من المآثر العلمية للمسلمين : تأسيس منهجية البحث العلمي


ان البحث العلمى واحد من اوجه النشاط المعقدة التى يمارسها العلماء باستقصاء منهجى فى سبيل زيادة مجموع المعرفة العلمية وتقنياتها ويطلق على العلم المعنى بطرائق وأساليب البحث فى العلوم الكونية للوصول الى الحقيقة العلمية أو البرهنة عليها اسم ( علم مناهج البحث ) Methodology كما يطلق على منهج البحث فى العلوم الكونية التى تبحث فى الظواهر الجزئية للكون والحياة اسم ( المنهج التجريبى الاستقرائى) ويقصد به منهج استخراج القاعدة العامة (النظرية العلمية) أو القانون العلمى من مفردات الوقائع استنادا الى الملاحظة والتجربة .

وينسب الكثير من المؤرخين وعلماء المناهج الفضل فى اكتشاف هذا المنهج الى العالم الانجليزى (فرنسيس بيكون) الذى وضع ابان عصر النهضة الاوربية الحديثة كتابه المشهور "الاورجانون" القديم

ويشهد استقراء تاريخ الفكر البشرى بان علماء الحضارة الاسلامية كانوا أسبق من الغربيين الى نقض منطق ارسطو النظرى واتباع المنهج التجريبى قبل بيكون بعدة قرون فقد استطاعوا ان يميزوا بين طبيعة الظواهر العقلية الخالصة من جهة ، والظواهر المادية الحسية من جهة أخرى ، وفطنوا الى ان الوسيلة او الادارة التى تستخدم فى هذه الظواهر يجب ان تناسب طبيعة كل منها ويعتبر شيخ الاسلام ابن تيمية من اوائل العلماء المسلمين الذين نقدوا منطق ارسطو الصورى حيث هاجمه بعنف في الحسى الذى يصلح للبحث فى الظواهر الكونية ويوصل الى معارف جديدة.

سبق المسلمين

واتجه علماء الحضارة الاسلامية الى المنهج التجريبى الاستقرائى عن خبرة ودراية باصوله وقواعده وأحرزوا على اساسه تقدما ملموسا فى حركة التطوير العلمى والتقنى فهذا هو الحسن بن الهيثم - على سبيل المثال لا الحصر - يصف ملامح المنهج التجريبى الاستقرائى الذى اتبعه فى بحث ظاهرة الابصار بقوله ( ... رأينا أن نصرف الاهتمام الى هذا المعنى بغاية الامكان ونخلص العناية به ونوقع الجد فى البحث عن حقيقته ونستأنف النظر فى مباديه ومقدماته ونبتدىء بالاستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات وتمييز حواص الجزئيات ونلتقط باستقراء ما يخص البصر فى حال الابصار وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الاحساس ... ثم نترقى فى البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط فى النتائج ونجعل غرضنا فى جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى فى سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الاراء ... فلعلنا ننتهى بهذا الطريق الى الحق الذى به يثلج الصدر ونصل بالتدرج والتلطف الى الغاية التى عندها يقع اليقين ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التى يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات ... وما نحن من جميع ذلك براء مما هو فى طبيعة الانسان من كدر البشرية ولكننا نجتهد بقدر مالنا من القوة الانسانية ومن الله نستمد العون فى جميع الامور

مقومات المنهج العلمى

" ويوضح هذا النص بما لا يدع مجالا للشك ان القواعد العامة التى وضعها ابن الهيثم لمنهج الاستقراء تتميز عن قواعد المنهج ( البيكونى) بانها ليست مجموعة من التعليمات والارشادات التى تلتزم ترتيبا محددا لا ينبغى تجاوزه مما يضفى عليها قدرا كافيا من المرونة يحول دون جمودها امام حركة العلم وتطوره كذلك تعكس عبارات ابن الهيثم كثيرا من خصائص العلم التجريبى ومقومات نجاح البحث العلمى التى افتقدها كل من المنطق الارسطى والنهج البيكونى وتوضح المقارنة ان التجريبية خطوة مقصورة فى اسلوب البحث العلمى عند علماء المسلمين

من ناحية اخرى يتضح من القراءة المتأنية للنصوص العلمية فى التراث الاسلامى ان الفضل فى اكتشاف المنهج العلمى ( التجريبى الاستقرائى ) لا ينسب الى عالم إسلامى بعينه على غرار ما يقال عادة عن منهج ارسطو او بيكون او ديكارت بل انه يعزى الى علماء كثيرين مهدوا فى مختلف فروع العلم فهذا هو جابر بن حيان يلقى مزيدا من الضوء على خصائص المنهج التجريبى الذى اتبعه فيؤكد أن "لكل صنعة أساليبها الفنية " ويحذر من الافراط فى الثقة بنتائج تجاربه بالرغم من موضوعيته فى البحث العلمى فيقول انا نذكر فى هذه الكتب خواص ما رايناه فقط - دون ما سمعناه او قيل لنا او قراناه - بعد ان امتحناه وجربناه وما استخرجناه نحن قايسناه على اقوال هؤلاء ويقول ايضا " ليس لاحد ان يدعى بالحق انه ليس فى الغائب إلا مثل ما شاهد او فى الماضى والمستقبل إلا مثل ما فى الان" ونجد فى مؤلفات الرازى والبيرونى والبتانى والبوزجانى والتيفاشى والخازنى وابن النفيس وابن يونس وغيرهم ما يؤكد ايمانهم بالمنهج الجديد فى تحصيل الحقيقة العلمية وممارستهم لهذا المنهج عن ادراك وفهم دقيق لكل مسلماته وأدواته وخصائصه وغاياته وفى هذه الحقيقة الهامةيكمن السر والوافع وراء نجاح هذا المنهج ومواكبته لحركة التقدم العلمى التى حثت عليها تعاليم الاسلام الحنيفة ومبادؤه السامية متمثلة فى آيات القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة التى تكرم العلم والعلماء وتحث على إعمال العقل ومداومة البحث فى ملكوت اسموات والارض وتحرر التفكير من القيود والاوهام المعوقة للكشف والابداع وتحارب التنجيم والتنبؤ العشوائى والتعصب للعرق والعرف وتحذر من الاطمئنان الى كل ما هو شائع أو موروث من آراء ونظريات .

ولا شك ان هذا كله أوسع واشمل مما يعرف بأوهام الكهف والسوق والمسرح والجنس وهى الاهام الاربعة المنسوبة لبيكون والتى كثيرا ما يباهى بهات فلاسفة العلم وشراح المنهج العلمى

القرآن الكريم ... نقطة الانطلاق

وتدلنا قراءة التراث الاسلامى على أن المسلك الذى اتبعه علماء الاصول وعلماء الحديث فى الوصول الى الصحيح من الوقائع والاخبار والاقوال قد انسحب على اسلوب التفكير والتجريب فى البحث العلمى فنرى على سبيل المثال - ان الحسن بن الهيثم يستعمل لفظ الاعتبار (وهو لفظ قرآنى) ليدل على الاستقراء التجريبى أوالاستنباط العقلى ويستخدم قياس الشبه فى شرحه لتفسير عملية الابصار وادراك المرئيات كذلك نجد ابا بكر الرازى يستخدم الاصول الثلاثة الاجماع والاستقراء والقياس فى تعامله مع المجهول فهو يقول ( إنا لما راينا لهذه الجواهر أفاعيل عجيبة لا تبلغ عقولنا معرفة سببها الكامل لم نر أن نطرح كل شىء لا تدركه ولا تبلغه عقولنا لان فى ذلك سقوط جل المنافع عنا بل نضيف الى ذلك ما ادركناه بالتجارب وشهد لنا الناس به ولا نحل شيئا من ذلك محل الثقة الا بعد الامتحان والتجربة له .. ما اجتمع عليه الاطباء وشهد عليه القياس وعضدته التجربة فليكن أمامك ).

ولقد استند علماء الحضارة الاسلامية على اختلاف تخصصاتهم - فى ممارستهم للمنهج العلمى - الى مبادىء اساسية استمدوها من تعاليم دينهم الحنيف ويمكن ايجازها فيما يلى :

1- عقيدة التوحيد الاسلامى هى نقطة الانطلاق فى رؤية الانسان الصائبة لحقائق الوجود قال تعالى ( اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم ) سورة العلق : آية 1 - 5 ) فالله سبحانه وتعالىهو الحق المطلق وهو مصدر كل الحقائق المعرفية الجزئية التى أمرنا بالبحث عنها واستقرائها فى عالم الشهادة باعتبارها مصدرا للثقة واليقين وليست ظلالا أو أشباحا كما نظرت اليها الثقافة اليونانية قال تعالى ( سنريهم آياتنا فى الافاق وفى انفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ( سورة فصلت : 53 )

2- الايمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى يستلزم بالضروة العقلية ان يرد الانسان كل شىء فى هذا الوجود الى الخالق الحكيم الذى أوجد هذا العالم بإرادته المباشرة المطلقة على أعلى درجة من الترتيب والنظام والجمال وأخضعه لقوانين ثابتة لا يحيد عنها وحفظ تناسقه وترابطه فى توازن محكم بين عوالم الكائنات وقد شاءت إراته تعالى أن تبين لنا من خلال نظام الكون ووحدته اطراد الحوادث والظاهرات كعلاقات سببية لنرقبها وندركها وننتفع بها فى الحياة الواقعية بعد ان نقف على حقيقة سلوكها ونستدل بها على قدرة الخالق ووحدانيته والانطلاق فى التفكير العلمى فى إطار المفهوم الايمانى لمسلمة النظام الكونى يجعل الطريق مفتوحا دائما أمام تجدد المنهج العلمى وتطوره بما يناسب مع مراحل تطور العلوم المختلفة كما أنه يضفى على النفس الاطمئنان والثقة اللازمين لمواصلة البحث والتأمل وينقذ العلماء من التخبط فى التبه بلا دليل كالاحالة على الطبيعة أو العقل أو المصادفة أو ما الى ذلك من التصورات التى طرحتها الفلسفات الوضعية المتصارعة قديما وحديثا وأصابتها بالعجز والعطب قال تعالى ماترى فى خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير ) ( سورة الملك آية : 3-4).

3- منهج البحث والتفكير يقوم فى المفهوم الاسلامى على التأليف بين العقل والواقع ويعول فى اكتساب المعرفة على العقل والحواس وباقى الملكات الادراكية التى وهبها الله للانسان وقد حملنا الله سبحانه وتعالى مسئولية استخدام وسائل العلم وادواته فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم مثل قوله تعالى ( والله أخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون ) ( سورة النحل :78 ) وقوله سبحانه : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (سورة الاسراء 36 ) وقوله عز من قائل : ( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين ) ( سورة البلد 8-10 ).

وهكذا نجد أن علماء الحضارة الاسلامية قد تشربوا تعاليم دينهم الحنيف واصطنعوا لنفسهم منهجا علميا إسلاميا تجاوزوا به حدود الاراء الفلسفية التى تميزت بها علوم الاغريق وانتقلوا الى إجراء التجارب واستخلاص النتائج بكل مقومات الباحث المدقق مدركين ان لمنهجهم الجديد شروطا وعناصر نظرية وعماية وإيمانية يجب الامام بها وتكشف قراءتنا المتأنية لعلوم التراث الاسلامى عن سبق علماء المسلمين الى تحديد عناصر المنهج العلمى بما يتفق مع كثير من المسميات والمصطلحات الجديدة التى يتداولها اليوم علماء المنهجية العلمية مثل انواع الملاحظة والتجربة ( الاستطلاعية الضابطة الحاسمة ) ومقومات الفرض العلمى واستخدام الخيال العلمى فى المماثلة بين الظواهر المختلفة والكشف عن الوحدة التى تربط بين وقائع متناثرة .

وليس هناك من شك فى ان الحضارة الاسلامية فى العصور الوسطى تعتبر حلقة هامة فى تاريخ العلم والحضارة بما قدمه علماؤها من تأسيس لمنهج علمى سليم ساعد على تطوير معارف جديدة لكننا فى عالمنا الاسلامى لا نزال بحاجة ماسة الى إعادة قراءة تراثنا بأسلوب العصر ومصطلحاته ليس فقط من أجل تحديث الثقافة العلمية الاسلامية بل أيضا من أجل أسلمة طرق التفكير العلمى طبقا لخصائص التصور الاسلامى ومقوماته ان إسلامية المعرفة بعامة والمعرفة العلمية بخاصة يجب أن تكون من الروافد الاساسية للصحوة الاسلامية المنشودة .


تأسيس منهجية البحث العلمى

ان البحث العلمى واحد من اوجه النشاط المعقدة التى يمارسها العلماء باستقصاء منهجى فى سبيل زيادة مجموع المعرفة العلمية وتقنياتها ويطلق على العلم المعنى بطرائق وأساليب البحث فى العلوم الكونية للوصول الى الحقيقة العلمية أو البرهنة عليها اسم ( علم مناهج البحث ) Methodology كما يطلق على منهج البحث فى العلوم الكونية التى تبحث فى الظواهر الجزئية للكون والحياة اسم ( المنهج التجريبى الاستقرائى) ويقصد به منهج استخراج القاعدة العامة (النظرية العلمية) أو القانون العلمى من مفردات الوقائع استنادا الى الملاحظة والتجربة .

وينسب الكثير من المؤرخين وعلماء المناهج الفضل فى اكتشاف هذا المنهج الى العالم الانجليزى (فرنسيس بيكون) الذى وضع ابان عصر النهضة الاوربية الحديثة كتابه المشهور "الاورجانون" القديم

ويشهد استقراء تاريخ الفكر البشرى بان علماء الحضارة الاسلامية كانوا أسبق من الغربيين الى نقض منطق ارسطو النظرى واتباع المنهج التجريبى قبل بيكون بعدة قرون فقد استطاعوا ان يميزوا بين طبيعة الظواهر العقلية الخالصة من جهة ، والظواهر المادية الحسية من جهة أخرى ، وفطنوا الى ان الوسيلة او الادارة التى تستخدم فى هذه الظواهر يجب ان تناسب طبيعة كل منها ويعتبر شيخ الاسلام ابن تيمية من اوائل العلماء المسلمين الذين نقدوا منطق ارسطو الصورى حيث هاجمه بعنف في الحسى الذى يصلح للبحث فى الظواهر الكونية ويوصل الى معارف جديدة.

سبق المسلمين

واتجه علماء الحضارة الاسلامية الى المنهج التجريبى الاستقرائى عن خبرة ودراية باصوله وقواعده وأحرزوا على اساسه تقدما ملموسا فى حركة التطوير العلمى والتقنى فهذا هو الحسن بن الهيثم - على سبيل المثال لا الحصر - يصف ملامح المنهج التجريبى الاستقرائى الذى اتبعه فى بحث ظاهرة الابصار بقوله ( ... رأينا أن نصرف الاهتمام الى هذا المعنى بغاية الامكان ونخلص العناية به ونوقع الجد فى البحث عن حقيقته ونستأنف النظر فى مباديه ومقدماته ونبتدىء بالاستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات وتمييز حواص الجزئيات ونلتقط باستقراء ما يخص البصر فى حال الابصار وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الاحساس ... ثم نترقى فى البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط فى النتائج ونجعل غرضنا فى جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى فى سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الاراء ... فلعلنا ننتهى بهذا الطريق الى الحق الذى به يثلج الصدر ونصل بالتدرج والتلطف الى الغاية التى عندها يقع اليقين ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التى يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات ... وما نحن من جميع ذلك براء مما هو فى طبيعة الانسان من كدر البشرية ولكننا نجتهد بقدر مالنا من القوة الانسانية ومن الله نستمد العون فى جميع الامور

مقومات المنهج العلمى

" ويوضح هذا النص بما لا يدع مجالا للشك ان القواعد العامة التى وضعها ابن الهيثم لمنهج الاستقراء تتميز عن قواعد المنهج ( البيكونى) بانها ليست مجموعة من التعليمات والارشادات التى تلتزم ترتيبا محددا لا ينبغى تجاوزه مما يضفى عليها قدرا كافيا من المرونة يحول دون جمودها امام حركة العلم وتطوره كذلك تعكس عبارات ابن الهيثم كثيرا من خصائص العلم التجريبى ومقومات نجاح البحث العلمى التى افتقدها كل من المنطق الارسطى والنهج البيكونى وتوضح المقارنة ان التجريبية خطوة مقصورة فى اسلوب البحث العلمى عند علماء المسلمين

من ناحية اخرى يتضح من القراءة المتأنية للنصوص العلمية فى التراث الاسلامى ان الفضل فى اكتشاف المنهج العلمى ( التجريبى الاستقرائى ) لا ينسب الى عالم إسلامى بعينه على غرار ما يقال عادة عن منهج ارسطو او بيكون او ديكارت بل انه يعزى الى علماء كثيرين مهدوا فى مختلف فروع العلم فهذا هو جابر بن حيان يلقى مزيدا من الضوء على خصائص المنهج التجريبى الذى اتبعه فيؤكد أن "لكل صنعة أساليبها الفنية " ويحذر من الافراط فى الثقة بنتائج تجاربه بالرغم من موضوعيته فى البحث العلمى فيقول انا نذكر فى هذه الكتب خواص ما رايناه فقط - دون ما سمعناه او قيل لنا او قراناه - بعد ان امتحناه وجربناه وما استخرجناه نحن قايسناه على اقوال هؤلاء ويقول ايضا " ليس لاحد ان يدعى بالحق انه ليس فى الغائب إلا مثل ما شاهد او فى الماضى والمستقبل إلا مثل ما فى الان" ونجد فى مؤلفات الرازى والبيرونى والبتانى والبوزجانى والتيفاشى والخازنى وابن النفيس وابن يونس وغيرهم ما يؤكد ايمانهم بالمنهج الجديد فى تحصيل الحقيقة العلمية وممارستهم لهذا المنهج عن ادراك وفهم دقيق لكل مسلماته وأدواته وخصائصه وغاياته وفى هذه الحقيقة الهامةيكمن السر والوافع وراء نجاح هذا المنهج ومواكبته لحركة التقدم العلمى التى حثت عليها تعاليم الاسلام الحنيفة ومبادؤه السامية متمثلة فى آيات القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة التى تكرم العلم والعلماء وتحث على إعمال العقل ومداومة البحث فى ملكوت اسموات والارض وتحرر التفكير من القيود والاوهام المعوقة للكشف والابداع وتحارب التنجيم والتنبؤ العشوائى والتعصب للعرق والعرف وتحذر من الاطمئنان الى كل ما هو شائع أو موروث من آراء ونظريات .

ولا شك ان هذا كله أوسع واشمل مما يعرف بأوهام الكهف والسوق والمسرح والجنس وهى الاهام الاربعة المنسوبة لبيكون والتى كثيرا ما يباهى بهات فلاسفة العلم وشراح المنهج العلمى

القرآن الكريم ... نقطة الانطلاق

وتدلنا قراءة التراث الاسلامى على أن المسلك الذى اتبعه علماء الاصول وعلماء الحديث فى الوصول الى الصحيح من الوقائع والاخبار والاقوال قد انسحب على اسلوب التفكير والتجريب فى البحث العلمى فنرى على سبيل المثال - ان الحسن بن الهيثم يستعمل لفظ الاعتبار (وهو لفظ قرآنى) ليدل على الاستقراء التجريبى أو الاستنباط العقلى ويستخدم قياس الشبه فى شرحه لتفسير عملية الابصار وادراك المرئيات كذلك نجد ابا بكر الرازى يستخدم الاصول الثلاثة الاجماع والاستقراء والقياس فى تعامله مع المجهول فهو يقول ( إنا لما راينا لهذه الجواهر أفاعيل عجيبة لا تبلغ عقولنا معرفة سببها الكامل لم نر أن نطرح كل شىء لا تدركه ولا تبلغه عقولنا لان فى ذلك سقوط جل المنافع عنا بل نضيف الى ذلك ما ادركناه بالتجارب وشهد لنا الناس به ولا نحل شيئا من ذلك محل الثقة الا بعد الامتحان والتجربة له .. ما اجتمع عليه الاطباء وشهد عليه القياس وعضدته التجربة فليكن أمامك ).

ولقد استند علماء الحضارة الاسلامية على اختلاف تخصصاتهم - فى ممارستهم للمنهج العلمى - الى مبادىء اساسية استمدوها من تعاليم دينهم الحنيف ويمكن ايجازها فيما يلى :

1- عقيدة التوحيد الاسلامى هى نقطة الانطلاق فى رؤية الانسان الصائبة لحقائق الوجود قال تعالى ( اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم ) سورة العلق : آية 1 - 5 ) فالله سبحانه وتعالىهو الحق المطلق وهو مصدر كل الحقائق المعرفية الجزئية التى أمرنا بالبحث عنها واستقرائها فى عالم الشهادة باعتبارها مصدرا للثقة واليقين وليست ظلالا أو أشباحا كما نظرت اليها الثقافة اليونانية قال تعالى ( سنريهم آياتنا فى الافاق وفى انفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ( سورة فصلت : 53 )

2- الايمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى يستلزم بالضروة العقلية ان يرد الانسان كل شىء فى هذا الوجود الى الخالق الحكيم الذى أوجد هذا العالم بإرادته المباشرة المطلقة على أعلى درجة من الترتيب والنظام والجمال وأخضعه لقوانين ثابتة لا يحيد عنها وحفظ تناسقه وترابطه فى توازن محكم بين عوالم الكائنات وقد شاءت إراته تعالى أن تبين لنا من خلال نظام الكون ووحدته اطراد الحوادث والظاهرات كعلاقات سببية لنرقبها وندركها وننتفع بها فى الحياة الواقعية بعد ان نقف على حقيقة سلوكها ونستدل بها على قدرة الخالق ووحدانيته والانطلاق فى التفكير العلمى فى إطار المفهوم الايمانى لمسلمة النظام الكونى يجعل الطريق مفتوحا دائما أمام تجدد المنهج العلمى وتطوره بما يناسب مع مراحل تطور العلوم المختلفة كما أنه يضفى على النفس الاطمئنان والثقة اللازمين لمواصلة البحث والتأمل وينقذ العلماء من التخبط فى التبه بلا دليل كالاحالة على الطبيعة أو العقل أو المصادفة أو ما الى ذلك من التصورات التى طرحتها الفلسفات الوضعية المتصارعة قديما وحديثا وأصابتها بالعجز والعطب قال تعالى ماترى فى خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير ) ( سورة الملك آية : 3-4).

3- منهج البحث والتفكير يقوم فى المفهوم الاسلامى على التأليف بين العقل والواقع ويعول فى اكتساب المعرفة على العقل والحواس وباقى الملكات الادراكية التى وهبها الله للانسان وقد حملنا الله سبحانه وتعالى مسئولية استخدام وسائل العلم وادواته فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم مثل قوله تعالى ( والله أخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون ) ( سورة النحل :78 ) وقوله سبحانه : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (سورة الاسراء 36 ) وقوله عز من قائل : ( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين ) ( سورة البلد 8-10 ).

وهكذا نجد أن علماء الحضارة الاسلامية قد تشربوا تعاليم دينهم الحنيف واصطنعوا لنفسهم منهجا علميا إسلاميا تجاوزوا به حدود الاراء الفلسفية التى تميزت بها علوم الاغريق وانتقلوا الى إجراء التجارب واستخلاص النتائج بكل مقومات الباحث المدقق مدركين ان لمنهجهم الجديد شروطا وعناصر نظرية وعماية وإيمانية يجب الامام بها وتكشف قراءتنا المتأنية لعلوم التراث الاسلامى عن سبق علماء المسلمين الى تحديد عناصر المنهج العلمى بما يتفق مع كثير من المسميات والمصطلحات الجديدة التى يتداولها اليوم علماء المنهجية العلمية مثل انواع الملاحظة والتجربة ( الاستطلاعية الضابطة الحاسمة ) ومقومات الفرض العلمى واستخدام الخيال العلمى فى المماثلة بين الظواهر المختلفة والكشف عن الوحدة التى تربط بين وقائع متناثرة .

وليس هناك من شك فى ان الحضارة الاسلامية فى العصور الوسطى تعتبر حلقة هامة فى تاريخ العلم والحضارة بما قدمه علماؤها من تأسيس لمنهج علمى سليم ساعد على تطوير معارف جديدة لكننا فى عالمنا الاسلامى لا نزال بحاجة ماسة الى إعادة قراءة تراثنا بأسلوب العصر ومصطلحاته ليس فقط من أجل تحديث الثقافة العلمية الاسلامية بل أيضا من أجل أسلمة طرق التفكير العلمى طبقا لخصائص التصور الاسلامى ومقوماته ان إسلامية المعرفة بعامة والمعرفة العلمية بخاصة يجب أن تكون من الروافد الاساسية للصحوة الاسلامية المنشودة .