الأربعاء, 17 حزيران/يونيو 2009
أحمد لاشين
ـ الإشكاليات :
يُعتبر الوعي الشعبي الإيراني وتجلياته في الأدب الشعبي بمختلف أشكاله منطلقاً مركزياً لفهم طبيعة هذا المجتمع لما أنتجه من ركام نصي ضخم ومتداخل يعبر عن عمق الوعي الإجتماعي بشكل عام .والنموذج الأوضح لتلك الفكرة حادثة كربلاء وما استتبعها من ممارسات عزائية.فمقتل الحسين بن علي (رضي الله عنهما) يُعد حدثاً مفصلياً في الفكر والتاريخ الإسلامي بشكل عام.وإن كان يبدوا أكثر وضوحاً في سياق التشيع خاصة لدى إعتناق إيران رسمياً المذهب الشيعي ، فتضافر ذلك مع خصوصية التراث والوعي الشعبي الإيراني، لذا فإن التركيز على هذا التضافر يُعد بمثابة فض لإشكالية هامه لفهم العلاقة الممتدة بين الشعبي والتاريخي في الذهنية الإيرانية.
ومن ثم تحاول هذه الدراسة طرح عدة تساؤلات تدور حول بناء النص التاريخي لحادثة كربلاء ومدى الحياد المفترض في روايتها ،وهل يمكن الفصل بين الوعي بالتاريخ والتاريخ في حد ذاته؟،وبالتالي ما العلاقة بين الوعي التاريخي لكربلاء والوعي الشعبي لها المتمثل في النص الموازي للحكايات الشعبية للحادثة أو شخصية الحسين؟ وهل بناء الحكاية يُعد إمتداداً طبيعي للبناء الأسطوري الإيراني القديم مع تغير للغناصر؟وما الذي تمثله ممارسات العزاء الحسيني من إمتزاج مع الفكر الشعبي والتاريخي والديني على حد سواء؟.
( أ ) البناء الأسطوري لحادثة كربلاء في مصادرها التاريخية:
تُعد كربلاء مفصلاً تاريخياً هاماً في إعادة التعريف للعديد من الصيغ التي أصبحت تأسيساً لدوائر أيدلوجية (عقائدية ومنهجية) مغلقة،هدفها هو إعادة إنتاج لكل ما يجعلها أكثر رسوخاً وانتشاراً.لذا وجب دراسة الحادثة من جذور النزاع بين عنصري الصراع الأولية وهما (بني أمية) و(وبني هاشم).متسائلون هل تم صبغ أسس الصراع تلك بأيدلوجية المؤرخين وعصرهم؟هل لعبت الإنتقائية دورها في تدوين تلك الحادثة،بشكل يسمح بتحميلها بالعديد من الرموز بما يتسق مع التصورات المسبقة لحركة التاريخ،الذي يشكله الوعي التاريخي بعيداً عن التاريخ ذاته لحدث وقع بالفعل؟.
وكبداية نلاحظ في كتاب (أسس النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم) للمقريزي،محاولاته لتأسيس نظري لأسس النزاع الواقعة فعلاً فنجده يعتمد على رواية ذات طابع أسطوري من البداية،وهي أن كلاً من "هاشم " و"عبد شمس"(الجد الأول لبني أمية)، كانا توأمين إلتصقت جباهما ففرقوا بينهما بالسيف مما كان إيعاذاً بسفك الدماء،ومصدره في تلك الرواية "الطبقات الكبرى لإبن سعد "و "تاريخ الرسل والملوك للطبري"،أي أن تلك النظرة الحكائية متسربة في مجمل النصوص التاريخية التي تناولت تلك المرحلة.
وتستمر رواية المقريزي لتأسيس النزاع إعتماداً على الصراع على إطعام حجيج الكعبه ومحاولة عبد شمس منافسة هاشم في هذا الشأن وفشله ثم إقصاءه إلى الشام،وكأنه هنا يؤسس للوجود الأموي في الشام ويؤكد على الطابع الديني لبني هاشم بعد ذلك.ومع ظهور الإسلام يورد المقريزي أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد صلب رجلاً من أسرى بدر من بني أمية يُدعى "عقبة بن أبي معيط " لأنه كان يطأ عنق النبي أثناء صلاته بالكعبه قبل الهجرة فكان جزاءه القتل ويكون حسب لفظ المقريزي (أول مصلوب في الإسلام).في حين أن النبي لم يفعل ذلك مع من هم أشد منه خطورة وشراً أمثال "الحكم بن أبي العاص "أو "هند بنت عتبه"،أو حتى أسرى بدر الذين لم يسلموا،وإن كنا هنا لسنا بصدد النقد التاريخي ولكننا نحاول أن نلاحظ ما أوردته كتب التاريخ عن أسس الصراع التي أودت بالحسين بعد ذلك.
وبعد وفاة النبي(صلى الله عليه وسلم)،وخلافة أبي بكر(رضي الله عنه)،يورد المقريزي أن "أبا سفيان" يقول "لعلي بن أبي طالب "(كرم الله وجهه) "أغلبك على هذا الأمر أهل بيت في قريش أما والله لأمنها خيلاً ورجالاً إن شئت "،فقال علي: " ما زلت عدواً للإسلام وأهله،إنا رأينا أبا بكر أهلاً لها ". فحسب تلك الرواية فإن المقريزي يؤسس للعداء بإستخدام شخصية ذات ميراث عدائي طويل للدعوة الإسلامية في بدايتها.أي أن النتيجة التي حدثت في مسيرة التاريخ بعد ذلك جعلته يحاول دائماً البحث عن الأسباب لما يتسق مع تلك النتيجة.كما يذكر المقريزي أن النبي (ص) كان يفرق بين بني أمية وغيرهم من المسلمين في الفئ والغنيمة،كما أورد المقريزي العديد من الأحاديث ـ التي لم نجد لها سنداً في كتب الأحاديث الموثوقة ـ والتي حذر فيها النبي (ص) من بني أمية.
وعامة ما تم لدى المقريزي يُعد في منتهاه بناء أسطوري أي محاولة منه إلى تأسيس مشروعاً للعمل أو الوعي التاريخي لتلك المرحلة الهامة إعتماداً على مجموعة من الحكايات أو الروايات،التي تنمتي إلى وعي جماعي خاص يتسم بالتفكير الثنائي والإنتقائية الواضحة،وهي محاولته الدائمة للإنتصار لبني هاشم على بني أمية،وبالتالي ـ بمد الخيط لأخره ـ هو انتصار لعلي والحسين على معاوية ويزيد،وما تبع ذلك من صراع قبلي ومذهبي.
وفي كتاب آخر يتناول الموضوع من وجهة نقيضة تماماً نجد في كتاب " العواصم من القواسم" لأبي بكر المالكي،أنه يذكر أن الخلافة كانت من حق بني أمية عن غيرهم لأن أول من عقد لهم اللواء كان النبي (ص)،لأن الإسلام يجب ما قبله،كما أنه استكتب معاوية بن أبي سفيان على وحيه،حتى أن أبا بكر قد أوصل معاوية إلى القمة بإعطائه لقب (خال المؤمنين)،لأن النبي (ص) قد تزوج من أخته(رمله بنت أبي سفيان،أم حبيبه) وهو ـ المالكي ـ أول من أعطى معاوية هذا اللقب ويكاد يكون الوحيد،كما أنه استمر في ذكر الفضائل الدينية الجمة لمعاوية وبنيه وآله،نافياً غيره من النصوص الأخرى كاملة.وأوصل يزيد إلى طبقة الزهاد والتابعين،ويعتبر خروج الحسين عليه هو خروج على ولي الأمر مما أستوجب قتله حتى لا يشق الأمة.فالمالكي لم يخرج عن إطار الإنتقائية المعاكسة، وإن كان يحاول إظهار الجميع في إطار من المثالية الفذة والعدالة المتناهية،تلك النظرة جعلته غير قادر على التفسير لأسباب النزاع بشكل نهائي.
إلا ان المصدر الأول الذي وصل إلى أيدينا عن تاريخ حادثة كربلاء كان في "تاريخ الرسل والملوك للطبري "،والذي اعتمد فيه على مصدر آخر وحيد اختفى ولم يعد له وجود في عالم النصوص التاريخية،وهي كتابات "لوط بن يحي بن مخنف " المكنى " بأبي مخنف "،وهو شخصية غائمة في التاريخ الإسلامي إلا ان بعض الباحثين توصل أن لوط هذا قد عاصر نهاية الدولة الأموية،وكان قريب من زمن وقوع الحادثة،وأشتهر يتشيعه ومناصرته للعلويين وأن كتبه قد ضاعت أو أحرقت بفعل الحكومه الأموية،ولم ندري ما هي الكيفية التي توصل بها الطبري إلى كتب ذلك الرجل.
تلك الشخصية وضعت المؤرخين على اختلاف أهوائهم وميولهم في مأزق حقيقي،فلا يوجد مصدر للحادثة سوى الطبري الذي اعتمد كما أعلن هو شخصياً على ذلك الرجل الغائب الحاضر، وبالتالي كل من جاء بعد الطبري اعتمد عليه فيما نقل أمثال "ابن كثير" في كتابه " البداية والنهاية "،والذي ذكر في كتابه عن مقتل الحسين (وهذه صفة مقتله ـ الحسين ـ مأخوذ من كلام الأئمة في هذا الشأن لا كما يروي أهل التشيع من كذب) ـ وذلك على حنبلية ابن كثير الشهيرة ـ ثم يأخذ من الطبري ويذكر أن مصدره أبي مخنف واصفا إياه بأنه شيعي كاذب، ـ ولا أدري ما كل هذا التناقض ولكن الحقيقة أنه لم يكن هناك مصدر آخر للحصول على روايات مقتل الحسين ـ وقد وُصف أبي مخنف بأنه "إخباري تالف " لايوثق به،وعلى رأس من قالوا عنه ذلك "الذهبي في كتابه " ميزان الإعتدال" .ولكن ما زال أبي مخنف هو المالك الوحيد لتلك المرحلة وذلك كما أورده الطبري على كل تلك الخلافات.
تبدأ الحكاية التاريخية منذ لحظة ولادة الحسين(رضي الله عنه)،ويُروى أن الرسول (ص) قد رأى في منامه جزءاً مقطوع منه وملقى في الفلاة وتسيل منه الدماء،وأن جبريل قد أخبره بمقتل الحسين،ويومها كان ميلاده. ويُروى كذلك أن النبي (ص) قد ذهبت من المدينة لكربلاء في ليلة واحدة وعاد وبيده حفنة من تراب بلون الدم وأخبر أم سلمه أنه دم الحسين.وأنه ذات يوم قد جاءه ملاك البحار وأخبره أن الفئة الباغية سوف تقتل الحسين.
نلاحظ أن تلك الروايات تاريخية،ولكن من الواضح أن تتسم بسمة المبالغة التي يتسم بها السرد التاريخي إلى حد بعيد.وقد أورد ابن كثير أن يوم عاشواء وهو يوم مقتل الحسين هو يوم كسوف الشمس،وأن الحيطان قد نزفت دماً يوم مقتله،ثم بعد ذلك يقول أن الشيعة قد أضافوا العديد من الأمور الكاذبة على مقتل الحسين،وكأن ما أورده هو ليس بمبالغات!.ولكن عامة فإنه من المفترض أن يتسم التاريخ بالواقعية وإمكانية التصديق من قبل المتلقي،وبما أن التاريخ يحتوي ـ كما لاحظنا فيما سبق ـ على الكثير مما هو فوق طبيعي وأو ما يمكن تسميته بالخوارق،فإنتماء القارئ للنص التاريخي في هذه الحالة هو إنتماء متسق مع بنية الوعي الخرافي التي تم إتناج النص وتلقيه من خلالها،لذا وجب دراسة النص التاريخي لا من مستوى السرد فقط ولكن من مستوى التلقي كذلك.
وإمتداداً للحكاية يقفز بنا السرد التاريخي إلى لحظة خروج الحسين من مكه للكوفه،ورفضه مبايعة يزيد بن معاوية ،ووعد أهل الكوفه له بإسقاط يزيد وتوليته للخلافه خلفاً لأبيه،ثم تحذير أصحابه له من الخروج من الحجاز للعراق،وإصراره هوعلى ذلك.وخروجه وجمع العديد من المناصرين له أثناء سيره إلى الكوفة،ومقابلته للشاعر الفرزدق في رحلته فيسأله عن حال الناس في العراق فيجيبه الفرزدق " قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية".ثم يتوقف السرد التاريخي أحياناً عند بعض المساحات الحكائية مثل أن رأى الحسين في منامه أن النبي يدعوه إليه ويخبره بمقتله في كربلاء وأنه لا فكاك من مصيره ومع ذلك يستمر الحسين.
ولدى وصوله إلى كربلاء،يخرج عليه جيش "عبيد الله بن زياد" بقياده "عمر بن سعد بن أبي وقاص"،وتدور بينهما عدة لقاءات يحاول الحسين فيها أن يمنع عمر من فكرة قتاله،إلا أنه يرفض.ثم يعود السرد التاريخي ليتوقف ثانية لحلم آخر للحسين يرى فيها مجموعة من الكلاب تنهشه ثم يقترب من كلب أسود أكثر جرأة ليقتله.وبالطبع كانت تلك إشارة واضحه "للشمر بن ذي الجوشن" الذي قطع رأس الحسين،وكأن ذلك الحلم إيذاناً ببداية المعركة.
ثم تدور المعركة سجالاً بين الطرفين،إلى أن يتحول النصر لجيش عمر ويفنى أصحاب الحسين جميعهم إلا النساء والأطفال ويُقتل هو في نهاية مشهد طويل من الصدام والصراع وتُقطع رأسه وتُرسل إلى "عبيد الله بن زياد" في الكوفة ثم إلى "يزيد بن معاوية" في دمشق،ويورد التاريخ أن رأس الحسين كانت تفوح منها الطيب ويشع منها النور.ثم يورد التاريخ أنه قبل رحيل نساء آل الحسين من دمشق إلى المدينة،آتى يزيد "بعلي بن الحسين"،و"خالد"ولده وسأل علي ممازحاً :"هل تقتل هذا؟"،فقال علي :" أعطه سكيناً وأعطني سكيناً ثم أقاتله"،فقال يزيد ضاحكاً :"وهل تلد الحية إلا حية!".وكأن السرد التاريخي يشير هنا بشكل حكائي أن العداء لن ينتهي عند هذه المرحلة وإنما سيستمر إلى قرون بعد ذلك.
وعامة نلاحظ أن السرد التاريخي لم يخرج عن طابعين رئيسيين وهما الإنتقائية في الرواية ،والبناء الحكائي الأسطوري لهذه الروايات،حتى تحول الحسين من مجرد حادثة تاريخية إلى رمز للخير والفداء أمام الشر والهمجية.فلقد ذكر "د.علي شريعتي " في كتابه "حسين وارث ادم "أن الحسين هو الفكرة الإنسانية الأعلى للصراع الإنساني بين قابيل رمز الشر وهابيل رمز الخير.تلك التحويلات الرمزية وتطوراتها هي المفتتح الحقيقي إلى عالم الحكايات الشعبية والممارسات العزائية بعد ذلك،فأساس عملية الترميز تعتمد على مفهوم النمذجة لقد تم نمذجة الرؤية التاريخية للحسين،وضمه إلى مرحلة العصر الذهبي وبالتالي تحويل النموذج إلى رمز في الوعي الشعبي بعد ذلك.وبالتالي يُعد من المستحيل فصل النص التاريخي عن :أولاً// ظروف إنتاجه والأيدلوجية المحيطة به،ثانياً// الشكل الحكائي الأسطوري والمدعم له بل المؤسس لوجوده أحياناً.فللتاريخ بنيته الأسطورية الخاصة.
( ب ) شخصية الحسين في النص الموازي (الحكاية الشعبية):
تحولت شخصية الحسين في الحكاية من التاريخي إلى المطلق الذي لا يمت للتاريخي بصلة،وقد يعود ذلك للإطار المقدس الذي إحتوى شخصية الحسين منذ البداية،فأصبح ذا صلة مباشرة بالأسطوري عنه بالواقعي.فيروى في الحكايات أنه عندما هبط آدم (عليه السلام) على الأرض كان هبوطه بكربلاء،فتعب تعباً شديداً وسالت الدماء من جسده،فعلم أن الحسين سوف يُقتل هنا،فالحسين هنا مرتبط بلحظة البداية المطلقة بالأب الأول.وكذلك رُوي أن سفينة نوح قد رسيت في كربلاء،وعلم نوح (عليه السلام) بمقتل الحسين بها،ونوح وطوفانه وسفينة النجاة كلها عناصر ترمز إلى إعادة الحياة الميلاد الجديد للخلق،والحكاية هنا قد ربطت الحسين بشكل مباشر بتلك اللحظة.
وكذلك عندما عبر سليمان ببساطه السحري فوق كربلاء كاد أن يسقط من عليه،وكان السبب هو غضب السماء والأرض بكربلاء لما سيحدث بها.وتروي الحكايات أن عيسى عليه السلام وأصحابه لدى مرورهم بكربلاء،ظهر لهم أسد منعهم من العبور حتى يلعنوا قاتلي الحسين.وعامة نلاحظ ارتباط الحسين في الحكاية بالعناصر المقدسة الأولى على إختلاف رموزها،خاصة الأنبياء ليس في سيرتهم الدينية بل في العالم الشعبي أو الأسطوري.
وهناك طابع أخر للحكايات الموازية لشخصية الحسين الأسطورية،وهو قدراته الخارقة،فمثلاً من ضمن الحكايات الوارده،أن رجلاً جاء إلى الحسين باكياً أن أمه ماتت دون أن تذكر له مكان أموالها،فذهب معه ودعا الله أمام جثمان المرآة فعادت للحياة ثانية وأخبرته عن مكان الأموال ثم ماتت ثانية،فللحسين هنا قدرة تتشابه مه الآلهة في الأساطير القديمة وهي القدرة على إحياء الموتى أو بعث الحياة من جديد.
وفي نص حكائي أخر أن الحسين قد تمكن من الإنتقال من الكوفة إلى مكه في لحظات ليرى هناك علي (كرم الله وحهه) والنبي (صلى الله عليه وسلم) ،ويتحدث معهما،فللحسين القدرة المطلقة على تجاوز الحدود الزمانية والمكانية.وذات مرة دعى الحسين لأهل الكوفة في فترة الجفاف فتهطل الأمطار من السماء لحظة إنتهاءه من الدعاء.فكل ما سبق يؤسس بشكل قوي للطبيعة المغايرة التي تم وسم الحسين بها ،لا بوصفه (الإمام الثالث لدى الشيعة) فقط ، بل بوصف أن الوعي الشعبي ذاته قد تعامل مع الحسين كبطل ملحمي له صلات مباشرة بالعالم الأعلى المقدس كما الأبطال في السياق الأسطوري الإيراني القديم.
وتروي الحكايات أنه بعد موت الحسين تصاعدت الأنوار من دماء الحسين للسماء لتلتقي بأنوار آتية من السماء،وصار الشفق أحمر ولم يكن كذلك قبل ذلك،حدث كسوف الشمس،وهطلت أمطار الدماء من السماء،وتوقفت النساء عن الحيض.كل ذلك ما هي إلا محاولات لصنع عالم مواز لبطل الحكاية،فالحكاية تترسخ في الوعي المجتمعي لتمجد الحدث ولتحوله إلى حدث أسطوري أو خارق مفارق،بوصف أن كلا النصيين الأصلي والموازي يصلان إلى نفس النتيجة لحظة تلقيهما.
ويعود وجود تلك العناصر الأسطورية في الحكاية إلى أنها بوصفها شكلاً فلكلورياً يقترب أو يتماس مع الأسطوري،فيتم التعامل داخلها من خلال بعض العناصر الأسطورية عند تناول أحداث ذات طابع تاريخي.فالحسين التاريخي إلتقى مع الرمز الأسطوري داخل شخصية الحسين في الحكاية الشعبية.فالأفكار التحتية للمجتمع الإيراني التي سبقت في تكوينها الوجود الإسلامي خاصة فيما يتعلق بالأفكار البطولية والملحمية،جعلت شخصية الحسين في الثقافة الشعبية وكأنها تعبير عن عمق المسكوت عنه في الميراث الإجتماعي،بتحويله إلى رمز يُسمح من خلاله بعبور الوعي الشعبي داخل السياق الإسلامي.
فمثلاً نلاحظ أن الوعي الشعبي الإيراني قد حول (النيروز) بوصفه أهم الأعياد الفارسية المرتبطة بالربيع وأعياده،إلى يوم (غدير خم)،ويوم عودة الإمام الغائب،كما أنه يوم عزاء سياوش البطل الفارسي القديم ،وكذلك يوم زيارة قبور الأئمة في الثقافة المذهبية،فنلاحظ مدى التداخل بين الوعي الأسطوري والوعي الشعبي بعد الإسلام.
كما لاحظنا ظهور عناصر النور في الحكاية الشعبية الخاصة بالحسين،وفكرة النور في الأسطورة الفارسية القديمة،تُعد أساساً لوجود الخلق ف"أهورامزدا" في الديانة الزردشتية خلق العالم من النور المطلق وفي نهاية العالم سيعود النور إلى موطنه الأصلي الأول في السماء.وذلك مثلما وقع في الحكاية من إلتقاء نور دم الحسين ونور السماء في الحكاية.
كما أن الظلمة هي رمز الشيطان أو الشر وفي الأسطورة فإن "أهريمن" رمز الشر قد تحول إلى حية،وإبتلع الشمس أي أصل النور،وحدث كسوف الشمس،فبعيداً عن كون هذا الحدث الأسطوري هو محاوله العقل الإنساني إلى تفسير ظاهرة الكسوف الكونية،ولكن إمتداد نفس الرمز في الحكاية فإن كسوف الشمس مرتبط بحلول الشر على العالم بسبب موت الحسين،فالنور رمز القدم الأزل الخلق القدرة الحياة والظلمة العدم العجز الشر وكلها دلالات قد تشبعت بها الحكايات الشعبية الخاصة بالحسين لتعبر عن ميراث قديم.
وورد في الحكاية كذلك أن السماء قد أمطرت دماً بعد موت الحسين،وذلك له جذوره في الوعي الأسطوري،فلقد ذكر في الأساطير والملاحم الإيرانية القديمه أن السماء أمطرت دماء غضبا على مقتل( سياوش بن كيكاوس).كما أن (سهراب بن رستم) في الشاهنامه يعنى "سرخآب" يعني الماء القاني أو الدموي ،خاصة إذا علمنا أن سهراب قد قُتل في الشاهنامه على يد رستم والده على سبيل الخطأ فتكتمل المأساة بالإسم.
وكلها عناصر تؤكد على أشكال الإتفاق بين الوعي الأسطوري والشعبي،فالحكاية الشعبية الحسينية ما هي إلا أسطورة تم صياغتها إعتماداً على الثقافة الموروثة في الوعي أو اللاوعي الجمعي الإيراني،وهي المفتتح
الحقيقي لدراسة العلاقة ما بين الوعي الأسطوري والتاريخي.
( ج ) الرمز الشعبي في ممارسات العزاء الحسيني :
1 ـ الشبيه (مسرح العزاء ):
أطلق مصطلح الشبيه على تلك المسرحيات التقليدية ذات الأداء البسيط والعفوي والتي تقام في كل عام في العشر الأوائل من محرم، لإحياء ذكرى الحسين ومقتله في كربلاء،وتقام في الحسينيات وهي عبارة عن مساحة مربعة الشكل ذات طابقين على شكل إيوانات الدور الثاني للمشاهدين،والمسرحية تقام في الصحن المربع في الأسفل.وأحياناً ما تؤدى في الشوارع أو الميادين،وتتسم في هذه الحالة بسمة المسرح الشعبي البسيط المكشوف ليس به ديكورات أو كواليس،وعنصره الأساسي الجمهور بكل تباينه الثقافي، وغالباً ما تكون نصوصه معده من قبل الخطيب الموكل بالتعليق على العرض والمأخوذة من كتب المقاتل أو كتب الروايات والحكايات.
وفيه يقوم مجموعة من الممثلين الغير محترفين والذين يعتمدون على ذلك العرض السنوي ولا يتقاضون أجراًو مكسبهم الأساسي من الهدايا والنذور التي يهبها الجمهور خاصة لمن يقومون بأدوار (الحسين،العباس،علي بن الحسين...إلخ) وغيرهم من الشخصيات ذات الطابع الخير.ويبدأ العرض بخطبة يلقيها الحسين أو من يقوم بدوره،كخطبة يوم عاشوراء التي ألقاها الحسين قبل بداية المعركة.ثم تستمر الأحداث مجسدة بعض الأحداث التاريخية والحكائية.
وتجسد المسرحية مقتل "العباس بن علي " أخو الحسين أثناء جلبه الماء لأطفال كربلاء،ومقتل "علي الأصغر" ابن الحسين،الذي قُتل بسهم من جيش عمر وهو في يد أبيه.وتستمر الأحداث إلى مقتل الحسين، إلا أن مقتله لا يتم أمام الجمهور بل ينسحب حصانه وهو عليه ويعود الحصان وحيداً بعد ذلك كرمز لمقتل الحسين. ثم مشهد قافلة السبايا الذاهبة إلى الكوفة ثم دمشق.وفي وسط القافلة هناك تابوت به جسد ممتد يرمز لجثمان الحسين وعلى رأس التابوت يوجد شخص يرتدي ملابس أسد،وأحياناً يكون أسداً حقيقياً كما كان يحدث في عهد "ناصر الدين القاجاري"، ودوره تجسيد حكاية حماية أسد لجثمان الحسين في صحراء كربلاء بعد مقتله.
ويعتمد أداء الممثلين على الطبيعة الحادة الواضحة،فأصوات أهل الباطل غليظة مرتفعة يرتدون ملابس فاخرة ذات ألوان حمراء أو صفراء رمزاً للكره والرغبة في القتل.وأهل الحق أو آل الحسين ذوي ملابس سوداء أوبيضاء أو خضراء رمزاً للنقاء والحزن والطهارة ، ويتسم أداؤهم بالبساطة والهدوء والصوت العميق المنخفض.
كما يظهر في مشاهد القتل بعض الأصوات الخارجية التي تعلق على الأحداث والتي ترمز لصوت الأنبياء ودورهم كما مر في الحكاية من إحياء للعناصر المقدسة.ويعلق الدكتور محمد السعيد عبدالمؤمن (أستاذ الدراسات الإيرانية) في كتابه "التجربة الإسلامية في المسرح الإيراني "،أن المراد من تلك الأصوات هو صنع حافزاً للأحداث،فظهور الشخصيات الغير مرئية لا تكون إلا محاولة إلى إيجاد مبررات للأحداث الجارية.
الشئ الأكثر أهمية هو دور الجمهور المشترك أو المشاهد،فزمن القيام بالعرض هي لحظة ذوبان الجماعة الإجتماعية،تتعدى فيه الزمان والمكان،فهي لحظة تتسم بذاتيتها يتفاعل الجمهور فيها مع المؤدين ليس بوصفهم ممثلين للأدوار،بل مجسدين للحظة التاريخية، فيثورون على قاتل الحسين ويسعون أحياناً لضربه أو حتى قتله،ويحاولون الحصول على بعض ملابس شبيه الحسين للتبرك.
فالمتلقي للعمل المسرحي يتوحد في هذه الحالة تماماً مع المؤدين،أي تسقط المسافة الفاصلة بين العمل والمشاهد،وتنهار لصالح العرض،بحيث يخرج الجميع من إطار متفق عليه إلى لاوعي لامتفق عليه.فمع علم الجميع بنهاية أحداث المسرحية إلا أن بعض المشاهدين يحاول منع قتل الحسين،وكأنه يمنعه في الواقع التاريخي ذاته.هذه الحالة تخرج عن فكرة الإيهام أو كسر الإيهام أو فكرة الإغتراب الفني،إنها خارج تلك الحدود فهي تفاعل أو إبداع متبادل بين المؤدي والمتلقي.
فلمسرح التعزية جانبه الطقسي،فهو ليس عمل فني أكثر منه طقس تكراري ،يعمل على التثبيث لنمط الحكي، أي خروج الحكاية من مستوى السرد إلى مستوى التجسيد،فهو يعمل على إعادة إنتاج للأصل وليس الشبيه فحسب. فتبعاً لنظرية جيمس فريزر في كتابه "الغصن الذهبي" (الشبيه ينتج الشبيه)،أي أن المراد من الشبيه هو إنتاج الأصل ثانية وليس تقليده.ولكنه ليس الأصل الحسيني في تاريخه المجرد،بل الأصل الذي إحتوى كل التراكمات الشعبية التي تحولت إلى معتقد ثابت في الذهنية العامة،فلا يوجد حدث تاريخي إلا وأنتج طائفة من الأساطير.
فالتكرار السنوي له الطابع التكريسي،بحيث يُثّبت الحكاية في أذهان المتلقين،فيتحول المؤدي إلى ممارس للطقس،يتم من خلاله تجسيد المعتقد،كما كان يحدث في المسرح اليوناني الذي أعتقد أن الممثل لأدوار الأبطال والآلهة ليس إلا أداة تحركه أرواح خفية لمن يجسدوه من أدوار.
كما أن طابع مسرح الشبيه يقوم على الجانب التطهيري،فكما أشار "غوستاف يونج" في كتابه "علم النفس التحليلي "،أن حالة التطهر لابد وأن تمتزج بفعل الإعتراف،فالإعتراف بالذنب يؤدي إلى التطهر منه،هذا الذنب قد يكون فردياً أو جماعياً،فللجماعة التاريخية ذنوبها التي يجب أن تتطهر منها،إما عن طريق الأدبيات التاريخية أو الممارسات الطقسية الجماعية.
وإذا أتفقنا أن مسرح العزاء ما هو إلا طقس شعبي تكراري،فإنه وسيله بإعتراف الجماعة بذنب ترك الحسين يُقتل،بحيث نلاحظ في الأداء المسرحي أن الحسين يدعو الجمهور لإنقاذه ومساندته ويلومهم على تركه،وكأن الجماعة تمارس فعل جلد الذات وتعذيب النفس لما ترسخ في المفاهيم المعتقدية والشعبية أن مقتل الحسين كان بسبب تخلي الجميع عنه حتى من لم يحضر حادثة القتل ذاتها،مما يجعل الجمهور يحاول مساندته ومنع قتله بالتدخل المباشر في العرض المسرحي كمحاولة للتطهر من ذنب مقتله.
كما ان الأدوات المستخدمه في العرض تؤخذ للتبرك،فكما أن شبيه الحسين ليس بالحسين،إلا أنه مجسد له، فإن سيفه ليس بسيفه،ولكنه مجسد لحضوره،فتتحول تلك الأدوات البدائية والبسيطة في الذهنية الشعبية الممارسة للحالة إلى أدوات مقدسة مرتبطة بطقسية التكرار والتطهر،بوصف أن كل عناصر الشبيه أصول عده لأصل واحد.
2 ـ مسيرة العزاء :
التعزية عبارة عن ظاهرة دينية إجتماعية اشتقت من العزاء والحزن ومرتبط بالموت،وفي الفكر الشيعي دلالتها مرتبطة بإحياء ذكرى إستشهاد الحسين وإقامة العزاء له وكذلك سائر الأئمة.واستشهاد الحسين مرتبط في الوعي المذهبي والشعبي كذلك بتحمل الحسين لذنوب البشرية لحظة قتله،فهو رمز فداء البشرية،وممارسات العزاء هدفها الإقرار بتلك الفكرة بجلد الذات والتعذيب الحسي للذنب التاريخي المتوارث.
تتكون مواكب العزاء من موكب (اللطامه) المسمى بالفارسية (سينه زني)، وهو عبارة عن مجموعة من الرجال تقوم بلطم صدورها بالأيدي،بجيث ينطلق الموكب كل يوم خلال الأيام العشرة الأول من محرم.ويتقدم الموكب طفل صغير يرتدي ملابس خضراء يرمز إلى (القاسم بن الحسن) الذي قُتل في المعركة.وتتم عملية اللطم بشكل إقاعي متزامن مع صوت أحد القوالين أو النائحين الذي ينشد قصيدة عزاء في مقتل الحسين.
الموكب الثاني موكب (الزناجيل) أو (زنجير زني) بمعنى (الضرب بالجنازير) تلك السلاسل الحديدية مربوطة بمقبض خشبي يُضرب بها على الظهر والكتفين،وتلك المواكب تستمر كل يوم من الأيام العشرة.يرتدي الرجال ملابس سوداء مفتوحه من الظهر يسير الموكب ويضرب مرة ذات اليمين واليسار.ويتقدم الموكب علم فلكلوري يُسمى (لسان الشمر) وهو يتكون من قضيب نحاسي طوله متران يُدلى من أعلاه لسان كبير يُقال في الحكاية أن الشمر بعد قتل الحسين قد تحول إلى كلب أسود وتاه في الصحراء مدلى اللسان،وتستمر حالة الضرب إلى ظهور الدماء على الظهر ،خاصة أنه أحياناً ما يتم ربط تلك السلاسل بسكاكين صغيرة لصنع مزيداً من الألم.
ثم موكب التطبير ( قمه زني ) وهو جرح الرؤوس الحليقة بالسيوف بضربات ليست عميقة،ويتكون الموكب من مجموعة من المطبرين،يرتدون أكفاناً بيضاء،يحملون سيوفاً وخناجر ويضربون بها رؤوسهم بإيقاع ثابت جنائزي متزامن مع صوت منشد مرثية الحسين،ويدور بعض المساعدين على الموكب بالحلوى لإعطائهم مزيداً من الطاقة.ويتقدم الموكب حاملوا أعلام ورايات بيضاء رُسم عليها سيفان متقاطعان على رأس ترمز لرأس الحسين ،ويحمل الموكب كذلك تابوت يرمز إلى نعش الحسين مغطى برداء أخضر.
وبالطبع نلاحظ تجلي فكرة عذاب الذات التي قد تنتهي أحياناً بالموت،والهدف من ذلك هو إعادة صياغة آلام الحسين،كمحاولة من الممارسين التضحية بذاتهم وإعلان ذنبهم للحسين.ورغم أن تلك الممارسات قد قلت حدتها في إيران خاصة بعد الثورة الإسلامية،إلا أنها كانت تقام بتلك الشدة وأكثر قبل ذلك.
وفي اليوم العاشر (عاشوراء)،تتجمع المواكب وتنقسم مجموعتين، تمثل إحداها بني أمية والأخرى الحسين وآله،مرتدين نفس الألوان المستخدمه في المسرح،ويظهر من يقوم بدور العباس على رأس مجموعة الحسين رافعاً رايته.وهناك مجموعة تُجسد عُرس القاسم بن الحسن الذي قيل أنه كان سيتزوج في كربلاء من ابنة الحسين يوم مقتله،ونلاحظ أن القاسم يظهر أحياناً طفل وأحياناً شاب قابل للزواج،لأن التصور الشعبي عن القاسم قد خلق له حكايتين منفصلتين فتذكر إحداها أنه كان شاباً فتياً حارب مع عمه وقُتل يوم أن قرر الزواج من ابنة الحسين،وفي رواية أخرى أنه كان طفلاً حاول الدفاع عن عمه لكنه قتل بقسوة على يد جيش الأمويين.وعامة في الحالتين لم تذكر الحكاية أنه تزوج أو أقام حفل لزواجه،ولكن مسيرة العزاء تكمل الحكاية وتُقيم عُرس للقاسم وكأن الأحداث مازالت مستمرة بعد كربلاء.ثم يلي ذلك مشهد التوابيت التي ترمز إلى كل من قُتل في كربلاء،وتنتهي المسيرة بمهد صغير يرمز إلى "علي الأصغر بن الحسين"، وتنتهي المسيرة بأكملها في نهاية العاشر من محرم.
ثم يأتي الأربعين ،وهو يوم عودة الرأس الحسينية من الشام إلى العراق لتدفن مع الجسد في كربلاء،وتقام الإحتفالات في ذلك اليوم وتقوم المسائر والمواكب وتقدم الولائم كسمة إحتفالية لتلك اللحظة.نلاحظ أن تعدد أضرحة الحسين تابع لفكرة الرأس وروايات نقلها،فهناك مقام لرأس الحسين في الشام أي أن الرأس لم تخرج من دمشق، وهناك مقام له في العراق أو كربلاء مؤكدين أن الرأس عادت إلى كربلاء بعد مقتله في اليوم الأربعين.وهناك مقام في القاهرة تبعاً لرواية الفاطميين بأخذهم الرأس من عسقلان ووضعها في مصر.وهناك مقام في الهند تحت زعم أن الرأس قد نقلها أحد التجار على سبيل الخطأ إل هناك.وفي بعض الكتابات ـ خاصة كتاب رأس الحسين لإبن تيمية ـ يذكر أن السيدة زينب قد أخذت الرأس معها إلى المدينة وأنها دفنت هناك ولكن لم يعلم أحد مكان الدفن خوفاً من نبش القبر.فرأس الحسين في النهاية هي الرمز الذي تم تحميله للحسين في كافة العالم الإسلامي،مما يؤكد أن القضية تجردت من التاريخ وإندمجت في التراث الشعبي لتلك المنطقة بكاملها.
والناس تتسابق للمشاركة في تلك الطقوس العزائية،رغم أنه مع التتطور وجدت هيئات مختصة لتنظيم تلك المسائر،إلا أن المجموع يحاول أن يطرح نفسه دائماً في المشاركة سواء بتقديم أنفسهم أو أولادهم،بحيث تحاول النساء تقديم الأطعمة للمشاركين في المسيرة،ويعملن على تشجيع المواكب لبث مزيداً من الحماس فيهم،حتى أن بعض النساء الذين لم ينجبوا يهبن أحد أطفال زويهم للمشاركة في تلك المسائر لنيل البركة عله يعود عليها بالنفع. ويحاول الناس ـ كما يحدث في المسرح ـ أن يأخذوا أدوات العزاء المستخدمة للتبرك بها طوال العام.فممارسة العزاء قد تجاوزت حتى الطابع الفلكلوري لتتحول إلى معتقد شعبي أصيل فيما يخص قدسية تلك المسيرة.
ومن أهم الأدوات المستخدمة والتي لها دلالات شعبية واضحة (الجريدة)،وهي عبارة عن فرع شجرة أو جريدة نخلة طويلة يُعلق في وسطها دائرة حديدية كبيرة ،وعلى جانبيها يُعلق كفين معدنيين مما يزيد من إنحناء تلك الجريدة،والتي ترمز للعباس بن علي وقامته المنحنية أثناء دفاعه عن الماء الذي أخذه للأطفال العطشى في كربلاء ومقتله أنذاك.كما تشير إلى العلم أو راية القيادة التي حملها في المعركة.
وكذلك أداة (التوغ)،وهي عبارة عن علم أو شكل معدني طويل ويستخدم أثناء المسيرة للدلالة على مقتل الحسين فهو رمز راية الحسين وجيشه ويتسابق الجميع لحمله.وكذلك أداة (النخل) وهي عبارة عن تابوت يُحمل أثناء العزاء ويرمز إلى تابوت الحسين بعد المعركة ويحمله أربعة أشخاص بشكل تبادلي بين المشاركين في المواكب،وسُمي النخل ولم يُسمى بالتابوت لأنه منذ زمن بعيد كان يُصنع من أخشاب النخل والشجر،فإستمرت التسمية رغم زوال السبب لها. ويُغطى برداء أسود وأحمر وأخضر دلالة على العزاء والشهادة وآل البيت الحسيني. فنلاحظ أن أسلوب الأداء هذا له طابع فلكلوري واضح حتى وإن حُمل بأفكار مذهبية أو معتقدية.
هذا من حيث شكل الأداء ودلالته داخل السياق الشعبي ،ولكن فيما يخص البعد الأسطوري لتلك الممارسات، فنفس شكل الممارسة له جذوره في الأساطير والطقوس القديمة للمنطقة بشكل عام وإيران خاصة.فمثلاً في بابل وآشور أو (حضارة ما بين النهرين)،يُقام في النيروز أو في بداية الربيع إحتفالاً بعودة الإله "دموزي"(تموز)،ذلك الإله الذي قُتل وأُرسل إلى العالم السفلي ويعود في بداية شهور الربيع ثم يموت ثانية،وتُقام تلك الإحتفالات بإسلوب يشبه طريقة العزاء الحسيني من مواكب وحزن وعزاء.وقد يكون لذلك تأثيره على أشكال الممارسات الحسينية خاصة وأن منطقة العراق القديم كانت من أهم روافد الثقافة الإيرانية.
وكذلك تتم تلك الطقوس في منطقة آسيا في نفس اليوم الخاص بالربيع ،فتقام الطقوس بعودة الإله المقتول إله الربيع وتتم مراسم الإحتفال بضرب الصدور والسيوف والجنازير وجرح الجسد وبكاء النساء،وذلك رغبة منهم في الحزن على مقتل ذلك الإله الربيعي وحزناً على فقدان الربيع كل عام،وقد يعود ذلك إلى العلاقة القائمة ما بين الكوني والأسطوري في الوعي الشعبي.ولكن تلك الطقوس ترمز إلى الرغبة الحقيقية في إستدعاء الربيع ثانية كرمز للحياة والمجسد في شخصية الإله.
ولكن الأهم مما سبق هو تلك الطقوس التي كانت تُقام في عزاء البطل (سياوش بن كيكاوس)،أحد الأبطال الملحميين الإيرانيين والذي ترسخ في الذهنية العامة بوصفة المقتول ظلماً علي يد (كرسيوز) أخو (أفراسياب)،عندما لجأ إليه سياوش في بلاد توران هرباً من ظلم أبيه كيكاوس له الذي أتهمه في زوجته ظلماً وأراد قتله،فأقام لدى أفرسياب فترة ثم قتله وفصل رأسه عن جسده،وعندما وصل الأمر لأبيه حزن عليه بشدة وندم على موقفه منه وقرر إقامة العزاء له حزناً عليه،بحيث يرتدي الناس السواد ويلطمون ويضربون أجسادهم.وفي منطقة بخارى كانت تُقام طقوس النوح على سياوش وإقامة الأناشيد والضرب بالجنازير.
فسياوش في العقل الجمعي الإيراني ليس مجرد بطل يتم الغدر به،بل أن له صلة مباشرة بالعالم المقدس ويصل إلى عداد الصديقين،فله مكانة عظيمة في الأساطير القديمة التي سبقت الشاهنامه خاصة في (الأفستا)،بل إمتد الإحتفال به في منطقة آسيا الوسطى ويُطلق عليه هناك إسم (سياورشن) .فالملحمة كما وردت في (الشاهنامه)،كانت مجسدة لمفهوم البطولة ، إلا أن جذور الشاهنامة ما هي إلا إعادة صياغة لهذه المعتقدات الإيرانية القديمة في العهد الإسلامي ، أي تحويل مفهوم الألوهية في المعتقدات القديمة إلى مفهوم البطولة في الشاهنامه.
فهناك علاقة وثيقة من حيث شكل الممارسة أو الأداء الطقسي للعزاء بين العادات والمعتقدات القديمة وإستمرارها في العقل الجمعي،وذلك لأن آلية التناول واحدة لكلاً من الجذور القديمة والمعتقدات التالية لها بعد ذلك ، فالعقل الشعبي قد تناول مأساة الحسين كما تعامل مع موروثه القديم بنفس الصيغة والشكل،فمفهوم البطولة والإستشهاد له جذورة العميقة في عمق الوعي المجتمعي في إيران.
كما أن ذلك الشكل من الأداء الطقسي العنيف على مر العصور الهدف منه هو ذوبان الكيان الفردي داخل المجموع الممارس لتلك الطقوس،فله غاية أسمى من الفردية وهي الوصول بالمجموع إلى الإندماج مع فكرة أكبر تحتويه.وفي تلك الحالة الحسينية هي محاولة الوصول بالجماعة إلى الإتحاد والتوحد مع فكرة الفداء والتضحية وتحمل الذنب.
وبشكل عام تلك الممارسات الطقوسية تُعد هي التجلي النهائي للحدث التاريخي الممتد لعالم موازي داخل النصوص الحكائية،ليصل في منتهاه إلى تحويل تلك النصوص إلى ممارسات حركية تؤكد على أهمية الفكرة وتثبيتها.فمهما حاولنا دراسة تلك الممارسات العزائية خارج إطارها التاريخي والثقافي والأسطوري المنتج لها وآلية تعامل الوعي الشعبي مع كل ما ترسخ فيه من مفاهيم وكيفية صياغتها بعد ذلك.فلن نصل إلا لدراسة شكلية لصور متراصة جامدة خالية من الرمز والعمق.
فلابد من الربط بين الدلالات التاريخية والمذهبية والشعبية والأسطورية والتوصل إلى كيفية تلقي العقل الجمعي الإيراني لكل تلك الأشكال في قضية غاية في الشائكية كقضية مقتل الحسين (رضي الله عنه).علنا نتمكن بواسطة تلك المنهجية من التوصل إلى حل للعديد من الإشكاليات التي تشكل المجتمع الإيراني المعاصر سواء على المستوى السياسي أو الإعتقادي بعيداً حتى عن رمزية مقتل الحسين.
(صدر للكاتب كتاب تحت إسم (كربلاء بين الأسطورة والتاريخ ـ دراسة في الوعي الشعبي الإيراني) 2009 دار رؤية القاهرة)
===========
المهدي المنتظر وتأسيس دولة الحق السياسي والديني (أسطورة عودة الإبن الضال بين السنة والشيعة
الأربعاء, 10 حزيران/يونيو 2009
أحمد لاشين
الإنتظار في الفكر الديني:
تأسست كل المفاهيم الدينية على مفهوم الخلاص المنتظر والذي ليس بالضرورة أن يكون أخروياً فالعالم الأخر بالنسبة للعديد من الديانات يُعد إمتداداً طبيعياً للحياة الدنيا،ولكن الخلاص المقصود هنا هو الخلاص الحياتي الدنيوي،نهاية آلام وأوجاع معتنقي هذا الدين أي دين.فبنية مفهوم الدين أو الإعتقاد تعتمد على الرؤية المغايرة للواقع الذي يطرحها بما يسمح بتعليق آمال المعتنقين على تلك الرؤية.
فكل الديانات الكبرى قد اعتمدت على موعود من سلالة مصطفاه إلهياً ليرفع عذابات المؤمنين ويُقيم مملكة الله على الأرض،فالديانة الزردشتية مثلاً تؤسس لفكرة المخلص المنتظر الذي سيأتي ليحقق العدل الإلهي على يد أحد أحفاد زرادشت المبشر بالديانة أو نبيها،لينتصر على قوى الشر ويُخرج النور من الظلمة ويُعيد بناء العالم بمساندة من إله النور.وكذلك إنتظار (الظهور الثاني للمسيح) كمعتقد أصيل في معظم المذاهب المسيحية،واعتقاد اليهودية بمن لم يأتي بعد،ولا أُوحد بين كل الديانات ولكني أشير إلى البنية المؤسسة للفكر الديني ذاته.فمعظم معتنقي تلك الديانات قد وقعوا تحت طائلة من يخالفوهم دينياً أو مذهبياً مما حتم كرد فعل جمعي أن يتحول الأمل في الثأر إلى إنتظار الغد الذي سيكون فيه العالم تحت سلطة كل دين أو مذهب،أي أن الظرف التاريخي هو الذي يخلق تلك المفاهيم التي تتمحور حول البطل المنتظر فتصبح معتقداً لا يكتمل الإيمان إلا به.
مفهوم الخلاص:
ولا يوجد مذهب إسلامي لم يعتقد في مفاهيم الخلاص بشكل عام،المهدي الذي سينهض حتماً لإطلاق تحول إجتماعي كاسح لإستعادة حكم الله وإشاعة العدل في أرجاء الأرض،ولينفذ أطماع أتباع كل مذهب ضد كل الديانات الأخرى والمذاهب المغايرة،ورغم التشابه الكامن خلف فكرة المهدي في الإسلام والأفكار المسيحية عن الخلاص،إلا أنه لا يتعامل من الإنسان كخاطئ أصلي يحتاج للخلاص عبر التغير في الطبيعة الروحية كما في المسيحية،بوصف أن فكرة الخطيئة الكبرى ليست هي الأساس في الإسلام،كما أن فكرة المهدي لا تتشابه مع فكرة القومية اليهودية حيث مفهوم الشعب المختار وتحقق مملكة الله في أرض الميعاد،ولكن المهدي في المذاهب الإسلامية بشكل عام هو المنوط بتأسيس المجتمع الديني ـ السياسي المثالي،لكل من يؤمن بالله والرسالة المحمدية،مما تسبب بطرح العديد من الأشكال التاريخية لمفهوم هذا الكيان الإجتماعي تحت مسمى دولة الحق أو دولة الله والتي عمدت بشكل تلقائي إلى طرح كل المذاهب الأخرى جانباً،وتتطور الخلاف المذهبي إلى تاريخ للدماء والعذابات التكفيرية لأتباع كل مذهب.
عودة الإبن الضال بين السنة والشيعة:
رغم أن القرآن الكريم لم يذكر مطلقاً بشكل صريح على الأقل أي ذكر لمفهوم المهدي المنتظر،إلا أن فلسفة التأويل والتفسير قد حاولت صرح تلك الفكرة حسب الوجهة السياسية والإعتقادية لدى المذهبين،ففي المذهب السني لا يشكل مفهوم المهدي تأسيسأ للمذهب أو الإيمان رغم ورود بعض الأحاديث الضعيفة التي حتى لم ترد في أي من الصحيحين و تشير وتحكي عن مهدي يأتي في آخر الزمان من سلالة آل البيت ليحارب ضد كل الذين لايؤمنون بالإسلام،وسوف يحارب معه بل ويصلي وراءه في بعض الروايات عيسى عليه السلام لمحاربه المسيخ الدجال،وكل تلك الحكايات التي لا تستند إلا على العقلية الشعبية التي اعتمدت على طبيعة الإنتظار لتحقيق آمالها المتوارثة تاريخياً،إلا أنها رغم الخلاف عليها وعلى صحتها لا تشكل صحيح المعتقد السني بشكل عام،ولكن الوعي المذهبي الشيعي قد عمد إلى خلق شخصية بطولية متجاوزة للمفاهيم الزمانية و المكانية لأبعد الحدود وتحولت تلك التصورات إلى معتقد أصيل في المذهب فالفكر المهدوي يُعد من الأسس الأصيلة للفكر الشيعي في كل تجلياته.
فالمهدي المنتظر محدد في التشيع الإمامي او الإثناعشري،وهو محمد بن الحسن العسكري،وهو الإمام الثاني عشر،والذي غاب غيبتان الغيبة الصغرى والتي امتدت لخمس سنوات بعد موت والده خوفاً من المتابعة العباسية له،وإلى هنا التسلسل يبدوا منطقياً إلى حد بعيد ثم تأتي فترة الغيبة الكبرى، والتي تستمر إلى الآن،وأنه سوف يعود ذات يوم وغالباً ـ حسب المعتقد الشيعي ـ سيكون قي ليلة النصف من شعبان وهو يوم ميلاده أيضاً،فهو مازال موجوداً لم يمت ولن يبعث بل هو حياً في العالم ولكن لا يراه أحد،والغريب أن الحجة التي يسوقها التشيع لهذا الغياب الأسطوري أن سمة الحياة الطويلة الغير مرئية تلك قد مُنحت لمن هم أقل مكانة من محمد المهدي مثل إبليس أو العبد الصالح الذي ظهر لموسى عليه السلام وأصطلح على تسميته في التراث الديني الشعبي بالخضر،فلماذا نستبعد تلك السمة عن المهدي الذي سيأتي ليخلص العالم من الظلم ويؤسس عالم العدل الإلهي على الأرض!!
ورد في كتابات (محمد باقر المجلسي) ومنها (بحار الأنوار)و(زاد المعاد) و(عين الحياة) وهو أحد علماء الشيعة الكبارفي عهد الدولة الصفوية في إيران في القرن التاسع الهجري وهي بداية التشيع السياسي كدولة في العالم الإسلامي،وكانت مؤلفاته للتأسيس المذهبي ونشر التشيع في أرجاء العالم الإسلامي وقتئذ وجمع آلاف الأحاديث المنسوبة للأئمة ومنها الكثير مما أوصله إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بشكل مختلط وغير منظم،ورد أن من علامات ظهور المهدي هزيمة بني أمية على يد العباسيين ثم وقوع الخلاف بين العباسيين في عهد الأمين والمأمون والقضاء على الخلافة العباسية على يد المغول،أي الإستغلال لكل الأحداث التي وقعت بالفعل خاصة السياسي منها لتفعيل فكرة المهدي،وأن كل هذا تم لصالح المهدي ذاته تأسيساً إلهياً لقدومه،وأنه حين رجعته ستتحول السماء إلى لون الدم وستشتعل السماء ناراً،وسيظهر يأجوج ومأجوج ويكثر الخراب في العالم ويكثر الأموات،وسيبشر بمجيئه جبريل على رأس المسجد الحرام.وليس لظهوره وقت معلوم فهذا من أمور الغيب التي لا يعلمها سوى الله سبحانه،بل أن تاويل الآية (ويسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي)(الأعراف:187) المقصود بها ساعة ظهور المهدي المنتظرـ وقد تناولت آلية التأويل الشيعي للقرآن في مقالة سابقة نشرت في جريدة القاهرة الغراء 12/5/2009 تحت عنوان الشيعة بين الهوية السياسية وتاريخية الدين ـ أي أن العقل المذهبي الشيعي قد عمد إلى تأسيس بناء أسطوري يؤكد على طبيعة الإصطفاء الإلهي للمهدي وأن عودته شأن مقدس لا يسمح لغير الله التدخل فيه.
الرجعة وأساطير العصر الذهبي
تُشكل مرحلة النبوة الأولى وتأسيس مجتمع المدينة تحديداً مرحلة العصر الذهبي في التاريخ الإسلامي بشتى مذاهبه،فتلك المرحلة هي التي حولت الدين الإسلامي من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة المتكاملة الأركان،وأصبحت تلك المرحلة هي الهدف الأسمى لكل أفكار الإسلام السياسي إلى الآن ،بوصفها هي مرحلة النقاء الأسطوري الأول وهي المرحلة القابلة للإستغلال من قبل كل التيارات المذهبية والسياسية،وبالطبع كان للمذهب الشيعي دوره في محاولات تحويلها إلى الفترة الأم الذي يهدف إليها المهدي حال ظهوره.
تلك الفكرة تنسحب كذلك على كل المراحل الخلافية في التاريخ الإسلامي،فكما ورد في نصوص التشيع لدى المجلسي أن العودة أو الرجعة لن تخص محمد المهدي فقط،بل تخص كل الأئمة على رأسهم عودة الحسين بن علي وأنصاره في كربلاء ومجموعة من الملائكة اللذين منعهم الحسين من المشاركة في كربلاء،ويقوم كذلك أعداء الحسين وقاتِلوه وتقوم معركة كربلاء ثانية لينتصر الحسين،ويأخذ بثأر كربلاء.وكذلك سوف يقوم علي بن أبي طالب ليأخذ بثأره ممن قتلوه،وينسحب الأمر على كل الأئمة فرجعة المهدي مصحوبه بعودة الأئمة جميعاً،لأن إنتقامهم لابد أن يكون في الدنيا لافي الأخره.كما أن الآية التي تقول: ( واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج)(ق :41، 42)،توؤل تبعاً لرؤية المجلسي ،أنها الرجعة للأئمة،وليست القيامة,وهذا يُدخلنا في أزمة منهجية ثانية وهي العلاقة تعامل العقل الديني مع القرآن الكريم وفكرة أسباب النزول،ومحاولة ربط النص القرآني بأحداث ذات دلالة تاريخية مغلقة كما المذهب السني،أو ربطه بما يحقق التأويلات الشيعية الخاصة بالتوجهات السياسية التاريخية،وكلا الحالتين تخرج القرآن من عالميته وصلاحيته المطلقة للفهم لتحصره دلالياً بالمكان والزمان.
المهم أنه بعد تحقيق كل الإنتقامات التاريخية المؤجلة في المذهب الشيعي ليتحول المهدي لمحاربة كل الذين لا يؤمنون بالتشيع في العالم بكل مذاهبهم وأديانهم،لنعود ثانية لعهد النقاء النبوي الأول،في مرحلة الدولة الأولى،وتتحقق دولة المهدي في المدينة كما جده.
ويرد أن أول ظهوره سيكون بمكه وأن جبريل وميكائيل سيأتوه ليبايعوه،وأنه سيدعوا أنصاره بصيحة واحدة من كل الدنيا فسيأتوه وتضئ السماء في الليل،ويخرج الناس في الصباح ليجدوه مع أتباعه وأنصاره،ويخرج إلى بغداد والكوفة ويهدم كل البيوت والمساجد التي بُنيت بعد عهد جده علي بن أبي طالب خاصة التي بُنيت في عهد معاوية ويزيد،أي تحقيق كل الإنتقامات السياسية للعودة للبدايات الأولى.
فالمهدي في سماته الرئيسة هو إعادة صياغة لفترة النبوة وإحياء لمشروع اليوتوبيا الإسلامية فكما ورد أنه سيكون شديد الشبه بجده النبي،وما سوف يحققه هو إخراج العالم من الظلمات إلى النور،ومن الفساد إلى الصلاح،أي أن فكرة المهدوية هي إمتداد طبيعي للنبوة كما أراد أن يؤولها المذهب الشيعي.
وبشكل عام فقد تعامل المذهب الشيعي مع مفهوم العدالة العامة التي تؤسس للفكر الإسلامي كلية،بوصفها عدالة خاصة فقط بالأئمة وأتباعهم،أي تخصيص العدل وتحديدة في تلك الفئة فقط،بوصف أن الأئمة قد جسدوا كل مظلومية الشيعة وبالتالي فالعدل لهم فقط يُعد عدلاً جماعياً من وجهة النظر تلك.لتأسيس العالم المثالي على أنقاض العالم الفاسد.
مجتمعات تحتاج إلى إيمان:
رغم العديد من الإنقاضات التي وجهت لكتابات المجلسي وغيره من كتاب المرحلة الصفوية تحديداً واعتبار أن تلك المرحلة قد أساءت للتشيع بشكل عام،وأن التشيع الحق قد حاول التخلص من السمات الإعلائية أو الأسطورية التي صُبغ بها المذهب إلا أن الواقع الممارَس للمذهب الشيعي يؤكد أن ما كتبه المجلسي قد استمر راسخاً في الوجدان الشيعي عامة،مما يدل أن ما تم نقله في الكتب لم يكن من وحي خيال المجلسي أكثر منه تدوين للمعتقد الشيعي ذاته،رغم كل ما فيه من تناضقات أو تجاوزات عقلية ودينية أحياناً،إلا أن القضية في التشيع تتجاوز مجرد نقد كتاب،إلى دراسة عقلية إيمانية.
ففكرة البطل الديني فكرة نابعة من عمق الوعي الاجتماعي،تتجاوز حتى الإطار المذهبي بل أنها تستفيد منه أحياناً،أي أن الإيمان بفكرة ما من الممكن أن تتجاوز الإطار الديني ما دامت متسقة والطبيعة الاجتماعية التي نشأت من خلالها.فذلك البطل يُعاد إنتاجه في كل مرحلة تاريخية في التاريخ الشيعي،فلو أفترضنا أن الإنتصار كان من حليف أحد الأئمة في أي مرحلة من مراحل الصراع السياسي في التاريخ الإسلامي فهل سيكون هناك مكان لمفهوم الرجعة أو حتى الفكر المهدوي ،أو حتى رغبة الشيعة في كل مكان في تحقيق دولتهم لا أدري؟؟.
ولكن من المؤكد أن فكرة المهدوية كانت مفتتح للعديد من الصراعات على الساحة الدينية و السياسية،ولها تجلياتها الواضحة التي إن وعيناها جيداً سندرك العديد من بواطن الخلاف والصراع المذهبي والتاريخي. فما أورده التشيع في هذه القضية لا يختلف كثيراً من حيث البنية عما ورد في كل الأفكار الإنسانية على مدار تاريخها،فالبطل المخلص همّ حملناه لأنفسنا حتى نحتمل ما لا يُحتمل،عندما يتحول الإنتظار إلى قيمة،والصمت إلى إيمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق