوانه, والنقل من أقوي أركانه.
فلم يعرف الإسلام تناقضا بين العقل و النقل, ذلك لأن مقابل العقل في لغته العربية ليس النقل, وإنما هو الجنون!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق