القاهرة نشر في القاهرة يوم 08 - 06 - 2010
كثيرة هي المؤلفات التي تناولت بالبحث عن الشخصية المصرية وأنماطها المختلفة ومن أهم الكتب والدراسات التي ظهرت في هذا الصدد كتاب التربوي الكبير د.حامد عمار «في بناء البشر» والذي ننشر منه الفصل الخاص بالشخصية الفهلوية وهو النمط الذي ساد في الشخصية المصرية خلال العقود الأخيرة، ونلحقه بالتحول الذي طرأ علي تلك الشخصية السلبية إلي شخصية منتجة.
ذكرنا أن لكل مجتمع نمطًا اجتماعيًا لشخصيات أفراده، يمثل الصورة المثلي لمجموعة من السلوك والقيم والاتجاهات التي يسعي إليها أعضاء ذلك المجتمع، ولا يقصد بهذا النمط جملة من الصفات المعينة، وإنما هو استجابات مقننة متواترة في مواقف معروفة يتوقعها المجتمع ويؤثرها علي غيرها من أمثال تلك المواقف. وتعمل مختلف القوي والمؤثرات التعليمية علي تشكيل شخصية الفرد في إطار هذا النمط الاجتماعي مما يضمن التماسك والاستقرار في حياة تلك الجماعة. وقد أشرت أيضًا إلي أن مفهوم النمط الاجتماعي مشابه في تصوره لفكرة «الوسط» في العينة الإحصائية، فقد ينحرف عنه بعض أفراد ذلك المجتمع يمينًا ويسارًا، إما لظروف فردية خاصة في نموهم، وإما لعوامل فكرية واجتماعية تجعل هؤلاء الأفراد أكثر وعيًا بالنمط في مجال التأثير به أو رد الفعل له.
وقد زعمت أن النمط الاجتماعي لشخصية المصري هو الذي اخترت له لفظ «الفهلوي»، وأن مظاهر السلوك والقيم لهذا النمط في مختلف المواقف والعلاقات الاجتماعية، قد تكونت نتيجة لتضافر الأبعاد التاريخية والاقتصادية والاجتماعية التي جعلت منها التكيف السوي الناجح لمواجهة ظروف الحياة المصرية في عصور التاريخ. فما مقومات هذا النمط؟ وما مظاهر سلوكه؟ وما قيمه واتجاهاته؟
التكيف السريع
لا شك أن أول مظهر من مظاهر سلوك «الفهلوي» قدرته علي التكيف السريع لمختلف المواقف، وإدراك ما تتطلبه من استجابات مرغوبة، والتصرف وفقًا لمقتضياتها إلي الحد الذي يراه مناسبًا، أليس الفهلوي هو الذي يستطيع أن يخالط «الجن الأحمر» ويعايش في نفس الوقت «ملائكة السماء والأرض» دون أن يجد في ذلك غضاضة أو دون أن يتطلب هذا منه جهدًا جهيدًا؟
واستطاع المصري بفضل هذه السرعة في التكيف أن يتقبل الأمور الجديدة في كثير من الأحيان ودون ارتباك أو حيرة. ومظاهر حياتنا المالية والاجتماعية والروحية تدل علي هذه القدرة الفائقة في الالتقاط والاحتضان. فقد زرع الفلاح المصري الحبوب مدة طويلة، ومع ذلك فقد أقبل علي زراعة القطن ثم القصب ثم الفاكهة والخضروات، حيث أدرك قيمتها وغدت إنتاجية الفدان في هذه المحاصيل أعلي بكثير من البلاد الأخري. وحين أحس المصري بأهمية التعليم المدني الحديث أخذ يقبل عليه إقبالاً ملحًا بعد أن تردد أو تشكك في قيمته أول الأمر. كذلك كان لمصر في تاريخها الديني شأن مع الموسوية، واحتمت المسيحية الناشئة في القرنين- الثاني والثالث- الميلاديين في صحاري مصر ومعابدها من عسف الرومان واضطهادهم، ثم جاءها الإسلام فاحتضنته، كما احتضنت لغة قرآنه علي نحو لا تزال تفاصيله من أسرار التاريخ. وتزاوج المصري مع غيره من الأجناس الفاتحة أو المغلوبة علي أمرها دون أن يجد في ذلك حرجًا، ودون أن ينقص هذا من كبريائه، واستمتعت أخلاط هذه العناصر بمقومات الحياة المصرية فأكلت الفول المدمس والحلاوة الطحينية، وجلست علي «المقاهي» واستمعت إلي «أم كلثوم».
بيد أن هذه القدرة علي التكيف السريع تتميز بجانبين متلازمين: أحدهما: المرونة والفطنة والقابلية للهضم والتمثل للجديد، والآخر: هو المسايرة السطحية والمجاملة العابرة التي يقصد منها تغطية الموقف وتورية المشاعر الحقيقية وكل ما يندرج تحت مضمون عبارة «أهو كلام» أو «فك مجلس» مما لا يعني الارتباط الحقيقي بما يقوله المرء أو بما قد يقوم به من مظاهر سلوكية. ولا شك أن أوضاع مصر السياسية في طول تاريخها وعرضه قد أدت إلي إيجاد هذا العنصر في النمط الاجتماعي للشخصية المصرية، فقد تعاقب علي حكم مصر في تاريخها القديم والحديث حكام وولاة وسلاطين وملوك، وكان علي الشعب أن يذعن لمشيئتهم جميعًا وإلا تعرض لألوان مختلفة من العقاب والنقمة. وأصبح هذا التكيف السطحي في مثل هذه المواقف ضرورة من ضرورات البقاء في ظروف متغيرة لا ضابط لها ولا مقدر لعواقبها. ولعل من أتفه الأمثلة علي ذلك، ما كان يقوم به المحتسب أيام الدولة المملوكية مثلاً من مناداة الناس بالاحتفال بشفاء السلطان من مرض كما حدث عندما عوفي السلطان الناصر «محمد بن قلاوون» من كسر في يده، حيث استمرت الزينات أسبوعًا كاملاً، وظلت «الكوسات بالبشائر تضرب والطبول تدق ولم يبق أمير إلا عمل في بيته فرحًا» علي حد تعبير صاحب السلوك. كذلك نادي المحتسب بإقامة الزينات عندما شفي السلطان «الغوري» من رمد ألم بعينيه، وقد أسهب «المقريزي» أيضًا في وصف الاحتفال بهذه المناسبة. حقيقة كان علي الشعب أن يفرح حين يراد له أن يفرح، وأن يحزن حين يقضي عليه باصطناع مراسم الحزن.
ثم إن تعاقب الحكام إنما كان أمرًا يعني الطوائف المتنازعة علي السلطان والنفوذ، وكان علي الشعب أن يقول «إن الدنيا لمن غلب»، فيصفق له، وينعي علي من دانت دولته، ومع ذلك كله فإن الشعب في قرارة نفسه كان يقول «شهاب الدين.. من أخيه..» وجاءت صفحة الاستعمار فأكدت ظاهرة التكيف السطحي، فقد راجت الشائعة بإسلام «بونابرت» وتزوج «مينو» من مسلمة، ونادي الإنجليز بأن اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، ولبس بعضهم زي المشارقة، واصطنعوا بعض مظاهر السلوك المصري، واستجاب الناس لكل هذا في ظاهره، وبادلوهم سطحية بسطحية، ولكنهم في الحقيقة «لم يأكلوا منه ولم يشربوا».
علي أن ضرورة هذا التكيف السطحي قد فتحت مجالاً واسعًا لجعله أداة من أدوات الوصول والانتهاز لفرص الحياة، وغدا علي مر الزمن وتوالي الأحداث عنصرًا من عناصر «الفهلوة» استلزمته مواجهة ما أحاط بالفرد من ظروف وأحداث.
نكتة مواتية
واستتبع هذا التكيف نكتة سريعة مواتية أيضًا، وغدت من الخصائص التي يتصف بها النمط المصري. وارتباط ذلك بما عاش فيه المصري من حياة اجتماعية، أمر يمكن إدراكه بوضوح إذا تذكرنا أنه لم يكن من المنتظر أن تمر بالمصري تلك الأحداث المتعاقبة سراعًا، وتنقلب أمامه الأمور تقلبًا لم يعمل علي إحداثه أو لم يشارك فيه مشاركة فاعلة، دون أن يعلق كل هذا تعليقًا ساخرًا مرًا أحيانًا، ومتهكمًا أحيانًا أخري ويظهر أن النكتة كانت تحدث لديه ترضية ذاتية تريحه وتريح غيره ممن يستمع إليها، وتصرفه عن الموضوع أو الواقع في حد ذاته. ومن ثم كانت كثير من النكات المصرية البارعة تعويضًا عما أصاب الشعب من كبت سياسي واجتماعي. وتنفيسًا له من الضائقات التي تنغصه مما يجعل مواجهة الحياة أمرًا محتملاً. يتمثل هذا الاتجاه في قصة الشيخ «علي الليثي»، وكان إمامًا للخديو إسماعيل، حيث كتب حامل الأختام أحمد خيري مهردار علي باب حجرته «إنما نطعمكم لوجه الله..»، فأدرك الشيخ مغزاها فرد عليه بالزجل التالي:
كان لي طاحونة جوا الدار/ تدور وتطحن ليل ونهار
دورت فيها التور عصي/ علقت فيها المهر دار
كما تتمثل النكتة في مواجهة الواقع في قصة السائل الذي وقف علي باب بيت يستجدي أصحابه، فقال: «تصدقوا علي فإني جائع»، قالوا: «إلي الآن لم نخبز». قال: «فكف سويق»، قالوا: «ليس عندنا سويق»، قال: «فشربة من ماء فإني عطشان»، قالوا: «ما أتانا السقاء». قال: «فيسير من الدهن أضعه في رأسي»، قالوا: «من أين لنا دهن؟» فقال: «يا أولاد ال... فما قعودكم هنا في داركم. قوموا واشحتوا معي».
ولا أريد أن أزعم هنا أن المصري قد انفرد بالنكتة دون غيره من شعوب الأرض، وإنما تميز قطعًا بتنميته لأفانينها، والرغبة في الاستمتاع بها كإحدي القيم المرغوبة في تكوين الشخصية. ولا شك أن من أهم الوظائف التي قامت بها النكتة المصرية هي تغطية الموضوع وأخذه علي المحمل الهين، والانصراف عنه انصرافًا يعفي الشخصية من التفكير الجدي في واقعه، وكأن «فرقعة» النكتة تنهي المشكلة أو هي في حد ذاتها حل لها.
تأكيد الذات
ومن مظاهر «الفهلوة» أيضًا المبالغة في تأكيد الذات، والميل الملح إلي إظهار القدرة الفائقة والتحكم في الأمور. وهنا تجب التفرقة بين الثقة بالنفس التي تنتج عن طمأنينة المرء إلي نفسه والإدراك المحكم للعلاقة بين المعدات الشخصية والمواقف الخارجية، وبين تأكيد الذات الذي ينجم عن فقدان الطمأنينة وعدم الرغبة في تقدير المواقف تقديرًا موضوعيًا، هذا فضلاً عن شعور حقيقي مستتر- لا يستطيع المرء أن يبوح به- بعدم الكفاءة والنقص إزاء ما يضطرب فيه من مجالات. والتكيف الذي ينتج عن مثل هذا التأكيد للذات قد يظهر في صورة الاستهتار أحيانًا، والتهكم علي الغير أحيانًا أخري، أو في القدرة البارعة المبدعة في حل الأمور وإنجازها «هوا أو بالإصبع أو بجرة قلم». فالإفراط والمبالغة والتزيد من سمات الفهلوي، ومسألة المظاهر الخارجية، و«كبر الجرن» من قبيل تأكيد الذات أيضًا، تبدو حتي في المباني والعمارات التي كثيرًا ما يبز مظهرها الخارجي تنظيم بنائها وإتقانها في الداخل. ويبدو كذلك فيما يعرف عادة «بالقنزحة» في السلوك والكلام.
ولعل كثيرًا مما يعرف من البذخ في «العزائم»، أو أهمية الانطباعات الأولي، أو التأكيد علي مسائل «الكرامة الشخصية» والاهتمام بالطقوس العامة في الأفراح والمآتم، وكل ما يتصل بمجال «واجهة الشخصية» في مجال الفرد أو الجماعة، تنبعث جميعها من الرغبة في تأكيد الذات وما تقمصته من تنظيمات وأساليب. وليس غريبًا أن تكون «الكلمة الحلوة» من أهم الوسائل التي يعتبرها المصري كفيلة بأن تأسر غيره في نوع العلاقات المباشرة وجهًا لوجه. كما أنه ليس من الغريب أيضًا أن تكون القدرة علي تجريح الغير والتعريض به «والتريقة» عليه في غيابه من الصفات التي تستهوي السامعين، وتجعل ممن يصطنعها موضع الإعجاب والتقدير، فالتهوين من قدر الآخرين ومن قيمة أعمالهم هو الجانب السلبي لتأكيد الذات. فإن الذي «لا يعجبه العجب ولا الصيام في رحب» هو وحده الذي يفهم، وهو وحده القادر الذي لا تخفي عليه بواطن الأمور، وهو وحده الذي يستطيع أن «يجيب السبع من ديله».
ولعل هذا الجانب السلبي في تأكيد الذات قد انعكس في كثير من قصص «جحا». فالمتأمل في نوادره ونكاته يلحظ أنه رغم ضعفه وطيبة قلبه يستطيع في نهاية الأمر أن «يضحك» علي الناس وأن ينتصر عليهم وأن يظهر جهلهم ويفضح غباءهم. ألم يجمع الناس علي وليمة استطاع قبل البدء فيها أن يعثر علي ثوبه المفقود، وعندئذ صرف المدعوين بقوله «جحا أولي بلحم توره»؟ ثم ألم يجمع الناس ثلاث مرات ليحدثهم في موضوع، فصرفهم في المرة الأولي لأنهم لا يعلمون الموضوع، وصرفهم في المرة الثاني لأنهم يعلمون الموضوع فلا مبرر إذاً في الاستماع إليه، وصرفهم في المرة الثالثة محتجًا بأن من يعرف منهم يستطيع أن يعلم من لا يعرف. والواقع أن جانب التهكم وتجريح الغير هو الجانب الثاني للبراعة والحذق والقدرة الشخصية في مقومات تأكيد الذات، تبدو مظاهر كل منها حسب طبيعة المواقف الاجتماعية ومدي مناسبة جانب منها للموضوع والمقام.
نظرة رومانتيكية إلي المساواة
وقد أدت الرغبة في تأكيد الذات إلي نظرة رومانتيكية للمساواة كقيمة من القيم المهمة في المجتمع المصري، حيث يشعر الفرد في قرارة نفسه بالنقمة والسخط علي الأوضاع التي توجد التمايز والتفرقة أيًا كان نوعها، ومهما تكن دوافعها ومبرراتها. ويتصل بهذا عدم الاعتراف بالسلطة أو الرئاسة والتنكر لها في أعماق الشعور. وذلك علي الرغم من تلك المسوح الخارجية التي يتخذها الناس إزاء الرؤساء من عبارات التفخيم وطقوس الاحترام، فإن ذلك في معظم الحالات يخفي شعورًا دفينًا بالامتعاض تدل عليه عبارة «فلان عامل ريس». والفهلوي لا ينظر إلي السلطة أو الرئاسة علي أنها ضرورة من ضرورات التنظيم يتطلبها توزيع المسئوليات وتحمل الأعباء في التنظيم الاجتماعي والإداري، وإنما هي في نظره قوة قاهرة يذعن لها المرء إذعانًا لما تبعثه في النفس من الهيبة والخوف. وهو لا ينتظر من السلطة المقتدرة أي نوع من الألفة أو رفع الكلفة، بل يتوقع أن يجدها حازمة صارمة كأنما ذلك من طبيعة الحكم والسلطان. ولا شك أن الخوف من السلطة أو هيبتها من الأمور التي طبعتها الظروف التاريخية في شخصية المصري نتيجة لعلاقة الحاكم واستجابة المحكومين. قد أشار «الجبرتي» حين وصف شعور الأهالي نحو الملتزمين بجمع الضرائب إلي أن الفلاحين كانوا يهابون الملتزم القوي، «أما إذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه، وماطلوه وسموه بأسماء النساء». واستمرت تقاليد الحكم في أسرة محمد علي وفي عصر الاحتلال البريطاني مؤكدة لهذه الظاهرة نحو السلطة والحكم، يلوح الحاكم بالأمل إلي قلة من الناس، ويستثير الخوف باليد الأخري للغالبية العظمي من الشعب، بيد أن هذه النظرة إلي المساواة دافع قوي من الدوافع المحركة لسلوك المصري، ومن القيم الأخاذة التي تستهويه.
ويلحظ المتأمل أن من أهم المعدات النفسية التي تتزود بها شخصية الفهلوي، هي عملية «الإزاحة والإسقاط»، وبفضل إزاحة المسئولية عن نفسه إلي غيره من الناس أو إسقاطها علي أمور خارج نطاق الذات يتيسر تبرير ما قد يقع فيه المرء من مواقف محرجة أو تقصير في المسئوليات الاجتماعية. وتزداد «الفهلوة» بازدياد القدرة علي إحكام هذه العمليات الإزاحية والإسقاطية. وعلي هذا النحو يعتبر استبطان الواجب أو الشعور بدفعته أمرًا مشكوكًا في قيمته، إنما تكون تأدية المرء لأعماله من قبيل الطمع في الثواب أو الخوف من العقاب. أو «لحاجة في نفس يعقوب»، وليس بدافع «تحقيق الذات» عن طريق العمل الاجتماعي المنتج. ولعل من أهم مظاهر هذا الإسقاط ما يتردد علي الألسنة من شكوي الزمان والتبرم بالعزول وإلقاء التبعة دائمًا علي «الحكومة»، أو علي البلد اللي من غير عمدة، أو علي الإدارة أو علي أية قوة خارجية يمكن عن طريقها تبرير النتائج. ولا شك أن مثل هذا الإسقاط عملية من العمليات النفسية العامة في الجنس البشري، لكنها تختلف في كمها ودرجتها حسبما يتطلبه التكيف للمواقف الاجتماعية. ونجد هنا أيضًا أن الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاش فيها المصري آلاف السنين جعلت تكيفه يعتمد إلي حد كبير جدًا علي أداة الإسقاط أو الإزاحة النفسية، فالدنيا في نظره دول، وللأيام تصريف.
الطمأنينة إلي العمل الفردي
ومن مظاهر الشخصية الفهلوية الطمأنينة إلي العمل الفردي، وإيثاره علي العمل الجماعي. وليس هذا من قبيل الأنانية لمجرد الأنانية، وإنما هو تأكيد الذات من ناحية، وانصراف عن احتكاك الذات بغيرها، مما قد يعرضها لمواقف حساسة قد تنكشف فيها أو قد لا تطمئن إليها أو تذوب فيها شخصية الفرد في شخصية الآخرين. هذا إلي جانب نظم الجزاء الفردية، وتفتيت الملكية، وبقايا فكرة العصبيات القبلية، كل هذا أدي إلي تنمية هذه السمة كأداة من أدوات الطمأنينة في حياة الأفراد والجماعات في المجتمع الكبير. ولا شك أن الرغبة في إيثار العمل الفردي إنما هي رد فعل لكثير من أنظمتنا وأوضاع حياتنا التي تؤكد الإذعان الشكلي لما يطلق عليه بعض علماء النفس اسم «الأنا الاجتماعية»، تمييزًا لها عن «الأنا النفسية التلقائية». فالأولي هي التي تنطبع وتتشكل وتظهر في صورة ما اصطلح عليه المجتمع من استجابات وسلوك، والثانية نتيجة للتمثل الواعي لأوضاع هذا المجتمع، والاستجابة لها استجابة تعبر عن «التفاعل الكيميائي» بين هذه الأوضاع والفرد. ولعل ضغوط المجتمع في مؤسساته المختلفة وتأكيده لشكلية الإذعان لما يريده من استجابات، قد كونت في الواقع رغبة مضادة في الاتجاه نحو الفردية الجامحة وإيثارها علي الانضواء في قيود الجماعة كلما استطاع المرء إلي ذلك سبيلاً، وإذا كان لابد من العمل الجماعي فلا بأس من الموافقة الشكلية من قبيل المجاملة دون التزام حقيقي بما تتطلبه المسئولية الجماعية. ولا شك أن «روح الفريق»، ومعرفة دور المرء في المجموعة، والقيام بهذا الدور الذي يعتبر تنفيذه جزءًا من تحقيق الهدف العام، إلي جانب روح الولاء للجماعة واحترام دستورها رغم ما قد يكون للفرد من اختلاف شخصي أو وجهة نظر خاصة طالما كان عضوًا في الجماعة، كل هذا من المشكلات الرئيسية التي تصادفنا في كثير من مرافق حياتنا. بل إنها أصبحت جزءًا من تنظيمات حياتنا المعترف بها، والتي يمكن سرد المبررات اللازمة لوجودها، وفي المثل العامي «قدرة الشرك ما تفورش»، و«حصيرة ملك ولا بيت شرك». ولعل من أهم أسباب هذا الإيثار للعمل الفردي عدم إتاحة الفرصة للجماعة في مصر أن تستكمل أطراف أي عمل جمعي، وأن يشعر أفرادها بأنهم قاموا كجماعة بعمل ناجح اشتركوا في خطته، وأسهموا في تنفيذه، واستمتعوا بنتائجه، وإنما سار التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي عاش فيه المصري علي أن الأمور تراد له بطريقة «سنية» أو تأتي إليه من قبيل «الهبات» أو «الإحسان» أو غير ذلك من الصور. ومن شأن النجاح في العمل الجماعي أن يشعر أفراد الجماعة بالطمأنينة والثقة بالنفس، وبقيمة منهج العمل الجماعي كأداة فاعلة مثمرة لتماسك الجماعة ولصالح الأفراد أنفسهم.
أقصر الطرق
وتتصل بهذه النزعة إلي الطمأنينة في الفردية، رغبة في الوصول إلي الهدف بأقصر الطرق وأسرعها، وعدم الاعتراف بالمسالك الطبيعية. وقد يؤدي هذا أحيانًا إلي الحماسة والإقدام والاستهانة بالصعاب، مما ييسر علي المرء تخطي الحواجز وبلوغ الهدف، ولكنه في أحيان أخري قد يؤدي إلي استهلاك الحماسة، وانطفاء اللهب وفتور الهمة إذا استدعي الأمر المثابرة أو المصابرة. فكثيرًا ما نسمع من طلابنا، بل نذكر نحن من أيام تلمذتنا، عدم الاعتراف بالمذاكرة كوسيلة طبيعية للنجاح في الامتحانات، بل إن «الفهلوي» هو الذي ينجح دون التزام للعناء الذي يتطلبه التحصيل. وإن صناعنا رغم حذقهم ومهارتهم ينقصهم في إنتاجهم شيء من المعاناة في «التشطيب» لو توفروا عليه لبلغوا غاية في الإنتاج الفني. كما أنه من السهل أيضًا إثارة الناس وتحميسهم لفكرة معينة والبدء في تنفيذها، ولكن الاستمرار فيها ورعايتها وصيانتها أمر أصعب.
تحفظ تقتضيه الموضوعية
هذه لمحات عن بعض مقومات النمط الاجتماعي لشخصية «الفهلوي»، لا يمكن اعتبارها كاملة أو شاملة، فهناك عناصر أخري كثيرة منها مقومات الرجولة والشرف ومفاهيمها، وموقف الفهلوي من الأمور الجديدة والمستحدثات، وموقفه من الإنتاج والعمل، وغير ذلك مئات من العناصر والمواقف التي تحتاج إلي تحليل عميق. ولا أزعم أن ما أوردت من حقائق أمور ثابتة لا يختلف عليها اثنان، أو أنني قد وصلت إليها عن طريق استقصائي شامل، وإنما هي خطرات استخلصتها عن طريق الملاحظة والمشاركة في صميم الحياة، في ضوء فروض معينة، وربما ملت فيها نحو مواطن الضعف أكثر من مواطن القوة وهي لا تزال فروضًا تحتاج إلي المزيد من المناقشة واستكمال الأدلة التي تثبتها أو تدحضها. ومع ذلك فإني أعتقد أن مثل هذا التحليل لأنماط الشخصية الاجتماعية في فترة زمنية ما، والعوامل المختلفة التي أدت إلي تشكيلها ضرورة لازمة وخطوة جوهرية في إعادة بناء المجتمع، ووسيلة واعية من وسائل تطويره، إذ لا مفر من أن يكون الأفراد أنفسهم حملة الإصلاح ومحدثيه، كما أنه لا مفر من أن نتصور نتائج الإصلاح في نوع الأفراد الذين يسعي المجتمع إلي تكوينهم ولذا يمكن اعتبار هذا المقال «دعوة» إلي مثل هذا المنهج أكثر منه معالجة مباشرة للموضوع.
ويتضح من هذا العرض لمقومات «الفهلوي» أنها كانت وليدة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأنواع المؤسسات والنظم التي ترتب كيان المجتمع، وأنها ليست مقومات «طبيعية» في المصري، نشأت ونمت وستظل هي مقوماته أبدًا، وإنما هي قابلة للتغيير والتحوير ما دمنا نؤمن بما يقرره العلم والتاريخ بأن الإنسان قابل للتعلم وقادر علي تعديل سلوكه. وقد تعدلت فعلاً بعض قيم هذا النمط واتجاهاته في النمو الاجتماعي الجديد. كذلك يلحظ القارئ أن كثيرًا من مقومات هذه الشخصية كان قوة سلوكية يدخرها الفرد في ظروف معينة، ولكنها في نفس الوقت تعاني كثيرًا من المثالب والنقائص التي لا تستقيم كنمط مثالي لمجتمعنا الجديد.
فما هذا النمط الاجتماعي للشخصية الجديدة المنشودة؟ وما العوامل التربوية التي يمكن أن تخلقه وتحققه؟
أحب أن أطلق علي هذا النمط للشخصية المصرية الجديد اسم «الشخصية المنتجة». فما مقوماتها ومظاهر سلوكها؟ هذا ما سأحاول معالجته في المقال التالي.
الفهلوة وليدة الظروف
تحدثنا عن النمط الاجتماعي للشخصية المصرية، وأطلقت عليها لفظ «الفهلوة»، ورسمت مقومات تلك الشخصية، وذكرت أن مصر في نهضتها الحاضرة تحتاج إلي نوع جديد من الشخصية، أسميته الشخصية المنتجة. فما مقومات هذه الشخصية، وما سمات نشاطها؟
وأود أن أحاول تصوير مثل أعلي للشخصية في إطارها الاجتماعي. والمثل الإنسانية العليا ليست أمورًا ميتافيزيقية، وإنما هي حقائق موضوعية قابلة للتحليل وخاضعة للاستقراء في ضوء التجارب البشرية عبر التاريخ. إن هذه المثل إنما تعبر دائمًا عن مقاصد تسعي المجتمعات إلي بلوغها لتنمية أفرادها تنمية تتفق مع أقصي ما يمكن أن يصل إليه التراث البشري. وقد نختلف في قيمة هذا المثل أو ذاك، كما قد نختلف في أي أنواع الأطعمة أكثر مجلبة للصحة والعافية، ولكنا نستطيع عن طريق تحليل المواد الغذائية ومعرفة احتياجات الجسم في نموه ونشاطه أن نقدر الغذاء الضروري، وعلي أقل تقدير نستطيع أن نعرف الأغذية السامة. وها هو الشأن في أمر المثل العليا، إذ نستطيع إخضاعها للتحليل الموضوعي علي أساس العوامل المكونة للطبيعة البشرية وما تحدثه ظروف معينة من آثار يمكن تتبعها في سلوك الإنسان واتجاهاته.
وإذا كان تكوين الشخصية نتيجة لا ستغراق الفرد ومشاركته وإحساسه بالحياة الاجتماعية ومناشطها، فقد أصبح من الضروري معرفة الظروف والقوي التي تهيئ المجال لظهور الشخصية المنتجة. والإنسان بسبيله إلي التحكم في الطبيعة ومواردها عن طريق العلم، وعليه أن يخطط لتنظيم هذه الموارد لا لمجرد استغلالها وتكديسها، وإنما لاستهلاكها والاستمتاع بها آخر الأمر. ومن هنا جاءت أهمية التخطيط الاقتصادي والاجتماعي في الحياة الديمقراطية ليمنع استئثار قلة معلومة بمصاير غالبية مجهولة دون أن تلتزم نحوها بأي نوع من المسئوليات الاجتماعية. وتروي صحائف التاريخ أن أصحاب رءوس الأموال وأرباب النفوذ الاقتصادي، إنما يعملون لزيادة إنتاجهم سعيًا وراء الربح والمنفعة المادية أو السلطان، وأن الغاية الأولي من هذه الزيادة في الإنتاج الرأسمالي ليست استهلاكها وإنما حرثها من جديد في رأس المال ليزداد حجمه، وبالتالي يضعف إنتاجه. وهكذا ركز هؤلاء جهودهم في خدمة الجهاز الاقتصادي. وأصبحوا من الناحية السيكولوجية سدنة للتنظيم الذي بنوه بأنفسهم. أما أولئك الذين لا يملكون من رأس المال شيئًا والذين يبيعون جهدهم، فقد غدت مصائرهم خاضعة لتحكم أصحاب العمل خصوصًا قبل أن يظهر التنظيم النقابي في العالم، وأصبحوا من الناحية السيكولوجية طفيليين معتمدين علي غيرهم، ومشدوهين بكل ما يصطنعه أصحاب النفوذ الاقتصادي من قيم ورموز، وفي أحسن الأحوال مقلدين له.
وهكذا نري، إذا استعرضنا تطور التاريخ، أن مقومات الشخصية قد ارتبطت بما أحاط بها من ظروف اقتصادية واجتماعية. فقد كان الفرد في العصور الوسطي في الغرب مثلا لا يفكر في كيانه إلا في نطاق الدور الاقتصادي والاجتماعي الذي يقوم به، فهو فارس أو أمير أو صانع أو رقيق أرض، فلم يك ثمة مجال للحركة الاجتماعية من دور إلي دور، أو حتي مجال للانتقال من إقليم إلي إقليم بل من بلد إلي بلد. وفيما عدا حالات نادرة كان عليه أن يبقي حتي يقضي نحبه في البلد الذي ولد فيه. وكان علي الصانع الذي ينتمي إلي النقابة ألا يبيح سرًا من أسرار المهنة إلي شخص آخر، وعليه أن يبيع سلعة في سوق معينة وبأسعار معينة. واعتبر كل وضع من الأوضاع الاجتماعية أمرًا مسلمًا به، كأنما هو في طبيعة الكون وسنة الحياة. ونتج عن كل هذه الظروف ما يعرف عادة بعقلية العصور الوسطي أو نفسية العصور الوسطي.
من الفهلوي إلي الشخصية المنتجة
لا مندوحة لنا هنا من النظر إلي الشخصية المنتجة في محيط التنظيم الاقتصادي والاجتماعي اللذين يساعدان علي خلقها وتكوينها. ولذلك يعتبر التخطيط الاقتصادي والاجتماعي شرطين لازمين لتكوين نوع الشخصية المطلوبة وإذا كنا نؤكد هنا دور العوامل المادية والقوي الاجتماعية في تكوين الفرد فإن الغرض الجوهري من هذا هو تقدير مدي تأثيرها حتي يمكن للإنسان أن يوجهها ويسيطر عليها، وحتي لا تكون لمعاييرنا وقيمنا وتربيتنا مجرد دلالات عاطفية جوفاء. وليس معني هذا أيضًا أن يذعن الإنسان لتأثيرات هذه القوي الاقتصادية إذعانًا قدريًا كما لو كانت أمورًا محتومة لا مناص منها، وأن دوافعه وسلوكه أمور تسيرها دفعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وبهذا يستطيع أن يبرر كل شيء وأن يجد مخرجًا لمسئولياته ومعذرة لنقائضه. فالإنسان في هدْي اعتبارات معينة يستطيع أن يكون النظام الاقتصادي الذي ينشده، لكن هذا لن يتأتي عن طريق أسطورة حرية الفرد المجردة، بل لابد من تحليل قابليات الأوضاع المادية والاجتماعية ومعرفة تفاعلاتها وآثارها، حتي يمكن تقدير النتائج التربوية التي يسعي الإنسان إلي بلوغها.
وتكوين «الشخصية المنتجة» هدف من أهداف التربية في المجتمع العربي الجديد، وهي تسمية نريد أن نحدد معالمها بالنسبة لبعض المسميات الأخري في مجال دراسات الشخصية. فهناك الشخصية المتكاملة التي تتكيف تكيفًا متسقًا مع مقتضيات الظروف المحيطة بها، بحيث لا يوجد بين مستوياتها الفكرية والانفعالية والسلوكية صراع أو أزمات نفسية. كما يتميز بالمرونة والقدرة علي إدراك الفروق بين مختلف وجهات النظر، والتعرف علي أوجه الاتفاق. والخلاصة، أن نمو الفرد حسب مقتضيات الظروف واستبطانه لمستلزماتها وقيمها يؤدي إلي ما اصطلح علي تسميته بالشخصية المتكاملة. وتوحي التسمية بأن هذا النوع من الشخصية هو الذي يعمل حين يحسن اصطناع التألم. ولهذا السبب لا أستحسن كثيرًا استعمال هذا المصطلح كهدف من أهداف التربية في تكوين الشخصية، ومن الأجدي أن يقتصر علي المستوي السيكولوجي لمعالجة الشخصية.
وليست الشخصية المنتجة أيضًا التي تعمل دائمًا دون انقطاع أو ككل، فقد يعمل الإنسان كادحًا دون استمتاع بما يعمل، وقد ينتج دون إدراك لقيمة ما ينتج أو الغاية التي يهدف إليها هذا الإنتاج. وقد يعمل المرء دون اختيار لنوع العمل الذي يقوم به، وإنما تضطره الظروف إلي أن يبيع عمله وإلي أن يستمر في هذا البيع الذي لا مناص منه. وفي كل هذه الحالات لا تعتبر الشخصية من النوع المنتج الذي نقصده، كما لا تعتبر الظروف الاجتماعية معينة أو مهيِّئة لتكوين الشخصية المنتجة.
كثيرة هي المؤلفات التي تناولت بالبحث عن الشخصية المصرية وأنماطها المختلفة ومن أهم الكتب والدراسات التي ظهرت في هذا الصدد كتاب التربوي الكبير د.حامد عمار «في بناء البشر» والذي ننشر منه الفصل الخاص بالشخصية الفهلوية وهو النمط الذي ساد في الشخصية المصرية خلال العقود الأخيرة، ونلحقه بالتحول الذي طرأ علي تلك الشخصية السلبية إلي شخصية منتجة.
ذكرنا أن لكل مجتمع نمطًا اجتماعيًا لشخصيات أفراده، يمثل الصورة المثلي لمجموعة من السلوك والقيم والاتجاهات التي يسعي إليها أعضاء ذلك المجتمع، ولا يقصد بهذا النمط جملة من الصفات المعينة، وإنما هو استجابات مقننة متواترة في مواقف معروفة يتوقعها المجتمع ويؤثرها علي غيرها من أمثال تلك المواقف. وتعمل مختلف القوي والمؤثرات التعليمية علي تشكيل شخصية الفرد في إطار هذا النمط الاجتماعي مما يضمن التماسك والاستقرار في حياة تلك الجماعة. وقد أشرت أيضًا إلي أن مفهوم النمط الاجتماعي مشابه في تصوره لفكرة «الوسط» في العينة الإحصائية، فقد ينحرف عنه بعض أفراد ذلك المجتمع يمينًا ويسارًا، إما لظروف فردية خاصة في نموهم، وإما لعوامل فكرية واجتماعية تجعل هؤلاء الأفراد أكثر وعيًا بالنمط في مجال التأثير به أو رد الفعل له.
وقد زعمت أن النمط الاجتماعي لشخصية المصري هو الذي اخترت له لفظ «الفهلوي»، وأن مظاهر السلوك والقيم لهذا النمط في مختلف المواقف والعلاقات الاجتماعية، قد تكونت نتيجة لتضافر الأبعاد التاريخية والاقتصادية والاجتماعية التي جعلت منها التكيف السوي الناجح لمواجهة ظروف الحياة المصرية في عصور التاريخ. فما مقومات هذا النمط؟ وما مظاهر سلوكه؟ وما قيمه واتجاهاته؟
التكيف السريع
لا شك أن أول مظهر من مظاهر سلوك «الفهلوي» قدرته علي التكيف السريع لمختلف المواقف، وإدراك ما تتطلبه من استجابات مرغوبة، والتصرف وفقًا لمقتضياتها إلي الحد الذي يراه مناسبًا، أليس الفهلوي هو الذي يستطيع أن يخالط «الجن الأحمر» ويعايش في نفس الوقت «ملائكة السماء والأرض» دون أن يجد في ذلك غضاضة أو دون أن يتطلب هذا منه جهدًا جهيدًا؟
واستطاع المصري بفضل هذه السرعة في التكيف أن يتقبل الأمور الجديدة في كثير من الأحيان ودون ارتباك أو حيرة. ومظاهر حياتنا المالية والاجتماعية والروحية تدل علي هذه القدرة الفائقة في الالتقاط والاحتضان. فقد زرع الفلاح المصري الحبوب مدة طويلة، ومع ذلك فقد أقبل علي زراعة القطن ثم القصب ثم الفاكهة والخضروات، حيث أدرك قيمتها وغدت إنتاجية الفدان في هذه المحاصيل أعلي بكثير من البلاد الأخري. وحين أحس المصري بأهمية التعليم المدني الحديث أخذ يقبل عليه إقبالاً ملحًا بعد أن تردد أو تشكك في قيمته أول الأمر. كذلك كان لمصر في تاريخها الديني شأن مع الموسوية، واحتمت المسيحية الناشئة في القرنين- الثاني والثالث- الميلاديين في صحاري مصر ومعابدها من عسف الرومان واضطهادهم، ثم جاءها الإسلام فاحتضنته، كما احتضنت لغة قرآنه علي نحو لا تزال تفاصيله من أسرار التاريخ. وتزاوج المصري مع غيره من الأجناس الفاتحة أو المغلوبة علي أمرها دون أن يجد في ذلك حرجًا، ودون أن ينقص هذا من كبريائه، واستمتعت أخلاط هذه العناصر بمقومات الحياة المصرية فأكلت الفول المدمس والحلاوة الطحينية، وجلست علي «المقاهي» واستمعت إلي «أم كلثوم».
بيد أن هذه القدرة علي التكيف السريع تتميز بجانبين متلازمين: أحدهما: المرونة والفطنة والقابلية للهضم والتمثل للجديد، والآخر: هو المسايرة السطحية والمجاملة العابرة التي يقصد منها تغطية الموقف وتورية المشاعر الحقيقية وكل ما يندرج تحت مضمون عبارة «أهو كلام» أو «فك مجلس» مما لا يعني الارتباط الحقيقي بما يقوله المرء أو بما قد يقوم به من مظاهر سلوكية. ولا شك أن أوضاع مصر السياسية في طول تاريخها وعرضه قد أدت إلي إيجاد هذا العنصر في النمط الاجتماعي للشخصية المصرية، فقد تعاقب علي حكم مصر في تاريخها القديم والحديث حكام وولاة وسلاطين وملوك، وكان علي الشعب أن يذعن لمشيئتهم جميعًا وإلا تعرض لألوان مختلفة من العقاب والنقمة. وأصبح هذا التكيف السطحي في مثل هذه المواقف ضرورة من ضرورات البقاء في ظروف متغيرة لا ضابط لها ولا مقدر لعواقبها. ولعل من أتفه الأمثلة علي ذلك، ما كان يقوم به المحتسب أيام الدولة المملوكية مثلاً من مناداة الناس بالاحتفال بشفاء السلطان من مرض كما حدث عندما عوفي السلطان الناصر «محمد بن قلاوون» من كسر في يده، حيث استمرت الزينات أسبوعًا كاملاً، وظلت «الكوسات بالبشائر تضرب والطبول تدق ولم يبق أمير إلا عمل في بيته فرحًا» علي حد تعبير صاحب السلوك. كذلك نادي المحتسب بإقامة الزينات عندما شفي السلطان «الغوري» من رمد ألم بعينيه، وقد أسهب «المقريزي» أيضًا في وصف الاحتفال بهذه المناسبة. حقيقة كان علي الشعب أن يفرح حين يراد له أن يفرح، وأن يحزن حين يقضي عليه باصطناع مراسم الحزن.
ثم إن تعاقب الحكام إنما كان أمرًا يعني الطوائف المتنازعة علي السلطان والنفوذ، وكان علي الشعب أن يقول «إن الدنيا لمن غلب»، فيصفق له، وينعي علي من دانت دولته، ومع ذلك كله فإن الشعب في قرارة نفسه كان يقول «شهاب الدين.. من أخيه..» وجاءت صفحة الاستعمار فأكدت ظاهرة التكيف السطحي، فقد راجت الشائعة بإسلام «بونابرت» وتزوج «مينو» من مسلمة، ونادي الإنجليز بأن اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، ولبس بعضهم زي المشارقة، واصطنعوا بعض مظاهر السلوك المصري، واستجاب الناس لكل هذا في ظاهره، وبادلوهم سطحية بسطحية، ولكنهم في الحقيقة «لم يأكلوا منه ولم يشربوا».
علي أن ضرورة هذا التكيف السطحي قد فتحت مجالاً واسعًا لجعله أداة من أدوات الوصول والانتهاز لفرص الحياة، وغدا علي مر الزمن وتوالي الأحداث عنصرًا من عناصر «الفهلوة» استلزمته مواجهة ما أحاط بالفرد من ظروف وأحداث.
نكتة مواتية
واستتبع هذا التكيف نكتة سريعة مواتية أيضًا، وغدت من الخصائص التي يتصف بها النمط المصري. وارتباط ذلك بما عاش فيه المصري من حياة اجتماعية، أمر يمكن إدراكه بوضوح إذا تذكرنا أنه لم يكن من المنتظر أن تمر بالمصري تلك الأحداث المتعاقبة سراعًا، وتنقلب أمامه الأمور تقلبًا لم يعمل علي إحداثه أو لم يشارك فيه مشاركة فاعلة، دون أن يعلق كل هذا تعليقًا ساخرًا مرًا أحيانًا، ومتهكمًا أحيانًا أخري ويظهر أن النكتة كانت تحدث لديه ترضية ذاتية تريحه وتريح غيره ممن يستمع إليها، وتصرفه عن الموضوع أو الواقع في حد ذاته. ومن ثم كانت كثير من النكات المصرية البارعة تعويضًا عما أصاب الشعب من كبت سياسي واجتماعي. وتنفيسًا له من الضائقات التي تنغصه مما يجعل مواجهة الحياة أمرًا محتملاً. يتمثل هذا الاتجاه في قصة الشيخ «علي الليثي»، وكان إمامًا للخديو إسماعيل، حيث كتب حامل الأختام أحمد خيري مهردار علي باب حجرته «إنما نطعمكم لوجه الله..»، فأدرك الشيخ مغزاها فرد عليه بالزجل التالي:
كان لي طاحونة جوا الدار/ تدور وتطحن ليل ونهار
دورت فيها التور عصي/ علقت فيها المهر دار
كما تتمثل النكتة في مواجهة الواقع في قصة السائل الذي وقف علي باب بيت يستجدي أصحابه، فقال: «تصدقوا علي فإني جائع»، قالوا: «إلي الآن لم نخبز». قال: «فكف سويق»، قالوا: «ليس عندنا سويق»، قال: «فشربة من ماء فإني عطشان»، قالوا: «ما أتانا السقاء». قال: «فيسير من الدهن أضعه في رأسي»، قالوا: «من أين لنا دهن؟» فقال: «يا أولاد ال... فما قعودكم هنا في داركم. قوموا واشحتوا معي».
ولا أريد أن أزعم هنا أن المصري قد انفرد بالنكتة دون غيره من شعوب الأرض، وإنما تميز قطعًا بتنميته لأفانينها، والرغبة في الاستمتاع بها كإحدي القيم المرغوبة في تكوين الشخصية. ولا شك أن من أهم الوظائف التي قامت بها النكتة المصرية هي تغطية الموضوع وأخذه علي المحمل الهين، والانصراف عنه انصرافًا يعفي الشخصية من التفكير الجدي في واقعه، وكأن «فرقعة» النكتة تنهي المشكلة أو هي في حد ذاتها حل لها.
تأكيد الذات
ومن مظاهر «الفهلوة» أيضًا المبالغة في تأكيد الذات، والميل الملح إلي إظهار القدرة الفائقة والتحكم في الأمور. وهنا تجب التفرقة بين الثقة بالنفس التي تنتج عن طمأنينة المرء إلي نفسه والإدراك المحكم للعلاقة بين المعدات الشخصية والمواقف الخارجية، وبين تأكيد الذات الذي ينجم عن فقدان الطمأنينة وعدم الرغبة في تقدير المواقف تقديرًا موضوعيًا، هذا فضلاً عن شعور حقيقي مستتر- لا يستطيع المرء أن يبوح به- بعدم الكفاءة والنقص إزاء ما يضطرب فيه من مجالات. والتكيف الذي ينتج عن مثل هذا التأكيد للذات قد يظهر في صورة الاستهتار أحيانًا، والتهكم علي الغير أحيانًا أخري، أو في القدرة البارعة المبدعة في حل الأمور وإنجازها «هوا أو بالإصبع أو بجرة قلم». فالإفراط والمبالغة والتزيد من سمات الفهلوي، ومسألة المظاهر الخارجية، و«كبر الجرن» من قبيل تأكيد الذات أيضًا، تبدو حتي في المباني والعمارات التي كثيرًا ما يبز مظهرها الخارجي تنظيم بنائها وإتقانها في الداخل. ويبدو كذلك فيما يعرف عادة «بالقنزحة» في السلوك والكلام.
ولعل كثيرًا مما يعرف من البذخ في «العزائم»، أو أهمية الانطباعات الأولي، أو التأكيد علي مسائل «الكرامة الشخصية» والاهتمام بالطقوس العامة في الأفراح والمآتم، وكل ما يتصل بمجال «واجهة الشخصية» في مجال الفرد أو الجماعة، تنبعث جميعها من الرغبة في تأكيد الذات وما تقمصته من تنظيمات وأساليب. وليس غريبًا أن تكون «الكلمة الحلوة» من أهم الوسائل التي يعتبرها المصري كفيلة بأن تأسر غيره في نوع العلاقات المباشرة وجهًا لوجه. كما أنه ليس من الغريب أيضًا أن تكون القدرة علي تجريح الغير والتعريض به «والتريقة» عليه في غيابه من الصفات التي تستهوي السامعين، وتجعل ممن يصطنعها موضع الإعجاب والتقدير، فالتهوين من قدر الآخرين ومن قيمة أعمالهم هو الجانب السلبي لتأكيد الذات. فإن الذي «لا يعجبه العجب ولا الصيام في رحب» هو وحده الذي يفهم، وهو وحده القادر الذي لا تخفي عليه بواطن الأمور، وهو وحده الذي يستطيع أن «يجيب السبع من ديله».
ولعل هذا الجانب السلبي في تأكيد الذات قد انعكس في كثير من قصص «جحا». فالمتأمل في نوادره ونكاته يلحظ أنه رغم ضعفه وطيبة قلبه يستطيع في نهاية الأمر أن «يضحك» علي الناس وأن ينتصر عليهم وأن يظهر جهلهم ويفضح غباءهم. ألم يجمع الناس علي وليمة استطاع قبل البدء فيها أن يعثر علي ثوبه المفقود، وعندئذ صرف المدعوين بقوله «جحا أولي بلحم توره»؟ ثم ألم يجمع الناس ثلاث مرات ليحدثهم في موضوع، فصرفهم في المرة الأولي لأنهم لا يعلمون الموضوع، وصرفهم في المرة الثاني لأنهم يعلمون الموضوع فلا مبرر إذاً في الاستماع إليه، وصرفهم في المرة الثالثة محتجًا بأن من يعرف منهم يستطيع أن يعلم من لا يعرف. والواقع أن جانب التهكم وتجريح الغير هو الجانب الثاني للبراعة والحذق والقدرة الشخصية في مقومات تأكيد الذات، تبدو مظاهر كل منها حسب طبيعة المواقف الاجتماعية ومدي مناسبة جانب منها للموضوع والمقام.
نظرة رومانتيكية إلي المساواة
وقد أدت الرغبة في تأكيد الذات إلي نظرة رومانتيكية للمساواة كقيمة من القيم المهمة في المجتمع المصري، حيث يشعر الفرد في قرارة نفسه بالنقمة والسخط علي الأوضاع التي توجد التمايز والتفرقة أيًا كان نوعها، ومهما تكن دوافعها ومبرراتها. ويتصل بهذا عدم الاعتراف بالسلطة أو الرئاسة والتنكر لها في أعماق الشعور. وذلك علي الرغم من تلك المسوح الخارجية التي يتخذها الناس إزاء الرؤساء من عبارات التفخيم وطقوس الاحترام، فإن ذلك في معظم الحالات يخفي شعورًا دفينًا بالامتعاض تدل عليه عبارة «فلان عامل ريس». والفهلوي لا ينظر إلي السلطة أو الرئاسة علي أنها ضرورة من ضرورات التنظيم يتطلبها توزيع المسئوليات وتحمل الأعباء في التنظيم الاجتماعي والإداري، وإنما هي في نظره قوة قاهرة يذعن لها المرء إذعانًا لما تبعثه في النفس من الهيبة والخوف. وهو لا ينتظر من السلطة المقتدرة أي نوع من الألفة أو رفع الكلفة، بل يتوقع أن يجدها حازمة صارمة كأنما ذلك من طبيعة الحكم والسلطان. ولا شك أن الخوف من السلطة أو هيبتها من الأمور التي طبعتها الظروف التاريخية في شخصية المصري نتيجة لعلاقة الحاكم واستجابة المحكومين. قد أشار «الجبرتي» حين وصف شعور الأهالي نحو الملتزمين بجمع الضرائب إلي أن الفلاحين كانوا يهابون الملتزم القوي، «أما إذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه، وماطلوه وسموه بأسماء النساء». واستمرت تقاليد الحكم في أسرة محمد علي وفي عصر الاحتلال البريطاني مؤكدة لهذه الظاهرة نحو السلطة والحكم، يلوح الحاكم بالأمل إلي قلة من الناس، ويستثير الخوف باليد الأخري للغالبية العظمي من الشعب، بيد أن هذه النظرة إلي المساواة دافع قوي من الدوافع المحركة لسلوك المصري، ومن القيم الأخاذة التي تستهويه.
ويلحظ المتأمل أن من أهم المعدات النفسية التي تتزود بها شخصية الفهلوي، هي عملية «الإزاحة والإسقاط»، وبفضل إزاحة المسئولية عن نفسه إلي غيره من الناس أو إسقاطها علي أمور خارج نطاق الذات يتيسر تبرير ما قد يقع فيه المرء من مواقف محرجة أو تقصير في المسئوليات الاجتماعية. وتزداد «الفهلوة» بازدياد القدرة علي إحكام هذه العمليات الإزاحية والإسقاطية. وعلي هذا النحو يعتبر استبطان الواجب أو الشعور بدفعته أمرًا مشكوكًا في قيمته، إنما تكون تأدية المرء لأعماله من قبيل الطمع في الثواب أو الخوف من العقاب. أو «لحاجة في نفس يعقوب»، وليس بدافع «تحقيق الذات» عن طريق العمل الاجتماعي المنتج. ولعل من أهم مظاهر هذا الإسقاط ما يتردد علي الألسنة من شكوي الزمان والتبرم بالعزول وإلقاء التبعة دائمًا علي «الحكومة»، أو علي البلد اللي من غير عمدة، أو علي الإدارة أو علي أية قوة خارجية يمكن عن طريقها تبرير النتائج. ولا شك أن مثل هذا الإسقاط عملية من العمليات النفسية العامة في الجنس البشري، لكنها تختلف في كمها ودرجتها حسبما يتطلبه التكيف للمواقف الاجتماعية. ونجد هنا أيضًا أن الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاش فيها المصري آلاف السنين جعلت تكيفه يعتمد إلي حد كبير جدًا علي أداة الإسقاط أو الإزاحة النفسية، فالدنيا في نظره دول، وللأيام تصريف.
الطمأنينة إلي العمل الفردي
ومن مظاهر الشخصية الفهلوية الطمأنينة إلي العمل الفردي، وإيثاره علي العمل الجماعي. وليس هذا من قبيل الأنانية لمجرد الأنانية، وإنما هو تأكيد الذات من ناحية، وانصراف عن احتكاك الذات بغيرها، مما قد يعرضها لمواقف حساسة قد تنكشف فيها أو قد لا تطمئن إليها أو تذوب فيها شخصية الفرد في شخصية الآخرين. هذا إلي جانب نظم الجزاء الفردية، وتفتيت الملكية، وبقايا فكرة العصبيات القبلية، كل هذا أدي إلي تنمية هذه السمة كأداة من أدوات الطمأنينة في حياة الأفراد والجماعات في المجتمع الكبير. ولا شك أن الرغبة في إيثار العمل الفردي إنما هي رد فعل لكثير من أنظمتنا وأوضاع حياتنا التي تؤكد الإذعان الشكلي لما يطلق عليه بعض علماء النفس اسم «الأنا الاجتماعية»، تمييزًا لها عن «الأنا النفسية التلقائية». فالأولي هي التي تنطبع وتتشكل وتظهر في صورة ما اصطلح عليه المجتمع من استجابات وسلوك، والثانية نتيجة للتمثل الواعي لأوضاع هذا المجتمع، والاستجابة لها استجابة تعبر عن «التفاعل الكيميائي» بين هذه الأوضاع والفرد. ولعل ضغوط المجتمع في مؤسساته المختلفة وتأكيده لشكلية الإذعان لما يريده من استجابات، قد كونت في الواقع رغبة مضادة في الاتجاه نحو الفردية الجامحة وإيثارها علي الانضواء في قيود الجماعة كلما استطاع المرء إلي ذلك سبيلاً، وإذا كان لابد من العمل الجماعي فلا بأس من الموافقة الشكلية من قبيل المجاملة دون التزام حقيقي بما تتطلبه المسئولية الجماعية. ولا شك أن «روح الفريق»، ومعرفة دور المرء في المجموعة، والقيام بهذا الدور الذي يعتبر تنفيذه جزءًا من تحقيق الهدف العام، إلي جانب روح الولاء للجماعة واحترام دستورها رغم ما قد يكون للفرد من اختلاف شخصي أو وجهة نظر خاصة طالما كان عضوًا في الجماعة، كل هذا من المشكلات الرئيسية التي تصادفنا في كثير من مرافق حياتنا. بل إنها أصبحت جزءًا من تنظيمات حياتنا المعترف بها، والتي يمكن سرد المبررات اللازمة لوجودها، وفي المثل العامي «قدرة الشرك ما تفورش»، و«حصيرة ملك ولا بيت شرك». ولعل من أهم أسباب هذا الإيثار للعمل الفردي عدم إتاحة الفرصة للجماعة في مصر أن تستكمل أطراف أي عمل جمعي، وأن يشعر أفرادها بأنهم قاموا كجماعة بعمل ناجح اشتركوا في خطته، وأسهموا في تنفيذه، واستمتعوا بنتائجه، وإنما سار التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي عاش فيه المصري علي أن الأمور تراد له بطريقة «سنية» أو تأتي إليه من قبيل «الهبات» أو «الإحسان» أو غير ذلك من الصور. ومن شأن النجاح في العمل الجماعي أن يشعر أفراد الجماعة بالطمأنينة والثقة بالنفس، وبقيمة منهج العمل الجماعي كأداة فاعلة مثمرة لتماسك الجماعة ولصالح الأفراد أنفسهم.
أقصر الطرق
وتتصل بهذه النزعة إلي الطمأنينة في الفردية، رغبة في الوصول إلي الهدف بأقصر الطرق وأسرعها، وعدم الاعتراف بالمسالك الطبيعية. وقد يؤدي هذا أحيانًا إلي الحماسة والإقدام والاستهانة بالصعاب، مما ييسر علي المرء تخطي الحواجز وبلوغ الهدف، ولكنه في أحيان أخري قد يؤدي إلي استهلاك الحماسة، وانطفاء اللهب وفتور الهمة إذا استدعي الأمر المثابرة أو المصابرة. فكثيرًا ما نسمع من طلابنا، بل نذكر نحن من أيام تلمذتنا، عدم الاعتراف بالمذاكرة كوسيلة طبيعية للنجاح في الامتحانات، بل إن «الفهلوي» هو الذي ينجح دون التزام للعناء الذي يتطلبه التحصيل. وإن صناعنا رغم حذقهم ومهارتهم ينقصهم في إنتاجهم شيء من المعاناة في «التشطيب» لو توفروا عليه لبلغوا غاية في الإنتاج الفني. كما أنه من السهل أيضًا إثارة الناس وتحميسهم لفكرة معينة والبدء في تنفيذها، ولكن الاستمرار فيها ورعايتها وصيانتها أمر أصعب.
تحفظ تقتضيه الموضوعية
هذه لمحات عن بعض مقومات النمط الاجتماعي لشخصية «الفهلوي»، لا يمكن اعتبارها كاملة أو شاملة، فهناك عناصر أخري كثيرة منها مقومات الرجولة والشرف ومفاهيمها، وموقف الفهلوي من الأمور الجديدة والمستحدثات، وموقفه من الإنتاج والعمل، وغير ذلك مئات من العناصر والمواقف التي تحتاج إلي تحليل عميق. ولا أزعم أن ما أوردت من حقائق أمور ثابتة لا يختلف عليها اثنان، أو أنني قد وصلت إليها عن طريق استقصائي شامل، وإنما هي خطرات استخلصتها عن طريق الملاحظة والمشاركة في صميم الحياة، في ضوء فروض معينة، وربما ملت فيها نحو مواطن الضعف أكثر من مواطن القوة وهي لا تزال فروضًا تحتاج إلي المزيد من المناقشة واستكمال الأدلة التي تثبتها أو تدحضها. ومع ذلك فإني أعتقد أن مثل هذا التحليل لأنماط الشخصية الاجتماعية في فترة زمنية ما، والعوامل المختلفة التي أدت إلي تشكيلها ضرورة لازمة وخطوة جوهرية في إعادة بناء المجتمع، ووسيلة واعية من وسائل تطويره، إذ لا مفر من أن يكون الأفراد أنفسهم حملة الإصلاح ومحدثيه، كما أنه لا مفر من أن نتصور نتائج الإصلاح في نوع الأفراد الذين يسعي المجتمع إلي تكوينهم ولذا يمكن اعتبار هذا المقال «دعوة» إلي مثل هذا المنهج أكثر منه معالجة مباشرة للموضوع.
ويتضح من هذا العرض لمقومات «الفهلوي» أنها كانت وليدة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأنواع المؤسسات والنظم التي ترتب كيان المجتمع، وأنها ليست مقومات «طبيعية» في المصري، نشأت ونمت وستظل هي مقوماته أبدًا، وإنما هي قابلة للتغيير والتحوير ما دمنا نؤمن بما يقرره العلم والتاريخ بأن الإنسان قابل للتعلم وقادر علي تعديل سلوكه. وقد تعدلت فعلاً بعض قيم هذا النمط واتجاهاته في النمو الاجتماعي الجديد. كذلك يلحظ القارئ أن كثيرًا من مقومات هذه الشخصية كان قوة سلوكية يدخرها الفرد في ظروف معينة، ولكنها في نفس الوقت تعاني كثيرًا من المثالب والنقائص التي لا تستقيم كنمط مثالي لمجتمعنا الجديد.
فما هذا النمط الاجتماعي للشخصية الجديدة المنشودة؟ وما العوامل التربوية التي يمكن أن تخلقه وتحققه؟
أحب أن أطلق علي هذا النمط للشخصية المصرية الجديد اسم «الشخصية المنتجة». فما مقوماتها ومظاهر سلوكها؟ هذا ما سأحاول معالجته في المقال التالي.
الفهلوة وليدة الظروف
تحدثنا عن النمط الاجتماعي للشخصية المصرية، وأطلقت عليها لفظ «الفهلوة»، ورسمت مقومات تلك الشخصية، وذكرت أن مصر في نهضتها الحاضرة تحتاج إلي نوع جديد من الشخصية، أسميته الشخصية المنتجة. فما مقومات هذه الشخصية، وما سمات نشاطها؟
وأود أن أحاول تصوير مثل أعلي للشخصية في إطارها الاجتماعي. والمثل الإنسانية العليا ليست أمورًا ميتافيزيقية، وإنما هي حقائق موضوعية قابلة للتحليل وخاضعة للاستقراء في ضوء التجارب البشرية عبر التاريخ. إن هذه المثل إنما تعبر دائمًا عن مقاصد تسعي المجتمعات إلي بلوغها لتنمية أفرادها تنمية تتفق مع أقصي ما يمكن أن يصل إليه التراث البشري. وقد نختلف في قيمة هذا المثل أو ذاك، كما قد نختلف في أي أنواع الأطعمة أكثر مجلبة للصحة والعافية، ولكنا نستطيع عن طريق تحليل المواد الغذائية ومعرفة احتياجات الجسم في نموه ونشاطه أن نقدر الغذاء الضروري، وعلي أقل تقدير نستطيع أن نعرف الأغذية السامة. وها هو الشأن في أمر المثل العليا، إذ نستطيع إخضاعها للتحليل الموضوعي علي أساس العوامل المكونة للطبيعة البشرية وما تحدثه ظروف معينة من آثار يمكن تتبعها في سلوك الإنسان واتجاهاته.
وإذا كان تكوين الشخصية نتيجة لا ستغراق الفرد ومشاركته وإحساسه بالحياة الاجتماعية ومناشطها، فقد أصبح من الضروري معرفة الظروف والقوي التي تهيئ المجال لظهور الشخصية المنتجة. والإنسان بسبيله إلي التحكم في الطبيعة ومواردها عن طريق العلم، وعليه أن يخطط لتنظيم هذه الموارد لا لمجرد استغلالها وتكديسها، وإنما لاستهلاكها والاستمتاع بها آخر الأمر. ومن هنا جاءت أهمية التخطيط الاقتصادي والاجتماعي في الحياة الديمقراطية ليمنع استئثار قلة معلومة بمصاير غالبية مجهولة دون أن تلتزم نحوها بأي نوع من المسئوليات الاجتماعية. وتروي صحائف التاريخ أن أصحاب رءوس الأموال وأرباب النفوذ الاقتصادي، إنما يعملون لزيادة إنتاجهم سعيًا وراء الربح والمنفعة المادية أو السلطان، وأن الغاية الأولي من هذه الزيادة في الإنتاج الرأسمالي ليست استهلاكها وإنما حرثها من جديد في رأس المال ليزداد حجمه، وبالتالي يضعف إنتاجه. وهكذا ركز هؤلاء جهودهم في خدمة الجهاز الاقتصادي. وأصبحوا من الناحية السيكولوجية سدنة للتنظيم الذي بنوه بأنفسهم. أما أولئك الذين لا يملكون من رأس المال شيئًا والذين يبيعون جهدهم، فقد غدت مصائرهم خاضعة لتحكم أصحاب العمل خصوصًا قبل أن يظهر التنظيم النقابي في العالم، وأصبحوا من الناحية السيكولوجية طفيليين معتمدين علي غيرهم، ومشدوهين بكل ما يصطنعه أصحاب النفوذ الاقتصادي من قيم ورموز، وفي أحسن الأحوال مقلدين له.
وهكذا نري، إذا استعرضنا تطور التاريخ، أن مقومات الشخصية قد ارتبطت بما أحاط بها من ظروف اقتصادية واجتماعية. فقد كان الفرد في العصور الوسطي في الغرب مثلا لا يفكر في كيانه إلا في نطاق الدور الاقتصادي والاجتماعي الذي يقوم به، فهو فارس أو أمير أو صانع أو رقيق أرض، فلم يك ثمة مجال للحركة الاجتماعية من دور إلي دور، أو حتي مجال للانتقال من إقليم إلي إقليم بل من بلد إلي بلد. وفيما عدا حالات نادرة كان عليه أن يبقي حتي يقضي نحبه في البلد الذي ولد فيه. وكان علي الصانع الذي ينتمي إلي النقابة ألا يبيح سرًا من أسرار المهنة إلي شخص آخر، وعليه أن يبيع سلعة في سوق معينة وبأسعار معينة. واعتبر كل وضع من الأوضاع الاجتماعية أمرًا مسلمًا به، كأنما هو في طبيعة الكون وسنة الحياة. ونتج عن كل هذه الظروف ما يعرف عادة بعقلية العصور الوسطي أو نفسية العصور الوسطي.
من الفهلوي إلي الشخصية المنتجة
لا مندوحة لنا هنا من النظر إلي الشخصية المنتجة في محيط التنظيم الاقتصادي والاجتماعي اللذين يساعدان علي خلقها وتكوينها. ولذلك يعتبر التخطيط الاقتصادي والاجتماعي شرطين لازمين لتكوين نوع الشخصية المطلوبة وإذا كنا نؤكد هنا دور العوامل المادية والقوي الاجتماعية في تكوين الفرد فإن الغرض الجوهري من هذا هو تقدير مدي تأثيرها حتي يمكن للإنسان أن يوجهها ويسيطر عليها، وحتي لا تكون لمعاييرنا وقيمنا وتربيتنا مجرد دلالات عاطفية جوفاء. وليس معني هذا أيضًا أن يذعن الإنسان لتأثيرات هذه القوي الاقتصادية إذعانًا قدريًا كما لو كانت أمورًا محتومة لا مناص منها، وأن دوافعه وسلوكه أمور تسيرها دفعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وبهذا يستطيع أن يبرر كل شيء وأن يجد مخرجًا لمسئولياته ومعذرة لنقائضه. فالإنسان في هدْي اعتبارات معينة يستطيع أن يكون النظام الاقتصادي الذي ينشده، لكن هذا لن يتأتي عن طريق أسطورة حرية الفرد المجردة، بل لابد من تحليل قابليات الأوضاع المادية والاجتماعية ومعرفة تفاعلاتها وآثارها، حتي يمكن تقدير النتائج التربوية التي يسعي الإنسان إلي بلوغها.
وتكوين «الشخصية المنتجة» هدف من أهداف التربية في المجتمع العربي الجديد، وهي تسمية نريد أن نحدد معالمها بالنسبة لبعض المسميات الأخري في مجال دراسات الشخصية. فهناك الشخصية المتكاملة التي تتكيف تكيفًا متسقًا مع مقتضيات الظروف المحيطة بها، بحيث لا يوجد بين مستوياتها الفكرية والانفعالية والسلوكية صراع أو أزمات نفسية. كما يتميز بالمرونة والقدرة علي إدراك الفروق بين مختلف وجهات النظر، والتعرف علي أوجه الاتفاق. والخلاصة، أن نمو الفرد حسب مقتضيات الظروف واستبطانه لمستلزماتها وقيمها يؤدي إلي ما اصطلح علي تسميته بالشخصية المتكاملة. وتوحي التسمية بأن هذا النوع من الشخصية هو الذي يعمل حين يحسن اصطناع التألم. ولهذا السبب لا أستحسن كثيرًا استعمال هذا المصطلح كهدف من أهداف التربية في تكوين الشخصية، ومن الأجدي أن يقتصر علي المستوي السيكولوجي لمعالجة الشخصية.
وليست الشخصية المنتجة أيضًا التي تعمل دائمًا دون انقطاع أو ككل، فقد يعمل الإنسان كادحًا دون استمتاع بما يعمل، وقد ينتج دون إدراك لقيمة ما ينتج أو الغاية التي يهدف إليها هذا الإنتاج. وقد يعمل المرء دون اختيار لنوع العمل الذي يقوم به، وإنما تضطره الظروف إلي أن يبيع عمله وإلي أن يستمر في هذا البيع الذي لا مناص منه. وفي كل هذه الحالات لا تعتبر الشخصية من النوع المنتج الذي نقصده، كما لا تعتبر الظروف الاجتماعية معينة أو مهيِّئة لتكوين الشخصية المنتجة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق