عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها على السنة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله المصطفى، وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم.
وبعد:
فإن قضية ((عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم)) التي اتفقت عليها طوائف الأمة الإسلامية، بل ووافقها عليها جميع طوائف أهل الملل والشرائع، كما حكى هذا الاتفاق غير واحدٍ من المؤلفين في علوم العقائد والفِرَق والتواريخ والتفسير وأصول الفقه وغيرها من علوم الإسلام، وأطال الكلام في المسألة من وجوهها المختلفة: الأيجي في كتاب ((المواقف)) وشارحه ، والرازي في ((تفسيره)) وابن حزم في ((الفِصَل)) و((الإحكام)) وغيرهم كثيرٌ كثيرٌ.

وللدكتور العظيم عبد الغني عبد الخالق رحمة الله عليه مبحثٌ جليل القدر عن الموضوع في كتابه الفذ ((حجية السنة)) ، ثم لعصرينا د.عماد السيد الشربيني أستاذ الحديث بالأزهر الشريف رسالة دكتوراه حول ((عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم)) والشبهات التي أُثِيْرَتْ حولها.

ولستُ أقصد الآن الكتابة حول قضية عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أردتُ التنبيه على نُكْتَةٌ جليلة وفائدةٌ عظيمة ينبغي استثمارها في هذه القضية.
تلك هي علاقة قضية (عصمة النبي صلى الله عليه وسلم) بقضية إنكار السنة النبوية التي يتولى كِبْرها جماعةٌ من الملاحدة والمرتزقة أعداء هذه الأمة الميمونة المباركة.
ولا ينبغي لنا أن نتبعهم في مصطلح (إنكار السنة) لأني أرفض هذه التسمية أصلا؛ إذ هي تعمية على القضية الحقيقة والوجه الخفي من وراء هذه المسألة.
وتأتي مسألة عصمة النبي صلى الله عليه وسلم لتفضح هؤلاء جميعًا؛ لأنه إذا سلمنا بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم -وهو كذلك بحمد الله- فهذا يستلزم قبول أقواله وأفعاله وتقريراته، والتسليم له في كل أحكامه، تسليمًا تامًا، مع الرضى بذلك، وهذا هو مقتضى الإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم وبعصمتِه.
فمن يقول بعصمتِه كما هو مجمعٌ عليه فإنه يلزمه أن يقول بصحة أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، وأن يُسلِّم له في هذا كله، ولا يجادل ولا يماري ولا يعتذر عن قبول ذلك بحججٍ أو فلسفاتٍ.
لأننا نعلم أن رفض بعض أقوال المعصوم عن الخطأ والوهم نقضٌ لعصمتِه، وانتقاصٌ له، واعتقاد خطأ بعض أقواله وأفعاله؛ لأنه لا يُرَد القول إلا لخطأ أو خلل في هذا القول من جهةٍ ما، وهذا يتنافى مع عصمة القائل.
وهذا الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه هو الطريق الذي وصلنا القرآن الكريم من خلاله، فلئن لم يكن معصومًا في أقواله وأفعاله فليس معصومًا في تبليغه للقرآن أو غيره، وهذا يعود على أصل القرآن والسنة بالبطلان، ويُبْطِل الإسلام كله، وهذا محالٌ مخالفٌ للعقول السليمة والأخبار المتواترة، بل مخالفٌ لإجماع جميع عقلاء الأمم والطوائف على صدْق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولم يخالف في ذلك سوى بعض أعداء النبي وأعداء الرسل جميعًا.
أما عقلاء الأمم والطوائف فقد اتفقوا جميعًا على صدْق النبي صلى الله عليه وسلم وعظمته وأمانته في التبليغ.

والصدق والأمانة والعصمة أمورٌ معنويةٌ داخليةٌ لها أثرها المادي الملموس في واقع الشخص، ومثل هذه الأمور لا تُجَزَّأ، ولا تنقسم، ولا يمكن الفصل بين أجزائها بحالٍ.
فلا يمكن أن يقال مثلا: فلان معصومٌ وغير معصومٍ في نفس الوقت، أو يتكلم بآيةٍ وحديثٍ في وقتٍ واحدٍ فيكون معصومًا في الآية وغير معصومٍ في الحديث.
فهذا محالٌ مخالف للعقل والنقل.
فإذا تقرَّرَ هذا ترتَّب عليه الآتي:
أولا:العمل بالسنة النبوية الكريمة وأنها وحيٌ من الله عز وجل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنه قد أُوتِي القرآن ومثله معه، وهو معصومٌ في قوله وفعله، فوجبَ قبول قوله في هذا تمامًا كما قبلنا قوله: بأن الله عز وجل قد أنزل عليه وحيًا من السماء، وأنه قد أوحى إليه المعجزة الخالدة: القرآن الكريم، ونحن لم نعرف كتاب الله عز وجل إلا عن طريقه صلى الله عليه وسلم، ولو أخفى عنا القرآن الكريم -وحاشاه من هذا- لما عرفناه أبدًا، ولا كانت لنا من الوسائل ما نقدر من خلاله على معرفة القرآن الكريم إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: لا يصح بحالٍ من الأحوال أن نُفَرِّق بين القرآن والسنة في العمل بهما والتسليم لأحكامهما.

ثالثًا: يجب قبول السنة متى ثبتت لنا بالطرق والأسانيد الصحيحة والعمل بها كما نعمل بالقرآن تمامًا، فمن أنكرها بعد ثبوتها فإنما رد قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، الذي أتى القرآن الكريم من طريقه.

رابعًا: ومن هنا نعلم أن الذين يتخفون خلف عبارة ((إنكار السنة)) هم ملاحدة أو مرتزقة لهم غايةٌ أخرى هي هدم الإسلام كله قرآنًا وسنة، لأن مصدر وصول القرآن الكريم لنا ومعرفته بأنه قرآن هو نفسه مصدر وصول السنة النبوية لنا.
وبيان ذلك: أننا لم نعلم القرآن الكريم من السنة إلا حين قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليَّ كذا وكذا، وذكر كتاب الله عز وجل، وأمر بكتابته وحفظه ومدارسته، وقوله: هذا كتاب الله، أو قوله صلى الله عليه وسلم: (أنزل الله عليَّ كذا وكذا)) هو كلامٌ له صلى الله عليه وسلم، وهذا جزءٌ من السنة، يلزمنا قبوله؛ لأنه لو رفضنا قوله: هذا كتاب الله؛ لم يعد أي طريق أخرى نعرف بها ونتأكد أن هذا كلام الله عز وجل وقرآنه الكريم.
بل ما نزلت المعجزة الخالدة في القرآن الكريم إلا لتؤيد النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا قَبِلْنا بعض السنة لزمنا قبول بعضها الآخر ولا فرق.
كما أن من أنكر بعضها يلزمه أن ينكر باقيها؛ لأنه لا فرق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا كتاب الله) وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
فهذا قوله، وهذا قوله، ومتى صحَّ القول عنه بالطريق الثابت الصحيح، فلا يجوز تركه أبدًا، بل لابد من التسليم له والعمل به متى صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم.

فإذا تقرر هذا فإني أعود وأؤكد على ما أشرتُ إليه من أن غاية أولئك المرتزقة أو الملحدين المتخفين خلف عبارة ((إنكار السنة)) هي في الحقيقة إنكار للإسلام وهدمٌ له، حتى وإن ذكروا في كلامهم بعض آيات القرآن الكريم الذي لا يحفظونه ولا يعرفونه حق معرفته، بعد تفريغها من محتواها ومعناها.

وكذلك يجب التأكيد على لزوم العمل بجميع السنة متى صحَّ بها الإسناد، والخاطرة المذكورة هنا جزءٌ من أدلةٍ كثيرةٍ تؤيد هذا.
وحسبي ما مضى في هذه الخاطرة الآن.
والحمد لله رب العالمين.