السبت، 3 ديسمبر 2016

المعتقد الإيراني بين الزرادشتية والتشيع




الأربعاء, 01 تموز/يوليو 2009 
أحمد لاشين



إن ما يعتري التاريخ الإنساني من تطورات خاصة على المستوى الإعتقادي أو الديني يُعد من أهم الإشكاليات التي تحدد ملامح الهويات البشرية بشكل عام،فما يعتقده الإنسان وما ينتجه وعيه الخاص عن العالم المقدس الذي يعتليه يُشكّل البنية الرئيسية للحياة الإجتماعية والتاريخية بعد ذلك،ففي النهاية الدين هم إنساني منذ البداية،حتى قبل الديانات السماوية،ذلك الهم يظل قابع في مضمون الوعي حتى وإن إختلفت أشكال الإعتقاد.

ـ قومية لا دين :

وقد مرت إيران بهذه التجربة الشديدة الخصوصية ليس فقط لكونها ذات حضارة تمتد إلى الألف الرابع قبل الميلاد،ولكن لأن قضية البحث عن الدين شغلت التفكير الحضاري منذ آلاف السنين خاصة في واقعنا الشرقي التاريخي والآني،والديانة الزرادشتية تُعد من أهم الديانات في التاريخ القديم ،بل ما زال هناك متعبدين بتلك الفكرة إلى الآن في إيران وغيرها من بلدان الشرق مثل الهند والصين ، بل أن بيوت النار ما زالت قائمة في محافظات عدة في إيران ،كما كانت الديانة الرسمية للدولة الإيرانية القديمة منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وصولاً للدخول العربي لفارس وتحويل الديانة إلى الإسلام،فرغم الوعي الحضاري البديهي بالديانة المسيحية واليهودية مثلاً في إيران،إلا أن الوعي الذاتي القومي أبى إلا التمسك بالتقاليد الدينية الأصيلة،ولم يتراجع دورها الحضاري إلا مع قوة العرب وما جلبوه لهم من أفكار دينية إسلامية.ولكن ظلت الأزمة في عمق الوعي الحضاري الإيراني،فالتعامل مع العرب لم يتم في إيران على أنهم فاتحين أو محررين او حتى داعيين لدين جديد بل بوصفهم عناصر محتلة لأراضيهم،غزاة أصابوا الذات الإيرانية المتضخمة في مقتل،بل ظل الإستخدام الفارسي لكلمة (أعراب) بمعنى البدو الأجلاف هو اللفظ الأكثر إنتشاراً في الأدبيات الإيرانية التاريخية والسياسية وهذا إلى وقت قريب،وبالتالي لم تتراجع الشخصية الإيرانية بشكل تام أمام الزحف العربي،خاصة على مستوى الإعتقاد الديني،فمع قبولهم بالإسلام بوصفه دين إلهي مكتمل،لم يقبلوا الذات العربية بوصفها الحاملة لهذا الدين،وساعدوا كل العناصر الثورية في التاريخ الإسلامي العربي،منذ بداية الأمويين،وسقوطهم على يد أبي مسلم الخراساني،إنتهاءاً بمساندة حركات التشيع العلوي بوصفة ظاهرة ضد حكومية،كل هذا مع محاولتهم المستميته للحفاظ على الهوية القومية وخاصة ما يتعلق بمسألة الدين الزرادشتي واللغة الفارسية،حتى مرحلة الإعتناق الكامل للتشيع في القرن التاسع الهجري،وبالطبع سبقته مرحلة طويلة من الميول الإيراني للتشيع،وهنا وجد الوعي الإيراني مساحته الحقة للتحقق والفردية،فللتشيع كمذهب بنية تتشابه مع البنية الدينية الإيرانية إلى حد بعيد خاصة في قضية الذات التاريخية المتضخمة للأئمة،والنسل المُطّهر،ومفهوم الإنتظار،إلى غير ذلك،من المفاهيم التي إستفادت منها العقلية الإيرانية لتتوحد تماماً مع السمات الدينية المذهبية للتشيع.وهذا ما سنحاول طرحه على جانبين رئيسيين. 
ـ كوزمولوجية(أسطورة) الخلق في الزرادشتية والتشيع:

تعتمد الديانة الزرادشتية المنسوبة للمبشر أو نبي الديانة (زرادشت) على فكرة الفصل بين النور والظلمة،فالنور هو أصل كل الكائنات ورمزه في الديانة (أهورامزدا) ويعني العقل الكامل أو الوجود المطلق، والمقابل له (أهريمن) وهو رمز الظلمة أو كل ما هو ضد النور بوصف أن النور أصل الحياة فبالتالي يكون أهريمن هو العدم في المقابل،بمعنى أنه كيان شيطاني له عالمه الموازي لعالم النور وتحكي الأسطورة أن أهريمن لم يكن على علم بوجود عالم النور أو (اهورامزدا) ولدى علمه له بالمصادفة قرر أن يهاجمه،رغم العلم الكلي لإله النور الذي به يعلم بوجود أهريمن الشيطان ولكنه لم يحاول نفيه أو مهاجمته،مع قدرته الكلية على ذلك فهو إن لم يكن الإله الأوحد فهو الإله الاكبر،ولكن كانت للقضية حكمة،فبقرار الشيطان تلويث عالم النور الإلهي تم عقد هدنة بين الطرفين لمدة ثلاثة ألاف عام بعدها تبدأ المعركة،وفي هذه الفترة خلق (أهورامزدا) كل المخلوقات وجعلهم في حالة سكون،وبدأت الحركة في الكون بعد هذه المدة،أي أن أصل نشأة العالم كانت عن طريق النور لمحاربة الظلمة،ومن جانب أخر لولا أهريمن الذي يرمز للعدم لنالت كل المخلوقات الخلود،وهذا لا يتسق مع الطبيعة الإلهية (لأهورامزدا)،فكانت وظيفة الشيطان خلق المرض والتعب،والموت وذلك حتى تكتمل الطبيعة الفانية للبشر،وكأن الشيطان في الزرادشتية هو المتمم للخلق الإلهي النوري،وفي نهاية المعركة سيفنى الشيطان ويخرج كل النور من الأجساد الفانية للعودة للسماء الإلهية ثانية لتنعم الأرواح بالخلود السماوي المقدس،ويسكن الكون من جديد.ففكرة الثانوية التي شاعت عن الزرادشتية لا تمت لها بشكل كامل بمعنى أن مع التراكم التاريخي إزدادت أهمية أهريمن الشيطاني في المدونات الدينية الزرادشتية وفي بعض مذاهبها ولكنها ليست الأصل الديني للزرادشتية التي أعتمدت على أهورامزدا بوصفه خالق العالم وصاحب سمة الخلود السرمدي.

أما ما يتعلق بتاريخ النبوة في الزرادشتية،فزرادشت مخلوق من نور الإله الذي إنتقل إلى السماء السادسة إلى الشمس والقمر إلى النجوم إلى النار،إلى بيت النار المقدسة التي يُقدسها الفرس بوصفها رمز للنور الإلهي وليست معبودة في ذاتها،ثم إلى رحم زوجة صاحب بيت النار أو القائم عليه،التي كانت حاملاً في فتاه هي أم زرادشت،وعندما وُلدت كانت تشع نوراً،ثم تتزوج الفتاة وتنجب زرادشت الذي أتى يتكلم في المهد،ويبشر بالإله،ويشع نوراً ومعرفة أينما ذهب.فكان هو المعلم المكلم لأهورامزدا المبشر بالعدل السماوي

أي أن فكرة النور هي الأساس في المذهب الزرادشتي،وإذا إتجهنا للتشيع، نلاحظ أنه ورد في كتب المذهب الشيعي بعد مرحلة التشيع الإيراني،مثل كتب (محمد باقر المجلسي وغيره)،والذي يُشكل ما جاء فيها أساس للمعتقد الشيعي للأن،روي أن محمداً (عليه الصلاة والسلام)،وعلياً وفاطمة، والحسن والحسين مخلوقين قبل الوجود بأكمله وأن نور العرش من نور محمد،ونور الملائكة من نور علي،ونور السماوات والأرض من نور فاطمة،ونور القمر،من الحسن،ونور الجنة وحور العين من نور الحسين)،أي أن الوجود مخلوق من نور الخمسة الرئيسيين في المذهب الشيعي،كما ورد أن أول خلق الله كان الأربعة عشر معصوماً الإثني عشر إماماً وفاطمة والنبي،فكانوا نوراً يفيض من الله،ثم يحدث تكوين العالم بحيث يقيمون أسفل العرش الإلهي ومنهم يخلق العالم بالترتيب الآتي،مكان الأمكنة،العرش الكوني،السماوات،الملائكة،الهواء،الأبالسة،وأخيراً أدم.فنور الأئمة موجود قبل خلق البشرية،وآدم مخلوق من دمج هذا النور الإلهي بالطين،وسيتحول هذا النور من نبي لنبي وصولاً للأولياء وهم الأئمة على المستوى البشري.فلهم مستويان في الفكر الشيعي،المستوى الأسطوري المقدس الموجود قبل الوجود والمستوى التاريخي البشري الفاني أي فكرة الفناء الإنساني و خلود العنصر الإلهي في العالم المقدس السماوي ،ولكن كلها اعتماداً على فكرة قدسية النور.أي ان الديانة الزرادشتية والمذهب الشيعي متوحدين من حيث العناصر المقدسة،ولا أقصد بالتمام والقطع أن الزرادشتية هي أصل التشيع،بوصف أن أحدهما يسبق الأخر تاريخياً ولكني أقصد أن العقل الإيراني حال تشيعه قد وحد بين مقداساته الخاصة القومية وبين التشيع،فالمضمون واحد ولكن الشكل مختلف.

تشابه العناصر المقدسة:

من العناصر المقدسة في الديانة الزرادشتية الشمس،فهي رمز الضياء وهي المنوطة بتطهير الكون من الدنس الشيطاني،وهي المنوطة برعاية النور المقدس في أجساد البشر وسوف تستعيده منهم في نهاية الكون،ومن علامات نهاية الكون في الزرادشتية إنكساف الشمس،والعودة إلى حالة الظلمة الأبدية،بوصف أن الضياء هو رمز الوجود.

وفي الحكايات المذهبية ،ورد أن الأئمة عندما يموتون يصعدون للشمس ،وأن الشمس قد كُسفت يوم مقتل الحسين دليل على زوال الوجود من العالم وتحوله لعدم بموته بل أن نور قد تصاعد من جسد الحسين بعد موته وصولاً للسماء أي عودة النور لأصله السماوي المقدس كما الزرادشتية، كما أن الشمس قد توقفت لعلي حتى يُتم صلاته ،بل أنها سوف تشتعل ناراً يوم مجيئ المهدي،فنلاحظ التشابه في إستخدام الرموز المقدسة في كلا السياقين.فكلاهما قد وحد بين الضياء والقداسة،والظلمة والعدم.وهناك العديد من العناصر المقدسة في كلا السياقين لا يتسع الحديث له الأن.

كما ورد في بعض الأحاديث المنسوبة للنبي (صلى الله عليه وسلم) والتي بحثت عنها في كتب الأحاديث السنية ولم أجد لها أثراً على الأقل فيما بحثت،أنه قال : ( إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه وكتاب فأحرقوه)،وعندما سُئل علي بن أبي طالب لماذا لا يأخذ الجزية من المجوس وهم ليسوا أهل كتاب أجاب : (بلى قد أنزل الله إليهم كتاباً وبعث لهم رسولاً)،ولا أحتج بكتب السنة على الشيعة ففي كلاهما ما فيهما من إشكاليات،ولكني أشير فقط إلى المحاولات الفارسية لتمجيد الذات الدينية الإيرانية القديمة بما يتسق والدين الإسلامي في إطاره المذهبي.

الطقوس:

من أهم الممارسات الإيرانية التي تشير إلى هذه الفكرة،عيد النوروز(النيروز )،وهو العيد القومي الإيراني الذي يُحتفل به للأن يوم 21 مارس وهو بداية السنة والتقويم الإيراني وله طقوسه الخاصة التي لا مجال لطرحها الأن،وهو يوم عطلة رسمية في إيرن ومساوي لعيد شم النسيم المصري على إختلاف التوقيت،فهو عيد الربيع وبداية الكون في الفكر الزرادشتي،فهو عيد نصرة إله النور على الشيطان العدمي المظلم،وهو يوم إكتمال نور الشمس،وبداية الحياة من جديد بعد تخريب أهريمن لها،وفي مرحلة تالية أصبح هذا العيد مرتبط بأحد ملوك الفرس الأسطوريين وهو (جمشيد) الذي أوكل له الإله بناء العالم بعد خرابه فأكتمل بناءه في هذا اليوم فأصبح عيداً.ومن طقوسه في الزرادشتية زيارة قبور الموتى،والدعاء لهم وإستجلاب رضاهم وبركتهم.

وفي التشيع نلاحظ تسرب واضح لبعض المفاهيم القومية الإيرانية إلى المذهب ،فقد روي عن الإمام (جعفر الصادق)،الإمام السادس في التشيع،أن النوروز (أو النيروز)،هو يوم (غدير خُم)،وهو اليوم الذي بايع فيه النبي علي بالخلافة من بعده في المعتقد الشيعي،وهو يوم غلبة علي في معركة النهروان التي تمت بينه وبين الخوارج،بل هو يوم عودة الإمام الغائب،المهدي المنتظر،ويوم خلق الله أدم من نور الأئمة،فهو حسب تعبيره المروي عنه،(يوم الشيعة).فستكون فيه القيامة،فهو يوم الميعاد في الفكر الشيعي،ومن طقوس الإحتفال به في المذهب الشيعي،زيارة قبور أو أضرحة الأئمة والتوسل بهم والدعاء لهم،ونيل بركتهم.

أي أن رمزية البدايات والنهايات قد تم توحيدها في العقلية الإيرانية بشكل يجمع بين القومي والديني المذهبي،ومن ضمن الممارسات كذلك أن مكان ضريح الإمام علي الرضا الإمام الثامن في إيران في مشهد بخراسان هو مكان دفن زرادشت وكأن العقل الإيراني قد قرر الحفاظ على كل مفهوم المقدس بتبادل الأدوار فقط ليس إلا أي الحفاظ على الدلالة الأسطورية للمكان بربطه بأشخاص لهم نفس الوقع المقدس في الوعي الإيراني.

وعامة تظل فكرة الذاتية الإيرانية هي المسيطرة على الوعي الإيراني بشكل عام ،خاصة لدى تناوله للعناصر المقدسة،وتحويل الطبيعة الدينية لصالح توجهها الخاص،فالديانة الزرادشتية ذات أصول وفلسفة أعمق مما ذكرنا ومن الممكن أن نتناولها بالتفصيل في سياق أخر،المهم أنه حتى يكتمل إدراك الشخصية الإيرانية لابد من التركيز على الطبيعة القومية التاريخية والمذهبية،وليس فقط الجانب السياسي الآني

ahmedlashin@hotmail.co.uk

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق