أدخل الشيرازيون ممارسات طقسية في إطار الإحياء العاشورائي لم تخطر على بال أشد الجماعات الشيعية غلوّاً عبر التاريخ، فلم يتوقف الطقس عند التطبير والمشي على الجمر، أو حتى الزحف على البطن وتمريغ وجنات الخد على الأرض الملساء حد الإدماء، ولكن جرى استحداث طقوس أخرى مثل المشي على الزجاج، وتطبير الذراعين (أسوة بقطع ذراعي العباس بن علي، أخ الحسين بن علي في كربلاء)، والتوسّع في تمثيل واقعة كربلاء في المجالس بارتداء أزياء غريبة بلوني الأخضر والأسود، وحمل أخشاب تعلوها أضواء وشموع بأشكال مثيرة، واستخدام الدفوف والرقص بضرب الأرجل على الأرض، وتقمّص شكل الامام علي في هيئة أسد يحضر الى كربلاء لانقاذ ابنه الحسين وعشرات الاستحداثات غير المسبوقة المستمدة من تراث فرق الغلو والتي يخرجها فقهاء الشيعة من دائرة التشيّع. وعليه، تحوّل تيّار الشيرازي الى مضخّة فعّالة تتدفق منها مشاريع طقسية متناسلة
إن الرأسمال الطقسي الذي تجمّع لدى الشيرازيين بفعل امتلاكهم شبكة فضائيات (تصل الى 15 قناة)، وهي بحسب المرجع الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله «حسينيات فضائية»، جعلهم قادرين على احتواء الشيعة عموماً داخل مجال عاطفي على مدى شهرين كاملين (محرم وصفر)، حيث ينكبّ المنشدون الشيعة العراقيون والخليجيون واللبنانيون على تقديم إصدارات عاشورائية بأصوات عذبة وبكلمات ولائية (مع أنها تمثّل بؤس الشعر الولائي على الإطلاق بالمقارنة مع عيون الشعر الولائي الشيعي). وإذ تكاد تخلو الفضائيات الشيرازية من فقرة خاصة بتلاوة القرآن الكريم، فضلاً عن التدبّر في آياته أو أحكامه، أو فقرة خاصة بالحثّ على التزام الفرائض الدينية (الصلاة والزكاة والحج والصوم) والامتثال لقيم الدين (الصدق والأمانة والاخلاص وحفظ العهود والمواثيق...) تنصرف الفضايات تلك إلى حشد «كليبات» الرواديد الذين يستنسخون أساليب المغنيين بترديد أبيات عاشورائية على أنغام مصنّعة عبر تقنية صوتية خاصة، الى جانب نقل المجالس الحسينية التي تروى فيها مأساة عاشوراء بأسلوب حزين، وتمرّر عبرها العشرات من الروايات الضعيفة والموضوعة حول «خوارق» المعركة التي تنزع الى «أسطرة» كربلاء وتحويلها الى حادث غيبي ليس للبشر فيه دخل.
حول الشيرازيون التشيّع الى مأوى لكل الخرافيين والمهووسين بحياكة قصص الكرامات التي تتحدث عن «حضور الزهراء في هذا المجلس»، و»مشاركة المهدي في العزاء»، و»خروج الدم في صخرة» أو تبدّل لون التربة الى الأحمر كلون الدم ليلة العاشر من محرم.
إن اللجوء الى تراث روائي كان مهملاً في المذهب الشيعي أعاد معه إحياء تراث المغيبات والخوارق والكرامات كونه يتناسب والعاطفة الشيعية الشعبية، فبات كل ما يروى عن واقعة كربلاء مقبولاً، وإن كان المخيال الطقوسي لدى الشيرازيين مصدره الوحيد. وعادت كثير من الأفكار الغنوصية التي حاربها المفكّرون الشيعة في الخمسينيات والستينيات والمسؤولة عن عطالة الدور الثوري للتشيع. وفي نهاية الأمر، بتنا أمام تيار شيعي يعيد إنتاج وإدماج الأفكار الحلولية في البناء العقدي الشيعي، وبدأت مجدداً تنتعش عقيدة التفويض التي تكل إدارة الكون الى أهل الكساء الخمسة (محمد وعلي وابناه الحسن والحسين وأمهما فاطمة الزهراء)، وانتشرت معها قصص الخوارق المفبركة من «الموالين»، كما نشطت فكرة «الانتظار» وقرب خروج الإمام المهدي. وبات المناخ مؤاتياً لانبعاث المفاهيم الاسكاتولوجية والميتافيزيقية وأصبحت جزءاً من الثقافة الشعبية والتداول اليومي بين عموم الشيعة العرب. أمام ذلك كله، فضّلت المرجعيات الدينية الشيعية في العراق الصمت حيال الظاهرة، وإن كانت لديها ملاحظات فتحتفظ بها لنفسها تفادياً لثورة «العوام» عليها.
لا ريب في أن النموذج الشيعي الذي يجرى تعميمه حالياً ليس هو المسؤول عن صنع الثورة، بل على النقيض تماماً هو نفسه الذي حاربه منظّرو الثوّرة في المجال الشيعي أمثال محمد حسين النائيني ومهدي الخالصي وعلي شريعتي وروح الله الخميني، ومرتضى مطهري، ومحمد باقر الصدر، ومحمد حسين فضل الله.
أخيراً، فإن تحويل التشيّع من فكرة ثورية الى ممارسة طقسية يجعله عرضة لاختراق واسع من أفكار الغلو والتراث الحشوي الذي اشتغل محقّقو الشيعة على الحد من تأثيراته على الحركة الفكرية الشيعية، ويخشى أن تؤسس النزعة الطقوسية الى خروج التشيّع من التاريخ بعد أن دخل إليه بطريقة ثورية.
* أستاذ حوزوي ـ العراق
الفرقة الشيرازية، ستراتيجية الكذب
إن الرأسمال الطقسي الذي تجمّع لدى الشيرازيين بفعل امتلاكهم شبكة فضائيات (تصل الى 15 قناة)، وهي بحسب المرجع الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله «حسينيات فضائية»، جعلهم قادرين على احتواء الشيعة عموماً داخل مجال عاطفي على مدى شهرين كاملين (محرم وصفر)، حيث ينكبّ المنشدون الشيعة العراقيون والخليجيون واللبنانيون على تقديم إصدارات عاشورائية بأصوات عذبة وبكلمات ولائية (مع أنها تمثّل بؤس الشعر الولائي على الإطلاق بالمقارنة مع عيون الشعر الولائي الشيعي). وإذ تكاد تخلو الفضائيات الشيرازية من فقرة خاصة بتلاوة القرآن الكريم، فضلاً عن التدبّر في آياته أو أحكامه، أو فقرة خاصة بالحثّ على التزام الفرائض الدينية (الصلاة والزكاة والحج والصوم) والامتثال لقيم الدين (الصدق والأمانة والاخلاص وحفظ العهود والمواثيق...) تنصرف الفضايات تلك إلى حشد «كليبات» الرواديد الذين يستنسخون أساليب المغنيين بترديد أبيات عاشورائية على أنغام مصنّعة عبر تقنية صوتية خاصة، الى جانب نقل المجالس الحسينية التي تروى فيها مأساة عاشوراء بأسلوب حزين، وتمرّر عبرها العشرات من الروايات الضعيفة والموضوعة حول «خوارق» المعركة التي تنزع الى «أسطرة» كربلاء وتحويلها الى حادث غيبي ليس للبشر فيه دخل.
حول الشيرازيون التشيّع الى مأوى لكل الخرافيين والمهووسين بحياكة قصص الكرامات التي تتحدث عن «حضور الزهراء في هذا المجلس»، و»مشاركة المهدي في العزاء»، و»خروج الدم في صخرة» أو تبدّل لون التربة الى الأحمر كلون الدم ليلة العاشر من محرم.
إن اللجوء الى تراث روائي كان مهملاً في المذهب الشيعي أعاد معه إحياء تراث المغيبات والخوارق والكرامات كونه يتناسب والعاطفة الشيعية الشعبية، فبات كل ما يروى عن واقعة كربلاء مقبولاً، وإن كان المخيال الطقوسي لدى الشيرازيين مصدره الوحيد. وعادت كثير من الأفكار الغنوصية التي حاربها المفكّرون الشيعة في الخمسينيات والستينيات والمسؤولة عن عطالة الدور الثوري للتشيع. وفي نهاية الأمر، بتنا أمام تيار شيعي يعيد إنتاج وإدماج الأفكار الحلولية في البناء العقدي الشيعي، وبدأت مجدداً تنتعش عقيدة التفويض التي تكل إدارة الكون الى أهل الكساء الخمسة (محمد وعلي وابناه الحسن والحسين وأمهما فاطمة الزهراء)، وانتشرت معها قصص الخوارق المفبركة من «الموالين»، كما نشطت فكرة «الانتظار» وقرب خروج الإمام المهدي. وبات المناخ مؤاتياً لانبعاث المفاهيم الاسكاتولوجية والميتافيزيقية وأصبحت جزءاً من الثقافة الشعبية والتداول اليومي بين عموم الشيعة العرب. أمام ذلك كله، فضّلت المرجعيات الدينية الشيعية في العراق الصمت حيال الظاهرة، وإن كانت لديها ملاحظات فتحتفظ بها لنفسها تفادياً لثورة «العوام» عليها.
لا ريب في أن النموذج الشيعي الذي يجرى تعميمه حالياً ليس هو المسؤول عن صنع الثورة، بل على النقيض تماماً هو نفسه الذي حاربه منظّرو الثوّرة في المجال الشيعي أمثال محمد حسين النائيني ومهدي الخالصي وعلي شريعتي وروح الله الخميني، ومرتضى مطهري، ومحمد باقر الصدر، ومحمد حسين فضل الله.
أخيراً، فإن تحويل التشيّع من فكرة ثورية الى ممارسة طقسية يجعله عرضة لاختراق واسع من أفكار الغلو والتراث الحشوي الذي اشتغل محقّقو الشيعة على الحد من تأثيراته على الحركة الفكرية الشيعية، ويخشى أن تؤسس النزعة الطقوسية الى خروج التشيّع من التاريخ بعد أن دخل إليه بطريقة ثورية.
* أستاذ حوزوي ـ العراق
الفرقة الشيرازية، ستراتيجية الكذب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق