الخميس، 16 فبراير 2017

فوائد من قصة حادثة الإفك


التصنيف: موضوعات السور والآيات وأسماؤها ومقاصدها وأغراضها ومحاورها ومناسباتها
تاريخ النشر: 18 محرم 1436 (11‏/11‏/2014)
كان لحادثة الإفك التي آلمت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه عائشة وبيت أبي بكر وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أثراً عظيما، ولكن مع ما في هذا الحادث من آلام فقد كان له فوائد كبيرة، استفاد منها الأجيال قديما وحديثا، فالله تعالى قد أنزل في محكم كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}


كان لحادثة الإفك التي آلمت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه عائشة وبيت أبي بكر وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أثراً عظيما، ولكن مع ما في هذا الحادث من آلام فقد كان له فوائد كبيرة، استفاد منها الأجيال قديما وحديثا، فالله تعالى قد أنزل في محكم كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النــور: 11]، ولم يقل بخيريته إلا لحكمة أرادها، وخيرية كامنة في طيات الحادثة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وهذه الخيرية للمؤمنين تكمن في جوانب عديدة، نذكر منها:
أولا: الشرف الكبير الذي لحق بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن تولى الله سبحانه وتعالى تبرئتهم من فوق سبع سماوات في كتابه الكريم.
قال ابن كثير رحمه الله عند قول الله تعالى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ}: "إظهار شرفٍ لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت، قال لها: أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يحبك ولم يتزوج بكراً غيرك، وأنزل براءتك من السماء"([1]). وقال البقاعي في تفسير قوله تعالى: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}[النور: 11]: "بثبوت البراءة الموجبة للفخر الذي لا يلحق، بتلاوتها على مر الدهور بألسنة من لا يحصى من العباد، في أكثر البلاد"([2])، وجاء في اللباب في علوم الكتاب: "صار خيراً لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية، كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة، وشهد الله بكذب القاذفين، ونسبهم إلى الإفك، وأوجب عليهم اللعن والذم، وهذا غاية الشرف والفضل"([3]).
وجاء في البحر المديد: "ظهور كرامتكم على الله عز وجل؛ بإنزال القرآن الذي يُتلى إلى يوم الدين في نزاهة ساحتكم، وتعظيم شأنكم"([4]).
ثانيا: الأجر العظيم، والثواب الكبير الذي أورثوه بسبب صبرهم على البلاء واحتسابهم الأجر، يقول الشربيني في السراج: "{بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لاكتسابكم به الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاءً مبيناً ومحنة ظاهرة"([5])، وجاء في اللباب: "أنهم صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله، فاستوجبوا به الثواب، وهذه طريقة المؤمنين"([6]).
ثالثا: تزكية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنها من الطيبات، وذلك في قول الله تعالى في سياق آيات حادثة الإفك: {الطَّيِّبَاتُ للطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[النور: 26]. "روي أنه لما قربت وفاة عائشة رضي الله عنها جاء ابن عباس رضي الله عنهما يستأذن عليها فقالت: يجيء الآن فيثني علي فخبره ابن الزبير، فقال: ما أرجع حتى تأذن لي، فأذنت له فدخل، فقالت عائشة: أعوذ بالله من النار، فقال ابن عباس: يا أم المؤمنين مالك والنار، قد أعاذك الله منها، وأنزل براءتك تقرأ في المساجد، وطيبك، فقال: {الطَّيّبَاتِ لِلطَّيّبِينَ وَالطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَاتِ} كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يحب صلى الله عليه وسلم إلا طيباً، وأنزل بسببك التيمم، فقال {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً}[النساء: 43]"([7]).
رابعا: ذكر فخر الدين الرازي جملة من خيرية حادثة الإفك فقال: "ومن الناس من قال: قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} خطاب مع القاذفين، وجعله الله تعالى خيراً لهم من وجوه:
·       أحدها: أنه صار ما نزل من القرآن مانعاً لهم من الاستمرار عليه، فصار مقطعة لهم عن إدامة هذا الإفك.
·       وثانيها: صار خيراً لهم من حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة.
·       وثالثها: صار خيراً لهم من حيث تاب بعضهم عنده.
واعلم أن هذا القول ضعيف؛ لأنه تعالى خاطبهم بالكاف، ولما وصف أهل الإفك جعل الخطاب بالهاء بقوله تعالى: {لِكُلّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ} ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة، فالمراد لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا، والمعنى أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض([8]).
خامسا: ما حصل من تسلية الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم ولزوجه عائشة وأبي بكر وجميع الصحابة رضي الله عنهم، وذلك بعد انقطاع الوحي ما يقارب شهراً كاملاً حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما بلغه من الكرب، فتأتي الآيات بالحق المبين، والصدق الجلي، والبيان الواضح ببراءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما اتهمت به من الإفك، وتكون الآيات كالماء البارد على الظمأ، وكالشمس الدافئة في فصل الشتاء، ولذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآيات فرح بها، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة أما الله عز و جل فقد برأك)([9]).
سادسا: بين الله سبحانه لهذه الأمة المنهج التي يجب على المسلم أن يتبعه في مثل هذا الحدث الذي قد يتكرر، فكان ذلك درساً يحفظه التاريخ، ومنهجاً تتعلمه الحياة، وطريقة تسير عليها الدنيا.
سابعا: نزول الأحكام الشرعية بسبب هذه الحادثة، وبيان ما ينبغي فعله مما يحتاجه العباد، يقول السعدي رحمه الله في بيان أوجه الخير في قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: "ما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة، فكل هذا خير عظيم، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك، وإذا أراد الله أمراً جعل له سبباً، ولذلك جعل الخطاب عاماً مع المؤمنين كلهم"([10]).
ثامنا: مدح جميع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من خلال المدح العام في قول الله تعالى: {الطَّيِّبَاتُ للطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[النور: 26]، يقول السعدي رحمه الله تعالى: "لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها، والتنويه بذكرها، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم"([11]).
تاسعا: التحذير من الوقوع في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، واستحقاق كل من تكلم فيها الذم الأبدي من المنافقين، وذلك من خلال آيات محفوظة بحفظ الله جل في علاه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور: 11]، بل يعظ الله تعالى المؤمنين أن يحذروا من الكلام في أمهم الصديقة بنت الصديق: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[النور: 17]([12])، يقول الإمام الطبري: يذكِّرُكم الله وينهاكم بآي كتابه، لئلا تعودوا لمثل فعلكم الذي فعلتموه في أمر عائشة من تلقِّيكم الإفك الذي روي عليها بألسنتكم، وقولكم بأفواهكم ما ليس لكم به علم فيها أبدا {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يقول: إن كنتم تتعظون بعظات الله، وتأتمرون لأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه"([13]).
عاشرا: "الكشف عن الكائدين للإسلام في شخص النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته"([14])، وفضحهم ببيان كذبهم ونفاقهم، فقد لا تُفضح صفوف المنافقين إلا بعد ما يحصل منهم من إرجاف، وتشكيك في المبادئ والمسلَّمات، ففضحهم الله في هذه الحادثة بآيات تتلى إلى يوم الدين، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "وأما المنافق عبد الله بن أبي فهو الذي كان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره"([15]).
الحادي عشر: تربية المجتمع المسلم على تعظيم حرمة العرض المسلم، والحرص على الأخوة الإيمانية، والترابط بين أفراد الأمة، قال السعدي رحمه الله عن قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: "أخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم، ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، واجتماعهم على مصالحهم، كالجسد الواحد، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه، فليكره من كل أحد، أن يقدح في أخيه المؤمن، الذي بمنزلة نفسه، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة، فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه"([16]).
الثاني عشر: تربية النفس على العودة إلى الله في الأزمات، وصدق اللجوء إليه في الملمات، والافتقار إليه عند المصائب، والكربات، فقد أعلنت عائشة رضي الله عنها ذلك عندما أيقنت أنه لا أحد يملك لها من تنفيس كربها شيئاً، وأن الفرج من الله، وأنه سيبرئها، وسيكشف همها وغمها إذ قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبويها: "إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم، وصدقتم به، فإن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني بريئة- لتصدقونني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}"([17])، وبهذه الفائدة صرح صاحب البحر المديد فقال في سياق ذكر أوجه الخير في قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: "مع ما فيه من صدق الرُّجْعَى إلى الله، والافتقار إليه، والإياس مما سواه"([18]).
الثالث عشر: ظهور الحب المزيف على حقيقته ممن يدعون حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وآل بيته، وهم يطعنون فيه صلى الله عليه وسلم ويطعنون في أزواجه، وصحابته، فظهرت الأمور على حقيقتها وبان أن ما يتسترون به من دعواهم لحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ادعاء غير صحيح، وإلا لما نالوا من عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظوه في أزواجه، وعرفوا لهن قدرهن ومكانتهن التي أعطاهن صلى الله عليه وآله وسلم، وظهر كذلك ما كانت تكنه صدروهم، وأن ما تكلمت به ألسنتهم هو شيء قليل مما تحمله صدروهم من كراهية الدين، وبغض مبادئه، وإنكار أصوله، وأن هذا هو دينهم الذي يدينون، وعقيدتهم التي يعتقدون.
الرابع عشر: التشديد على نقل الشائعات دون تثبت، خاصة إذا كانت هذه الشائعات تتعلق بعرض مسلم، يقول تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور: 16].
وكثيرة هي الفوائد المستقاة من نهر القرآن الكريم والسنة المطهرة، خفاؤها يبعث الناصحين للأمة إلى استنباطها، واستخراجها نقية صافية لمن استقى.
نفعنا الله بما منَّ به، وعلمنا ما يقربنا إليه، وجعلنا من عباده المتقين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.


([1]) تفسير القرآن العظيم: (3/273).
([2]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: (5/240).
([3]) اللباب في علوم الكتاب: (14/320) لأبي حفص عمر بن علي ابن عادل الدمشقي الحنبلي .
([4]) البحر المديد: (5/56) لأبي العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الإدريسي.
([5]) تفسير السراج المنير: (2/668) لمحمد بن أحمد الشربيني.
([6]) اللباب في علوم الكتاب: (14/320).
([7]) مفاتيح الغيب: (23/167) للإمام فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي.
([8]) مفاتيح الغيب للرازي: (23/152) بتصرف.
([9]) أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب حديث الإفك: (4/1521) برقم: (3910 ).
([10]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي،(1/563).
([11]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: (1/563).
([12]) انظر: اللباب في علوم الكتاب: (14/328)، وتفسير ابن كثير: (3/335).
([13]) تفسير الطبري: (18/99).
([14]) في ظلال القرآن: (4/2005) بتصرف يسير.
([15]) أخرجه البخاري (4479). ومسلم (2770).
([16]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: (1/563).
([17]) أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (2770).
([18]) البحر المديد: (5/56).

tafsir.net
================
============


ثالثاً: فضل عائشة رضي الله عنها


هي الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان وأمها أم رومان بنت عويمر الكنانية، ولدت بعد المبعث بأربع سنوات أو خمس. تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست ودخل بها وهي بنت تسع سنين وكان دخولها بها في شوال في السنة الأولى، وقيل في السنة الثانية من الهجرة.
وهي المبرأة من فوق سبع سموات، وكانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أفقه نساء الأمة على الإطلاق، فكان الأكابر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها، وقد توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت وفاتها رضي الله عنها في سنة ثمان وخمسين ليلة السابع عشر من رمضان وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين ودفنت في البقيع رضي الله عنها وأرضاها  (1) .  (111)
1- فضل عائشة رضي الله عنها في القرآن الكريم
أوجه دلالات آيات الإفك على فضلها رضي الله عنها
الفضيلة الأولى: إرادة الله تعالى الخير بها
هذا التعبير مستفاد من قوله تعالى: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور: 11].
وقد تحدث المفسرون كل على طريقته في طبيعة هذا الخير فذكروا من ذلك:
أولاً: اكتساب الثواب العظيم والأجر الجزيل  (2) .
يقول الرازي (صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب، وهذه طريقة المؤمنين عند وقوع الظلم بهم)  (3) .
وحصول الأجر هو غاية منى الصالحين، والذي هو من علم الغيب، لا يقطع به؛ ولأجل هذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وثبت الأجر إن شاء الله))  (4) .
فعلق على المشيئة؛ لأنه أمر غيبي.
هذا الأمر الغيبي صار بالنسبة لعائشة رضي الله عنها في أمر الإفك أصبح من علم الشهادة المقطوع به، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27].
ثانياً: إنزال ثماني عشرة آية من القرآن في شأنها  (5) .
وهذه الآيات كل واحدة منها ناطقة بتعظيم شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تنزيه وتبريء لأم المؤمنين وذم ولعن للقاذفين، وهذا ترفيع من الله ولا شك  (6) .
قال ابن كثير: (ومن خصائصها أن الله سبحانه برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها وبراءتها وحياً يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة)  (7) .
وهذا أحد الأمور التي ذكرها ابن عباس لعائشة يبشرها وهي في فراش الموت  (8) .
ثالثاً: حصول البراءة القطعية  (9) .
وإنما كانت هذه البراءة قطعية؛ لأن الله تعالى حكم ببراءتها واقعاً، أما غير عائشة فإنه إن لم يشهد عليه أربعة شهود بارتكاب الزنا، حكم ببراءته ظاهراً مع أنه قد يكون زانياً في نفس الأمر.
وإذا علم ببراءة عائشة رضي الله عنها قطعاً، فيكفر قاذفها لتكذيبه القرآن الكريم.
قال ابن العربي: (إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة، فبرأها الله، فكل من رماها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر)  (10) .
ويترتب على هذه الفضيلة، فضيلة أخرى وهو أن الإيمان والكفر أصبح متعلقاً بمدحها وقدحها.
يقول الرازي: (صيرورتها بحال تعلق الكفر والإيمان بقدحها ومدحها؛ فإن الله تعالى نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه، فكل من يشك فيه كان كافراً قطعاً وهذه درجة عالية)  (11) .
رابعاً: وعظ المؤمنين إلى يوم الدين، ونقمة من المفترين في الدنيا والآخرة  (12) .
فإن هذه الآيات فيها من المواعظ والترغيب والترهيب والوعد والوعيد والتهديد والدروس والفوائد الشيء الكثير، وهذا كله إنما نشأ بسببها رضي الله عنها فكانت كما قال عمران بن حصين: (والله ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر)  (13) .
وفي رواية: (جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيراً)  (14) .
قال الرازي: (لولا إظهارهم للإفك؛ كان يجوز أن تبقى التهمة كامنة في صدور البعض، وعند الإظهار انكشف كذب القوم على مر الدهر... وشهد الله بكذب القاذفين ونسبهم إلى الإفك وأوجب عليهم اللعن والذم)  (15) .
الفضيلة الثانية: الشهادة الإلهية لها بالدرجة العالية من الإيمان والعفاف.
قال تعالى: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور: 12].
يقول ابن عطية: (كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد فيهم، فكانوا يقضون بأنه في عائشة أبعد، وقد روي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب وامرأته وذلك أنه دخل عليها فقالت يا أبا أيوب: أسمعت ما قيل؟ قال: نعم وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب تفعلينه؟ فقالت: لا والله، قال: فعائشة والله أفضل منك، قالت أم أيوب: نعم)  (16)  (17) .
وهذا القياس يدل على أنه استقر في نفوس الأكابر كأبي أيوب رضي الله عنه، المكانة العالية الرفيعة لعائشة رضي الله عنها.
ففي الآية دليل على صدق إيمانها، ودرجة عفافها، وإلا لم يكن الخطاب في هذه الآية بهذه القوة.
ويستتبع هذه الفضيلة فضيلة أخرى وهي: الأمر الإلهي القاضي بوجوب ظن الخير في خصوص عائشة أما غيرها فمن جهة العموم؛ لأنها سبب النزول ودخول سبب النزول في الآية قطعي، وما كان هذا الواجب ليحصل لولا عظيم مرتبتها في الإيمان، فلها الأولوية رضي الله عنها في الظن الحسن وأحقية الدفاع.
قال الألوسي: (وجوب ظن الخير بعائشة خصوصاً للقطع في دخولها بالعموم، أو على القول بأنها مرادة خصوصاً)  (18) .
الفضيلة الثالثة: عتاب أهل الإيمان لأجلها.
إن مما يلحظ في آيات الإفك أن الله تعالى عاتب أهل الإيمان عتاباً شديداً وبعبارات متنوعة لأجل التقصير في حق عائشة رضي الله عنها، الأمر الذي نص عليه عدد من المفسرين.
قال تعالى: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ [النور: 12].
قال الطبري: (هذا عتاب من الله تعالى ذكره أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة)  (19) .
كما لاحظ المفسرون أمر الالتفات في الآية من الخطاب إلى الغيبة.
قال الزمخشري: (عدل عن الغيبة إلى الخطاب وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات)  (20) .
الآية تشير على أن من كان مؤمناً فشأنه الثناء على عائشة والدفاع عنها، وأن القدح فيها دلالة على خلل في الإيمان  (21) .
وقال تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور: 13]
قال الزمخشري: (وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاجهم عليه بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، إذا قذف امرأة من عرض نساء المسلمين فكيف بالصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله؟!)  (22) .
فإذا كان كل هذا التوبيخ لمن قصر في دفعه، فكيف بمن أشاعه؟ فكيف بمن اعتقده بعد نزول هذه الآيات؟
وقال تعالى: وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور: 16].
وهذه الآية أيضاً من جملة آيات العتاب.
قال ابن عطية والقرطبي والشوكاني: (هذا عتاب لجميع المؤمنين)  (23) .
قال ابن عطية: (أي كان ينبغي أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله أن يقع هذا من زوجة نبيه، وأن تحكموا عليه بالبهتان)  (24) .
فالله تعالى يعاتب عموم المؤمنين لأجلها –رضي الله عنها-.
ومن لطائف التفسير أننا لا نجد لوماً للمؤمنين لأجل أحد، إلا لأبي بكر الصديق وبنته عائشة رضي الله عنهما.
أما أبو بكر ففي قوله تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ [التوبة: 40].
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إن الله تعالى ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر)  (25) .
وهكذا يعاتب الله المؤمنين في مواضع متعددة على التقصير في جنب عائشة وليس الأمر عتاباً فقط بل تحذير أيضاً من معاودة مثل هذا.
قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النور: 17].
قال الطاهر بن عاشور: (بعد أن بين الله بادئ ذي بدء أنه ليس شراً، وأن الذين جاؤوا به ما اكتسبوا إلا الإثم، ونعى على المؤمنين تهاونهم وغفلتهم وأنهم اقتحموا بذلك ما يكون سبباً للحاق العذاب بهم... أعقب ذلك كله بتحذير المؤمنين من العود إلى مثله)  (26) .
وبين القرطبي أن مثل هذا العود كفر حيث قال: (لما في ذلك من أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله وذلك كفر من فاعله)  (27) .
الفضيلة الرابعة: التهديد بالعقوبة لأجل عائشة رضي الله عنها:
لعظم الأمر وشناعته، لم يقتصر الرب عز وجل على لوم المؤمنين وعتابهم في شأن عائشة رضي الله عنها، بل نجد أمراً وراء ذلك وهو التهديد بالعقوبة.
قال تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النور: 20].
قال الطبري: (لولا أن الله تفضل عليكم... لهلكتم فيما أفضتم وعاجلتكم من الله العقوبة)  (28) .
وقال ابن عطية: (لفضحكم بذنوبكم ، ولعذبكم فيما أفضتم فيه من قول الباطل والبهتان)  (29) .
ويلاحظ أنهما فهما من الآية تكراراً في العقوبة.
وقال ابن الجوزي: (جوابه محذوف، تقديره: لعاقبكم فيما قلتم لعائشة)  (30) .
وقد تتابع المفسرون على تقرير هذا المعنى  (31) ، وأجاد الرازي في تتبع الزواجر المأخوذة من الآية  (32) .
وهذا التنصيص على أن المتكلم في عائشة مستحق للعقوبة، أمر لم يحصل لغيرها سواء من الصحابة أو أهل البيت، بل إن الله تعالى امتن عليهم بعدم العقوبة بل وكرر منته بذلك.
قال الشوكاني: (تكرير لما تقدم وتذكيراً للمنة منه سبحانه على عباده بترك المعاجلة لهم)  (33) .
وقال الألوسي: (وهذا تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجريرة)  (34) .
ولم نر هذا الأسلوب من التكرار والامتنان في القرآن الكريم إلا في حق عائشة، حتى إن الوعيد بالعقوبة في مسألة أخذ الغنائم لم يكن فيه مثل هذا التكرار ولا مثل إبراز المنة بهذه الأساليب المتعددة، وهذا كله يدل على أنه عظيم عند الله الاعتداء على زوج نبيه وما ذاك إلا لمكانتها العالية رضي الله عنها وهذا مصداق قوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا [النور: 15].
يقول ابن كثير: (فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل، الله يغار لهذا، وهو سبحانه لا يقدر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك حاشا وكلا... فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة؟! ولهذا قال: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15])  (35) .
الفضيلة الخامسة: أن القدح في عائشة رضي الله عنها قدح في الله تعالى.
وذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن ينزهوه عند سماع خبر القدح في زوجة نبيه  (36) ، فالله تعالى ينزه أن يحصل لقرابة نبيه تدنيس  (37) .
وعند التأمل في هذا الأمر نجد أن القدح في عائشة قدح في الله إذ جعل تحت نبيه من ليست أهلاً له، وأيضاً فإن الله تعالى ينزه أن لا يعاقب هؤلاء المفترين لما فيه من القدح في الحكمة، وأيضاً فإن الله تعالى منزه أن يرضى بظلم هؤلاء المفترين  (38) .
ومن بديع التناظرات القرآنية ما ذكره القاسمي بقوله: (ولأجل هذا قال العلماء: قذف عائشة كفر، لأن الله تعالى سبح نفسه عند ذكره كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد)  (39) .
فالقدح في عائشة رضي الله عنها، تكاد تبلغ شناعته نسبة الولد أو الزوج لله تعالى بل إن ظاهر قوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 25]، يدل على أن القدح في عائشة مناف لكونه تعالى حقاً.
وهذا ما فهمه الألوسي حيث قال: (ولعل فائدة هذا العلم يأسهم من إنقاذ أحد إياهم... أو تبين خطأهم في رميهم حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عز وجل حقا أي موجداً للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة، وكذا تأبى كونه عز وجل حقاً أي واجباً لذاته بناء على أن الوجوب الذاتي يستتبع الاتصاف بالحكمة بل لجميع الصفات الكاملة)  (40) .
ولئن عذر من رماها قبل التنزيل لغفلة أو جهل فلا مجال لإعذار من قدح فيها رضي الله عنها بعد التنزيل؛ إذ أن الحجة القرآنية قد قامت عليه من كل وجه.
الفضيلة السادسة: الشهادة لها بالإحصان والإيمان:
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور: 23].
يرى بعض أهل التفسير أن هذه الآية خاصة في أم المؤمنين عائشة، ويرى بعضهم أنها تعمها وأمهات المؤمنات، ويرى بعضهم أنها في عموم المؤمنات.
وعلى كافة هذه الأقوال فدخول عائشة رضي الله عنها فيها قطعي؛ إذ أنها سبب نزول الآية  (41) .
ففي حديث قصة الإفك، بشر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وتلا عليها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ... الآية  (42) ، وهذا نص في كون هذه الآية من آيات الإفك وسبب النزول قطعي الدخول في الآية ولا يخرج بالتخصيص بحال، كما نص على ذلك أهل العلم في كتب علوم القرآن  (43) .
وعليه فيكون من فضائل عائشة رضي الله عنها أنها مؤمنة، محصنة بنص القرآن الكريم.
وقد أورد الزمخشري إشكالاً وأجاب عليه، وهو أنه إذا أريد وحدها فلماذا الجمع؟
وأجاب عن ذلك: بأنه إما إرادة لها ولبنات جنسها؛ لكونها أم المؤمنين، أو دخل معهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة كبراهن وأقربهن منزلة  (44) .
الفضيلة السابعة: الشهادة لها بالطيب:
اختلف أهل التفسير في معنى قوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور: 26].
فقال بعضهم: المراد بالخبيثات أي النساء الخبيثات والخبيثون الرجال الخبيثون، والطيبات أي النساء الطيبات والطيبون أي الرجال منهم  (45) .
واختار هذا القول الرازي  (46) ، وابن المنير  (47) ، وابن تيمية  (48) ، وأبو حيان  (49) ، وأبو السعود  (50)  (51) .
قال الألوسي: (ورواه الإمامية عن أبي عبد الله وأبي جعفر)  (52) .
وتفرع على هذا القول الحكم بطيب عائشة رضي الله عنها؛ ولأجل هذا قال ابن عباس يخاطب عائشة رضي الله عنها: وطيبك فقال: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور: 26].
وجاء عنها رضي الله عنها أنها قالت: (لقد نزل عذري من السماء، وقد خلفت طيبة عند طيب)  (53) .
وقد ضبطت كلمة (خلفت) بالفاء: خلفت، أي: تركت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته طيبة  (54) .
وحيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الطيبين فتكون عائشة من أطيب الطيبات بدلالة الآية، وقد نص على ذلك من اختار القول الثاني.
قال الرازي: (ولا أحد أطيب ولا أطهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزواجه إذن لا يكن إلا طيبات)  (55) ، وجمع رحمه الله بين قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران: 121]، حيث غدا يوم أحد من بيت عائشة وبين هذه الآية فقال: (فدل هذا النص على أنها مطهرة مبرأة من كل قبيح)  (56) .
قال ابن تيمية: (أخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين فلا تكون خبيثة لطيب؛ فإنه خلاف الحصر، وأخبر أن الطيبين للطيبات فلا يكون طيب لخبيثة؛ فإنه خلاف الحصر، إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين فلا يبقى خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة)  (57) .
وقال ابن القيم: (وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله، أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها كما قال تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)  (58) .
والقول الآخر في هذه الآية: أن المراد بالطيب والخبيث الكلمات، فالكلمات الخبيثات أولى بأهل الخبث والقبح، والكلام الطيب أولى بأهل الطيب  (59) .
والفضيلة ثابتة لعائشة حتى على هذا القول.
قال ابن كثير: (فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم)  (60) .
ورأى رحمه الله أن القولين متلازمان قال: (وهذا –القول الأول- يرجع إلى ما قاله أولئك – القول الثاني – باللازم)  (61) .
وذلك؛ لأنها طيبة فلا يصلح لها، إلا الكلام الطيب، ومن تكلم فيها كان أحق بالكلام الخبيث.
وتفرع على هذه الفضيلة فضيلة أخرى وهي: أن الله تعالى مدح مادح عائشة وذم ذامها.
يقول الشوكاني في هذه الآية: (هذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبث ومدح للذين برؤها)  (62) ، وتبعه صديق حسن وهذا شرف أي شرف، أن يفيض الثناء على المحسن حتى يصل لمن أثنى عليه وهذا فضل من الله عظيم يؤتيه من يشاء، واختيار منه سبحانه مبني على الحكمة قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [آل عمران: 73]، وقال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص: 68].
الفضيلة الثامنة: الشهادة لها بالبراءة والنزاهة من الأدناس:
قال تعالى: أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور: 26].
اتفق المفسرون على أن الضمير في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عائد إلى الطيبات والطيبين بمراعاة الخلاف في معنى الطيبات والطيبين، فقيل إن الضمير عائد إلى كل طيب وطيبة.
قال ابن جرير: (الطيبون من الناس مبرؤون من خبيثات القول)  (63) .
وقيل عائد إلى عائشة وصفوان، فهم منزهون من أقوال أهل الافتراء  (64) ، وقيل إنها في كافة الأزواج.
قال ابن عطية: (وبهذه الآية قيل لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: الطيبات المبرآت)  (65) ، وعلى كافة الأقوال فالآية شاهدة لعائشة بالبراءة والنزاهة من الأدناس، أما على القول الثاني والثالث فظاهر، وأما على القول الأول؛ فلأنها كانت سبب النزول فتكون أولى من دخل في مصداق الآية، وقد ثبت في السنة المطهرة ذلك ففي حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة أما الله فقد برأك))  (66) .
والذي يظهر أن البراءة في هذا الموضع تختلف عن البراءة في صدر الآيات، فالبراءة في صدر الآيات من التهمة الشنيعة والبراءة في آخر الآيات من عموم الأدناس والتهم وهذا أحسن من القول بالتأكيد؛ لأن التأسيس مقدم على التأكيد على ما قرره علماء التفسير  (67) .
وإذا تقرر هذا، علمنا أن من فضائل عائشة رضي الله عنها أن الله ذكر أمر تطهيرها في القرآن الكريم في موضعين:
الأول: حين الحديث عن آيات أمهات المؤمنين في (سورة الأحزاب).
والثاني: في هذا الموضع من (سورة النور).
وعليه فيكون هذا الأمر مما تميزت به عائشة من أهل البيت وبقية الصحابة.
الفضيلة التاسعة: الشهادة لها بالجنة:
من فضائل عائشة رضي الله عنها أنها بشرت بالجنة في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور: 26].
فقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الرزق الكريم في الآية الجنة  (68) .
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ: (أي عند الله في جنات النعيم وفيه وعد بأن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة)  (69) .
وقد سلم بهذا بعض مفسري الشيعة  (70) .
ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: 31].
فإن المراد به الجنة بقرينة أعتدنا، والقرآن يفسر بعضه بعضاً  (71) .
ويلاحظ أن هذه الآية الكريمة التي تبشر أم المؤمنين بالجنة، لم تقيد ذلك بقيد مما يقطع بأن عائشة رضي الله عنها في الجنة بدلالة القرآن الكريم، ومثلها في ذلك بقية أمهات المؤمنين  (72) .
وهذه الدلالة نبه عليها ابن عباس في عبارته لأم المؤمنين في مرض وفاتها حيث سمعها تقول: أعوذ بالله من النار فقال ابن عباس: (ما لك وللنار يا أم المؤمنين أعاذك الله منها)  (73) .
ولعله لأجل هذه الفضائل القرآنية وغيرها، كانت لها المكانة العظيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (والله ما كان على الأرض نسمة أحب إلى رسول الله منك (أي عائشة)، ثم استدركت فقالت: أستغفر الله بعد أبيها)  (74) .
ورغم هذه الفضائل المتعددة كتاباً وسنة كانت تقول في مرض موتها بعد ثناء ابن عباس عليها: (دعني منك يا ابن عباس، فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً)  (75) ، فرضي الله عنها وأرضاها.  (112)
2- فضل عائشة في السنة
مناقبها رضي الله عنها كثيرة مشهورة فقد وردت أحاديث صحيحة بخصائص انفردت بها عن سواها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن ومنها:
1- مجيء الملك بصورتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير قبل زواجها به صلى الله عليه وسلم فقد روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه))  (76) .
2- ومن مناقبها رضي الله عنها أنها كانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد صرح بمحبتها لما سئل عن أحب الناس إليها. فقد روى البخاري بإسناده إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قلت: فمن الرجال؟ قال: أبوها...))  (77) الحديث.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً وقد قال: ((لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل))  (78) ، فأحب أفضل رجل من أمته، وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله. وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفيضاً)  (79) .
3- ومن مناقبها رضي الله عنها نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها دون غيرها من نسائه عليه الصلاة والسلام، فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: ((كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها))  (80) .
قال الذهبي: (وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها)  (81) .
4- ومن مناقبها رضي الله عنها أن جبريل عليه السلام أرسل إليها سلامه مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم))  (82) .
قال النووي: (وفيه فضيلة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها)  (83) .
5- ومن مناقبها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بتخييرها عند نزول آية التخيير وقرن ذلك بإرشادها إلى استشارة أبويها في ذلك الشأن لعلمه أن أبويها لا يأمرانها بفراقه فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم. فقد روى الشيخان بإسنادهما إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمراً لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: إن الله جل ثناؤه قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا... أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 28-29] قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت))  (84) .
6- ومن مناقبها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يمرض في بيتها فكانت وفاته صلى الله عليه وسلم بين سحرها ونحرها في يومها وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها  (85) .
فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة، قالت: فلما كان يومي سكن))  (86) .
وعند مسلم عنها أيضاً قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول: ((أين أنا اليوم أين أنا غداً؟ استبطاء ليوم عائشة قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري))  (87) .
وروى البخاري أيضا بإسناده عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيها يقول: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة حتى مات عندها. قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثم قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن. فأعطانيه فقضمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به وهو مستند إلى صدري))  (88) .
وفي رواية أخرى بزيادة ((فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة))  (89)
7- ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأنها من أصحاب الجنة.
فقد روى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت ((قلت: يا رسول الله من من أزواجك في الجنة؟ قال: أما إنك منهن؟ قالت: فخيل إلي آن ذاك أنه لم يتزوج بكراً غيري))  (90) .
وروى البخاري بإسناده إلى القاسم بن محمد: ((أن عائشة اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر))  (91) .
وفي هذا فضيلة عظيمة لعائشة رضي الله عنها حيث قطع لها بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف  (92) .
8- ومن مناقبها رضي الله عنها ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام))  (93) .
في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فضل عائشة زائد على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة.
قال النووي: (قال العلماء: معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه، والمراد بالفضيلة: نفعه والتشبع منه وسهولة مساغه والالتذاذ به وتيسر تناوله وتمكن الإنسان من أخذ كفايته منه بسرعة وغير ذلك فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الأطعمة، وفضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة. وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة)  (94) .
وبهذا يتبين فضلها ومنزلتها رضي الله عنها وأرضاها.
وقد اختلف العلماء في التفضيل بين خديجة وفاطمة وعائشة رضي الله عنهن حتى اشتهر ذلك  (95) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أفضل نساء هذه الأمة خديجة وعائشة وفاطمة وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع وتفصيل)  (96) .
وعند التحقيق والنظر في النصوص الواردة في تفضيل كل واحدة منهن رضي الله عنهن نجد أنها تدل على أفضلية خديجة وفاطمة ثم عائشة رضي الله عنهن، وذلك أن الضمير الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها خديجة))  (97) قد فسر صريحا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد فضلت خديجة على نساء أمتي))  (98) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية))  (99) .
قال ابن حجر: (وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل)  (100) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون))  (101) .
وهذا نص في أن خديجة رضي الله عنها أفضل نساء الأمة.
ثم إن اللفظ الوارد في تفضيل فاطمة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة))  (102) . وفي لفظ ((سيدة نساء أهل الجنة))  (103) (فهو صريح لا لبس فيه ولا يحتمل التأويل، وهو نص في أنها أفضل نساء الأمة وسيدة نساء أهل الجنة، وقد شاركت أمها في هذا التفضيل فهي وأمها أفضل نساء أهل الجنة، وهي وأمها أفضل نساء الأمة بهذا وردت النصوص)  (104) .
أما ما ورد في تفضيل عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام))  (105) فهو لفظ لا يستلزم الأفضلية المطلقة كما قال ابن حجر: (وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها، لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤونة وسهولة الإساغة، وكان أجل أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى)  (106) .
فالحديث إذاً دال على أفضلية عائشة رضي الله عنها على سائر نساء هذه الأمة ما عدا خديجة وفاطمة رضي الله عنهن لورود الدليل على ذلك مما قيد تلك الأفضلية لعائشة رضي الله عنها.
وأما ما ورد من حديث عمرو بن العاص لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أي النساء أحب إليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: عائشة))  (107) فقد أشار ابن حبان رحمه الله على أنه مقيد في نسائه صلى الله عليه وسلم إذ عقد عنواناً في صحيحه فقال: (ذكر خبر وهم في تأويله من لم يحكم صناعة الحديث) وساق تحته حديث عمرو بلفظ: ((قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، فقال: أبو بكر أو قال أبوها))  (108) .
ثم قال ابن حبان: (ذكر الخبر الدال على أن مخرج هذا السؤال كان عن أهله دون سائر النساء من فاطمة وغيرها) وأخرج بسنده عن أنس قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة قيل له: ليس عن أهلك نسألك قال: فأبوها))  (109) .
وبهذا يتبين أن عائشة تلي خديجة وفاطمة في الفضل رضي الله عنها إذ كل ما ورد من دليل على عموم تفضيلها رضي الله عنها مقيد بالنص الوارد في خديجة وفاطمة رضي الله عنهن.
ولا ينكر أن لعائشة رضي الله عنها من الفضائل كالعلم مثلاً ما تختص به عن خديجة وفاطمة رضي الله عنهن إلا أنه (لا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق)  (110) .  (113) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق